الاثنين، 31 مايو 2021

التعديل الوزاري الأخير: قراءة تحليلية متأخرة!


تزامن التعديل الوزاري الأخير مع انشغالات ميدانية متعددة حالت دون التعليق عليه في الوقت المناسب، وبما أني كنتُ قد التزمت لعدد من
 القراء والمتابعين بالتعليق على هذا التعديل كما جرت بذلك العادة مع كل تعديل وزاري، فإليكم هذه القراءة التحليلية المتأخرة، والتي ربما تكون قد جاءت في وقت بدأ فيه الجميع يتوقف عن الحديث عن التعديل الأخير.

ستكون هذه القراءة متعددة الأوجه، وستكون البداية مع الرسائل السياسية لهذا التعديل.

 

أي رسائل سياسية للتعديل الوزاري الأخير؟

 

كانت هناك التفاتة واضحة في هذا التعديل على الداعمين السياسيين، حتى وإن جاءت أقل مما كان يُنتظر. فمن المعروف أن الكثير من داعمي الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، خصوصا أولئك الذين يمكن اعتبارهم "أغلبيته الخاصة" بقوا على الهامش خلال ما مضى من مأمورية الرئيس، وهو الشيء الذي أدى إلى تراجع حماس البعض داخل هذه "الأغلبية الخاصة".

إن هذه "الأغلبية الخاصة" يمكن تقسيمها إلى طائفتين متمايزتين: طائفة قادمة من رحم أغلبية الرئيس السابق، ولكنها تميزت وضاعفت من جهودها في دعم الرئيس الحالي، وهذه الطائفة يمثلها خير تمثيل سعادة السفير المختار ولد داهي، والذي تم تعيينه وزيرا للثقافة والشباب والرياضة والعلاقات مع البرلمان ناطقا باسم الحكومة. أما الطائفة الثانية فهي قادمة من خارج أغلبية الرئيس السابق، وهذه تمثلها خير تمثيل الوزيرة السابقة توت منت خطري، والتي تم تعيينها مفوضة للأمن الغذائي.

لقد جاء التعديل الوزاري الأخير والتعيينات المتزامنة معه باثنين من أهم داعمي الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، احدهما من رحم الأغلبية والثاني من رحم المعارضة، وفي ذلك رسائل إيجابية اتجاه الأغلبية الخاصة بالرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، والتي بدأ التململ في صفوفها منذ فترة بسبب عدم الالتفات إليها.

 

هذا عن الرسائل السياسية الضيقة أي تلك الخاصة بالأغلبية الداعمة للرئيس، أما عن الرسائل السياسية الأوسع الموجهة إلى كل الموريتانيين، والتي يمكن القول بأنها تشكل تجسيدا لبعض ما جاء في خطاب إعلان ترشح الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، فهي تتمثل في تعيين ابنة رئيس سابق وزيرة للتعليم العالي، وابن قائد محاولة انقلابية سابقة مفوضا لحقوق الإنسان. هناك رسالة بالغة الوضوح في هذين التعيينين مفادها أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني يُحاول بجد أن يطوى صفحة الصراع على السلطة الذي عرفته موريتانيا خلال العقود الماضية، وما ترتب على ذلك الصراع من خلافات وتجاذبات.

 

توازنات بالميلليغرام

 

تعودنا في التعديلات الوزارية أن يتم احترام التوازنات الجهوية والقبلية والشرائحية، ولذا فلم يكن من الغريب أن يحترم التعديل الأخير تلك التوازنات.

ولكن الجديد هنا هو أن التعديل الأخير قد بالغ كثيرا في احترام تلك التوازنات، فعندما أقيلت سيدة تم التعويض بسيدة أخرى، وعندما تمت إقالة وزير من شريحة تم التعويض بوزير من نفس الشريحة، وعندما أقيل وزير ووزيرة من مجموعتين قبليتين جيء بوزير ووزيرة من نفس المجموعتين القبليتين، وعندما تمت إقالة موظف كبير من مجموعة قبلية معينة جيء في مكانه بموظفة من نفس المجموعة القبلية.

لقد كنا بحاجة إلى تدرج لتجاوز مثل هذه الترضيات القبلية والشرائحية والجهوية في التعيينات، ولكن التعديل الوزاري الأخير جذرها بشكل أكبر وأوضح.

 

عن الخارجين من الحكومة:  

 

خرج بموجب هذا التعديل وزيران ووزيرة، وسأتوقف هنا مع الوزيرين الخارجين، فأحدهما يمكن القول بأنه وجد فرصة لم يجدها وزير من قبله، وربما لن يجدها وزير من بعده، وأقصد هنا وزير الصحة السابق الدكتور نذيرو ولد حامد، والذي كان قد وجد تضامنا شعبيا غير مسبوق، وقد كنتُ أحد داعميه، كما وجد إشارة خضراء من الرئيس لتنفيذ خطته الإصلاحية دون أي تدخل، ولكن الوزير لم يحسن ترتيب الأولويات للأسف الشديد، فانشغل بالتباعد بين الصيدليات بدلا من قضايا أخرى كانت أكثر أولوية وإلحاحا، فضيع بذلك فرصة ثمينة لإصلاح القطاع. الوزير الثاني المقال، والذي ارتاح الكثير من متابعي الشأن العام لإقالته هو وزير التعليم العالي السابق الدكتور سيدي ولد سالم، والذي كان هو الناطق الرسمي باسم الحكومة، وقد تسبب للحكومة في كثير من المشاكل بسبب نطقه غير الموفق، كما تسبب لها بمشاكل أخرى لا تقل خطورة بسبب نهجه الصدامي مع الطلاب. الغريب في أمر هذا الوزير أنه كان هو الوزير الأقل احتراما للأحكام القضائية (رفض تنفيذ بعض الأحكام الصادرة ضد قطاعه)، وكان في نفس الوقت هو الوزير الأكثر لجوءا إلى القضاء فقد تقدم بشكوى ضد أستاذ جامعي وأخرى ضد مدير مؤسسة صحفية.

 

عن الداخلين في الحكومة

 

هناك تعيينات جاءت بأشخاص من القطاع أو لهم صلة بالقطاع، ويمكن الحديث هنا عن الدكتور سيدي ولد الزحاف الذي تم تعيينه وزيرا للصحة، والمهندس الزراعي سيدي محمد ولد سيدي أعلي الذي تم تعيينه وزيرا للزراعة، ونرجو أن يُثبت هذان الوزيران أهمية تعيين أهل الاختصاص في قطاعاتهم، فبعض أهل الاختصاص كان قد خيب آمالنا في تجارب سابقة. كما يمكن القول بأن اختيار السفير المختار ولد داهي لقطاع الثقافة والعلاقات مع البرلمان والنطق باسم الحكومة كان اختيارا مناسبا فالرجل له صلة وطيدة بالثقافة والإعلام وبخصوص النطق باسم الحكومة فمن المتوقع أنه سيكون متحدثا جيدا. أيضا يمكن القول بأن اختيار الوزيرة توت منت خطري مفوضة للأمن الغذائي كان اختيارا مناسبا، فالوزيرة لها تجارب عديدة لاشك أنها ستعينها في مهتمها الجديدة. لكن في مقابل ذلك فإن هناك تعيينات أخرى لا علاقة لأصحابها بالقطاع الذي عينوا فيه، ولعل من أبرز الأمثلة في التعديل الوزاري الأخير هو تعيين آمال منت سيدي ولد الشيخ عبد الله وزيرة للتعليم العالي ..صحيح أن هذا التعيين حمل رسالة سياسية بالغة الأهمية، ولكن كان بالإمكان أن يتم تعيين آمال مفوضة لحقوق الإنسان والعلاقات المجتمع المدني، بدلا من وزيرة للتعليم العالي والبحث العلمي فمثل ذلك التعيين كان سيكون أقرب لتجربتها في الاتحاد الإفريقي.

 

عن الوزير الأكثر ترحالا

 

يتمتع الوزير سيد أحمد ولد محمد بسمعة طيبة في مواقع التواصل الاجتماعي ولدى العديد من المهتمين بالشأن العام، ويرى كثيرون أنه من الوزراء الساعين فعلا للإصلاح، لكن المشكلة أن هذا الوزير لم يمنح الفرصة الكافية لإصلاح أي قطاع، وذلك بسبب ظهور اسمه في كل تعديل وزاري جديد، فقد مر هذا الوزير حتى الآن  بثلاثة وزارات في أقل من سنتين.   

لا يمكن تحقيق أي إصلاح في ظل عدم استقرار الوزراء وعدم استقرار الهيكلة الوزارية، ولا يمكن أن نتوقع أي إصلاح ما دامت الهيكلة الوزارية تتغير مع كل تعديل قريبا، وما دام الوزراء لا يمنحون فرصة زمنية تمكنهم من إصلاح قطاعاتهم.

الوزير إما أن يكون وزيرا قادرا على الإصلاح ففي هذه الحال يجب أن يمنح المزيد من الوقت لإصلاح قطاعه، وإما أن يكون فاشلا ففي هذه الحالة يجب أن يلفظ بعيدا خارج الحكومة، أما أن يمنح وزارة أخرى ليواصل فيها فشله، فذلك أمر يجب أن يتوقف.

فمثلا إذا كان وزير التنمية الريفية سابقا قد نجح في إدارته لقطاع التنمية الريفية فكان يجب منحه المزيد من الوقت لمواصلة إصلاحه الذي بدأه. أما إذا كان قد فشل فشلا ذريعا في إدارة قطاع التنمية الريفية، ولم يسلم في الوقت نفسه من بعض الشكوك حول تسييره المالي، فبأي منطق يتم تعيينه وزيرا للصيد؟ أليس قطاع الصيد من القطاعات الهامة التي يجب الالتفات إليها بشكل جدي خاصة بعد جائحة كورونا؟ ألا يحتاج هذا القطاع الحساس إلى وزير له سمعة جيدة في مجال التسيير؟

 

وزراء لا نعرف لماذا تم الاحتفاظ بهم؟

 

هناك وزراء لم يحققوا إنجازات تذكر في قطاعاتهم ومع ذلك تم الاحتفاظ بهم، ولعل المثال الأبرز هو وزير التهذيب الوطني وإصلاح التعليم، والذي كان قد تم تكليفه بإصلاح قطاع التعليم، أي القطاع الذي إذا لم يتم إصلاحه فلا معنى للحديث عن أي إصلاح آخر.   

ربما تكون سمعة الوزير في مجال التسيير جيدة، وربما تكون لديه خطة إصلاحية..ربما يكون كل ذلك صحيحا، ولكن لا أهمية لكل ذلك إذا لم يتمكن الوزير من كسب ثقة الأساتذة والمعلمين، فلا إصلاح يمكن أن يتحقق في قطاع التعليم في ظل هذه الإضرابات الواسعة التي يقودها الأستاذة والمعلمون، والتي تكررت كثيرا خلال السنتين الماضيتين، بل إنها تزامنت مع التعديل الوزاري.

 

لا رسالة في التعديل لصالح المهتمين بمحاربة الفساد

 

لقد فتح النظام القائم واحدا من أكبر ملفات الفساد في تاريخ البلاد (ملف العشرية)، ومع ذلك فقد غابت عن التعديل الأخير أية إشارة توحي أن النظام قد فتح مثل ذلك الملف. لقد تم الاحتفاظ على الأقل بوزير سمعته غير جيدة في مجال التسيير، وتم تعيين آخر سمعته غير جيدة في مجال التسيير.

لقد كان من المفترض أن تتناغم التعديلات الوزارية والتعيينات مع الحرب المعلنة على الفساد، ولكن ذلك لم يحصل مع هذا التعديل، ونرجو له أن يحصل مستقبلا مع أي تعديل وزاري قادم.

 

التعديل الوزاري في نقاط سريعة

 

ـ لقد أعطى التعديل الوزاري الأخير إشارات سياسية إيجابية تتناغم تماما مع خطاب إعلان ترشح الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني؛

ـ لقد أعطى التعديل الوزاري الأخير إشارات سياسية مطمئنة للأغلبية الداعمة للرئيس، قد لا تكون تلك الإشارات بالحجم الذي كان متوقعا، ولكنها مع ذلك كانت موجودة وواضحة؛

ـ لم يعط التعديل الوزاري الأخير أية إشارة لصالح شعار محاربة الفساد؛

ـ لم يكن هذا التعديل من ناحية الكم والكيف بحجم الآمال التي تولدت لدى الرأي العام الوطني بعد انتقاد رئيس الجمهورية ووزيره الأول للأداء الحكومي.

 

حفظ الله موريتانيا... 

الاثنين، 24 مايو 2021

نُثَمن وننتقد (2)


"إن خيروك بين أمرين، فاختر ثالثهما".

الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "إدغار موران"

يصرُّ البعض على أن يحشر الآخرين ضمن بدائل نمطية وخيارات محددة سلفا، وهو ما يعني إجبارهم على التفكير من داخل الصندوق. في كثير من الأحيان قد نكون بحاجة إلى التفكير من خارج الصندوق للخروج بأفكار غير تقليدية، وربما إبداعية.

وإذا ما قمنا بتنزيل هذا الكلام على الواقع السياسي، فسيعني ذلك أنه إذا خيرك أحدهم بين المعارضة والموالاة، فإنه يمكنك إن لم تكن راضيا عنهما معا ـ كما هو الحال بالنسبة لي ـ  أن تختار بديلا ثالثا لهما، لا يمكن تصنيفه على أنه معارضة خالصة أو موالاة خالصة.

هذا البديل أو هذا الخيار الثالث هو ما أطلقتُ عليه في مقالي السابق خيار: "نثمن وننتقد" أو "ننتقد ونثمن".

في اعتقادي الشخصي أن هذا الخيار هو الخيار الأمثل في هذه الفترة من تاريخ البلاد. إننا بالفعل بحاجة ماسة إلى كتلة أو تجمع سياسي غير تقليدي قادر على أن يدعم ويثمن ما يستحق الدعم والتثمين دون تطبيل ودون بحثِ عن أي مصلحة ضيقة أو خاصة، وقادر في الوقت نفسه على أن يعارض وينتقد ليس من أجل إظهار عيوب النظام وتعريته، وإنما سعيا للإصلاح وحثا للقائمين على الشأن العام على معالجة ما يقع من خلل وتقصير.

إننا بحاجة بالفعل إلى مثل هذا التوجه السياسي غير التقليدي، والذي لن ترضى عنه الموالاة التقليدية ولا المعارضة التقليدية ولا جيوش المثبطين والسلبيين الذين لا ينتجون أفكارا ولا يقدمون أعمالا مفيدة للوطن، وإنما يكتفون فقط بتثبيط الآخرين إن حاولوا خدمة وطنهم بما هو متاح من أفكار ومن وسائل محدودة.

إن مثل هذا الخيار السياسي غير التقليدي ستفتح عليه النيران من كل جهة إن تم الإعلان عنه، سيتلقى طعنات قوية من الأصدقاء والخصوم على حد سواء، وسيواجه طعنات أقوى أخرى من قبل السلبيين والمثبطين الذين لا يحاربون في العادة إلا الأفكار الجادة والبناءة.

نعم سيواجه مثل هذا الخيار السياسي غير التقليدي خصومات بلا أول ولا آخر إن هو أُطْلِقَ، ولكن مع ذلك فإن الظرف الزمني سيكون في صالحه، وكما يقول "فيكتور هيغو" فإنه لا توجد قوة في الأرض يمكن أن تقف في وجه فكرة حان وقتها.

وبطبيعة الحال فإن هذا الخيار السياسي غير التقليدي بحاجة إلى أشخاص بمواصفات غير تقليدية، مواصفات كنتُ قد تحدثتُ عنها في مقالي السابق، وسأختم بها هذا المقال :
 ـ أن لا يكون في ماضيهم أي شبهة فساد أو تزلف أو تطبيل؛

ـ أن لا يكون قد عُرِف عنهم أي نشاط قبلي أو جهوي أو شرائحي؛

ـ أن لا يكونوا من طائفة السلبيين العدميين أو المثبطين أو المكتفين بالتفرج على ما يجري في البلد من أحداث دون أن تكون لهم أي ردة فعل؛ 

ـ أن يكونوا من المؤمنين بأهمية الإصلاح الآمن والمتدرج، وكذلك من المقتنعين بأن إصلاح المجتمع يبدأ أولا بإصلاح النفس؛

ـ أن يكونوا على استعداد للتبرع بساعة على الأقل من كل أسبوع للخدمة العامة.

 

حفظ الله موريتانيا... 

الأحد، 16 مايو 2021

ما أحوجنا إلى حراك "نُثَمن وننتقد" أو "نَنتقد ونثمن"!


هناك سؤال يتكرر طرحه دائما في أغلب النقاشات التي تجمعني مع بعض المهتمين بالشأن العام، والذين لم تعد تقنعهم الموالاة التقليدية ولا المعارضة التقليدية ...يقول السؤال في إحدى صيغه الأكثر مباشرة : أيُ حراك سياسي يناسب هذه المرحلة؟

في اعتقادي الشخصي أن الإجابة المباشرة على هذا السؤال المباشر قد لخصها عنوان المقال، فالحراك السياسي الذي يناسب هذه المرحلة هو حراك " نثمن وننتقد" أو "ننتقد ونثمن"، فمن كان أقرب للموالاة فيمكنه أن يبدأ ب :"نثمن"، ومن كان أقرب إلى المعارضة فيمكنه أن يبدأ ب : "ننتقد"، وسيبقى من الضروري في كل الأحوال أن يتم الجمع بين التثمين والنقد، فذلك هو ما يناسب سياسيا هذه المرحلة من تاريخ بلادنا.

نحن في هذا العهد بحاجة إلى طبقة سياسية تختلف عن طبقتنا السياسية التقليدية التي تعودت  على واحد من نمطين اثنين: إما التطرف في موالاة الأنظمة، أو التطرف في معارضة تلك الأنظمة.

نحن في هذا العهد بحاجة إلى طبقة سياسية جديدة قادرة على أن تثمن وتسوق ما تحقق من إنجازات هامة للطبقات الهشة، وقادرة في الوقت نفسه على أن تنتقد ما يجري من تعيينات وإعادة تدوير لموظفين فاسدين أو فاشلين لا يمتلكون أي قدرة ولا حتى أي رغبة في الإصلاح.

نحن في هذا العهد بحاجة إلى طبقة سياسية جديدة قادرة على أن تثمن فتح واحد من أكبر ملفات الفساد في تاريخ البلد ( ملف فساد العشرية)، وقادرة في الوقت نفسه على أن تنتقد عدم الصرامة في التعامل مع ما قد يحصل من فساد من بعد العشرية.

نحن في هذا العهد بحاجة إلى طبقة سياسية جديدة إذا ثمنت لا تثمن تصفيقا أو تطبيلا للنظام، ولا تثمن بحثا عن مصالح ومكاسب شخصية، وإنما تثمن لتشجيع النظام على القيام بمزيد من الإصلاح.

ونحن في هذا العهد بحاجة إلى طبقة سياسية جديدة إذا انتقدت لا تنتقد من أجل تلميع نفسها والظهور على أنها هي من يدافع عن المواطن المطحون، ولا تنتقد  من أجل تعرية النظام وإظهار عيوبه للمواطنين، وإنما تنتقد من أجل إظهار مكامن الخلل وأوجه التقصير وحث النظام على تصحيح ما يحصل من خلل وتقصير.

لا خير فيمن يوالي تطبيلا أو تصفيقا أو بحثا عن مصالح ضيقة، ولا خير كذلك فيمن يعارض لتلميع نفسه أو لإظهار عيوب النظام، ودون أن تهمه المصلحة العليا للوطن.

بين الموالاة التطبيلية والمعارضة المتطرفة توجد منطقة وسطى هي ما يمكن أن نطلق عليه منطقة : " نثمن وننتقد" أو "ننتقد ونثمن"..هذه المنطقة الوسطى هي التي تليق بمن تهمه حقا المصلحة العليا للوطن من قبل أي مصلحة ضيقة أخرى.

مثل هذه المنطقة الوسطى التي تجمع بين التثمين والنقد هي التي تحتاجها بلادنا في مثل هذا الوقت،  وهي التي يحتاجها النظام القائم حاليا، ومن الضروري لمن أراد تأشيرة دخول لهذه المنطقة أن يتمتع بالصفات التالية :
 ـ أن لا يكون في ماضيه أي شبهة فساد أو تزلف أو تطبيل؛

ـ أن لا يكون قد عُرِف عنه أي نشاط قبلي أو جهوي أو شرائحي؛

ـ أن لا يكون من طائفة السلبيين العدميين أو المثبطين أو المكتفين بالتفرج على ما يجري في البلد من أحداث دون أن تكون لهم أي ردة فعل؛ 

ـ أن يكون من المؤمنين بأهمية الإصلاح الآمن والمتدرج، وكذلك من المقتنعين بأن إصلاح المجتمع يبدأ أولا بإصلاح النفس؛

ـ أن يكون على استعداد للتبرع بساعة على الأقل من كل أسبوع للخدمة العامة؛

خلاصة القول هي أننا في هذا الظرف من تاريخ البلد بحاجة ماسة إلى حراك سياسي جديد تنشط فيه مجموعة من الموريتانيين بالمواصفات المبينة أعلاه، على أن يمتلك هذه الحراك من القدرات والمؤهلات والشجاعة والجرأة ما يمكنه من تثمين وتسويق المنجز وانتقاد ما يحصل من أخطاء و تقصير مع الضغط لتصحيح ما يحصل من أخطاء وتقصير.

إننا بالفعل بحاجة إلى حراك سياسي جديد يرفع شعار "نُثَمن وننتقد" أو "نَنتقد ونثمن".

حفظ الله موريتانيا... 

الأحد، 2 مايو 2021

عن بطء العمل الحكومي


قال معالي الوزير الأول على هامش زيارة نظمها لوزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي يوم الاثنين الموافق 26 إبريل 2021 إن وتيرة تنفيذ برنامج فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بطيئة. وأكد معالي الوزير الأول ـ حسب ما نشرته الوكالة الموريتانية للأنباء ـ أن ذلك البطء لا يعود إلى نقص في الوسائل ولا غياب الإرادة السياسية القوية، وإنما يعود حسب التشخيص الموضوعي الذي قيم به بعد عشرين شهرا من عمل الحكومة (ثلث المأمورية) إلى قصور في الإدارة التي هي أداة كل عمل حكومي ناجح وناجع
.

بعد ذلك بيومين أكد معالي وزير الشؤون الاقتصادية وترقية القطاعات الإنتاجية على هامش تعليقه على بيان مجلس الوزراء أن التأخر الملاحظ في تنفيذ المشاريع يعود بنتيجة سلبية على ميزانية الدولة وعلى صورتها في الخارج.

إن هذا التشخيص الذي قدمه معالي الوزير الأول ووزير الاقتصاد يستدعي أن يتبعه ـ وبشكل فوري ـ العلاج، فما هو العلاج المقترح؟ وهل بدأ تقديمه أم أن تقديمه سيعاني هو أيضا من بطء في التنفيذ؟

تزامنت تصريحات معالي الوزير الأول ووزير الاقتصاد مع خبر غريب تناولته بعض الوكالات الدولية مفاده أن زعيم كوريا الشمالية "كيم جون أون" أعدم أحد الموظفين الحكوميين بعد تأخره في إنهاء مشروع يتعلق بتجهيز أحد المستشفيات.

ذلكم كان مجرد قوس فتحته، فكوريا الشمالية ليست نموذجا يحتذى به، وما يصلح لها لا يصلح لنا، فلنغلق القوس، ولنعد إلى تصريحات معالي الوزير الأول ووزير الاقتصاد التي اتفقت على وجود بطء في أداء العمل الحكومي.

بدءا لابد من التذكير بحقيقة أظن أنه لا خلاف عليها، وهي أن الوزراء وكبار المسؤولين في هذا العهد قد مُنحوا صلاحيات واسعة، على عكس ما كان يحدث في السابق. هذه الحقيقة يجب أن تترتب عليها ضريبة ما، وتلك الضريبة هي أن يتحمل كبار الموظفين مسؤولية أي تقصير قد يقع خلال تأديتهم لمهامهم، وأن يحاسبوا على ذلك التقصير، فتلكم هي ضريبة منح الصلاحيات الكاملة.

وحتى ندرك خطورة هذا البطء الملاحظ الذي تحدث عنه معالي الوزير الأول ووزير الاقتصاد علينا أن نُذكر بأن تنفيذ برنامج فخامة رئيس الجمهورية الذي تعهد به للشعب الموريتاني محكوم بسقف زمني محدد، لا يتجاوز خمس سنوات، وهو ما يعني أن أي بطء في وتيرة التنفيذ خلال العشرين شهرا التي مضت (ثلث المأمورية)، لابد وأن يؤثر على الثلثين الباقيين، ومن هنا تبرز ضرورة الإسراع في تقديم علاج ناجع لهذا البطء الملاحظ.

لكي ندرك أكثر خطورة البطء في التنفيذ دعونا نأخذ هذا المثال المبسط:

تصوروا مثلا أن شخصا ما أعطى لمقاول ما 20 مليون أوقية قديمة ليشيد له منزلا خلال عام، مع راتب شهري قدره 200 ألف أوقية كل شهر، أي 2400000 للعام. لما جاء هذا الشخص إلى المقاول بعد نهاية السنة وجد العشرين مليون أوقية لم تنقص أوقية واحدة، ولكن المنزل لم يُشيد، في حين أن المقاول سيأخذ رواتبه لكل أشهر السنة.

تصوروا أيضا أن نفس الشخص أعطى مبلغا مساويا لمقاول آخر وبنفس الراتب ولما جاءه نهاية السنة وجده شيد المنزل مع عمليات احتيال وغش في النوافذ والأبواب تقدر في المجمل بمليون أوقية.

البعض قد يعتبر المقاول الأول مستقيما وأمينا وأنه أفضل من المقاول الثاني، والحقيقة أن ما أهدره المقاول الأول من مال الشخص المذكور يفوق ما سرقه المقاول الثاني بكثير.

إن إهدار الوقت ـ خصوصا إذا كان هذا الوقت محددا بسقف زمني لا يتجاوز خمس سنوات ـ قد لا يقل خطورة عن نهب المال العام، بل إنه في بعض الأحيان قد يكون أكثر خطورة من نهب المال العام.

لقد تعهد رئيس الجمهورية للشعب الموريتاني ببرنامج انتخابي يجب أن يتحقق خلال خمس سنوات، ومن هنا فإنه من الواجب على كل قطاع حكومي أن يتولى إنجاز حزمة من التعهدات التي تضمنها ذلك البرنامج الانتخابي، وأن لا يتأخر في إنجاز تلك الحزمة، فبذلك، وبذلك وحده سيفي رئيس الجمهورية بتعهداته للشعب الموريتاني مع نهاية مأموريته. وحتى يكون بالإمكان محاسبة كل قطاع وزاري محاسبة دقيقة على ما أهدر من وقت ومال، وعلى ما أخل به من تعهدات رئيس الجمهورية فإنه على كل قطاع أن يتعهد بإنجاز حزمة محددة من المشاريع خلال سقف زمني محدد، وبكلفة مالية محددة، وحينها سيكون بالإمكان محاسبة القائمين على ذلك القطاع بشكل دقيق.

لتوضيح الأمر أكثر دعونا نفترض مثلا أن الوزير (س) حدد 5 مشاريع ستنجزها وزارته خلال العام 2021، وبكلفة إجمالية تصل إلى 5 مليار أوقية قديمة.

ولنفترض مثلا أن التفتيش اهتم بمستوى الإنجاز، فنظم زيارة في الشهر السادس من العام 2021 لتلك الوزارة، فوجد أن مستوى الإنجاز، وبالمعايير المتفق عليها وصل إلى 45% مثلا، وبأنه في يوم 31 ديسمبر 2021 وصل إلى مستوى 95% مثلا . هنا يبدأ التدقيق المالي فإذا كانت الموارد المتبقية من المشاريع، أي 5% موجودة في حسابات الوزارة، فهذا يعني أن هذا الوزير يعتبر وزيرا مثاليا قل نظيره، ومثل هذا الهامش في تأخر الإنجاز مقبول ومبرر.  أما إذا كانت الأموال غير موجودة، فهذا يعني أن الوزير وموظفي وزارته اختلسوا 250 مليون من المال العام، مع مستوى إنجاز كبير يصل إلى 95%.

الآن لنفترض أن الوزير (ص) حدد أيضا حزمة من المشاريع تصل إلى 5 مشاريع، وبكلفة مالية تقدر ب 5 مليارات أوقية قديمة، مع سقف زمني يصل إلى سنة.

لنفترض أنه بعد 6 أشهر كان الإنجاز في هذه المشاريع لا يتعدى 5% ، وأنه في يوم 31 ديسمبر 2021 وصل مستوى الإنجاز إلى 13% مثلا. بعد التدقيق المالي وُجِد أن المبلغ المتبقي الذي يمثل 87% ( 4 مليار و35 مليون أوقية) موجود بالكامل ولم تنقص منه أوقية واحدة.

في العادة يتم وصف الوزير (س) بالمفسد، وتشن عليه الحملات، وهذا طبيعي جدا لأنه اختلس 250 مليون أوقية من مال الشعب، ولكن ما هو غير طبيعي أن لا يتم الحديث بشكل سلبي عن الوزير (ص) رغم أن عجزه وسوء تسييره كلف خزينة الدولة أضعاف ما سرقه الوزير (س) . فكل ما أنفقته الدولة كرواتب للوزير (ص) وعمال وزارته، وكل ما تم إنفاقه من علاوات و ملتقيات وأسفار على العمال في الوزارة (ص) خلال العام 2021 لم يعد بنتيجة على المواطن، وهو في حقيقة أمره يعتبر مالا مهدورا.

ليس هذا فقط، فبالإضافة إلى كل ذلك فإن هذه النسبة الضعيفة من الإنجاز للوزير (ص) ستَحْرِمُ البلاد من موارد مالية كان بالإمكان أن تحصل عليها من شركائها في التنمية، ولكن البطء في تنفيذ المشاريع سيحرمها من تلك الموارد، وهو ما أشار إليه وزير الاقتصاد في تعليقه على بيان مجلس الوزراء.

ختاما

بما أن كل عملية تشخيص يتبعها في العادة تحديد العلاج وتقديمه، فهذه بعض المقترحات التي قد تكون مفيدة في علاج البطء الملاحظ في الأداء الحكومي:

1 ـ لابد من محاسبة المسؤولين عن هذا البطء، فمنح صلاحيات واسعة يجب أن يتبعه حساب عسير في حالة أي تقصير؛

2 ـ لابد من محاربة الفساد الإداري وإعادة الاعتبار لأصحاب الكفاءة من ذوي الأيادي النظيفة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالوظائف الفنية، والتي يجب أن تبعد بشكل كامل عن السياسة؛

3 ـ لابد من ابتداع آليات جديدة في محاسبة المسؤولين، على أن لا تقتصر تلك المحاسبة على ما يتم نهبه من مال عام، بل تمتد لتشمل المحاسبة على ما يتم إهداره من وقت.