الأربعاء، 26 أكتوبر 2011

يوميات شخص عادي جدا (5)




لم يكن كاتب هذه اليوميات راضيا عن الحلقات الأولى منها، وكان يُظهر من حين لآخر عدم رضاه ذاك، كلما انزويت أنا وهو في خلوة من خلواتنا الأسبوعية التي كنا نواظب عليها، مع نهاية كل أسبوع، تمهيدا لكتابة ونشر أي حلقة جديدة، من حلقات هذه الرواية.
والحقيقة أني لم أهتم في البداية بعدم رضا الكاتب عن تلك الحلقات، لأنه كان يعبر عن عدم رضاه ذاك، بخجل شديد، مما جعلني أعتقد بأن الأمر مجرد انزعاج عابر، سيختفي مع الوقت، ولن يؤثر على مشروع كتابة الرواية. ولكن في الجلسة التي سبقت هذه الحلقة من الرواية، فوجئت بأن الكاتب قد قرر ـ في هذه المرة ـ أن يعبر عن انزعاجه بلغة صريحة وفصيحة، وغير لبقة في بعض الأحيان، وهو ما استفزني به كثيرا.
ولقد اتهمني الكاتب في الجلسة التي كان من المفترض أن أروي له فيها أحداث الحلقة الخامسة، بأني تعمدت في الحلقات الأربع الماضية، أن أخدع القراء، وأن أقدم لهم نفسي على أني كنت طفلا ذكيا، شجاعا، ومشاغبا، رغم أني كنت أعلم بأني لم أكن ذكيا دائما، ولم أكن مشاغبا دائما، ولم أكن شجاعا دائما، بل كنت جبانا في مواقف عديدة، عشتها خلال طفولتي.
ولقد اعتبر الكاتب بأني استخدمت حيلة ذكية جدا، لخداع القراء، يصعب عليهم كشفها. وهي حيلة حاولت أن أخفيها بخدعة الفكرة الصدمة، والتي تقتضي أن أقدم للقراء طفولة خارقة في بداية هذه السيرة، قبل أن أختمها لهم بشخصية عادية جدا، وذلك لإحداث صدمة كبيرة، وخيبة فظيعة لديهم. وهذه الصدمة أو الخيبة ـ وكما قلت سابقا ـ ستؤدي إلى نجاح الرواية نجاحا باهرا، أو إلى فشلها فشلا ذريعا. وكلا الأمرين بالنسبة لي يعتبر إنجازا عظيما.
ولقد قال لي الكاتب في تلك الجلسة، وبكلمات صريحة وحازمة، بأنه لن يقبل ابتداءً من هذه الحلقة، بأن يستمر في خداع القراء.
ـ لن أقبل بعد اليوم الاستمرار في خداع القراء.
ـ لماذا تقول بأني أحاول خداع القراء، وأنت تعلم بأني لم أتحدث في الحلقات الماضية إلا عن أحداث حقيقية، رويتها لك كما حدثت، دون زيادة أو نقصان؟
ـ المشكلة ليست في الأحداث التي رويت لي، بل المشكلة هي في تلك الأحداث التي لم تروها لي.
ـ لم أفهم بالضبط ماذا تريد أن تقول.
ـ بل إنك تفهمه جيدا، وأرجو أن لا تتعامل معي كما تتعامل مع القراء، وأرجو كذلك أن لا يغرنك عدم ردي عليك في الحلقات السابقة، حينما قلت بأني كثير الفشل، متواضع الطموح ، وقليل الإبداع، في الوقت الذي جعلت من "شخصك الكريم"، شخصا مبدعا وطموحا وذكيا، ذكاء خارقا.
سكت الكاتب برهة، ثم واصل حديثه بعد أن رسم على شفتيه ابتسامة ساخرة، وقال بصوت ساخر لا يقل سخرية عن ابتسامته.
ـ إن أسخف موقف يمكن أن يواجهه أي كاتب، هو أن يتهمه بطل روايته بأنه كثير الفشل، وقليل الطموح والإبداع. ألا يكفيني إبداعا و طموحا بأني أحاول أن أجعل من شخص عادي مثلك شيئا مذكورا؟
كان عليَّ أن أجيب على الكاتب، ولم يكن بإمكاني أن أظل صامتا دون أن أرد عليه. في بداية حديثه فكرت في أن أتركه يتحدث كما يشاء، ودون أن أقاطعه، وذلك لأنه لم يتحدث في كل الحلقات السابقة. وكان كل ما يهمني هو أن لا ينقل حديثه إلى القراء بضمير المتكلم، والذي اشترطت أن لا يتحدث به الكاتب في هذه السيرة، لأني أنا الوحيد الذي يحق له ـ حسب بنود الاتفاق ـ أن يتحدث بضمير المتكلم في حلقات هذه اليوميات.
لم أكن أرغب إطلاقا في أن أقاطع الكاتب، ولكن حديثه الجريء في بداية هذا الحلقة أجبرني على مقاطعته، حتى لا يتجاوز الخطوط الحمراء، ويتحدث للقراء عن أسرار اتفقت أنا وهو أن تظل محجوبة عنهم، إلى أن تكتمل الرواية.
فكرت في أن أقول له بأن ما يعتبره هو سخيفا، كان هو أروع ما في الحلقات الماضية، وكان قمة في الإبداع. فاتهام بطل الرواية لكاتبها بالفشل وبقلة الإبداع، كان فكرة إبداعية، في حد ذاتها، ولا أعتقد بأن هذه الفكرة ظهرت في أي عمل آخر من قبل هذه الرواية. ووددت لو قلت له بأن أكبر دليل على قلة الإبداع لدى "كاتبنا المبدع"، هو قوله بأن اتهام بطل الرواية لكاتبها بالفشل وقلة الطموح كان سخيفا.
ولكن في تلك اللحظات لم يكن بإمكاني أن أحدثه بذلك. فقد بدأت أشعر بأن مشروع كتابة سيرتي كان في خطر. وكان عليَّ أن أتحدث بطريقة أخرى، فيها شيء من التهديد، وشيء من الحزم، حتى لا يتجاوز كاتب الرواية الخطوط الحمراء، والتي يبدو أنه قد أراد في هذه الحلقة أن يسير عليها، كما يسير أبطال السيرك على حبل رقيق معلق في مكان مرتفع جدا.
كان عليَّ في تلك اللحظات أن أذكِّر كاتب الرواية بأن العلاقة التي تربطني به، ليست مجرد علاقة بين كاتب رواية وبطلها، بل هي أكثر تعقيدا من ذلك. وكان عليَّ أن أذكره بأنه ليس من مصلحتنا نحن الاثنين ( أنا وهو) أن نتخاصم، بعد أن قررنا أن نتعاون معا لإكمال مشروع رواية "يوميات شخص عادي جدا".
كان عليَّ أن أقول له وبنبرة صارمة جدا:
ـ عليك أن تتذكر دائما بأنه إذا تخاصم الذئبان نجت الفريسة، وإذا تخاصمت أنا وأنت فسينجو القارئ من حبائلنا، ولن يخسر وقتها إلا نحن.
أجابني الكاتب وكأنه لا يريد أن يستفيد من الحكمة التي ذكَّرته بها.
ـ وعليك أن تعلم أنت بأنك ستكون الخاسر الأكبر، فأنت منذ ولدت في النصف الثاني من الستينات، وحتى يومنا هذا، لم تستطع أن تقدم نفسك للناس. ولولا فكرة هذه الرواية لعشت مغمورا. وإني أتحداك الآن أن تقدم لهم "شخصك الكريم" دون الاستعانة بي، وبلوحة مفاتيح جهازي المتهالك هذا.
لم أكن أتصور قبل ذلك الوقت، أن الكاتب بإمكانه أن يحدثني بهذه الطريقة المستفزة. لذلك فقد فوجئت كثيرا بكلماته الأخيرة، وأحسست بأنه قد قرر أن يخاطر بكل شيء، وهو ما سيؤدي حتما إلى إعادة تنظيم العلاقة بيننا، أو إلى التوقف النهائي لمشروع كتابة يومياتي.
ترك الكاتب القرار النهائي بيدي، وذلك بعد أن حشرني في زاوية ضيقة جدا، ووضعني أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما، فإما أن نراجع بنود الاتفاق بيننا، وستكون تلك المراجعة لصالحه، لأنها ستسلب مني الكثير من الامتيازات التي كنت أتمتع بها. وإما أن نعلن توقف مشروع كتابة الرواية. ولم يكن أمامي من خيار ثالث.
كنت أعلم بأنه كان عليَّ أن أختار بين خيارين سيئين جدا. ولكني مع ذلك قررت أن أراوغ قليلا، حتى استجمع كل قدراتي التفاوضية لكي أقلل من حجم الخسارة، وحديثا قيل بأنه بإمكان الكل في المفاوضات الناجحة أن يربح. ولكن كيف أجعل من المفاوضات بيني وبينه، مفاوضات ناجحة لا يخسر فيها أي واحد منا؟
كان عليَّ أن أقول شيئا يخفف من حدة التوتر، ويخرجني ـ ولو قليلا ـ من الزاوية الضيقة التي حشرني فيها الكاتب.
ـ ألم تقل لي بأن العديد من القراء اتصل بك للتعبير عن إعجابه بما نُشر من حلقات الرواية حتى الآن؟ أو ليس القارئ هو الحكم الفصل الذي علينا أن نلجأ إليه إذا ما اختلفنا في تقييم أي حلقة من حلقات هذه الرواية؟
ـ بلى، ولكن علينا أن لا نغالط الحكم، وأن لا نخدعه.
ـ وبِمَ خدعنا القراء؟ أرجوك أن تحدثني بصراحة.
ـ خدعناهم أولا بعنوان هذه الرواية، وخدعناهم ثانيا لأننا لم نحدثهم عن بعض الأحداث التي عشتها في طفولتك، والتي قد تعطيهم صورة أخرى، مغايرة تماما للصورة التي رسمنا في أذهانهم، من خلال الحلقات الأربع الماضية.
أعطتني الكلمات الأخيرة للكاتب فرصة رائعة لأن أخرج من الزاوية الضيقة التي حشرني فيها. فهو وإن كان محقا عندما قال بأن هناك مواقف في طفولتي، أخفيتها عن القراء، حتى لا أشوه على الصورة التي كنت أريد أن أثبتها في أذهانهم عن تلك الطفولة، فهو وإن كان محقا في ذلك، إلا أنه لم يكن محقا في ادعائه بأني خدعت القراء بعنوان الرواية. لذلك فقد قررت أن أركز على الخدعة بالعنوان، وأن أجعلها محورا للنقاش بيننا، فالتركيز عليها سيكون في مصلحتي، وسيعزز من قدراتي التفاوضية، والتي بدت في ذلك الوقت ضعيفة جدا.
فعنوان الرواية الحالي كان من اقتراحي، وكان لذلك سبب. فقد كان من المفترض أن يكون عنوانها "واحد من الناس". ولكن هذا العنوان الذي كان من اختيار الكاتب، لقي معارضة شديدة من طرف صديق لي وله. ولقد انتقد الصديق المذكور وبشدة، اختيار عنوان "واحد من الناس" لهذه الرواية، وكان لرأي ذلك الصديق، قيمة كبيرة عند الكاتب، فقد كان هو الشخص الوحيد الذي يطلعه الكاتب على بعض كتاباته من قبل نشرها.
بعد معارضة صديقنا المشترك للعنوان القديم للرواية، اقترحت أنا العنوان الحالي، وهو العنوان الذي لم يتحمس له الكاتب في بادئ الأمر، رغم التحمس الشديد الذي أبداه صديقنا له.
ـ يبدو أنه لا زالت لديك عقدة من عنواني الذي اقترحت، والذي لقي ترحيبا كبيرا من صديقنا، عكس عنوانك الذي وجد معارضة شديدة منه.
ـ أنت تعلم بأن السبب الذي جعلني لا أتحمس لعنوانك الذي اخترت، والذي أصبح في النهاية عنوانا لهذه اليوميات، هو أن هذا العنوان يقدم للقراء صورة محددة سلفا عن مستقبل البطل الذي سيجبره عنوان الرواية لأن يصبح شخصية عادية، بعد أن عاش طفولة غير عادية. أما عنوان "واحد من الناس" فكان سيترك للبطل نهاية مفتوحة. كما أنه كان سيترك للقراء حرية تخيل مصائر مفتوحة، لواحد من الناس، اتفقنا على أن نكتب سيرته، وأن نجعله بطلا لهذه الرواية.
وفي اعتقادي فإن نقطة ضعف الرواية ستكون نهايتها المحددة سلفا، وبدايتها المغلقة. فلم يكن من المناسب أن نقوم بتنقية طفولتك من كل الأحداث والمواقف التي كانت تثبت بأنك لم تكن شجاعا دائما، ولم تكن ذكيا دائما، ولم تكن مشاغبا دائما. كان علينا أن ننقل للقراء حقيقة طفولتك، وكما هي. وكان علينا أيضا أن نترك لهم نهاية الرواية مفتوحة، حتى يكونوا أحرارا في تخيل النهايات التي تعجبهم، وهذا ما لا يسمح به عنوانك الذي اخترت.
إن ما يعجبني في طفولتك الحقيقية، لا طفولتك المنتقاة التي قدمت للقراء في هذه اليوميات، أنها كانت طفولة مفتوحة في كل الاتجاهات. إن من يعرف الكثير من أسرار طفولتك، كما هو الحال بالنسبة لي، لم يكن ليفاجأ لو عَلِم بأنك بعد أن كبرت وتخرجت أصبحت من كبار علماء وكالة الفضاء الأمريكية. لن يفاجأ إطلاقا بذلك، لأنك أظهرت في طفولتك ذكاءً خارقا، كان بإمكانه مع شيء من الحظ، وكثير من الاجتهاد والمثابرة، أن يؤهلك لتلك المكانة. وإن من يعرف الكثير من أسرار طفولتك، كما هو الحال بالنسبة لي، لم يكن ليصدم لو عَلِم في المقابل، بأنك أصبحت شخصا فاشلا عندما تقدم بك السن، ففي طفولتك كانت هناك أحداث ليست بالقليلة، لم تذكرها في يومياتك هذه، كان بإمكانها مع شيء من سوء الحظ، أن تجعل منك شخصا فاشلا، بل ومن كبار الفاشلين.
وإن في طفولتك من المواقف الشجاعة، والتي أسهبت في ذكرها، في الحلقات الماضية، ما كان يؤكد بأنك لا محالة ستُظهر عندما تكبر شجاعة لافتة، سيتغنى بها الكثير من الناس. وفي المقابل، فإن في طفولتك مواقف عديدة، لم تتحدث عنها في يومياتك، كنت فيها جبانا، وكانت تكفي لأن تجعل منك رجلا جبانا.
وإن في طفولتك أيضا من الشغب والمشاكسة ما كان يكفي لأن يجعل منك رجلا مشاكسا من الطراز الأول. كما أن فيها من الهدوء والخمول ـ وهو ما لم تذكره في اليوميات ـ ما كان يكفي أيضا لأن يجعل منك رجلا هادئا خاملا.
لقد كانت في طفولتك ـ وهذا ما يميزها حقا ـ بذور لكل أصناف الرجال. كانت فيها بذور للرجل الناجح، وكانت فيها أيضا بذرة لرجل فاشل. كانت فيها بذور للرجل الشجاع، وكانت فيها أيضا بذرة لرجل جبان. كانت فيها بذور للرجل المشاكس، وكانت فيها أيضا بذرة لرجل خامل.
لقد كانت طفولتك ـ وهذا هو أروع ما فيها ـ طفولة مفتوحة على كل الاتجاهات، فقد كانت كل بذور أصناف الرجال موجودة، وإن كان الفرق يكمن في كميات البذور ونسبها.
هذه هي طفولتك الحقيقية، التي كان عليك أن تقدمها للقراء، بدلا من خداعهم بانتقاء أحداث ومواقف تصب في اتجاه واحد.
لم أجد ردا مناسبا، أرد به على الكاتب، سوى أن أقول له وبكلمات مهزوزة:
ـ يبدو أنك تعرف عن طفولتي أكثر مما أعرف أنا عنها.
إني أعرف عن طفولتك الشيء الكثير، ليس أقل مما تعرف أنت عنها. فأنا أعرف مثلا بأنك في كثير من الأحيان، كنت هادئا خجولا لحد البلاهة ولدرجة جعلت كل عجائز الحي يبرئونك حتى من تلك الجرائم التي كنت ترتكبها ودون شريك. ولأنك قد قلت للقراء بأنك كنت مشاغبا في المدرسة، لدرجة أصبحت فيها متهما دائما، وتلصق بك كل الجرائم التي لم يكشف مرتكبها. فإنه عليَّ أن أقول لهم، وحتى تكتمل لهم الصورة، بأنك كنت بريئا وبشكل دائم خارج المدرسة، وكانت عجائز الحي يلصقن كل جريمة ترتكبها، بطفل آخر، لأنهم عرفوك هادئا مطيعا خجولا. ولأنك قلت للقراء بأنك انتقمت مرة من "المعلم الملاكم"، كما ينتقم الرجل من الرجل. فإنه من الواجب عليَّ أن أقول لهم بأنك كنت تفشل في بعض الأحيان من الانتقام من بعض الأطفال، كما ينتقم الطفل من الطفل، وكنت تؤجر أطفالا أكبر منك سنا لتولي عملية الانتقام تلك. ولأنك قلت للقراء بأنك كنت شجاعا لدرجة كنت تتعامل فيها مع الأفاعي بشجاعة تستحق تصفيقهم، لأنك قلت لهم ذلك، فكان عليَّ أن أذكر لهم مواقف أخرى كنتَ فيها جبانا. فأنت ربما كنت الطفل الوحيد في الشلة الذي يخاف من تسلق الكثير من جبال "لعيون"، والتي كان يتسلقها أطفال أصغر منك سنا. وكنت أنت الوحيد، من بين أطفال الحي، الذي يخاف ركوب الجمال. كما أنك وبعد أن أصبحت طالبا في الثانوية، كنت تتجنب دائما أن تكون في الصف الأمامي كلما حدثت مواجهة بين الطلاب وقوات الأمن. ولأنك أيضا قلت للقراء بأنك كنت ذكيا ذكاءً خارقا، وأنك تمكنت من حل أصعب مشكل حسابي كان يُمتحن به المعلمون، في دقائق معدودة. فإنه عليَّ أن أقول لهم في المقابل، بأنك في بعض الأحيان، كنت غبيا لدرجة جعلتك تعتقد، ولمدة من الزمن، بأن الصحراء الغربية كانت زوجة الرئيس الراحل "المختار ولد داداه". كما أنك كنت الطفل الوحيد الذي لا يستطيع أن يميز بين العجول، وكان ذلك دليلا كبيرا على الغباء بالنسبة لطفل مثلك، تقاسمت البادية والمدينة طفولته. وأعتقد أنك لا زلت تتذكر حتى الآن ذلك اليوم الذي ذهبت فيه لتأتي بعجولكم، من قبل قدوم البقر، فعدت وأنت تسوق عجولا لأسرة أخرى، كانت عجولهم مساوية من حيث العدد لعجولكم. وهو ما شكل في تلك الفترة فضيحة كبرى، ونكتة عُمِّرت طويلا، خاصة لدى أطفال الحي.
لم أقاطع الكاتب، وتركته يتحدث حتى توقف بمحض إرادته عن الكلام. فلم يكن لديَّ ما أرد به، فكل ما قاله كان صحيحا ودقيقا. إلا أنه بالنسبة لفضيحة العجول فأعتقد بأن أهل الحي قد بالغوا كثيرا في تلك الحادثة التافهة. وعموما فتلك الحادثة التافهة لم تكن دليلا على غبائي، كما أنها لم تكن ـ بالتأكيد ـ دليلا على ذكائي. إنها مجرد حادثة تافهة، لا يمكن أن يُجعل منها مقياس للذكاء. وكل ما في الأمر هو أني لم أكن أهتم بكثير من اهتمامات أطفال البادية في ذلك الزمن. لم يكن تعلم حلب البقر، أو التدرب على ذبح الغنم أو سلخ جلودها، أو إتقان ركوب الجمال تعني لي شيئا. لم تكن تلك المهام التي تعلمها وتدرب عليها كل أطفال الحي تعني لي أي شيء. ولم يكن يهمني أن أعرف ـ عكس غيري من أطفال الحي ـ أسماء أو ألوان أو أعمار بقرات أهلي القليلة، والتي لم أكن أميز بينها وبين أي بقرات أخرى، إلا من خلال "العلامة" التي كنا نَسِم بها بقراتنا.
ولم يكن ذلك بسبب الغباء، كما كان يعتقد الكثيرون، فكل ما في الأمر، وبباسطة شديدة، أن ذلك كله لم يكن من اهتماماتي، في تلك الفترة. لقد كنت في ذلك الوقت أهتم كثيرا بالقراءة، وكانت لديَّ مكتبة رائعة. ولقد قرأت كثيرا عن الأطباق الطائرة، والتي لم أكن أشك في وجودها، في تلك المرحلة من حياتي. ولقد كنت أتوقع من حين لآخر أن يهبط بجنبي طبق طائر، ليأخذني إلى عالم متطور جدا ومعقد جدا، يختلف كثيرا عن العالم الذي عشت فيه طفولتي. عالم لا توجد فيه عجول ولا أبقار ولا جمال ولا جبال.
ولقد كنت على يقين بأن سكان تلك العوالم المتطورة جدا، والتي تأتي منها الأطباق الطائرة، لن يشترطوا للحصول على تأشيرة لدخول عوالمهم، أن يكون المتقدم للتأشيرة قادرا على أن يميز بين عجول أسر الحي، أو أن تكون له خبرة في ركوب الجمال، أو أن يكون في سيرة حياته عدد من الخرفان التي ذبحها وسلخ جلودها لوحده.
وحتى بعد أن كبرت وأصبحت رجلا، لا زالت اهتماماتي تختلف كثيرا عن اهتمامات جيلي، وإن قيس ذكائي الآن، بمدى معرفتي بالأمور التي يهتم بها جيلي في هذا الوقت، لاكتشفتم بأني غبي جدا.
صحيح أني لم أعد اليوم أنتظر هبوط طبق طائر لينقلني إلى عوالم أخرى، ولكن الصحيح أيضا بأني لازلت غير قادر على التأقلم والاندماج بشكل كامل مع الواقع الذي أعيشه. ولعل عدم قدرتي على التأقلم مع هذا الواقع، هي التي جعلتني أحلم بعالم آخر، أصبحت الآن على يقين بأنه لن يحملني إليه طبق طائر، وإنما ستحملني إليه "أفكار طائرة" ترفض، أن تهبط على هذه الأرض المتعطشة لها. إنها أفكار تتزاحم في رأسي، ومنذ مدة، ولا زلت عاجزا ـ حتى الآن ـ عن إنزال أي واحدة منها، على أرض أحببتها كثيرا، رغم الغربة الفظيعة التي أشعر بها وأنا أعيش أيامي الرتيبة على تلك الأرض.
وإذا كان انتظاري في طفولتي لهبوط طبق طائر ينقلني لعوالم أخرى، قد شغلني عن الاهتمام بالكثير من اهتمامات أطفال الأمس. فإن انتظاري الآن لهبوط بعض "الأفكار الطائرة" على أرض الواقع، قد شغلني هو أيضا عن الاهتمام بالكثير من اهتمامات رجال اليوم.
وإذا كان انتظاري للأطباق الطائرة في مرحلة الطفولة، قد جعلني أبدو غبيا لكثير من أطفال ذلك الزمن. فإن انتظاري في مرحلة الرجولة لهبوط "الأفكار الطائرة" من رأسي، قد جعلني ـ كذلك ـ أبدو غبيا لكثير من رجال اليوم، بمن فيهم كاتب هذه الرواية.
تصبحون على الحلقة السادسة من الرواية...

الأحد، 16 أكتوبر 2011

يوميات شخص عادي جدا (4)

مع اختتام عام "اللكمات"، اختارتني إدارة المدرسة لأمثلها في المخيم الصيفي الذي تم تنظيمه في نهاية ذلك العام الدراسي. وكانت تلك هي أول مرة يتم فيها اختيار أحد تلاميذ مدرستنا ليشارك في مخيم صيفي، وربما كانت ـ كذلك ـ هي آخر مرة. فلم يحدث أن بلغني بعد ذلك، أن أي تلميذ آخر من مدرستنا شارك في أي مخيم صيفي، تم تنظيمه بعد المخيم الذي كان لي الشرف في أن أمثل فيه مدرستنا.

ولقد خيرتني إدارة المدرسة، بين الذهاب إلى العاصمة "نواكشوط"، أو الذهاب إلى المملكة المغربية. ولقد اخترت العاصمة "نواكشوط"، لأن والدي رحمه الله، طلب مني ذلك، واشترط عليَّ مقابل السماح لي بالمشاركة في المخيم الصيفي، أن أكتفي بالسفر إلى "نواكشوط".

كنت في تلك المرحلة من عمري، ونظرا لما أسمع من قصص، أتخيل العاصمة "نواكشوط" مجرد دار للسينما، يقف عند بابها شاب شرس، ليس في قلبه مثقال ذرة من شفقة، يسمونه: " Sans pitiè ". وهذا الشاب الشرس، يهدد كل طفل يقترب من دار السينما، ويجبره على أن يعطيه عشرين أوقية، ولم يكن بإمكان أي طفل أن يرفض إعطاء تلك الغرامة الإجبارية.

ولي زميل في الشلة، كان يتخيلها ـ أي العاصمة "نواكشوط" ـ مجرد مستشفى كبير، تحيط به بيوت مخصصة لمرافقي المرضى. ولقد تكونت لديه هذه الصورة، لأنه ـ وحسب ما قال لي لاحقا ـ كان لا يسمع عن "نواكشوط"، إلا إذا كان سيسافر إليها مريض اشتد به المرض، وأصبح في حالة شبه ميؤوس منها.

ولي زميل ثالث كان يتخيلها بحرا يغلي غليانا شديدا في كل مساء، ويرتفع منه، بخار كثيف، يملأ ما بين السماء والأرض، لحظة سقوط الشمس من السماء، في بحر "نواكشوط". وهذه الصورة كانت شائعة كثيرا عند أطفال ذلك الزمن الجميل. وبالنسبة لزميلي فالصورة قد رسمتها في ذهنه جارة لهم، ذهبت إلى "نواكشوط"، وعادت لتؤكد له، ولأطفال الحي، بأن الشمس تسقط في كل مساء في بحر "نواكشوط". وكانت تقول لهم بأنها رأت الشمس بعينيها الاثنتين ـ اللتين لابد أن يأكلهما الدود ـ وهي تسقط من السماء، في بحر "نواكشوط". ورأت بعد سقوطها غيوما كثيفة من البخار تتصاعد من البحر، بفعل حرارة الشمس التي سقطت فيه.

لم تكن العاصمة "نواكشوط" بالنسبة لي، ولا لزملائي في ذلك الوقت، مجرد مدينة عادية بملامح عادية، وبمواصفات ثابتة لا تتغير. بل كانت مدينة شبح، بعشرات الصور والملامح. وكان لكل طفل منا شبحه، أو صورته التي يختزل فيها عاصمة البلاد.

لذلك فقد كان من اللازم أن أعود إلى زملائي في المدرسة، بحقيقة "نواكشوط"، وكانت تلك هي مهمتي الأساسية في المخيم الصيفي، حتى وإن كانت مهمة غير معلنة. ولقد أديت تلك المهمة غير المعلنة على أحسن وجه. والدليل على ذلك، أني كنت عندما أتحدث عن "نواكشوط"، خاصة في الأيام الأولى بعد العودة، يصغي لي الجميع بانبهار، وبتركيز شديد.

لقد عدت إلى زملائي بحقيقة "نواكشوط". فقلت لهم بأن فيها مصنعا عجيبا للأشربة، وأني تجولت ـ مع زملائي في المخيم ـ داخل ذلك المصنع العجيب. وأني رأيت القوارير تتحرك لوحدها بانتظام عجيب، نحو آلة تملأ تلك القوارير من شراب "الكوكا كولا"، ثم تتحرك إلى آلة ثانية تغلقها، ثم ثالثة تضعها في الأكياس، وهكذا.

وقلت لهم بأن أهل "نواكشوط" لا يجوعون أبدا، فهم يأكلون ست وجبات في اليوم الواحد. وذلك قياسا لما كنا نأكل نحن في المخيم، وباعتبار أن قطعة الخبز مع الزبدة، أو مع الجبن يمكن عدها وجبة متكاملة. وكانت قطعة الخبز بالزبدة تقدم لنا في المخيم ثلاث مرات في اليوم ، مما رفع الوجبات المقدمة لنا يوميا إلى ست وجبات.

ولم أقل لزملائي بأني شاهدت الشمس تسقط في البحر، كما كانت تقسم على ذلك جارة زميلي، ولكني في المقابل، قلت لهم ما لا يقل غرابة عن ذلك، في زمننا ذاك. فحدثتهم عن المرأة الموريتانية التي رأيتها، بعيني الاثنتين على شاطئ البحر، وهي تدخن سيجارة! ولم اقل لهم بأني ذهبت إلى السينما، وأني دفعت غرامة عشرين أوقية للشاب الشرس، بل قلت لهم بأن أهل "نواكشوط" لا يذهبون إلا السينما، وإنما تأتيهم السينما في ديارهم. ولقد حدثتهم عن كل الأفلام التي شاهدتها في ثانوية البنات، حيث كان مقر مخيمنا الصيفي.

وقلت لهم ـ ولم أصدقهم في ذلك ـ بأني مللت من ركوب الحافلات والسيارات في العاصمة "نواكشوط"، وأني أصبحت أنزعج عندما يدعونا المشرفون على المخيم إلى جولة في "نواكشوط" نضطر خلالها لركوب حافلة أو سيارة.

والحقيقة أنه لم يكن من الممكن لطفل مثلي، قادم من مدينة "لعيون"، في تلك الفترة من الزمن، أن يمل من التنقل في السيارات. لقد كانت أمنيتي في المراحل الأولى من طفولتي ، وهي أمنية كل زملائي تقريبا، أن أكبر بسرعة، وأن أصبح سائقا لأحدى سيارات "لا ندروفر" التي كنا نشاهدها، من حين لآخر، تجوب شوارع المدينة، في السبعينات.

ولقد كان سائقو السيارات، بالنسبة لنا نحن أطفال السبعينات، هم نجوم المدينة الذين لا يمكن لأي كان أن ينافسهم على تلك النجومية. ولقد كان من أشهر أولئك النجوم، سائقان نُسِج حولهما الكثير من القصص المثيرة. أحدهما كان يلاحقه الأطفال بنظراتهم، كلما مر بسيارته من أحد الشوارع. فمن يدري، فربما يتصادف معه أحد الأطفال، وهو يطير بسيارته؟ ولقد كان من المؤكد لدينا نحن الأطفال، بأن ذلك السائق الشهير، قد طار بسيارته مرة على الأقل. وكان ذلك على الحدود المالية الموريتانية، والسبب أنه في أحدى رحلات عودته من مالي، وجد واديا في طريقه قد امتلأ بالماء، بفعل الأمطار التي تهاطلت أثناء رحلة العودة. فما كان من السائق الشهير، إلا أن قرر أن يطير بسيارته، حتى يتجاوز الوادي، ثم يعود بها إلى الأرض ليواصل طريقه، وكأن شيئا لم يكن. أما النجم الثاني، فقد كان يقال بأن سيارته تعطلت به مرة، في أرض قاحلة، فانزعج الركاب كثيرا، وخافوا أن يهلكهم العطش في تلك الأرض القاحلة. ولكن السائق الشهير لم ينزعج كالركاب، وإنما ذهب إلى شجرة، وقطع جزءا من جذعها، وصمم منه قطعة على شكل القطعة المتعطلة في ماكينة السيارة، ثم وضع القطعة الخشبية مكان القطعة المتعطلة، قبل أن يواصل طريقه إلى المدينة الرائعة.

ولقد كان شائعا عندنا بأن ذلك السائق، هو الذي ساعد في إصلاح جناح طائرة"DC-4 الذي سقط ذات مرة في أحد المطارات. وكان يقال بأنه هو الذي ثَبَّت ذلك الجناح من جديد بالطائرة، وأنه ربطه بالحبال. ولقد عادت الطائرة إلى الطيران، وظلت تطير وأحد أجنحتها مربوط بالحبال.

ولقد بحثت كثيرا عن ذلك الحبل، عندما شاهدت، ولأول مرة، طائرة"DC-4" عن قرب، وهي جاثمة في مطار "لعيون". وكان ذلك عند ذهابي إلى العاصمة، في رحلة المخيم. وبحثت عنه مرة ثانية أثناء عودتي من المخيم، في نفس الطائرة، ولكني لم أشاهد الحبل المذكور. ومع ذلك فإني لم أحدث زملائي بذلك، مخافة أن أقلل من شأن أحد أشهر سائقين، أو على الأصح أشهر نجمين، في المدينة الرائعة.

وفي ذلك العام كان كل شيء في المدينة الرائعة، رائعا بحق. وكان الصف الخامس، بالنسبة لي، من أروع ما في المدينة الرائعة في عامها الرائع ذاك. فقد كنت أنا التلميذ الوحيد في المدرسة الذي كان بإمكانه أن يقول لزملائه في ذلك العام الرائع، بأنه قد مر به شهر من عمره، كان يأكل فيه ست وجبات في اليوم الواحد، ويشاهد فيه الأفلام قبل النوم، ويتنقل يوميا في السيارات والحافلات، حتى أصبح منزعجا من ذلك.

وفي ذلك العام الرائع ، وهذا من أسرار روعته، لم أتعرض للضرب إلا قليلا، فقد كان معلمنا في الصف الخامس،هو مدير المدرسة المعروف بتسامحه وبحلمه. ولقد قابلت تسامح المدير وحلمه بأدب جم، ولم أشوش إلا قليلا.

ورغم ذلك فلم يخل العام الرائع من بعض المنغصات التي حدثت خارج المدرسة، وكان بعضها مروعا. فقد انفجرت قنينة غاز داخل منزلنا، وشوهدت ألسنة نيرانها من أماكن متفرقة في المدينة، وسُمِع صوت انفجارها في أمكنة بعيدة. ولقد اعتقد الكثيرون من سكان المدينة، بأن صحراويين تسللوا ونفذوا عملية أحدثت ذلك الانفجار القوي. فلم يكن استخدام الغاز شائعا في ذلك الوقت، بل كان من النادر جدا استخدامه. ولقد أصيب كل أفراد عائلتنا المتواجدين ذلك الوقت في المنزل، بحروق متفاوتة في الخطورة، وكانت حروقي متوسطة، حسب مقياسي الشخصي.

وقبل انفجار قنينة الغاز، كنت قد فوجئت في يوم من الأيام بسيارات عسكرية، مدججة بالسلاح، تتوقف وبشكل عنيف أمام باب منزلنا، ويهبط منها عدد من العسكريين. اعتقدت في البداية بأن تلك السيارات يقودها ابن خال والدتي، والذي تخرج في تلك الفترة ضابطا، والذي ربما يكون قد زار المدينة في مهمة عسكرية، وقرر بالتالي أن يمر بنا للسلام، وللرفع من مكانتي بين الأطفال. فتوقف سيارات عسكرية أمام باب منزلنا، وفي ضحى النهار، كان حدثا عظيما. وهو حدث سيكون بإمكاني أن أستغله إعلاميا، داخل الشلة، لكي أرفع من مكانتي، والتي بلغت في ذلك العام الرائع مستوى قياسيا، بفعل أكل الوجبات الست، ومشاهدة الأفلام قبل النوم، و التظاهر بالانزعاج من التنقل بالسيارات.

خرجت إلى باب المنزل مسرعا، لاستقبال "الضابط الخال"، ولكنني صُدِمت عندما لم أشاهده بين العسكريين الذين كانوا يتصرفون بغطرسة وبخشونة فاجأتني كثيرا. لقد نزلوا من سياراتهم بخشونة، ومروا من حولي بخشونة، ودخلوا المنزل بخشونة، وأخذوا يهددون النساء والأطفال داخل المنزل بخشونة. إنها لحظة خشنة ومتوحشة، من عام لم يكن متوحشا ولا خشنا، بل كان عاما رائعا ووديعا.

صوب قائد الجند، وبوحشية القادة، سلاحه نحونا، وهدد بنسف المنزل وبمن فيه، من نساء وأطفال، إن لم نُخرج لهم، وعلى الفور، الصحراوييْن الاثنين اللذين نخبئهما في المنزل.

كان في تلك الفترة يسكن عندنا صديق لوالدي رحمه الله، وكان برفقته عامل. وكان صديق الوالد يقيم معنا مدة من الزمن، يشتري فيها عددا من الإبل، يسوقه في وقت لاحق، إلى مدينة "أطار" لبيعه هناك. وكان صديق الوالد رجلا من أهل "الساحل"، وكان شكله وبشرته يختلفان كثيرا عن الأشكال المعهودة في المدينة، خصوصا في فصل الصيف، حينما تصبغنا حرارة المدينة بصبغتها المميزة.

ولقد حدث أن شاهد حطاب يسوق حمارا محملا بالحطب، صديق والدي مع عامله، في كهف من كهوف الجبال المحيطة بالمدينة، من الناحية الجنوبية، وكانا وقتها ينتظران إبلا قادمة إلى المدينة. وعندما رآهما الحطاب هناك، اتجه فورا إلى السلطات في المدينة، وأخبرهم بأنه شاهد صحراويين اثنين مسلحين في كهف جنوب المدينة، وأنهما يستعدان للإغارة على المدينة.

ـ دعك من تهديد وترويع النساء والأطفال، أنت جئت إلى هنا من أجلي، وها أنذا بين يديك فأفعل بي ما تشاء، ودع عنك النساء والأطفال.

هكذا خاطب صديق والدي رحمه الله، القائد المتوحش. لم يكن صديق الوالد رحمه الله في تلك اللحظات بعيدا عن المنزل، وعندما شاهد السيارات العسكرية، وسمع بالخبر عاد مسرعا تسبقه كلماته تلك، والتي لم تترك للقائد المتوحش أي حجة للاستمرار في ترويعنا وتهديدنا بتلك الطريقة المتوحشة، ولا بتنفيذ تهديداته، والتي يبدو أنه كان يفكر في تنفيذها.

لم تستمر التحقيقات طويلا مع صديق والدي رحمه الله. فقد كانت لديه أدلة كثيرة تثبت بأنه لم يفكر يوما في الإغارة على مدينة "لعيون". ومع ذلك فلم يُطلق سراحه إلا بعد أن تدخل بعض وجهاء المدينة، وتعهدوا بتحمل المسؤولية الكاملة، عن أي جريمة يرتكبها، طيلة إقامته بالمدينة.

وعندما أُطْلِق سراح صديق والدي رحمه الله، هجم عليه بعض سكان المدينة، ورشقوه بالحجارة، ونددوا بإطلاق سراحه. فما كان منه إلا أن أعاد إلى مكان الاعتقال، وطلب من السلطات تأمينه، حتى يعود إلى منزلنا الذي يقع في الحي الجنوبي من مدينة "لعيون" الرائعة، والمتميزة في كل شيء، حتى في إشاعاتها، وفي قدرة أهلها على التخيل، وعلى مزج ما تخيلوا بتفاصيل حياتهم اليومية.

وكعادتهن، أبدعت بائعات الخضروات في سوق المدينة، هن وزبوناتهن، في ذلك اليوم المتوحش. فألفن في دقائق معدودة قصصا مثيرة وعجيبة، ونسجن في تلك الدقائق روايات عديدة للمعركة الشرسة، التي حدثت في ذلك اليوم، داخل منزلنا بين أهلي، ومن معهم من الصحراويين، ومن ناصرهم من الأقارب، وعساكر المدينة.

وتحدثت بائعات الخضروات في ذلك اليوم، عن العديد من الجرحى والقتلى الذين سقطوا من الجانبين، في ساحة المعركة الشرسة التي دارت داخل حدود منزلنا.

ولقد ذُهِلت كثيرا عندما قابلت زملائي في مساء ذلك اليوم المتوحش، ووجدت أن لديهم روايات وتفاصيل لما حدث في صبيحة ذلك اليوم داخل منزلنا، قللت كثيرا من أهمية روايتي للحدث، رغم أني أضفت لروايتي كشاهد عيان، إضافات عديدة لمزيد من الإثارة. واكتشفت في ذلك المساء، أن روايتي للحدث الذي كنت شاهدا عليه، هي أسخف شيء يمكن أن أحدث به الأطفال في مساء ذلك اليوم، والذي كان بحق، يوما من أيام بائعات الخضروات بسوق المدينة.

وفي الصف السادس، لا أذكر أني ضُربت ولو لمرة واحدة. فقد درسنا في ذلك العام معلم للفرنسية، أحبني كثيرا، وتوطدت علاقتي به منذ الأيام الأولى التي أعقبت الافتتاح. ولم تتوتر علاقتي به، إلا عند البدء في إيداع ملفات الترشح لمسابقة دخول السنة الأولى من الإعدادية.

كان معلم الفرنسية يثق بي ثقة عالية، وكان يكلفني بمهام كثيرة داخل الفصل، في إطار ما سأعرف مستقبلا، بأنه يسمى بالتحفيز من خلال التكليف بالمزيد من المهام والصلاحيات.

ومن شدة ثقته بي، أتذكر أنه زارنا، خلال إحدى حصصه، تلميذان من خارج الفصل، وكانا يريدان من معلمنا أن يحل لهما أصعب مشكل على الإطلاق، في كتاب الحساب الشهير، والمعروف باسم أحد مؤلفيه:J.Auriol"" . وكان من عادة التلاميذ أن يختبروا مستوى المعلمين في الحساب من خلال مطالبتهم بحل المشكل المذكور.

ولقد فاجأ معلمنا التلميذين بأن أجابهما بشكل مباشر، وقال لهما بأن وزن خنشة الأرز المطلوب تحديد وزنه في المشكل المذكور هو 63.5 كلغ، إن لم تخني الذاكرة. وبالمناسبة فأنا أعتمد في سرد هذه المذكرات، على ما أتذكره الآن. وهناك بعض الأحداث التي كان يمكن لي أن أقدم عنها تفاصيل أكثر، لو أني استعنت بآخرين ممن عايشوها، ولكني لم ولن أستعين بهم. فهذه اليوميات ستقتصر فقط على ما ستجود به ذاكرتي البخيلة من ذكريات، لحظة سردها على الكاتب الذي تعاقدت معه على كتابتها ونشرها.

وفاجأ المعلم التلميذين مرة أخرى، عندما قال لهم بأن أصغر تلميذ في الفصل، يمكنه أن يحل لهما المشكل المذكور.

وطلب مني معلم "التحفيز بالمهام الصعبة" أن أتقدم لحل المشكل المذكور.

وكانت تلك واحدة من أصعب المهام التي كُلفت بها في حياتي. وكانت تلك هي المهمة الوحيدة التي يستحيل أن أفشل فيها.

تقدمت إلى السبورة، وبدأت في حل المشكل، وكنت أثناء الحل أحس بنظرات المعلم الواثقة تخترق جسمي، وتزودني بطاقة هائلة. لم أكن بحاجة لأن أسترق النظر إلى وجهه. فقد كنت واثقا بأنه ينظر إليَّ في تلك اللحظات بنظرات واثقة، نظرات تخيفني وتطمئنني في آن واحد. لقد كنت خائفا من أن يهلكني معلم "التحفيز بالمهام الصعبة" بثقته المفرطة، وبمهامه الصعبة، وبتحفيزه الذي كان في بعض الأحيان، يزعجني ويخيفني أكثر من إبر "المعلم المشكلة"، ومن سطل معلم "تحسين الخط"، ومن لكمات "المعلم الملاكم".

وقد لا تصدقون بأني تمنيت وأنا أحاول حل المشكل المعقد، أن يكون "المعلم المشكلة"، أو "معلم تحسين الخط"، أو "المعلم الملاكم"، أن يكون أحدهم هو الذي يقف خلفي، بدلا من "معلم التحفيز بالمهام الصعبة".

وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني "المعلم المشكلة" بحل ذلك المشكل، لما أتعبت نفسي، ولبحثت عن أغرب إجابة. وربما كتبت له على السبورة بأن وزن الخنشة هو صفر كلغ، حتى وإن كنت أعلم بأن تلك الإجابة ستترتب عليها مائة وخزة بالإبر على اللسان.

وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني "المعلم الملاكم" بحل ذلك المشكل، لربما فكرت في أن أكتب له بأن وزن الخنشة يزيد على ثلاثين ألف طن، حتى وإن كنت أعلم بأن تلك الإجابة ستتسبب في مائة لكمة على الوجه.

وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني "معلم تحسين الخط" بحل ذلك المشكل، لربما امتنعت عن حله، مدعيا بأن لا أفهم إلا في تحسين الخط، حتى وإن كنت أعلم بأن ذلك قد يترتب عليه أن أقف وأجثو مائة مرة، وأنا أحمل سطلا مملوءا بالتراب المبلل.

مشكلتي في ذلك اليوم، أن المعلم الواقف خلفي، هو معلم "التحفيز بالمهام الصعبة"، الذي لم يغضب عليَّ يوما، ولم يعاقبني يوما، والذي ـ وهذا هو أصعب ما في الأمر كله ـ يثق بي ثقة عالية.

ومشكلتي في ذلك اليوم أني كنت على يقين بأني لو فشلت في حل ذلك المشكل، فلن يغضب لذلك معلم "التحفيز بالمهام الصعبة"، ولن ينقص حبه لي، ولن تتأثر ثقته بي بسبب ذلك.

ومشكلتي في ذلك اليوم أن المعلم الذي طلب مني حل ذلك المشكل، والواقف خلفي في تلك اللحظات، والذي كانت نظراته الواثقة تخترق جسمي، يحبني كثيرا، ويحترمني كثيرا، ويثق بي كثيرا.

ومشكلتي في ذلك اليوم، أنه إذا كان يجوز لي أن أفشل في أي شيء، كُلفت به في حياتي، حتى ولو كان أمرا بسيطا، فإنه لا يجوز لي ـ بأي حال من الأحوال ـ أن أفشل في أصعب مهمة كُلفت بها في حياتي، لأن من كلفني بها، هو معلم "التحفيز بالمهام الصعبة". ولأنه بعد أن كلفني بها، وقف خلفي في انتظار أن أنجزها، وعلى أحسن وجه.

ومشكلتي أيضا، هي أن الكاتب الذي تعاقدت معه على كتابة هذه السيرة، لن يتمكن من نقل مشاعري في تلك اللحظة، حتى ولو تفرغ لهذه الحلقة أسبوعا كاملا. لن يستطيع أن يفهمكم بأن التحفيز قد يهلك تلميذا في الصف السادس، أكثر مما تهلكه اللكمات في الصف الرابع، أو حمل السطل في الصف الثالث، أو الوخز بالإبر الحادة في الصف الثاني ابتدائي. لن يستطيع كاتب هذه اليوميات أن ينقل لكم بلغته العادية جدا، مشاعر غير عادية، في لحظة غير عادية، من حياة شخص عادي جدا. كلما يمكن للكاتب أن يفعله، وأنا أستفزه الآن لأن يفعل أي شيء آخر، هو أنه سيهرب من تلك اللحظة غير العادية. وسيقول لكم، وبسذاجة سخيفة، متجاوزا كل تفاصيل تلك اللحظة غير العادية، بأني تنفست الصعداء عندما توصلت خلال حلي للمشكل، لرقم يتطابق مع الرقم الذي ذكره معلم "التحفيز بالمهام الصعبة" منذ دقائق، على أنه وزن الخنشة المطلوب تحديده.

ومن الغريب حقا، أني بعد ذلك بسنوات عدة، وبعد أن تطورت كثيرا معلوماتي في الرياضيات، حاولت أن أحل نفس المشكل، بنفس الطريقة التي استخدمتها لحله سابقا، ولكني فشلت في ذلك. ولم أتمكن من حله إلا بعد أن استخدمت نظاما من معادلتين ذات مجهولين، والذي يجعل من حل المشكل مسألة في غاية البساطة. وتمنيت في هذه اللحظات التي كنت أسرد فيها ما حدث في ذلك اليوم، لكتاب يومياتي، أن أذهب إلى وراقات سوق العاصمة، واشتري كتاب الحساب المذكور، فقد رأيته مرة هناك. وذلك لكي أجرب حل المشكل للمرة الثانية، بالطرق الحسابية التي كنا نستخدمها في الابتدائية. ولم يمنعني من المحاولة في هذا الوقت، إلا أن ذلك قد يعين الذاكرة، ويساعدها في تدقيق الرقم الذي ذكرته سابقا، على أنه وزن خنشة الأرز. وأنا لا يحق لي حسب الشروط التي اشترطتها على نفسي، عند البدء في سرد هذه اليوميات، أن أعين ذاكرتي بأي عنصر خارجي، من قبل الانتهاء الكامل، من سردها.

وفي نهاية الصف السادس، وجدت نفسي في موقف حرج جدا. فقد أصر معلم "التحفيز بالمهام الصعبة"على أن أترشح لمسابقة دخول السنة الأولى إعدادية بالفرنسية. وكان يتوقع لي مستقبلا زاهرا في الأدب الفرنسي. أما مدير المدرسة، والذي كنت أحترمه أيضا، فقد أصر على ترشحي بالعربية، بحجة أن فصلنا لابد من أن يتبرع بتلميذ للأقسام العربية. وكنت أنا بالنسبة للمدير هو التلميذ الوحيد في الصف الذي يمكنه الترشح باللغة العربية، والتي كانت في ذلك الوقت لغة ثانوية، لم ندرس بها الحساب الذي يعتبر مادة أساسية في تلك المسابقة.

ولقد نجح المدير في فرض رأيه، وذلك بعد أن اتصل بوالدي رحمه الله، وأقنعه بضرورة ترشحي للمسابقة العربية. كما أن التنظيم الناصري الذي بدأت أدعي الانتساب له، في تلك الآونة، كان في صف المدير أيضا.

ولقد اتخذت بعد نجاحي في المسابقة قرارا سخيفا، نتجت عنه قطيعة كاملة مع اللغة الفرنسية. وكنت أبخل على تلك اللغة، بتسجيلها في جدول الزمن، لسنوات أربع في ثانوية "لعيون". ولم أتوقف عن القطيعة الكاملة مع اللغة الفرنسية، إلا عندما حُوِّل إلينا في القسم الخامس رياضي، أستاذ مبدع، كان يكتب على السبورة بطريقة عجيبة، وكان طريقته في الكتابة هي أول ما شدني إلى حصصه، والتي لم أتخلف عنها في ذلك العام الدراسي، ولو لمرة واحدة. ولم يكن ذلك الأستاذ المبدع، إلا الكاتب والصحفي الشهير" حبيب محفوظ"، أو "بداح" كما كنا نسميه في الثانوية، والذي تمر بنا في نهاية هذا الشهر الذكرى العاشرة لرحيله.

تصبحون على الحلقة الخامسة من الرواية...

ساعتان للوحدة الوطنية

حال موريتانيا اليوم، كحال أي سفينة عندما تُخرق، ويبدأ الماء بالتسرب إلى داخلها. وفي العادة فإن السفينة عندما تُخرق، ويبدأ الماء يتسرب، فإن الركاب في تلك اللحظات ينقسمون ـ في الغالب ـ إلى أربع فئات.

الفئة الأولى : تتظاهر وكأن الأمر لا يعنيها، رغم أنها غارقة إن غرقت السفينة. بل إن هذه الفئة من الركاب هي أول من سيغرق إن غرقت السفينة. وحجة هذه الفئة أن في السفينة ربانا وعمالا يتقاضون أجورا، ويتقاسمون خيرات السفينة، فيما بينهم. وأن على أولئك أن يسدوا لوحدهم أي ثقب يظهر في السفينة، ودون انتظار المساعدة ممن لا يتلقى راتبا، ولا يستفيد من خيرات السفينة. ودعونا نسمي هذه الفئة بعامة الركاب.

الفئة الثانية: وهذه تنقسم إلى مجموعتين اثنتين، تختلفان كثيرا في ظاهرهما، وتتطابقان في جوهرهما وباطنهما. وأمر هذه الفئة عجيب غريب. ويذكرني دائما بقصة رمزية تعبر عن حقد فظيع. إنها قصة رجلين كانا يركبان في سفينة، أحدهما في مقدمتها، وكان يعمل جاهدا لإسقاط الراكب الثاني الذي كان يوجد في مؤخرة السفينة. وعندما خُرقت سفينتهما، طلب الرجل الذي كان في المقدمة من الراكب الثاني مساعدته في سد الثقب، فلا يمكن أن يسد الثقب إلا إذا تعاون الراكبان. ولكن الراكب الثاني رفض المساعدة، لأن الثقب كان في مقدمة السفينة، مما يعني بأن مقدمة السفينة ستغرق قبل مؤخرتها. وهو ما يعني أيضا بأن الراكب الذي رفض المساعدة، لن يغرق إلا بعد أن يكون راكب المقدمة قد غرق. ومن شدة الحقد بين الرجلين، فإن الراكب الثاني فضل أن يموت غرقا بدلا من النجاة، مادام لن يموت غرقا إلا بعد أن يكون قد "تمتع" برؤية خصمه وهو يغرق مع مقدمة السفينة.

إن المجموعتين المكونتين للفئة الثانية، حالهما كحال الراكبين، بينهما حقد فظيع، ويتطور بشكل فظيع، ويهدد السفينة بشكل فظيع.

إحدى المجموعتين هي التي تقود السفينة، أما الثانية فتسعى لأن تحل محل المجموعة الأولى، وهي على استعداد لاستخدام كل الوسائل للوصول إلى زمرة القيادة. وأمر المجموعتين كأمر الراكبين عجيب، غريب. فالمجموعة التي تقود السفينة، شغلها حقدها وبغضها للمجموعة الثانية، عن قيادة السفينة بشكل سليم. وهذه المجموعة وفي إطار سعيها للقضاء على المجموعة الثانية، فإنها تحدث ثقوبا كثيرة في السفينة، ستؤدي إلى غرق السفينة بكاملها، إذا ما ظل البغض والحقد هو الذي يحكم علاقتها بالمجموعة الثانية.

والمجموعة الثانية تعمل بدورها لإحداث ثقوب جديدة، أو بتوسيع أي ثقب يظهر في السفينة، لسبب أو لآخر، وذلك لكي تعجل بغرقها . وهذه المجموعة كالراكب الثاني فهي ترحب بغرق السفينة في أي وقت، ما دام أول ما سيغرق في السفينة مقدمتها، حيث تتواجد المجموعة الأولى. مشكلة المجموعة الأولى والمجموعة الثانية بأنهما لا تستطيعان أن تفرقا بين المخاطر التي قد تضر المجموعة الخصم، وبين المخاطر التي يمكن أن تضر السفينة بكاملها. ولقد أصبحت هذه الفئة، بمجموعتيها الأولى والثانية هي أكبر خطر يهدد السفينة. فالمجموعتان، ونتيجة للحقد الفظيع الذي يحكم العلاقة بينهما، لم يعد لهما من عمل، إلا إحداث ثقوب في السفينة، أو توسيع ثقوب أخرى. وكلا المجموعتين تعتقدان بأنها ستضر المجموعة الخصم، بإحداث ثقوب جديدة، أو بتوسيع ثقوب قديمة، متجاهلة بأن فعلها ذلك، إنما يضر السفينة بكاملها، ويعمل على إغراقها، بمن فيها وبما فيها.

دعونا نسمي المجموعتين المكونتين للفئة الثانية بالسلطة والمعارضة.

الفئة الثالثة: وهذه كثيرا ما تُشغل ركاب السفينة عن سد أي ثقب يظهر في سفينتهم، بنقاشاتها، وصراخها، ومعاركها التي قد تعجل بغرق السفينة، بدلا من حمايتها من الغرق. وفي هذه الفئة من يقول بأن أي لعنة تصيب السفينة إنما هي بسبب المجموعة الأولى في الفئة الثانية. وفيهم من يقول بأنه ما حل بلاء في السفينة إلا وكانت وراءه المجموعة الثانية من الفئة الثانية. وفيهم من يحاول التلاعب بمشاعر ركاب الفئة الأولى، فيقوم بتجييش بعض عامة الركاب على بعضهم الآخر.

ومن النادر أن يركز أهل هذه الفئة، على الثقب نفسه، وإن حدث ذلك، فإنما يكتفون بتوزيع الأدوار على بقية الركاب، دون أن يقوموا هم بأي عمل ميداني لسد الثقب. فترى أحدهم يقول بأنه على السلطة أن تفعل كذا لسد الثقب، وعلى المعارضة أن تفعل كذا، وعلى عامة الركاب أن يفعلوا كذا. أما هو فلا يطلب من نفسه أن تفعل شيئا، لأنه يعتقد بأنه لم يخلق للأفعال، وإنما خُلِق للقول، وللقول فقط. دعونا نسمي هذه الفئة بنخب السفينة.

الفئة الرابعة: وهذه في العادة لا تتشكل إلا عندما تصبح في مرحلة يأس شبه كامل من الفئات الثلاث. وهي لا تتشكل إلا بعد أن يكون الثقب قد أصبح كبيرا، والسفينة قد أو شكت على الغرق، كما هو حال سفينتنا.

وهذه الفئة يبدأ عددها قليلا، ويتشكل في العادة من مجموعة أفراد منحدرين من الفئات الثلاث. وأول ما تقوم به هذه الفئة عندما يصبح الثقب كبيرا، كما هو حال ثقب سفينتنا، هو أن تتجه فورا إلى مكان الثقب لسده، بكل ما هو متاح لها، حتى وإن اضطرت لسده بأجسادها وبأرواحها وذلك لكي لا تغرق السفينة. وهذه الفئة تظل دائما جاهزة لسد أي ثقب، وذلك في انتظار أن يعود ركاب السفينة إلى رشدهم، ويتعاونون بشكل حقيقي على حماية سفينتهم من الغرق. وهم سيعودون حتما إلى رشدهم، طال الوقت أم قصر.

وهذه الفئة عندما تتقدم إلى الثقب بأعدادها القليلة، وبوسائلها المحدودة، إنما تريد بذلك أن تؤكد على ثلاثة أمور أساسية:

أولهما : أن التوجه بشكل مباشر إلى مكان الثقب في السفينة، ومحاولة سده، هو العمل الذي يجب أن يُفعل الآن، وقبل أي عمل آخر، وهذا من باب ترتيب الأولويات.

ثانيهما: أن مجرد ذهاب فئة قليلة بوسائل محدودة إلى ثقب كبير، هو أفضل ما يمكن فعله الآن لإشعار الفئات الأخرى، وخاصة منها من يمتلك الوسائل لذلك بأن عليه أن يفعل شيئا ما لسد الثقب المخيف.

ثالثهما: أنه لم يعد من الممكن، أن يظل الكل ينتقد الكل، وأن يظل الكل يحمل المسؤولية للكل، دون أن يفعل أي واحد من الكل، أي شيء من أجل سد الثقب الذي اتسع كثيرا، ولدرجة مخيفة. إن هذه الفئة تريد أن تخرج من عباءة الكل، ومن عقلية الكل. إنها تريد أن تواجه الثقب بعقلية جديدة، وبوسائل إبداعية تختلف عن الوسائل المعهودة. فلا يمكننا أن نواجه الأزمات بنفس الوسائل التي أنتجت تلك الأزمات. ولا يمكننا أن نواجه المخاطر التي تهدد الوحدة الوطنية بنفس الوسائل والعقليات التي أحدثت شرخا كبيرا في وحدتنا الوطنية.

دعونا نسمي هذه الفئة، بفئة اللحمة: لحمة السفينة أو اللحمة الوطنية.

ولكن ما ذا يمكن أن تفعل الآن فئة اللحمة؟

يمكنها، وهذا أقل ما يمكنها أن تفعله، أن تجمع ـ على الأقل ـ ثلاثين مواطنا، ومن الأفضل أن يكونوا شبابا ( 10 بيظان، 10 حراطين، 10 زنوج)، ويؤسفني أن أتحدث هكذا. وحديثي بهذه الطريقة إنما يدل على أن الثقب قد اتسع كثيرا، ولولا اتساعه لما تحدثت بهذه الطريقة المستهجنة والبائسة.

وعلى هذه المجموعة أن تتوزع على عشر ملتقيات طرق، تشهد زحمة كبيرة في الصباح، وذلك بمعدل ثلاثة عند كل ملتقى طرق (1 زنجي، 1حرطاني، 1 بيظاني) على أن يظهر البيظاني والحرطاني بالزي التقليدي للزنوج، بينما يظهر الزنجي بالزي التقليدي لمجتمع البيظان، أي لحراطين والبيظان معا.

وعلى الثلاثة أن يرفعوا معا لافتة مكتوب عليها: دين واحد، وطن واحد، شعب واحد، مستقبل واحد. على أن تستمر الوقفة الصامتة، والتي تركز على الصورة أكثر من الكلام، لمدة ساعتين على الأقل، من الثامنة صباحا وحتى العاشرة.

وعلى المشاركين في هذه الوقفة أن لا يتحدثوا بأي شيء، فركاب السفينة قد ملوا من الكلام. وإنما عليهم أن يكتفوا في "يوم اللحمة الوطنية" بتقديم تلك الصورة الرائعة، في أكبر عدد ممكن من ملتقيات الطرق، حتى يشاهدها أكبر عدد ممكن من المواطنين. وبالتأكيد فإن أي مواطن عندما يشاهد تلك الصورة الرائعة، في أكثر من ملتقى طرق، فإن ذلك سيبعث في نفسه أملا. وسيؤكد له بأنه لا يزال من الممكن أن تشاهد صور ايجابية في هذا البلد، حتى ولو ظهرت وسط عشرات الصور السلبية.

وبالنسبة لي شخصيا، فقد قررت أن ألتحق بفريق اللحمة الوطنية، وأن أشارك في "يوم اللحمة الوطنية"، وأن أخرج يوم الأحد 30 أكتوبر من الساعة الثامنة صباحا، وحتى الساعة العاشرة. وسألبس في ذلك اليوم ثوبا إفريقيا تقليديا، وسأرفع لافتتي عند واحد من ملتقيات الطرق الشهيرة، حتى ولو كنت وحيدا. لن أبخل على الوحدة الوطنية بساعتين تحت الشمس.

لن أبخل عليها بساعتين...

تصبحون وأنتم من "فريق اللحمة"...


الأحد، 9 أكتوبر 2011

يوميات شخص عادي جدا (3)

غمرتني سعادة عارمة، عندما علمت أن والدي رحمه الله تعالى، قد اعتذر للمعلم "المشكلة"، ولم يسمح له بتحويلي معه إلى مدرسته الجديدة. ولم أكن أنا الوحيد الذي غمرته السعادة، في منتصف ذلك العام الدراسي، بل إن كل تلاميذ مدرستنا غمرتهم تلك السعادة العارمة. ولم تكن المشاكل الصغيرة، التي كانت تواجهنا كتلاميذ من حين لآخر، قادرة على أن تسلبنا، ولو شيئا قليلا، من تلك السعادة العارمة، التي غمرت مدرستنا، بعد أن تأكد لنا خبر تحويل المعلم "المشكلة" إلى مدرسة أخرى.

وفي ذلك العام الدراسي، حافظت ـ كالعادة ـ على الرقم الأول في امتحانات الفصول الثلاثة. ولقد استطعت أن احتكر ذلك الرقم، في كل امتحانات المرحلة الابتدائية، إلا في حالات نادرة جدا، كنت أهبط فيها إلى الرقم الثاني. وفي تلك الحالات النادرة جدا، كنت أدعي دائما بأن المعلم أخذ مني نقاطا، وأعطاها للتلميذ الذي تمكن من التفوق في الامتحان الذي فشلت أنا في أن أسجل فيه الرتبة الأولى.

وفي بداية الصف الثالث، عرفت أنماطا جديدة من التعذيب، على يد معلم جديد، توترت العلاقة بيني وبينه، منذ الأيام الأولى التي تعارفنا فيها، بعد افتتاح السنة الدراسية 1975ـ 1976.

كان من عادة المعلم الذي تم اختياره لتدريسنا في الصف الثالث، أن ينتقل بنا من واجب في تحسين الخط، إلى واجب آخر في تحسين الخط. وهذا الاهتمام الزائد من طرف معلمنا الجديد بتحسين الخط، هو الذي دفعني ذات مرة، لأن أقول له : ـ سيدي، إننا نريد أن نتعلم شيئا آخر، غير تحسين الخط.

