الأحد، 18 يونيو 2023

إلى النواب في أول جلسة لهم


من المتوقع أن تكون أول جلسة للبرلمان الجديد في إنابته الجديدة، جلسة ناطقة بلغة أجنبية (اللغة الفرنسية)، وهو ما سيشكل انتهاكا صريحا للدستور الموريتاني، ومخالفة صارخة لما يجري في أغلب برلمانات العالم، حيث يحظر استخدام أي لغة أجنبية، لما يشكل ذلك من انتقاص للسيادة الوطنية.
ففي البرلمان الفرنسي مثلا يحظر استخدام أي لغة غير الفرنسية، وفي تونس التي تصل فيها نسبة المتحدثين باللغة الفرنسية إلى ما يقارب 50 % من الشعب التونسي، فإن المادة 104 من النظام الداخلي للبرلمان التونسي تحظر استخدام اللغة الفرنسية داخل البرلمان، وفي المغرب يحظر استخدام أي لغة غير العربية والأمازيغية داخل البرلمان المغربي، وهكذا في بقية برلمانات العالم.
رغم كل ذلك، فإنه يتم الآن التحضير لأن تكون أول جلسة للبرلمان الموريتاني في مأموريته الجديدة جلسة ناطقة بلغة أجنبية (اللغة الفرنسية)، ومبرر ذلك هو أن "عميد السن" في البرلمان الموريتاني حاليا النائب "موسى دمبا صو"، والذي سيترأس الجلسة بمساعدة خمسة من أصغر النواب لا يتحدث باللغة العربية (اللغة الرسمية لبلادنا)، ولذا تقرر اللجوء إلى اللغة الفرنسية لتكون هي لغة أول جلسة للبرلمان الموريتاني في إنابته الجديدة، وذلك بطبيعة الحال مما لا يبشر بخير على برلماننا الجديد.
إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام، وبإلحاح، هو: لماذا لا يتم اللجوء إلى إحدى لغاتنا الوطنية ما دام رئيس الجلسة لا يستطيع التحدث باللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية؟.
إن اعتماد اللغة البولارية ـ وهي إحدى لغاتنا الوطنية بنص المادة السادسة من الدستور الموريتاني ـ في جلسة انتخاب رئيس البرلمان له إيجابيات كثيرة لعل من أهمها:
1 ـ أنه عمل دستوري لا يمكن الطعن فيه، هذا فضلا عن كونه سيجنب البرلمان الموريتاني الوقوع في فضيحة كبرى يصعب أن تحدث في أي برلمان في العالم، وتتمثل تلك الفضيحة في استخدام لغة أجنبية وغير دستورية في أول جلسة لمؤسسة تشريعية تعدُّ من أهم مؤسسات السيادة في البلد.
2 ـ أنه سيمنح لواحدة من لغاتنا الوطنية (البولارية ) مكانة معتبرة، وذلك من خلال اعتمادها لغة رسمية لأول جلسة للبرلمان الموريتاني في مأموريته الجديدة؛
3 ـ أنه سيعزز من المكاسب المهمة التي تحققت للغاتنا الوطنية بعد التعديل الذي تم إجراؤه من طرف البرلمان السابق على المادة 61 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية، وهي المادة المتعلقة بالترجمة الفورية داخل الجمعية الوطنية. إن هذا التعديل الهام أعطى مكانة معتبرة في البرلمان الموريتاني للغاتنا الوطنية، والتي أصبح يبث بها كل ما يجري داخله من مداولات ونقاشات من خلال قناة البرلمانية، وهو ما أتاح لكل موريتاني أن يُتابع ما يجري داخل برلمانه بلغته الأم. إن هذا المكسب الكبير الذي حققه البرلمان السابق يجب أن نحافظ عليه، ولن يكون بالإمكان المحافظة عليه إذا ما تم تشجيع بعض النواب على الحديث باللغة الفرنسية، وترجمة مداخلاتهم بتلك اللغة إلى كل اللغات الوطنية. إن مما يؤسف له هو أن بعض نوابنا الموقرين على استعداد تام للتخلي عن الحديث بلغته الأم إذا ما وفرت له الجمعية الوطنية ترجمة مداخلاته باللغة الفرنسية إلى لغاتنا الوطنية، وهذا مما كان يرفضه رئيس البرلمان السابق انتصارا للغاتنا الوطنية، وسعيا منه للتمكين لتلك اللغات داخل مؤسستنا التشريعية.
إن من واجب كل من يسعى حقا إلى تطوير لغاتنا الوطنية أن يدعم المطلب المتعلق باعتماد اللغة البولارية في أول جلسة للبرلمان الموريتاني في مأموريته الجديدة، وعلى أولئك الذين يرفعون شعار تطوير لغاتنا الوطنية وإعطاءها المكانة التي تستحق، أن يدركوا بأن تمسكهم بلغة أجنبية على حساب لغاتنا الوطنية سيشكل مستقبلا ـ كما شكل في الماضي ـ خذلانا للغاتنا الوطنية ووقوفا ضد تطويرها.
إننا نرجو من نوابنا الموقرين أن يبتعدوا عن استخدام لغة أجنبية في أول جلسة لهم، وأن يجعلوا من اللغة البولارية لغة تلك الجلسة، خاصة وأن الترجمة من هذه اللغة الوطنية وإليها متاحة داخل البرلمان ، وبشكل جيد، وهم إن فعلوا ذلك سيكونون قد خلدوا ذكرى نائب شجاع يرجع له الفضل بأنه كان أول نائب موريتاني يتحدث باللغة البولارية داخل البرلمان الموريتاني، وكان ذلك ذات ثلاثاء صادف الخامس من يونيو من العام 2012، أي قبل إحدى عشرة سنة من الآن.
رحم الله نائب بوكي السابق سي صمبا، والذي لا شك أننا سنفتقده يوم 19 يونيو 2023 في أول جلسة للبرلمان الموريتاني في إنابته الجديدة.
حفظ الله موريتانيا..

الجمعة، 16 يونيو 2023

مقترحٌ على مائدة عشاء رئيس حزب الإنصاف

 


وجه رئيس حزب الإنصاف دعوة إلى نواب حزبه لحضور حفل عشاء سينظمه على شرفهم مساء الأحد الموافق 18 يونيو 2023، أي ساعات قبل أول جلسة للبرلمان الجديد، وبمناسبة حفل العشاء هذا فإني أتقدم من جديد إلى رئيس الحزب ونواب الحزب بمقترح كنتُ قد قدمته في وقت سابق للجنة الإصلاح في الحزب.

بدءا هناك أسئلة سنطرحها من قبل عرض المقترح، وسنحاول من خلال هذه الأسئلة أن نفتح شهية رئيس الحزب ونواب الحزب لتناول هذا المقترح مع ما سيتناولون مما لذ وطاب من طعام وشراب على مائدة العشاء المنتظر. 
هل من الأولى بالنائب في حزب الإنصاف أن يدافع في البرلمان عن الحكومة أم عن المواطن الذي انتخبه في حالة ما إذا كان هناك بعض التقصير الملاحظ في الأداء الحكومي؟
هل إذا تجاهل كل نواب حزب الإنصاف "تقصيرا ما" في عمل الحكومة، فهل سيعني ذلك أن هذا التقصير سيبقى محجوبا عن المواطن، وأن بقية النواب ـ وخاصة نواب المعارضة ـ سيتجاهلون ذلك التقصير، أم أنهم سيسارعون إلى كشفه وربما يبالغون في تضخيمه؟
ألن يُبثَّ نقد نواب المعارضة للحكومة في قناة البرلمانية، وبكل اللغات الوطنية، مما يعني أن الفرصة ستتاح لكل مواطن موريتاني لأن يسمع ذلك النقد المعارض، والذي ربما يكون مبالغا فيه؟
فبأي منطق بعد هذا يستمر صمت نواب الإنصاف وتجاهلهم للتقصير في الأداء الحكومي؟ ألم يحن الوقت للاستفادة مما قالت العرب قديما : "بيدي لا بيد عمرو"؟ ألم يحن الوقت لأن يرفع نواب الإنصاف شعار: "بلساني الناعم لا باللسان الحاد للنائب المعارض"؟
لقد استفاد نواب المعارضة إعلاميا وسياسيا من تجاهل نواب الأغلبية للتقصير في الأداء الحكومي، بل والدفاع في الكثير من الأحيان عن ذلك التقصير ومحاولة تبريره. هذا التجاهل أعطى الفرصة لنواب المعارضة لأن يظهروا دائما في مظهر المدافعين عن المواطن في البرلمان، والمتحدثين عن همومه، وفي كثير من الأحيان لا يكون حديث نواب المعارضة عن التقصير في الأداء الحكومي من أجل تصحيح ذلك التقصير، وإنما من أجل إظهار عجز الحكومة وتعرية النظام الحاكم، وبالتالي كسب المزيد من النقاط السياسية، وهذا حق سياسي للمعارضة عليها أن تستغله، ولا يمكن أن تلام إن هي استغلته. ما أردتُ لفتَ الانتباه إليه هنا هو أن هناك فرقا كبيرا بين الحديث عن خلل ما في العمل الحكومي من أجل تصحيحه (وهذا ما يجب على نواب حزب الإنصاف أن يقوموا به)، والحديث عن ذلك الخلل من أجل كشف العجز الحكومي وتعرية النظام وتحقيق مكاسب سياسية وإعلامية، لا أقل ولا أكثر، وهذا ما يقوم به العديد من نواب المعارضة. لا يعني هذا الكلام أن كل نواب المعارضة لا يتحدثون عن التقصير في الأداء الحكومي من أجل تصحيحه، فهناك نواب في المعارضة يتحدثون عن ذلك الخلل من أجل تصحيحه، ويسعون بالفعل إلى ذلك، ولكن في المقابل هناك نواب آخرون في المعارضة يتحدثون عن ذلك الخلل لا من أجل تصحيحه، وإنما فقط من أجل كسب نقاط سياسية وإعلامية.
من هنا على حزب الإنصاف ونوابه أن يدركوا أن أساليب العمل التقليدي للأحزاب الحاكمة التي كانت تصلح للعقود الماضية لم تعد تصلح في أيامنا هذه، ولذا فقد أصبح من الضروري إحداث تغييرات جوهرية في أساليب عمل الحزب، وخصوصا في أساليب عمل فريقه البرلماني..
وعلى حزب الإنصاف ونوابه أن يعلموا بأنه لا توجد حكومة في هذا العالم بلا أخطاء، وبلا أوجه تقصير، ويتأكد الأمر بالنسبة للحكومات في دول العالم الثالث كما هو الحال بالنسبة لبلدنا.
إن التقصير في الأداء الحكومي موجود تلك حقيقة لا يمكن إنكارها، والحديث عن ذلك التقصير لن يتوقف لا داخل البرلمان ولا خارجه وتلك حقيقة ثانية لا يمكن تجاهلها. فما دام التقصير موجودا، وما دام الحديث عنه لن يتوقف بأي حال من الأحوال، فلماذا لا يأخذ نواب حزب الإنصاف زمام المبادرة ويتحدثون عن ذلك التقصير لا من أجل إظهار ضعف الأداء الحكومي كما يفعل بعض نواب المعارضة، وإنما من أجل تصحيح أوجه ذلك التقصير، وهناك فرق كبير بين أن تتحدث عن خلل ما من أجل تصحيحه، وأن تتحدث عن ذلك الخلل من أجل كشف عيوب المسؤول عنه، وإظهار عجزه للرأي العام. 
إن الفريق البرلماني لحزب الإنصاف ( وما ينطبق على هذا الفريق ينطبق على كل الفرق البرلمانية المحسوبة على الأغلبية) بحاجة إلى أن يغير أسلوبه في التعامل مع الحكومة داخل البرلمان، وأن يعتمد في هذه الإنابة الجديدة على أسلوب جديد في التعامل معها يقوم على المرتكزات التالية:
1 ـ أن الفريق البرلماني لحزب الإنصاف أولى من غيره بكشف أوجه التقصير في الأداء الحكومي والحديث عن ذلك التقصير بالطرق والأساليب التي يمكن أن تساهم في معالجة ذلك التقصير، وهو إن تقاعس عن ذلك الدور، فإنه سيعطي فرصة ثمينة لنواب المعارضة للحديث عن ذلك التقصير، وربما المبالغة في الحديث عنه سعيا لتسجيل المزيد من المكاسب السياسية والإعلامية؛
2  ـ إن الحديث عن أوجه التقصير في الأداء الحكومي، والبحث عن حلول لذلك التقصير ستمنح نواب حزب الإنصاف مصداقية لدى المواطن هم في أمس الحاجة إليها؛
3 ـ من جهة أخرى فإن تحقيق تلك المصداقية هو ما سيمكن نواب حزب الإنصاف من تسويق إنجازات الحكومة للمواطن، وكثيرا ما يفشل نواب الحزب الحاكم ـ بل الأغلبية كلها ـ في تسويق تلك الإنجازات.
على حزب الإنصاف في عمومه، وعلى فريقه البرلماني بشكل خاص أن يعلم بأن النائب الذي لا يستطيع أن ينتقد خللا ما، لن يكون بمقدوره تسويق إنجاز ما.
إن تسويق الإنجازات والدفاع عن النظام يحتاج إلى المصداقية، والمصداقية لا يمكن أن يحصل عليها من يكرر على مسامع المواطنين بالغدو والآصال أن الحكومة لم ترتكب خطأ واحدا خلال أدائها لمهامها. 
إن هذا النوع من النواب الذي يتحدث بهذه الطريقة الفاقدة للمصداقية، والتي لم تعد في زماننا هذا تقنع أحدا، لا يشكل فقط عبئا ثقيلا على الأنظمة الحاكمة، بل إنه زيادة على ذلك يشكل خطرا كبيرا على أرصدة تلك الأنظمة، وذلك لأنه يسحب من تلك الأرصدة ودون أن يضيف لها شيئا.  
وتبقى همسة في أذن "النائب الإنصافي" : إذا خلوت بوزير فلا تحدثه فقط عن همومك الخاصة، ولا تجعل حديثك معه يبدأ بطلب وظيفة لأحد أفراد العائلة، وينتهي بطلب صفقة لك أو لأحد أقربائك.. لا تنس أن تتحدث معه عن هموم المواطن بصفة عامة، والمواطن في دائرتك الانتخابية بشكل خاص.
شهية طيبة للجميع.. 

حفظ الله موريتانيا...

السبت، 10 يونيو 2023

وتمت عملية الشحن بنجاح!


شهدت بلادنا خلال الأيام الماضية، أعمال شغب واسعة، بدأت مباشرة بُعيد الإعلان عن وفاة المواطن عمار جوب غفر الله له، وإذا كان هناك من هو مسؤول جنائيا عن أعمال الشغب تلك، والتي أدت إلى خسائر مادية كبيرة وإلى وفاة الشاب محمد الأمين في بوكي رحمه الله،  فإن هناك في المقابل من هو مسؤول سياسيا وإعلاميا عن أعمال الشغب تلك، وذلك من خلال  مشاركته في عملية الشحن العاطفي والتجييش الإعلامي، والتي أدت  في المحصلة النهائية إلى أعمال الشغب تلك.

لنعد قليلا إلى تسلسل عمليات الشحن والتجييش العاطفي التي مهدت لأعمال الشغب والنهب، ولنذكر من قبل ذلك بأن الجهات المعنية بدأت منذ الساعات الأولى بتشريح الجثة بحضور محام وطبيب انتدبتهما عائلة الضحية، وهو ما كان يستوجب من كل واجد منا انتظار نتائج التشريح لاتخاذ الموقف الذي يراه مناسبا من هذه الحادثة.

(1)

سارع النائب العيد ولد محمدن بعيد حادثة الوفاة، ومن داخل المستشفى الوطني، وحسب ما نقل عنه موقع "صحراء ميديا" إلى القول بأن الفقيد عمار جوب "تعرض للتعذيب في المفوضية، وهناك ضرب وجرح ظاهر على أماكن من جسمه"، وأضاف النائب العيد من داخل المستشفى بأن "المتبادر وحسب الخيوط التي حصل عليها، تفيد أن الشاب توفي في المفوضية، بسبب التعذيب" .

كان النائب العيد حاضرا لعملية التشريح بصفته محاميا لعائلة الضحية، ولكنه لم يتحدث بلسان المحامي، ولا بلسان الحقوقي، وإنما تحدث ـ وللأسف الشديد ـ بلسان السياسي المعارض الخارج للتو من انتخابات يرى بأنها مزورة ، والذي لا يجد حرجا في استغلال أي حادثة لتجييش الشارع ضد النظام، فما كان منه إلا أن ألصق جريمة القتل بالشرطة في لحظة مضطربة سياسيا وحرجة أمنيا، وذلك من قبل أن تتوفر لديه الأدلة الكافية.

(2)

لم يتردد النائب محمد الأمين ولد سيدي مولود هو أيضا في المسارعة إلى إلصاق جريمة قتل عمار جوب  بالشرطة، بل إنه سبق النائب العيد في اتهام الشرطة، وكان ذلك من خلال العديد من المنشورات والتصريحات والرسائل الصوتية، وكان من أوائل منشوراته عن الحادثة هذا المنشور : "الصوفي ولد الشين" من جديد، إنه المرحوم عمار چوب، ذهبت به الشرطة البارحة بعد العاشرة في كامل صحته، ليتصلوا على أهله فجر اليوم أنه توفي، كعادتهم في مثل هذه الجرائم. فهل يقف الرأي العام معه كما فعل مع الصوفي حتى يحاسب الفاعلون وتتوقف هذه الجرائم؟!

قد يبرر المبررون وقد يتجاهل المتجاهلون، وقد تصدر الشرطة بيانات كاذبة وتفبرك شهادات وتصريحات كل ذلك حصل مع الصوفي من قبلُ، لكنه لم يستطع حجب الجرم أخيرا.  قفوا مع هذا الشاب وأهله حتى تنكشف الحقيقة وتتجسد العدالة." انتهى منشور النائب.

هنا أكد النائب في هذا المنشور وفي غيره مما نشر أن الشرطة وراء الجريمة كعادتها، وطالب الرأي العام بالوقوف مع الضحية حتى تُحاسب الشرطة، والتي توقع منها أن تصدر بياناتٍ كاذبةً، وأن تُفبرك شهاداتٍ، مع قناعته أنها في النهاية لن تتمكن من حجب الجريمة.

( 3)

في نفس الاتجاه ـ وبحماس أكبر ـ  سار الكاتب الصحفي أحمدو الوديعة، والذي كثَّف من النشر حول الحادثة، وكان مما نشر على حسابه في الفيسبوك : "شريك في قتل جوب والصوفي كل مروج لروايات القتلة، ومحاولاتهم التستر على الجرم والإفلات من العقاب".

بالنسبة للكاتب الصحفي أحمدو الوديعة فقد اعتبر أن كل هؤلاء شركاء في جريمة قتل عمر جوب:

-  مروجو روايات القتلة، والقتلة هنا يَقصدُ بها الشرطة؛

-  كل من يحاول التستر على الجريمة؛

-  كل من يساهم في إفلات المجرمين من العقاب.

(4)

في نفس الاتجاه سار الكاتب الصحفي حنفي ولد الدهاه، وعندما نتحدث عن الصحفي حنفي فلا بد من أن نتحدث عن الحقوقية آمنة منت المختار، والتي نقلت أول رواية تدين الشرطة، وقد تم تداولها بشكل واسع، وهي رواية اعتمدها  الكاتب الصحفي حنفي، والذي كتب في منشور له : "الشرطة تستصحب "عمر جوب" من منزله في السبخة، ليلة البارحة، وهو في كامل صحته، فيصبح وقد فارق الحياة..

القصة كما وردتني من مصادر متطابقة تقول: إن الشاب الذي كان مشهورا في حيه، باع سيارته ليصرف ثمنها على الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، عبر المكسيك، غير أن أفراداً من الشرطة اقتادوه البارحة إلى مخفرهم، بعد أن قاموا بتفتيشه وعثروا على المبلغ المالي بحوزته، وقد تعرض للتعذيب بعد مقاومته لهم، لما أرادوا أن يسلبوه إياه.

عمر جوب فارق الحياة تحت وطأة التعذيب، و تم نقله للمستشفى. وحسب المصادر فإن الشرطة ترفض تشريح جثته.

فإلى متى يستمر استهتار إدارة الأمن بأرواح المواطنين؟!

انتهى المنشور الذي أكد فيه الكاتب الصحفي حنفي الدهاه بأن عمار جوب تُوفيَّ تحت وطأة التعذيب، وأن الشرطة تَرفضُ تشريحَ الجثة.

( 5)

لم يتأخر الصحفي الهيبة ولد الشيخ سيداتي مدير أهم وكالة إخبارية مستقلة في البلد، في السير في نفس الاتجاه، بل إن الوكالة نفسها سارت وللأسف الشديد في تغطيتها للحادثة في نفس الاتجاه.

 وكان مما كتب مدير وكالة الأخبار المستقلة : "من غير المناسب أن تكون شرطة السبخة التي يتهمها الأهالي بقتل ابنهم، هي من يتولى الآن تفريق المتظاهرين داخل المستشفى وفي محيط المشرحة".

هنا أراد الصحفي الهيبة أن تتولى مُفوضيةُ شرطة أخرى تفريقَ المتظاهرين بدلا من المفوضية المُتهمةِ بجريمة القتل.  بالطبع لم يطرح الهيبة السؤال الأذكى صحفيا، فبدلا من أن يسأل لماذا حضرت مفوضية شرطة السبخة لتفريق "المحتجين"، كان عليه أن يسأل لماذا لم يتظاهر "المحتجون" أمام مفوضية شرطة السبخة رقم 1 المتهمة بقتل الضحية، كما فعل المحتجون من قبل بعد وفاة الصوفي، والذين كانت أغلب احتجاجاتهم أمام مفوضية دار النعيم رقم 2؟

طبعا هذا السؤال لم يُطرح لأنه إن طُرح كان سيصيب حجج القائمين على الشحن والتجييش في مقتل، وهم الذين حاولوا "تلوين الحادثة" من خلال تصنيفها في إطار الأعمال العنصرية التي تمارسها إحدى المكونات الوطنية ضد مكونة أخرى..الذهاب إلى مفوضية السبخة كان سيظهر أن ضابط المداومة المتهم بقتل الضحية من نفس شريحة الضحية بل ومن مدينته، وكان سيكشف أيضا أن المفوضية تعرف الضحية، وأن سيدة من شريحة أخرى كانت قد عفت عن الضحية بعد أن قتل ابنها، مما يعني أن العداء بين الشرائح والمكونات ليس بتلك الصورة التي تروج لها نخب الشحن والتجييش العرقي.

(6)

ويبلغ مستوى الشحن الإعلامي والسياسي ذروته عندما تقرر ستةُ أحزاب معارضة إصدارَ بيان في اليوم الموالي للحادثة جاء في مقدمته : "في ظروف غامضة وفي تطور خطير، أُخرِج صباح أمس الاثنين، المواطن عمر حمادي جوب، جثة هامدة من مخافر مفوضية الشرطة رقم:1 بمقاطعة السبخة بولاية انواكشوط الغربية، وذلك بعد فترة وجيزة من توقيفه لديها".

هذه الفقرة من البيان والتي تؤكد بأن الضحيةَ خَرجَ جُثَّةً هامدةً من مفوضية الشرطة، وذلك على الرَّغمِ من اتفاق الجميع بأن الوفاة حدثت داخل المستشفى، لم يكتبها نشطاء مراهقون على حساباتهم الشخصية في الفيسبوك، بل كتبها من تولى صياغة بيان موقع من طرف أهم ستة أحزاب سياسية معارضة في البلد!!

الغريب حقا أن أحزاب المعارضةِ التي حَكمت بخُروجِ الضَّحيةِ جُثَّةً هامدةً من مخافر الشرطة، طالبت في الوقت نفسه بتحقيقٍ شفافٍ، فهل بَقيَت هناك حَاجةٌ إلى التَّحقيقِ ما دامَ الكُلُّ قد حَكَمَ مسبقا بأن الشُّرطَةَ هي القَاتِل؟

لا أدري إن كانت أحزاب المعارضة قد قررت أن تشارك ببيانها هذا في عملية الشحن والتجييش فجاءت بمعلومة كاذبة مفادها أن الضحية خرج جثة هامدة من مفوضية الشرطة، أم أن هذه الأحزاب كانت هي بنفسها ضحية للشحن فصدقت ما ينشره ويصرح به البعض، وكان مما صدقت أن الضحية خرج جثة هامة من مفوضية الشرطة.

ومهما يكن من أمر فإن كل هؤلاء الذين شاركوا عن قصد أو عن غير قصد في عملية الشحن العاطفي والتجييش الإعلامي والسياسي مطالبون اليوم بالاعتذار للشعب الموريتاني عما تسببوا فيه من أعمال شغب ونهب طالت عدة مدن موريتانية، كما أنهم مطالبون بالاعتذار لأسرة الشاب محمد الأمين الذي توفي في مدينة بوكي بفعل رصاصة أطلقها شرطي، والذي يجب أن يحقق معه جنائيا، وأن يعاقب بقسوة إذا ثبت أنه استخدم السلاح دون مبرر.

أشير في ختام هذه الفقرة بأني اكتفيتُ في الفقرات السابقة برصد ما نشره صحفيون كبار، وبما صرح به سياسيون كنا نعول عليهم كثيرا في قيادة معارضة قوية ومسؤولة . أما من عرفوا أصلا بالتحريض واستغلال كل حدث لإشعال الفتنة فلم أتحدث عنهم هنا، وذلك لأن ما قاموا به من تحريض كان متوقعا منهم.

(7)

إن الواجب الأخلاقي يقتضي منا في هذا المقام أن نتحدث عن الوجه المضيء في التعامل مع هذه الحادثة، والذي أظهره أولئك الذين وقفوا بقوة ضد عملية الشحن، وحاولوا أن يكونوا  رجال إطفاء.

لقد غاب الصف الأول من داعمي النظام، المستفيدين من تعييناته وترشيحاته عن المواجهة مع مروجي خطاب الفتنة، وحضر الصف الثاني من الداعمين، وذلك على الرغم من أن جلهم لم يستفد حتى الآن من النظام.

ولعل الحاضر الأبرز في هذه المواجهة هم بعض المستقلين سياسيا، وبعض المعارضين للنظام، والذين يحسب لهم أنهم فرقوا في لحظة وطنية حساسة بين معارضة النظام ومعارضة الدولة الموريتانية، وعند الحديث عن هؤلاء لا بد أن نذكر المدون المقيم في كندا الطالب عبد الودود، والذي أختلف كثيرا مع أسلوبه الجارح في النقد. هذا  المدون المعارض المقيم في الخارج  يُحسب له أنه وقف ـ وبقوة ـ ضد عملية الشحن، وضد كل أعمال الشغب والنهب التي حدثت بعد ذلك، وذلك على العكس من مدون آخر في الخارج، تم استغلال حسابه في الفيسبوك، وكما هي العادة، من طرف مجموعة متخفية أرادت ـ وبكل ما لديها من أعواد كبريت ومن بنزين ـ أن تستغل حادثة وفاة عمار جوب لإشعال النيران في كل مكان من موريتانيا.

حفظ الله موريتانيا..

الأربعاء، 7 يونيو 2023

ملف الوحدة الوطنية والمغالطات الكبرى!


كثيرا ما تستوقفني بعض المغالطات التي يدفع بها البعض عند أي حديث أو نقاش في ملف الوحدة الوطنية والتعايش بين شرائح ومكونات المجتمع.. هذه المغالطات من كثرة تكرارها تحولت لدى البعض إلى مسلمات أو حقائق لا يمكن التشكيك فيها.

المغالطة الأولى (تاريخية):

يحاول البعض أن يرسخ في الأذهان بأن ملف التعايش بين المكونات الوطنية لم يطرح إشكالا حقيقيا إلا مع بداية النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، أي من بعد وصول الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع إلى السلطة، وبالعودة إلى مذكرات الرئيس الراحل المختار ولد داداه رحمه الله (موريتانيا على درب التحديات)، فسنجد أنه في العام 1966 حدثت صدامات عرقية في منتهى الخطورة تسببت في وفاة 5 موريتانيين وإصابة 70 آخرين بجروح، وكان سبب تلك الصدامات حسب ما جاء في المذكرات هو إضراب "التلاميذ الزنوج" ضد إلزامية تدريس اللغة العربية إلى جانب اللغة الفرنسية في التعليم الثانوي!!

وقد جاء في المذكرات أن  بعض الأطر الناطقين بالفرنسية من الزنوج استغلوا العطلة الصيفية قبل الافتتاح الدراسي في ذلك العام لتعبئة التلاميذ من "بني جلدتهم" لتنظيم مظاهرات ضد إلزامية تعليم اللغة العربية، كما أعلن 19 موظفا ساميا من "منطقة النهر" في "بيان التسعة عشر" أنهم يساندون إضراب التلاميذ الزنوج ضد إلزامية تعليم اللغة العربية. من هنا يمكن القول بأن إشكال التعايش بين مكوناتنا الوطنية قد بدأ يطفو على السطح منذ منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي، أي من قبل من وصول الرئيس معاوية إلى الحكم بثمان عشرة سنة.

المغالطة الثانية : 

 إن التذكير بأن الصدامات العرقية قد بدأت في العام 1966 سيقودنا إلى كشف مغالطة أخرى يُحاول البعض من خلالها أن يرسخ في الأذهان بأن إقصاء بعض المكونات الوطنية من الوظائف ومن خيرات البلد هو السبب الأول في الصدام العرقي، وفي كل ما يطفو على السطح من مشاكل تتعلق بإشكالية التعايش بين المكونات الوطنية.

إذا كان هذا التفسير صحيحا فلنا أن نتساءل: بأي منطق يقود بعض الموريتانيين الزنوج مظاهرات واحتجاجات ذات طابع عرقي في العام 1966، وهم الذين كانوا يشكلون في تلك الفترة أغلبية كبيرة في الوظيفة العمومية؟

جاء في كتاب " موريتانيا : إشكالية التعايش العرقي"  لمؤلفه الدكتور أعل ولد أصنيبه أن الباحثة "كامي هود" ذكرت في أطروحتها للدكتوراة بأن " التوجيهات الاستعمارية خلفت داخل الوظيفة العمومية في بداية الستينيات تمثيلا قويا للزنوج ( ما يناهز 75% من الموظفين و80% في البريد والمواصلات)".

إن الخلاصة التي يمكن أن نخرج بها من هذه الفقرة هي أن الاحتجاجات ذات الطابع العرقي قد ظهرت في فترة كان فيها الموريتانيون الزنوج يشكلون الأغلبية العظمى في صفوف عمال وموظفي الدولة الموريتانية.

المغالطة الثالثة :

يُحاول البعض أن يرسخ في الأذهان بأن تدريس اللغة العربية، وجعلها لغة رسمية في موريتانيا من بعد ذلك ما هو إلا وسيلة لإقصاء الموريتانيين الزنوج من الوظائف وحرمانهم ـ بالتالي ـ  من خيرات بلدهم، ولذا فقد جاء في "بيان التسعة عشر" أنهم "يساندون إضراب التلاميذ الزنوج من أجل سد الطريق أمام التعريب القسري، ومن أجل فرض تعديل قوانين 30 يناير 1965 لأن الازدواجية ليست سوى خدعة لإقصاء المواطنين السود من كل شؤون الدولة.".

إن مما يجب لفت الانتباه إليه هنا، هو أنه حتى ولو بقت اللغة الفرنسية هي اللغة الوحيدة في التعليم والإدارة في موريتانيا، فإن ذلك لن يمنع تراجع نسبة الموظفين الزنوج في الوظيفة العمومية. لقد استفادت هذه المكونة من التعليم المبكر لأبنائها في زمن الاستعمار، ولذا فقد كان من الطبيعي جدا أن تشكل أغلبية في صفوف العمال والموظفين خلال السنوات الأولى من بعد الاستقلال. وقد كان أيضا من الطبيعي جدا أن يشكل الموريتانيون "البيظان" أغلبية في الوظيفة العمومية، وذلك من بعد إقبالهم على التعليم. ومما لاشك فيه كذلك أن شريحة "لحراطين"، والتي لا تحظى اليوم بما يناسب حجمها من الوظائف، ستحظى عاجلا أو آجلا بنسبة كبيرة من الوظائف، تتناسب طرديا مع ازدياد إقبال أبنائها على التعليم.

إن تغير نسبة الحضور الشرائحي والعرقي في الوظائف لا علاقة له باللغة، وإنما يرتبط أساسا بحجم الشرائح والمكونات وكثرتها العددية، وبمدى إقبال أبنائها على التعليم. يمكن للغة أن يكون لها الأثر السلبي في حالة واحدة، وهي أن يرفض بعض أبناء مكونة معينة تعلم اللغة الرسمية لبلد ما، فمثل ذلك قد يقلل من حظوظهم في الوظيفة، إذا ما قام ذلك البلد بتفعيل ترسيم اللغة التي اختارها لأن تكون لغته الرسمية.

المغالطة الرابعة:

هناك من يعتقد أن الوحدة الوطنية يمكن أن تتحقق في بلد يرفض بعض أبنائه تعلم اللغة الرسمية لذلك البلد، بل فيهم من يرفض استخدام تلك اللغة بحجة أنه لا يعرفها، وهو في حقيقة أمره يعرفها، وقد اطلعت شخصيا على أمثلة من هذا النوع.

لا يمكن للوحدة الوطنية أن تتحقق، ولا للحمة الوطنية أن تتجذر في بلد ما إذا ما استمر ذلك البلد في اللجوء إلى الترجمة بلغة أجنبية من أجل ضمان التفاهم بين أبناء مكوناته.

إنه لمن المخجل حقا، أننا وبعد مرور أكثر من ستة عقود على الاستقلال ما يزال بعض الوزراء والموظفين السامين يعجزون عن تهجي خطاب رسمي من سطر واحد باللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية. في بعض الأحيان أشاهد سفراء بعض الدول الغربية في نواكشوط يتحدثون باللغة العربية في نشاط تحدث فيه وزراء موريتانيون بلغة أجنبية!!

لقد آن الأوان لأن نكون مثل كل بلدان العالم لنا لغتنا الرسمية التي لا يجوز استخدام غيرها في الخطابات الرسمية، ولا في المراسلات الإدارية، ولا في غير ذلك من المجالات التي يجب فيها استخدام اللغة الرسمية للبلد.

لو كانت هناك حجة منطقية واحدة تسمح بجعل أي لغة أخرى غير اللغة العربية لغة رسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية لقبلنا بهذا التردد في تفعيل ترسيم اللغة العربية، ولكن لا حجة منطقية واحدة يمكن أن تقف ضد جعل اللغة العربية لغة رسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية، ولا حجة واحدة يمكن أن نبرر بها عدم تفعيل ترسيمها، فاللغة العربية هي:

1 ـ اللغة العالمية الوحيدة من بين كل لغاتنا الوطنية، وهي تحتل المرتبة الرابعة عالميا من حيث عدد الناطقين بها؛

2 ـ هي لغة قرآننا، وهي اللغة التي نحتاج لتعلمها لأداء بعض شعائرنا الدينية، وكذلك للتفقه في ديننا؛

3 ـ هي  لغة المراسلات والمعاملات لكل الموريتانيين من قبل دخول الاستعمار؛

4 ـ هي اللغة الأم لعدد كبير من الموريتانيين، وهي لغة دين لكل الموريتانيين الذين يدينون جميعا بالإسلام؛

5 ـ كانت الحجة الوحيدة التي يتقدم بها البعض لتبرير بقاء اللغة الفرنسية مسيطرة، هي أن اللغة الفرنسية لغة تحتاجها بعض مكوناتنا الوطنية للتواصل مع امتداداتها في إفريقيا. هذه الحجة لم تعد مقنعة كما كانت، فاللغة العربية تحتل اليوم الرتبة الثانية في إفريقيا من حيث الاستخدام، في حين أن اللغة الفرنسية تأتي في الرتبة الرابعة في إفريقيا، وهي في تراجع مستمر نتيجة لتخلي بعض الدول الإفريقية عنها، وإبدالها باللغة الانجليزية. كما أنه من الملاحظ أن عداء فرنسا وكل ماله صلة بها يتنامى بوتيرة سريعة داخل الأوساط الشابة في إفريقيا السوداء، وقد أصبح من النادر جدا أن تنظم احتجاجات في بلد إفريقي دون أن يحرق فيها العلم الفرنسي.   

كل ذلك سيزيد مستقبلا من سرعة تراجع اللغة الفرنسية في إفريقيا، وذلك بصفتها لغة تواصل، وهو ما يعني سقوط آخر حجة يمكن للفرانكفونيين في هذا البلاد أن يبرروا بها تمسكهم بلغة أجنبية تتراجع بشكل ملحوظ، وبدأ أهلها يتخلون عنها.

إن استمرار احتلال اللغة الفرنسية لمساحة لا تستحقها في التعليم، وهي اللغة التي تتراجع مكانتها عالميا، يعني سرقة مستقبل أجيال بكاملها، وإن استمرار احتلال اللغة الفرنسية لمساحة لا تستحقها في الإدارة الموريتانية يعني الاستمرار في إبعاد خدمات الإدارة من المواطن، ويعني كذلك بقاء أهم عائق ضد تعزيز وحدتنا الوطنية، ففي كل دول العالم، ومع الاعتراف بوجود استثثناءات قليلة جدا جدا هناك دائما  لغة واحدة وواحدة فقط هي التي تستخدم في كل ما هو رسمي، حتى في البلدان التي يوجد بها تعدد لغوي، ذلك أن وجود لغة رسمية واحدة يعد من أهم العوامل التي تعزز من وحدة وتماسك المجتمعات.  

حفظ الله موريتانيا..


الأحد، 4 يونيو 2023

ماذا بعد أعمال الشغب الأخيرة؟

 


إننا بحاجة اليوم إلى أن نفتح نقاشا جديا حول حادثة مقتل الشاب عمار جوب رحمه الله، ومقتل الشاب محمد الأمين ولد صمب من بعد ذلك، وما صاحب الحادثتين من أعمال شغب ونهب، ولعل السؤال الأبرز الذي يجب علينا أن نفتتح به هذا النقاش هو السؤال الذي يقول: كيف نفرق بين الاحتجاجات وأعمال الشغب؟

كثيرا ما يقع خلطٌ كبيرٌ بين الاحتجاج والتظاهر من جهة، وأعمال الشغب والنهب من جهة أخرى، ولذا فمن المهم أن نحدد بعض النقاط التي يمكن نستأنس بها للتفريق بين الاحتجاجات وأعمال الشغب.

أولا / الاحتجاج والتظاهر:

1 ـ  ترفع فيهما لافتات تحمل مطالب أو مواقف محددة؛

2 ـ  ينادى فيهما بمطالب محددة؛

3 ـ  يتجه المشاركون فيهما إلى الوزارات والإدارات الحكومية المعنية بالمطالب المرفوعة في الاحتجاج أو التظاهر؛

4 ـ يشارك فيهما أشخاص معروفون مسبقا باهتمامهم بالشأن العام، أو على الأقل باهتمامهم بموضوع الاحتجاج والتظاهر.

ثانيا / أعمال الشغب والنهب :

1 ـ  لا ترفع فيهما لافتات؛ 

2 ـ لا ينادى فيهما بمطالب واضحة ومحددة؛

3 ـ يتجه المشاركون فيهما إلى الأسواق وإلى كل الأماكن الشعبية أو الحكومية التي تسهل فيها عمليات النهب والسرقة؛ 

4 ـ  لا يعرف للمشاركين فيهما أي اهتمام سابق بقضايا الشأن العام.

والآن أترك لكم الإجابة على السؤال : هل ما حدث خلال الأيام الماضية كان احتجاجات وتظاهرات أم كان أعمال شغب ونهب؟

عن مشاركة بعض الأجانب في أعمال الشغب والنهب

من المصادفات أن أعمال الشغب والنهب التي شهدتها بعض مدننا تزامنت مع أعمال شغب ونهب أكثر اتساعا وخطورة في بعض مدن جارتنا الشقيقة السنغال، ومن المعروف أن لدينا جالية مسالمة في السنغال، لا تشارك في أي مظاهرات سلمية أو عنيفة تحدث في السنغال، وعندما تقع أعمال شغب في السنغال، كما هو حاصل الآن  تنشغل تلك الجالية بالبحث عن طريقة ما للخروج الآمن، وبوسيلة ما لتؤمن من خلالها ممتلكاتها,

وعلى العكس من ذلك، ففي أعمال الشغب الأخيرة التي حدثت في بلادنا، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على أجانب من بينهم سنغاليون شاركوا بقوة في أعمال الشغب تلك، بل إن من بينهم من قاد بعض فرق النهب والسرقة، وقد تواترت شهادات لمواطنين من مختلف الشرائح والمكونات بمشاركة أجانب في أعمال الشغب تلك.

عندما قررت الجهات الأمنية ترحيل كل أجنبي ثبتت مشاركته في أعمال الشغب تلك، وهذا هو أبسط ردة فعل يمكن اتخاذها بهذا الخصوص، قامت قائمة البعض، وأخذ البعض يوزع تهم العنصرية على الجهات الأمنية وعلى كل من يؤيد هذا القرار من المواطنين. ولعل من أهم الدروس التي يمكن أن نخرج بها من أعمال الشغب الأخيرة بخصوص ملف الجاليات :

1 ـ ضرورة التنفيذ الصارم للقرار الذي اتخذته إدارة الأمن الوطني بترحيل كل أجنبي ثبتت مشاركته في أعمال الشغب والنهب الأخيرة، مع العمل على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع عودته مستقبلا إلى البلاد. ومن المهم أن لا يكون مصير هذا القرار كمصير تعميم سابق اتخذته نفس الإدارة قبل عام من الآن، وتحديدا في يوم 11 يناير 2022، يقضي بحظر ممارسة النقل العمومي للأشخاص والبضائع في بلادنا على الأجانب؛

2 ـ ضرورة العمل مستقبلا على وضع خطة لتوزيع الأجانب على مقاطعات العاصمة، وذلك بدلا من تمركزهم في مناطق محددة، ربما أصبحوا يشكلون فيها أغلبية؛

3 ـ ضرورة الانتباه إلى أن عدد سكان بلادنا يشكل أقلية إذا ما قورن بعدد سكان أشقائنا شمالا ( المغرب والجزائر)، أو أشقائنا جنوبا ( مالي والسنغال). فكل سكان موريتانيا إذا ما هاجروا إلى المغرب أو السنغال مثلا فإنهم لن يحدثوا خللا كبيرا في التركيبة السكانية للبلدين، وعلى العكس من ذلك فتكفي هجرة نسبة كبيرة من سكان المغرب أو السنغال إلى موريتانيا لإحداث خلل كبير في التركيبة السكانية لبلادنا.

الشرطة والحاجة إلى المزيد من التكوين وإعادة الهيكلة

لستُ ممن يحمل الشرطة ( أو على الأصح بعض عناصر الشرطة) المسؤولية في وفاة عمار جوب، ولا أبرئها كذلك، فأنا من الذين ينتظرون نتائج التشريح والتحقيق ليتخذوا موقفهم من هذه الجريمة، ففي قضايا القتل يكون من أسوأ المواقف التي يمكن أن نتخذها هو أن يسارع الواحد منا في اتهام بريء بجريمة قتل، أو تبرئة قاتل من جريمة قتل، وذلك من قبل أن يحصل على أدلة قطعية تبرئ هذا أو تجرم ذاك

وفي انتظار نتائج التشريح والتحقيق، فمن المهم أن نذكر بحاجة الكثير من عناصر شرطتنا الوطنية إلى التكوين، ومن المهم أن يعلم كل شرطي موريتاني بأن أي خطأ يرتكبه في أي مفوضية شرطة يؤدي إلى إزهاق نفس بشرية قد يتسبب في الكثير من المشاكل للبلد، فقتل "جورج فلويد" من طرف شرطي أمريكي كاد أن يعصف بأمن واستقرار أمريكا، وقتل "مهسا أميني" من طرف شرطي إيراني كاد أن يعصف بأمن واستقرار إيران، وقتل الشاب "خالد سعيد" في مصر، والصفعة التي تعرض لها "البوعزيزي" في تونس تسببتا بشكل مباشر في ثورتي تونس ومصر.

لا يمكن تجنب أخطاء الشرطة بشكل كامل، ولكن علينا أن نعمل كل ما في وسعنا من أجل التقليل منها ومن آثارها، وذلك من خلال التكوين أولا،  وثانيا من خلال المسارعة في المحاسبة والعقاب عند حدوث أي خطأ مهما كان، وذلك حتى لا تتسبب تلك الأخطاء في كوارث للبلد.

