الجمعة، 26 سبتمبر 2025

في هذه المدينة تعلمتُ أهم درس في حياتي!


بعد أكثر من عقدين من الزمن، هأنذا أعود اليوم إلى مدينة سيلبابي التي تعلمت فيها أهم وأعظم درس في حياتي. والغريب في الأمر أن هذا الدرس لم أتعلمه في جامعة، ولم يلقنه لي أستاذ جامعي، بل تعلمته من نساء أميات جئت إلى المدينة في مطلع الألفية لأعلمهن القراءة والكتابة، فإذا بي أتعلم منهن أهم درس تعلمته - حتى الآن - في حياتي..

في مطلع هذه الألفية دفعتني البطالة، وأنا خريج قسم الاقتصاد، إلى أن أقبل بتدريس قسم لمحو الأمية في مدينة سيلبابي مقابل تعويض زهيد. 

كان القسم يضم نساءً أميات كبيرات في السن، من بينهن من لم تكن تحفظ سورة الفاتحة. 

وقد دفعتني حاجة "تلميذاتي" الملحة للتعلم، ورغبتهن في ذلك. إلى أن أبذل جهدا مضاعفا، طلبا للأجر أولا، وتأدية - ثانيا - لعمل أتقاضى عليه راتبا، ولأني كنت أحترم عقولهن رغم أميتهن، فقد اجتهدت في البحث عن منهجية تدريس تُناسب مستواهن العمري والعقلي، وذلك بدلا من أن أكتب لهن على السبورة، وكما كان يفعل آخرون: "خديجة تلعب مع صديقاتها" أو " قطتي جميلة" إلى غير ذلك مما علق بأذهانكم من جمل كهتين في المرحلة الابتدائية.

جمعتُ - في إطار مبادرة تطوعية أطلقتها في تلك الفترة - نسخا من الجزء الأول من القرآن الكريم، كُتبت بخط كبير، ووزعتُ تلك النسخ على تلميذاتي، كما اقتنيتُ لهن مكتبة صوتية، أغلبها كان أشرطة للأستاذ الجليل محمد ولد سيدي يحي، وطلبت منهن أن يجتمعن كل ليلة في منزل إحداهن للاستماع بشكل جماعي إلى أحد الأشرطة، ثم نراجع في اليوم الموالي ما جاء في ذلك الشريط من أحكام عن الصلاة أو الوضوء ....إلخ

أتذكر أني خصصت إحدى حصص التربية المدنية للحديث عن أهمية نظافة الشارع، فذكرت لهن - كمدخل للدرس - الحديث الشريف الذي جاء فيه: "تعدِلُ بيْن الاثْنَيْنِ صدَقَةٌ، وتُعِينُ الرَّجُلَ في دابَّتِهِ، فَتحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أوْ ترْفَعُ لَهُ علَيْهَا متَاعَهُ صدقةٌ، والكلمةُ الطَّيِّبةُ صدَقةٌ، وبِكُلِّ خَطْوَةٍ تمْشِيها إِلَى الصَّلاَةِ صدقَةٌ، وَتُميطُ الأذَى عَن الطرِيق صَدَقةٌ". وفي الحصة التالية فوجئت بأن معظم "التلميذات" حاولن تطبيق الدرس. فإحداهن قالت إنها سبَّحت طوال طريقها إلى السوق، وأخرى نظفت المسجد المجاور لبيتها، وثالثة ابتسمت كثيرا لكل من قابلته، حتى لجارة لها كانت على خلاف شديد معها!

كانت المفارقة الصادمة هي أن الأستاذ ـ عفا الله عنه ـ هو الوحيد في الفصل الذي لم يحاول أن يطبق أي جزئية من الحديث الذي درَّس لتلميذاته!!!

وأذكر  أيضا أني كنت أأسف كثيرا لتغيب بعض "تلميذاتي" بسبب المرض، ومع ذلك فلم يخطر ببالي أن أزور أي واحدة منهن أثناء المرض، ولكني عندما مرضتُ أنا فوجئت بهن يوما يزرنني حيث أسكن، رغم بعد المسافة، وكانت من بينهن عجائز يجدن مشقة كبيرة في المشي. وعندما استغربت منهن ذلك، قالت لي إحداهن: "ألم تقل لنا في درس سابق إن سبعين ألف ملك يصلون على من يزور مريضا؟ فهل تريد أن تحرمنا من هذا الأجر العظيم؟"

هنا أدركت أني لم أكن أنا المدرس في ذلك الفصل، بل كنت التلميذ الحقيقي. فقد تعلمت من نساء أميات أن العلم ليس ما نسمعه أو نكتبه، وإنما ما نطبقه في حياتنا. لقد طبقن ما تعلمن، بينما أنا الذي كنت أظن نفسي  هو "الأستاذ" لم أطبق إلا القليل مما تعلمت!

ومنذ ذلك الحين، ترسخ في ذهني أن العلم النافع هو ما نعمل به، تماما كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون، فكان الواحد منهم لا يتجاوز عشر آيات من القرآن تعلمها حتى يعرف معانيها ويعمل بها، فيتعلم غيرها، وهكذا.

اليوم، أعود إلى سيلبابي بعد أكثر من عشرين سنة، وهي المدينة التي مارستُ فيها أول عمل تطوعي مؤسس، أعود إليها في عمل تطوعي آخر، ومع أني قد لا ألتقي بتلميذاتي أو "أستاذاتي" ـ إن كن ما زلن على قيد الحياة ـ فأنا لم أعد أتذكر أسماءهن ولا ملامحهن، حتى أسأل عنهن، وتلك واحدة من نقاط ضعفي التي تتسبب لي دائما في حرج كبير، فأنا سريع النسيان للأسماء والملامح، وقد لا يسلم من ذلك من كان عهدي به قريبا، فكيف لمن كان عهدي به يزيد على عقدين من الزمن؟

قد لا ألتقي بأستاذاتي الفاضلات في سيلبابي، ولكني سأبقى أعترف لهن دائما بالجميل، بعد أن تعلمتُ منهن أهم وأعظم درس تعلمته في حياتي.

حفظ الله موريتانيا...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق