الثلاثاء، 26 يناير 2021

بكل وضوح !

 


تصلني ـ من حين لآخر ـ ملاحظات وتعليقات من بعض القراء والأصدقاء تدور في مجملها حول علاقتي بالنظام القائم، ومن بين القراء والمتابعين من أصبح يعتبرني ناطقا رسميا باسم النظام.

إن الرد على هذه الملاحظات والتعليقات يستدعي عرض ثلاث خلاصات توصلتُ إليها بعد طول تأمل في مجريات الأحداث خلال السنتين الأخيرتين، وهذه الخلاصات الثلاث هي التي تحدد اتجاه وطبيعة موقفي من النظام القائم.

الخلاصة الأولى : إن أي متابع فطن لما جرى من أحداث سياسية في السنة الأخيرة من حكم الرئيس السابق، ولما جرى من أحداث بعد ذلك في السنة الأولى من حكم الرئيس الحالي سيدرك دون عناء أن أهم استنتاج يمكن الخروج به هو أن الرئيس الحالي دون غيره، هو من كان بإمكانه أن يحقق تناوبا آمنا على السلطة، وذلك نظرا لبعض الصفات الشخصية التي يتمتع بها ونظرا كذلك لطبيعة علاقته الخاصة بالرئيس السابق. ومن المعلوم بداهة لكل من يُتابع ما يجري في بعض دول المنطقة من فتن وعدم استقرار أن التناوب الآمن على السلطة قد أصبح في حد ذاته وفي زماننا هذا مكسبا شعبيا ثمينا، بل وثمينا جدا.

يمكنني أن أجزم هنا، بناءً على قراءات وتحليلات أراها موضوعية، أنه لو قُدِّر لشخص آخر غير الرئيس الحالي أن يتولى السلطة من بعد الرئيس السابق، لكنا اليوم قد عدنا إلى المربع الأول، وفي أحسن الأحوال، لكنا نعيش أزمة سياسية بالغة التعقيد.

الخلاصة الثانية: إن بلدنا كغيره من البلدان المشابهة بحاجة إلى رئيس قادر على أن يتحول به من ديمقراطية تتحكم فيها المؤسسة العسكرية إلى ديمقراطية تتحكم فيها القوى المدنية. وفي اعتقادي الشخصي فإن الرئيس الحالي هو الأكثر تأهيلا لقيادة هذه المرحلة التي تحتاج إلى تطبيع العلاقة بين المؤسسة العسكرية والقوى المدنية من أجل انتقال آمن من الديمقراطية التي تتحكم فيها المؤسسة العسكرية إلى الديمقراطية التي تتحكم فيها القوى المدنية. إننا في هذه البلاد لسنا بحاجة إلى تكرار تجربة مشابهة لما حدث في مصر في عهد الراحل محمد مرسي، أو لما حدث هنا في عهد الرئيس الراحل سيدي ولد الشيخ عبد الله.

الخلاصة الثالثة : إن المتأمل في حال المعارضة اليوم، وكذلك في حال الأغلبية سيدرك دون مشقة أن البديل غير جاهز في الوقت الحالي ، وأنه في حالة فشل النظام القائم لا قدر الله، فإن البلاد ستدخل في نفق مظلم مفتوح على كل الاحتمالات السيئة.

 بعد استحضار هذه الخلاصات الثلاث تظهر مدى الحاجة إلى اتخاذ موقف غير متسرع من النظام القائم، موقف نابع من رؤية إستراتيجية تستحضر الماضي وتتطلع إلى مستقبل "متحكم فيه". ومن هنا يكون الموقف الأسلم بالنسبة لشخص مثلي مهتم بالشأن العام، وليست لديه انتماءات حزبية تتحكم في خياراته ومواقفه السياسية، هو ذلك الموقف القائم على المرتكزات التالية:

1 ـ دعم وتثمين أي خطوة إصلاحية يقوم بها النظام القائم، على أن لا يكون ذلك الدعم بالأساليب المبتذلة التي تعودنا عليها عند الكثير من داعمي الأنظمة الحاكمة في هذه البلاد؛                                

2 ـ تبيان أماكن الخلل وتوجيه النقد كلما كانت هناك ضرورة لذلك، ولكن هذا النقد سيبقى محكوما بضوابط محددة، فهو لا يهدف إلى تعرية النظام القائم ولا إلى إظهاره بمظهر النظام العاجز، فالخلاصات الثلاث التي تقدمتُ بها في بداية هذا المقال تمنعني من ممارسة أي نقد من ذلك النوع. إن النقد الذي أتبناه في هذه الفترة من تاريخ البلد هو ذلك النقد الهادف فقط إلى لفت الانتباه إلى أماكن الخلل والتقصير من أجل تصحيحها ومعالجتها؛

 3 ـ الاستعداد التام للوقوف ضد "الجناح المفسد" في النظام، مع الاستعداد التام لدعم الجناح الإصلاحي في هذا النظام، ولكل نظام جناحه إصلاحي، ولكن المشكلة التي تتكرر دائما هي أن الجناح الإصلاحي يكون في أغلب الأحيان أقل حيوية وأقل قدرة على التنسيق، على العكس من "الجناح المفسد" الذي يمتلك في أغلب الأحيان روح المبادرة، مع خبرة وحيوية، وقدرة كبيرة على التنسيق والعمل المنظم.   

تلكم هي المرتكزات الأساسية التي يقوم عليها موقفي الحالي، وأرجو أن تكون البوصلة التي تحدد اتجاه هذا الموقف هي بوصلة المصلحة العامة، لا المصلحة الشخصية، وأرجو أن أكون ممن يضع المصلحة العامة لموريتانيا فوق مصالحه الخاصة.

أما بالنسبة لأولئك الذين يكررون القول دائما بأن هذا التغير الحاصل في الموقف، إنما هو نتيجة للبحث عن "وظيفة ما ". لهؤلاء أقدم هذه المعلومة : لم يتركني فخامة الرئيس ألجأ لهذا النوع من الكتابة، فقد استدعاني في أسبوعه الأول في القصر الرئاسي وعرض علي وظائف سامية، وأنا هو من اعتذر عن تلك الوظائف بحجة أنها تفرض على من يمارسها التوقف عن الكتابة في الشأن العام والانسحاب من العمل الجمعوي. لا يعتبر هذا الكلام اعتذارا عن العمل مع النظام القائم، فأنا أعمل معه حاليا ويشرفني ذلك، ولكن في مهام لا تتعارض مع الحق في التعبير عن الرأي، ولا تمنع من ممارسة العمل الجمعوي.

حفظ الله موريتانيا...

الأحد، 24 يناير 2021

عندما تهتز الصور النمطية!

 


(1)

ـ لم يحدث، ومنذُ أن بدأتُ الكتابة في الشأن العام، أن انتقدتُ موظفا حكوميا مثلما انتقدتُ الرئيس الحالي للجمعية الوطنية النائب الشيخ ولد بايه؛

ـ كنتُ من أوائل الذين حصلوا على مقطع الفيديو الشهير " متليت آن ومتلات موريتانِ"، وكان ذلك خلال مؤازرتي لحراس أزويرات، وكنتُ من الذين دونوا ونشروا العديد من المقالات عن مقطع الفيديو المذكور؛

ـ كنتُ من الذين شاركوا بقوة في حملة إعلامية شرسة ضد الرجل عندما ترشح لمقعد نائب عن مقاطعة ازويرات في انتخابات 2018، وكنتُ من الذين انتقدوا بقوة ترشيحه رئيسا للبرلمان الموريتاني.

بطبيعة الحال، ونظرا لما أوردته في النقاط السابقة، فلم يكن من الغريب أن أسيء الظن برئيس البرلمان، ولا أن أترصد أخطاءه خلال رئاسته للبرلمان..كنتُ أريد أن أجمع من أخطاء الرجل خلال رئاسته للبرلمان الموريتاني ما يدعم الصورة التي تكونت لدي عنه، وتكونت أيضا لدى أغلب المهتمين بالشأن العام. ولا أظنني أفشي سرا إن قلت لكم إن النائب ولد بايه قد فاجأني بعد انتخابه رئيسا للبرلمان بإنجازات ومواقف لم أكن أتوقعها منه.

وإذا ما استثنينا بعض الأخطاء التي تتعلق بزلات لسان، وقد كتبتُ عنها في وقت سابق، فإن أداء ولد بايه كرئيس للبرلمان فيما مضى من مأموريته كان في محصلته أداءً جيدا يستحق التثمين، ومن المواقف والإنجازات التي تحسبُ له :

ـ رفضه الحاسم للتوقيع على مبادرة النواب المطالبة بالتمديد للرئيس السابق، وقد اعتبرناها في ذلك الوقت ـ نحن الذين ننظر بعين ناقدة لأداء الرجل ـ أنها مجرد ردة فعل شخصية بسبب تبليغه بالمبادرة من طرف نواب يعملون تحت إمرته؛

ـ محاولته لأخذ نفس المسافة من نواب الأغلبية والمعارضة خلال إدارته لجلسات البرلمان وخلال تسييره للغرفة، ومثل ذلك شيء نادر، وهو ما يليق برئيس جمعية وطنية في نظام ديمقراطي؛

ـ إطلاقه لواجهة إعلامية تليق بمكانة البرلمان الموريتاني (قناة البرلمانية؛ موقع على الانترنت وصفحة على الفيسبوك)؛

ـ تسييره المقبول للموارد المالية للجمعية الوطنية على العكس مما كان يحصل في الماضي؛

ـ ويبقى إنجازه الأهم ـ والذي لم يكن متوقعا منه ـ هو إصراره الشديد رغم معارضة قوية من بعض النواب على أن تكون اللغة الرسمية واللغات الوطنية هي اللغات المستخدمة حصرا في البرلمان الموريتاني. لقد بذل رئيس البرلمان جهودا كبيرة في هذا المجال، فاكتتب مترجمين من وإلى اللغات الوطنية، وأعطى مساحة واسعة في قناة البرلمانية للغاتنا الوطنية، فأصبحت كل الجلسات تنقل بكل لغاتنا الوطنية، الشيء الذي أتاح للموريتانيين بمختلف مكوناتهم أن يتابعوا كل مداخلات الوزراء والنواب في الجلسات البرلمانية.

(2)

ـ لم يحدث في المقابل، ومنذ أن بدأتُ اهتم بالشأن العام، أن ناصرتُ موظفا حكوميا مثلما ناصرتُ وزير الصحة الحالي الدكتور نذيرو ولد حامد؛

ـ كنتُ من أوائل أولئك الذين سارعوا في إطلاق الوسوم (الهاشتاكات) ونظموا الوقفات ونشروا التدوينات والمقالات دعما لوزير الصحة ولإصلاحاته الموعودة؛

ـ  في السادس من نوفمبر 2019 نشرتُ على حسابي في الفيسبوك هذه الرسالة المختصرة جدا، والموجهة إلى وزير الصحة، والتي تقول: " يمكن أن تعتبرني جنديا خلفك، وعلى استعداد كامل لأن أقاتل معك حتى آخر لحظة في معركة الإصلاح التي قررت أن تخوضها..سأبقى جنديا خلفك ما دمت مصرا على خوض معركة إصلاح القطاع.

ـ لقد أطلقتُ ذلك التعهد وكنتُ صادقا فيه، ولقد عملتُ خلال أشهر بمضمون تلك الرسالة، فكنتُ أشيد بقوة بكل ما يمكن اعتباره انجازا للوزير، وإذا ما اطلعتُ على ما يمكن اعتباره إخفاقا أو تقصيرا أقوم بإرساله في رسالة خاصة إلى معالي الوزير ودون نشره، وذلك حتى لا أشوش على "جهوده الإصلاحية"؛

ـ كنتُ أتوقع بالفعل نجاح الوزير في جهوده الإصلاحية، وذلك رغم إدراكي لصعوبة إصلاح قطاع فاسد كقطاع الصحة، وكان ذلك التفاؤل ناتج عن أربع نقاط قوة يمتلكها الوزير، فهو طبيب ميداني يعرف القطاع، ولديه رؤية إصلاحية للقطاع حسب ما كان يقول، ومدعوم شعبيا، هذا فضلا عن كونه يتمتع ـ كغيره من الوزراء ـ  بصلاحيات واسعة منحها له رئيس الجمهورية، ولكي تدركوا حجم الصلاحيات الممنوحة للوزير فعليكم فقط أن تتذكروا كيف أغلقت ـ وفي غمضة عين ـ عشرات الصيدليات التي يملكها متنفذون، ودون أن تنطح شاة شاة؛

ـ للأسف لم يركز الوزير على الأهم ثم الأهم فبدأ بفرض التباعد على الصيدليات، وأضاع في ذلك جهدا ووقتا ثمينين، كان يجب أن يخصصهما لما هو أهم وأكثر أولوية من تباعد الصيدليات الذي كانت نتائجه سلبية (نقص في بعض الأدوية؛ حصول مشقة إضافية  لمرافقي المرضى الفقراء الذين لا يمتلكون سيارات، والذين قد يحتاجون لشراء دواء في وقت متأخر من الليل..)

ـ بعد أشهر قليلة تراجع التفاؤل، وبدأت أخطاء الوزير تتكشف لي ولغيري من داعميه، فما كان مني إلى أن نشرتُ في يوم 20 مايو 2020 مقالا تحت عنوان "هل سيصحح وزير الصحة أخطاءه؟". كان ذلك المقال بمثابة أول نقد علني للوزير في فضاء عام، وكان محاولة من مشفق للفت انتباه معالي الوزير إلى أخطائه، وذلك لكي يبدأ في تصحيحها من قبل فوات الأوان؛

ـ إني أدرك جيدا أن وباء كورونا قد أربك وزارات الصحة في كبريات دول العالم، وأدرك كذلك أن الوزير يعمل في ظروف صعبة جدا، ولكن كل ذلك لن يمنعني من القول بأن الوزير قد أضاع فرصا ثمينة لن تتكرر، ولعل أثمنها ذلك التعاطف الشعبي الكبير الذي حظي به، والذي لا أظن أنه قد حظي به وزير من قبله. هذا التعاطف الشعبي الواسع تحول اليوم إلى سخط شعبي، وتحولت بذلك وقفات التضامن مع الوزير أمام وزارة الصحة إلى وقفات تطالب باستقالته.

(3)

لو أني استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما تغيرت مواقفي، فقد كان من الطبيعي جدا أن انتقد العمدة ولد بايه خلال فترة مناصرتي لحراس ازويرات، وكان من الطبيعي جدا أن أدعم الدكتور نذيرو عندما بدأ يتحدث عن رؤية إصلاحية للقطاع بعد تعيينه وزيرا للصحة. لستُ نادما على أي شيء من ذلك، ففي تلك الفترات كانت تلك المواقف هي المواقف السليمة حسب وجهة نظري المتواضعة.

لستُ نادما على تلك المواقف، ولكن النزاهة الفكرية والموضوعية تقتضيان اليوم أن انتقد بقوة وزير الصحة، وذلك بعد أن تضامنتُ معه بقوة لأشهر . كما تقتضيان أيضا أن أنصف رئيس البرلمان الذي كنتُ قد انتقدته بقسوة خلال السنوات الماضية. 

حفظ الله موريتانيا...

الخميس، 14 يناير 2021

إعلاميا : لا شيء تحقق لصالح الفئات الهشة!


 يمكن القول بأن من أهم ملامح هذا العهد: التهدئة السياسية والاهتمام بالفئات الهشة. وإذا كان الملمح الأول قد وجد حظه من التسويق الإعلامي، ويرجع الفضل في ذلك بالأساس إلى المعارضة ، فإن الملمح الثاني ـ والذي غابت عن تسويقه المعارضة لأسباب مفهومة ـ  لم يجد أي اهتمام إعلامي يذكر، الشيء الذي يؤكد أن الذراع السياسي والإعلامي للنظام الحاكم يعاني من عجز بَيِّن.

هناك إنجازات هامة تحققت على أرض الواقع لصالح الفئات والهشة والعمال، ولكن هذه الإنجازات الهامة التي تحققت في ظرفية صعبة جدا (جائحة كورونا) ظلت غائبة بشكل شبه كامل عن التداول الإعلامي وعن أحاديث المواطنين، ومن هذه الإنجازات يمكننا أن نذكر:

ـ  زيادة المعاش الأساس بنسبة 100% لجميع المتقاعدين؛
ـ  مضاعفة معاش أرامل المتقاعدين واستفادتهن من التأمين الصحي؛
ـ صرف معاشات التقاعد شهريا؛
ـ تعميم علاوة الطبشور لتشمل كل مديري المدارس الأساسية والمؤسسات الثانوية، وصرفها على مدى اثني عشر شهرا بدلا من تسعة أشهر فقط؛
ـ مضاعفة علاوة البعد؛
ـ زيادة علاوة التأطير بالنسبة لمفتشي التعليم الأساسي والثانوي والفني، بمبلغ 10 آلاف أوقية قديمة؛
ـ زيادة رواتب عمال الصحة بنسبة 30%، وتعميم علاوة الخطر عليهم؛
ـ زيادة التكفل بحصص التصفية لفائدة مرضي الفشل الكلوي المعوزين بنسبة 50%، واستفادتهم من تحويلات نقدية شهرية بمبلغ 15.000 أوقية قديمة؛
ـ تأمين الضمان الصحي لذوي الاحتياجات الخاصة؛
ـ  صرف تحويلات نقدية شهرية بمبلغ 20.000 أوقية قديمة للأطفال متعددي الإعاقات؛

ـ تحمل الدولة لفواتير الماء والكهرباء عن الأسر الفقيرة لمدة شهرين؛

ـ توزيعات نقدية على دفعتين : الأولى كانت لصالح 186293 أسرة فقيرة بقيمة إجمالية تصل إلى 4 مليار و191 مليون أوقية قديمة، والثانية بمبلغ يصل إلى 4 مليار و725 مليون أوقية قديمة لصالح 210 ألف أسرة فقيرة؛

ـ تحمل الدولة عن المواطنين في القرى كافة، تكاليف المياه القروية طيلة بقية السنة؛

ـ تحمل الدولة عن أصحاب المهن والأنشطة الصغيرة ولمدة شهرين، كافة الضرائب البلدية؛

ـ تحمل الدولة عن أرباب الأسر العاملين في قطاع الصيد التقليدي، كافة الضرائب والأتاوات المترتبة على هذا النشاط خلال العام 2020؛

ـ منح راتب إضافي و80% من راتب ثان لصالح عمال اسنيم؛

ـ إقرار علاوات على رواتب الأسلاك العسكرية والأمنية؛

ـ دمج 100 ألف أسرة في نظام التأمين الصحي (حوالي 620 ألف مواطن)

إن هذه الإنجازات التي تحققت على أرض الواقع خلال فترة صعبة جدا، لم تجد من التسويق الإعلامي ما تستحق، الشيء الذي يؤكد أن الذراع الإعلامي للنظام يعاني من ضعف واضح. هذا الضعف الذي ظهر بشكل بين في فترة مريحة إعلاميا تطبعها التهدئة السياسية التي تساعد على عمليات التسويق الإعلامي، إن دل على شيء إنما يدل على أن الضعف سيكون أوضح عندما تنتهي الهدنة السياسية، ويقترب موعد الانتخابات الشيء الذي سيجعل المعارضة تبدأ في حملات إعلامية قوية ضد النظام.

إن هذا العجز البين للذراع الإعلامي للنظام، والذي ظهر مبكرا وفي وقت مريح إعلاميا، يستوجب إعادة النظر في هذا الملف، وذلك من قبل الدخول في المرحلة الأصعب إعلاميا على النظام، والتي أظلنا زمانها.

إن النظام الحاكم، أي نظام حاكم، بحاجة إلى أمرين أساسيين: أولهما إنجازات ملموسة على الأرض، وثانيهما تسويق تلك الإنجازات للرأي العام، وأي خلل على مستوى الإنجازات أو تسويقها سينعكس سلبا على أدائه.     

حفظ الله موريتانيا...

السبت، 9 يناير 2021

لماذا لا نفكر في تدوير النفايات؟

 


يطرح مكب تيفيريت مشكلة حقيقية للحكومة الموريتانية، خاصة بعد أن صدر حكما قضائيا بإغلاقه. لقد أصبح من اللازم إغلاق هذا المكب وإنشاء مكب آخر أو التفكير في حلول إبداعية للتعامل مع القمامة قد تغني عن إنشاء مكب جديد، أو تقلل ـ على الأقل ـ من الضغط على أي مكب جديد يتم إنشاؤه.

كما هو معلوم للجميع فقد أحيل ملف القمامة خلال العقدين الأخيرين إلى عدة جهات (بلديات؛ شركة أجنبية؛ رجال أعمال؛ حملات حكومية وتدخلات موسمية للجيش)، ولكن في المحصلة النهائية فإن كل هذه  المحاولات لم تأت بنتيجة تذكر.

تمثلت المحطة الأخيرة في هذا الملف إلى إحالته لشركة تدعى "الشركة الموريتانية لمعالجة النفايات"، ومن يسمع بتسمية هذه الشركة سيعتقد للوهلة الأولى أنها تمارس الحد الأدنى من معالجة النفايات، والحقيقة أنها لا تمارس أي نوع من أنواع معالجة النفايات، وإنما تكتفي فقط بجمع القمامة ونقلها بطرق بدائية، ثم رميها من بعد ذلك بطرق أكثر بدائية في مكب تيفيريت الشيء الذي زاد من معاناة أهلنا في تيفيريت وفي القرى المجاورة.

أذكر أني كتبتُ منذ عقد ونصف عن قمامة العاصمة، ومن قبل أن يتم التعاقد مع شركة "بيزورنو"، وقد دعوتُ حينها ـ ومن خلال رسالة مفتوحة موجهة إلى الرئيس ـ إلى إنشاء شركة لشراء القمامة من المواطنين، ففي اعتقادي أنه لما تتحول القمامة إلى سلعة تباع وتشترى فإنها ستختفي من شوارع العاصمة كما اختفت الخردة، وكما اختفت مواد البلاستيك الصلبة.

إن العمل بمقترح من هذا القبيل سيساعد في:

1ـ تغيير سلوك وعقلية المواطن الموريتاني، وهذا شرطٌ ضروري لضمان نظافة العاصمة، فمن شأن هذا المقترح أن يدفع المواطن إلى جمع القمامة من الشارع بدلا مما كان متعودا عليه أي رميها في الشارع؛

2ـ النظر إلى القمامة باعتبارها "ثروة وطنية" يمكن أن تتحول إلى مصدر للدخل بدلا من النظر إليها باعتبارها تحديا ومشكلة لا يمكن حلها؛

3ـ تحويل القمامة إلى مورد اقتصادي لا يستفيد منه إلا الفئات الأكثر فقرا، على عكس مما هو قائم الآن، حيث تعود الاستفادة الكبرى لرجال الأعمال الذين تم التعاقد معهم لتنظيف العاصمة؛

4 ـ العمل على حل مشكلة من خلال التخفيف من مشكلة أخرى، فأهمية هذا المقترح تكمن في كونه سيحل مشكلة القمامة من خلال المساهمة في حل مشاكل أخرى ذات صلة بالفقر والبطالة في الأوساط الأكثر فقرا.

تحصل الشركة الموريتانية لمعالجة القمامة على 12.50 أوقية قديمة عن كل كيلو قمامة تجمعه وتنقله إلى مكب تيفيريت، وتتهم هذه الشركة بزيادة الوزن في بعض الأحيان من خلال إضافة مواد أخرى، فلماذا لا يمنح هذا المبلغ لشراء القمامة من عند الفقراء، ليتولوا هم جمعها وفرزها ونقلها إلى الأماكن المخصصة لها؟

بل لماذا لا يضاعف هذا المبلغ في حالة تولى المواطنون الفقراء جمع القمامة وفرزها ونقلها، ويمكن اعتبار هذه الزيادة تدخل في إطار الإنفاق الاجتماعي الذي تقوم به الدولة لصالح الفئات الهشة والمواطنين الأكثر فقرا.

إن إنفاق مبالغ مالية أو توزيع سلات غذائية على المواطنين الأكثر فقرا دون تقديم أي جهد هو أمرٌ مهم وضروري لاشك في ذلك، وتتأكد أهميته عند تفشي الأوبئة التي تؤثر سلبا على الأنشطة الاقتصادية والتجارية كما هو حاصل الآن، ولكن ذلك لا يعني عدم وجود سلبيات لهذا النوع من الإنفاق، خاصة في مجتمع كمجتمعنا تسود فيه الاتكالية وتتجذر فيه ثقافة "لِسْعافات". من المهم جدا أن يكون هناك جهد يبذل مقابل تلك المبالغ التي توزع، ويمكن أن يكون جمع وفرز ونقل القمامة هو الوجه الأنسب للإنفاق، ذلك أن فقراء هذه البلاد لن يجدوا في جمع القمامة منافسة قوية من الأغنياء والميسورين الذين تعودوا على منافستهم، كلما كانت هناك عمليات توزيع ومنح تقوم بها الدولة لصالح الفقراء.

الآن لنعد إلى السؤال الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال: لماذا لا نفكر في تدوير النفايات؟

إن مما يشجع على التفكير في تدوير النفايات:

1 ـ أن هناك اهتماما عالميا بتدوير النفايات، وذلك لانعكاساته الإيجابية على التنمية المستدامة، ولن يكون من الصعب الحصول على تمويلات وقروض من المؤسسات والشركاء الدوليين لمشاريع من هذا القبيل يمكن تصنيفها في دائرة "الاقتصاد الأخضر"؛

2 ـ هناك مستثمرون أجانب يمكن أن يستثمروا بالشراكة مع الحكومة الموريتانية أو مع بعض رجال الأعمال الوطنيين في مجال تدوير النفايات؛

3 ـ لا توجد دراسات عن تركيبة القمامة في موريتانيا، ولكن باعتبار أن بلدنا من البلدان الفقيرة، فإن تركيبة القمامة فيه ستكون على النحو التالي:50 إلى 60 % مواد عضوية، وهذه يمكن أن تُحَول إلى سماد؛ 15 إلى 20 % بلاستيك ؛ 15% أقمشة ـ أخشاب ـ ورق ـ كرتون...إلخ؛ 10 % مخلفات معادن. كل هذه المواد قابلة للتدوير، وبتدويرها أو بتدوير كميات معتبرة منها فإن ذلك سيقلل من حجم القمامة التي لابد من طمرها.

خلاصة القول

إن شراء القمامة من المواطنين سيشكل مصدر دخل للمواطنين الأكثر فقرا والأكثر استعدادا للعمل، وهو وجه من أوجه الإنفاق الاجتماعي للدولة، ومن هنا تبرز أهميته، خاصة وأنه سيساعد في تنظيف عاصمة عانت في الماضي وما تزال تعاني من انتشار القمامة. كما أن التفكير في إقامة مصانع لمعالجة وتدوير القمامة هو كذلك أمرٌ قد أصبح من الضروري جدا التفكير فيه.

حفظ الله موريتانيا...

السبت، 2 يناير 2021

فكرة جيدة وإخراج غير موفق!

 


بثت قناة الموريتانية مع مطلع العام الجديد برنامجا حواريا تحت عنوان " 2020 ـ 2021: الإنجازات، التحديات والتطلعات"، وقد جمع هذا البرنامج عددا من الوزراء مع عدد من السياسيين الذي يمثلون أهم الأحزاب  السياسية في البلاد.

لقد كانت فكرة البرنامج فكرة جديدة، فلأول مرة يجتمع عدد من الوزراء مع عدد من السياسيين من الموالاة والمعارضة في برنامج مباشر بمناسبة نهاية عام وبداية عام آخر للحديث عن الإنجازات والتحديات والتطلعات. نعم لقد كانت الفكرة فكرة جيدة، ولا شك أنها ستساهم كثيرا في تسويق "الانفراج السياسي" الذي كان من أهم ملامح هذا العهد. ومع ذلك فلابد من القول بأن "الانفراج السياسي" قد أخذ في السنة المنتهية ما يستحق من التسويق الإعلامي، والتركيز كان يجب أن يخصص مع بداية العام الجديد للبعد الاجتماعي والاهتمام بالفئات الهشة، والذي شكل هو أيضا ملمحا من ملامح السنة الماضية، ولكنه لم يجد حظه من التسويق الإعلامي، بل على العكس من ذلك فيمكن القول بأن النظام قد "ظُلم إعلاميا" في هذا الملف، وربما يعود ذلك إلى ضعف أداء الإعلام الحكومي، وإلى غياب ذراع إعلامي للنظام  قادر على التفاعل والتأثير في رأي عام أصبح أكثر مشاكسة، بفعل الحضور القوي لمواقع التواصل الاجتماعي.

نعم لقد كانت فكرة البرنامج فكرة جيدة، ولاشك أنها ستساهم في إظهار مستوى "الانفراج السياسي" الذي عرفته البلاد في هذا العهد، ولكن ذلك لن يمنع من القول بأن "الانفراج السياسي" قد وجدا حظا لا بأس به من التسويق الإعلامي، وأن الحاجة كانت أكبر لتسويق التدخلات التي قيم بها لصالح الفئات الهشة، والتي لم تجد حظها من التسويق الإعلامي، بل على العكس من ذلك فقد واجهت هذه التدخلات في بعض الأحيان حملات إعلامية مضادة اعتمدت على "معلومات" ثبت فيما بعد عدم صحتها. ومهما يكن أمر، وبغض النظر عن أهمية ترتيب الأولويات بخصوص الملفات التي كانت هي الأحوج إلى تسويق إعلامي، فإن ما يمكن قوله هنا هو أن فكرة البرنامج كانت فكرة جيدة، ومن المؤكد بأن محتوى الحلقة سيعزز من صورة "الانفراج السياسي" الذي طبع الستة عشر شهرا التي مضت من مأمورية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.

نعم لقد كانت الفكرة فكرة جيدة، ولكن نقطة الضعف الكبيرة كانت في إخراجها، فإخراجها لم يكن موفقا. فما معنى أن تطلق الحكومة الحملات للتوعية ضد كورونا، وتُطالب المواطنين بالتباعد واحترام المسافة الآمنة، وتعطل صلاة الجمعة خوفا من العدوى، ثم يظهر من بعد هذا كله عدد من الوزراء والقادة السياسيين في مكان ضيق جدا لا تحترم فيه المسافة الآمنة.

لم يكن ظهور عدد من الوزراء والقادة السياسيين بهذا الشكل موفقا، وقد كان يمكن تجنب هذا الخطأ الإخراجي الفادح بتنظيم الحلقة في إحدى قاعات فنادق العاصمة التي تتيح قاعاتها إمكانية احترام المسافة الآمنة، وبثها من هناك، ما دامت استوديوهات قناة الموريتانية لا توجد بها قاعة توفر المسافة الآمنة في برنامج يستضيف عددا معتبرا من الضيوف.  

حفظ الله موريتانيا...