لا لإخراج المجرمين من السجون من قبل انتهاء فترة العقوبة

أعلنت الشرطة مؤخرا عن قبضها في بوكي على المجرم المسؤول عن حرق سيارات مواطنين في مقاطعة عرفات، واللافت في الأمر أن الشرطة ذكرت في بيانها أن المعني هو نفسه المجرم الذي كان قد ألقي عليه القبض يوم 8 سبتمبر 2022 ، أي قبل أقل من عام من الآن، وذلك بسبب ارتكابه لنفس الجرم، أي إشعال النيران في سيارات مواطنين أبرياء!!!

السؤال : لماذا لم يكن مرتكب هذه الجريمة داخل السجن الآن، ولماذا يطلق سراحه ليُسمح له بارتكاب المزيد من جرائم حرق سيارات المواطنين؟؟؟؟

أغلب الجرائم التي ترتكب في هذه البلاد يرتكبها أصحاب سوابق كان يفترض فيهم أن يكونوا داخل السجن لحظة ارتكاب تلك الجرائم، وهذا هو بالضبط ما دفعني قبل ست سنوات من الآن، وتحديدا في يوم الخميس الموافق 26 يناير 2017 أن أنشر مقالا تحت عنوان : "مجرمون وأصحاب سوابق يتجولون في الشوارع!"، وذلك بعد أن لفت انتباهي أن المجرمين الذي اغتصبوا وقتلوا وحرقوا الطفلة "زينب" رحمها الله في آخر شهر من العام 2014 هم من أصحاب السوابق، وأن المجرم الذي قتل السيدة "خدوج" في سوق العاصمة في آخر شهر من العام 2015 هو مجرم كان يمارس السطو و يتعاطى المخدرات وقد ألقي عليه القبض من قبل جريمة القتل التي ارتكب في سوق العاصمة، وكان يُفترض فيه أن يكون داخل السجن لحظة ارتكابه لجريمة قتل "خدوج" رحمها الله تعالى.    

لا أدري إن كان المجرمون الذين ارتكبوا جريمة اغتصاب وقتل الطفلة "زينب"، والمجرم الذي ارتكب جريمة قتل "خدوج"، وغيرهم من عتاة المجرمين هم الآن خارج السجون، مما قد يسمح لهم بارتكاب المزيد من الجرائم البشعة.. فإلى متى سيستمر إطلاق سراح عتاة المجرمين ليرتكبوا المزيد من الجرائم؟

 رسائل غير مشفرة في صندوق بريد النظام

هناك رسائل غير مشفرة تم وضعها في صندوق بريد النظام من بعد انتخابات 13 مايو 2023، وكذلك من بعد أعمال الشغب التي أعقبت حادثة قتل عمر جوب، وعلى النظام أن يقرأ هذه الرسائل قراءة جيدة.

الرسالة الأولى: لقد انتهت الهدنة السياسية بعد الانتخابات الأخيرة، وإذا كان النظام قد أتيح له في السنوات الماضية أن يستفيد من أطول هدنة سياسية، فإن السنوات القادمة ستكون سنوات مواجهة وصدام حقيقي مع المعارضة؛

الرسالة الثانية : إذا كانت المعارضة التقليدية ( التكتل، التحالف، قوى التقدم) لها أساليبها الهادئة في مواجهة النظام وذلك نظرا لتجاوزها لمرحلة المراهقة السياسية، ودخولها في مرحلة الشيخوخة السياسية، فعلى النظام أن يدرك بأن هذه المعارضة لم تعد اليوم موجودة، وحلت محلها معارضة جديدة تعيش مراهقتها السياسية، ويبدو أنها على استعداد لاستغلال أي شيء في صراعها مع النظام، حتى ولو كان ذلك قد يهدد استقرار وأمن البلد، ولعل الأحداث الأخيرة التي أعقبت مقتل عمر جوب خير دليل على ذلك.

 لقد تجددت المعارضة مع الانتخابات الأخيرة ولكن الأغلبية لم تتجدد، وبما أن هذه المعارضة الجديدة تعيش مراهقتها السياسية، فإنه لن يكون بالإمكان مواجهتها بأغلبية تقليدية تعيش مرحلة الشيخوخة، على الأقل في أساليب عملها؛

الرسالة الثالثة : أثبتت الأحداث الأخيرة أن الكثرة العددية لن تنفع النظام سياسيا ولا إعلاميا. صحيح أنها قد تنفعه في تمرير القوانين في البرلمان، ولكن الصحيح أيضا هو أنها لن تنفعه كواجهة سياسية فعالة، فالمائة نائب وزيادة لم يكن لها أي دور في الأيام الماضية في مواجهة عدد قليل من نواب المعارضة تمكن بالفعل من التجييش والشحن الإعلامي لحادثة مقتل عمر جوب، فكان ما كان من أعمال شغب ونهب.

الرسالة الرابعة: وهذه تكملة للرسالة السابقة إذا قرر النظام الاعتماد على فوزه الساحق في الانتخابات الأخيرة، وعلى نوابه وعمده الذين جاءت بهم تلك الانتخابات، فسيعني ذلك أن النظام سيواجه في الفترة القادمة مشاكل كبيرة على المستويين السياسي والإعلامي، وذلك نظرا لضعف الأداء المنتظر من واجهته السياسية والإعلامية الحالية؛

الرسالة الخامسة : كان من المقبول خلال المأمورية الأولى أن يتفهم المواطن حجم التحديات ( جائحة كورونا؛ حرب أوكرانيا؛ ملف العشرية)، وكان من المقبول كذلك أن يتفهم المواطن الصعوبات وأن يتقبل الوعود، ولكن مع انتهاء المأمورية الأولى ( تقريبا)، فإن المواطن لن يكون متفهما لأي تحديات، ولن يتقبل أي وعود، ولن يرضى بالحد الأدنى من الإنجازات...لابد في الفترة القادمة من إنجازات كبرى يصاحبها تسويق إعلامي وسياسي فعال؛

الرسالة السادسة : لابد للإصلاح من مصلحين، وهذه حقيقة لابد أن تكون حاضرة عند النظام في المرحلة القادمة، ولا بد كذلك للإنجاز من أشخاص قادرين على الإنجاز، ولعل الأصعب دائما هو اختيار المصلحين القادرين على الإنجاز. لابد للمرحلة القادمة من حكومة قوية قادرة على تحقيق إنجازات كبرى، ولابد أيضا من ذراع سياسي وإعلامي فعال وقادر على أن يسوق تلك الإنجازات، وأن يدافع عن النظام كلما كانت هناك حاجة لذلك، ومن المؤكد أن الحاجة لذلك ستتكرر كثيرا في المرحلة القادمة.

بهذه الرسائل الست الموجهة إلى النظام أختم هذا المقال الذي تجاوز كثيرا المساحة المخصصة له.

حفظ الله موريتانيا..