لم تكن لديَّ مشكلة شخصية مع تحسين الخط، بل على العكس، فقد كنت من أحسن تلاميذ مدرستنا خطا، ومن أروعهم رسوما. ولكن في تلك الفترة من أعمارنا، كنا نعتقد بأن التلميذ الفاشل هو الذي يكون خطه حسنا، وتكون رسومه رائعة، ولا أدري من أين جئنا بتلك الخرافة. المهم أن تلك الخرافة، كانت من بين أمور أخرى، أدت إلى ندرة امتهان الخط والرسم لدى جيلنا. والمؤكد أني لم أكن أنا الموهوب الوحيد في الخط والرسم، الذي أضاع موهبته تلك، مخافة أن يعد من التلاميذ الفاشلين.

بعد تلك الملاحظة، بدأت أشعر بأن "معلم تحسين الخط"، أصبح يوليني عناية خاصة، كلما كانت هناك عقوبة جماعية للفصل. وأنه كان يخصني بتمييز إيجابي عند توزيع تلك العقوبة على تلاميذ الفصل. كما لاحظت أنه كان يختارني دائما كمشتبه وكمذنب دائم، عندما تسجل في فصلنا عملية تشويش ضد مجهول. كان يتم اختياري بشكل تلقائي، كلما تعذر ـ لسبب أو لآخر ـ تحديد مصدر أي عملية تشويش، تحدث في الفصل. والحقيقة أن "معلم تحسين الخط" لم يكن الوحيد الذي يعتبرني مجرما دائما، أستحق العقوبة على أي جريمة تحدث في الفصل، ويتعذر تحديد مرتكبها. فهناك معلمون آخرون كانوا يعتبرونني كذلك، رغم أني كنت أنتمي إلى قلة مشاغبة لم تكن تبذل جهدا كبيرا لإخفاء شغبها، أو للتستر على حماقاتها.

وكان من أفظع عقوبات "معلم تحسين الخط" أنه كان لديه سطل من حديد، يملأه بالتراب المبلل، ويضعه على رأس التلميذ المعاقب، والذي يجب عليه ـ حسب نص العقوبة ـ أن يستمر في الانتقال السريع، من الجثو على الركبتين، إلى الوقوف على القدمين.

وكانت عملية الانتقال تلك تسبب عناءً ومشقة لا يمكن وصفهما. وكان أقوى التلاميذ بنية جسدية، وأقدرهم على التحمل، لا يستطيع أن يواصل عملية الوقوف والجثو عشر مرات متواصلة. وفي العادة، فقد كان العرق يسيل من جسد التلميذ المعاقب، ابتداءً من الوقفة الرابعة، أو الخامسة. في حين أن الانهيار والسقوط الكامل يبدأ مع الوقفة الثامنة أو التاسعة، حسب البنية الجسدية للتلميذ المعاقب، وحسب قدرته على التحمل.

لقد حملت السطل في ذلك العام، عدة مرات. وكنت من أكثر تلاميذ الفصل حملا له، لدرجة أن ركبتيَّ بدأت تنتشر فيهما القروح من كثرة الجثو عليهما. فلم تكن أرضية الفصل مبلطة، بل كانت عبارة عن خليط من التراب والحجارة الصغيرة، لذلك فقد كان الجثو عليها عملية مؤلمة جدا، خاصة إذا ما كان الرأس يحمل سطلا مملوءا بالتراب المبلل.

ولم يكن من عادتي، أن أتحدث في المنزل عما أتعرض له في الفصل من عقوبات، لأن ذلك لم يكن من شيم "الرجولة". كما أني أيضا كنت أخاف من أن يتسبب الحديث عن تلك العقوبات، في عقوبة إضافية في المنزل، انتصارا للمعلم في المدرسة. لم أحدث الأهل عن السطل، ولاعن معاناتي معه، إلا بعد أن اكتشفوا هم القروح على رُكَبي. وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة، التي ينتصر لي فيها والدي رحمه الله، ويذهب معي إلى المدرسة ليطلب من المعلم أن يتوقف عن عقابي بهذا الشكل البشع والفظيع.

وتوقفت عقوبة حمل السطل عني في ذلك العام، وفرحت لذلك فرحا شديدا، لا يقل عن فرحتي بتحويل المعلم "المشكلة". وفي ذلك العام كان يدرسنا معلم للفرنسية، كان رحيما بي، وكان يدللني كثيرا، ولم يحدث أن ضربني إلا مرة واحدة، وكان ذلك خلال آخر مرة أحمل فيها سطلا،من قبل تدخل والدي رحمه الله تعالى.

فقد حدث أن زارنا في الفصل، معلم الفرنسية، أثناء حصة معلم العربية، بحثا عن طباشير فيما أعتقد، فوجدني في حالة يرثى لها. كنت أقف وأجثو بصعوبة كبيرة، وكان العرق قد بدأ يسيل من كل جسدي، موذنا بأن لحظة حدوث الانهيار الجسدي والنفسي قد أصبحت وشيكة جدا.

في تلك اللحظة العصيبة، والتي تمثل ذروة الألم والمعاناة، بالنسبة لحاملي السطل، فوجئت بمعلم الفرنسية يركلني ركلة قوية على الظهر.

وقد شكلت ركلة معلم الفرنسية، والذي كان يلقبه التلاميذ ـ باستثنائي ـ بالمعلم "المسحور"، مفاجأة كبيرة لي، ولكل تلاميذ الفصل. فهو كان يُعرف بأنه كان يدللني كثيرا، وكان يلقبني ب: "Le petit Mohamed". وكان يخصني بما يفضل عنه من أي شراب، يأتيه أثناء الحصة، من إحدى الأسر المجاورة للمدرسة. بل إنه كان يزورنا في المنزل، وكان يُحدث الأهل عن ذكائي، وعن خلقي، وعن احترامي المميز للمعلمين!!!

بعد تلك الركلة المفاجئة، التفت معلم الفرنسية إلى "معلم تحسين الخط"، وطلب منه أن يسمح له بأن يأخذني معه، لكي يعاقبني عقابا شديدا، حتى لا أشوش مرة أخرى، أثناء حصة العربية في الفصل.

وسمح لي "معلم تحسين الخط" بمرافقة معلم الفرنسية.

خارج الفصل، طلب مني معلم الفرنسية، أن أعود إلى الفصل وأنا أبكي، وأن أهرب إلى مقعدي عند العودة إلى الفصل، وأن أتظاهر بأني أهرب لأتجنب المزيد من ركلاته ولكماته التمثيلية. وقال لي بأن تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن له استخدامها لإنقاذي من حمل السطل، في ذلك اليوم الذي حملت فيه لآخر مرة، سطل "معلم تحسين الخط".

ونجحت الخطة، وتمنيت بعد ذلك أن أقابل السيد "لامين جوب" معلمنا للفرنسية، الذي اختفى عنا منذ ذلك العام الدراسي، ولا زلت حتى يومنا هذا أتمنى لقاءه، إن كان لا يزال حيا، حتى أشكره على ذلك الموقف الإنساني العظيم، وعلى غيره من المواقف الكثيرة التي وقفها معي، في "عام حمل السطل".

وفي الصف الرابع، تعرفت على معلم جديد، لقبناه بالمعلم "الملاكم". وكان ذلك المعلم يتصرف مع التلاميذ وكأنه ملاكم، فكان يوجه لكمات قوية إلى الوجه خاصة، في كل عقوبة نفذها، وما أكثر العقوبات التي نفذها في "عام اللكمات".

وفي ذلك العام، كثرت عمليات التشويش والفوضى التي كان يقوم بها تلاميذ مجهولون. وبفضل وجودي في الفصل، فلم يكن ليغلق ملف أي عملية تشويش، ويسجل ضد مجهول. الشيء الذي جعلني أتعرض في ذلك العام، لعدد هائل من العقوبات، بسبب جرائم لم أرتكبها، ولا أعرف لحد اليوم من الذي ارتكبها.

ومن بين تلك العقوبات، أتذكر أني أتيت يوما إلى الفصل متأخرا بدقائق، بعد بدء الحصة المسائية. فاستقبلني "المعلم الملاكم"بلكمات قوية على الوجه، تسببت في إراقة دم كثير، سال من فمي وأنفي. وقد قال "المعلم الملاكم" في ذلك اليوم، بأنه لن يقبل أن أخدعه بتأخري، والذي أحاول من خلاله أن أغطي على جريمتي النكراء، والتي تتمثل في رسم مشين وغير لائق، رسمته على السبورة، حسب "المعلم الملاكم"، بعد انتهاء الحصة الصباحية، ومغادرة التلاميذ للفصل، وكتبت تحت الرسم، هذه صورة معلمنا.

والحقيقة أني لم أرسم تلك الصورة، بل إني حتى الآن لا أعرف أي التلاميذ رسمها. ولقد حدث أن قابلت أحد زملائي في الفصل، بعد فراق دام عقودا طويلة، وهذا الزميل كنت أعتقد آنذاك بأنه هو الذي رسم تلك الصورة، فالخط المستخدم في الكتابة كان يشبه خطه. سألت زميلي في ذلك اللقاء، إن كان هو الذي رسم تلك الصورة المشؤومة؟ فإذا به يفاجئني بالقول بأنه قد نسي تماما تلك الحادثة العظيمة، ولم يعد يذكرها، ولا يذكر الآن إن كان هو الذي رسم تلك الصورة أم لا!؟

وفي ذلك اليوم، قررت أن أشكو للإدارة الجهوية للتعليم من "المعلم الملاكم"،الذي عاقبني عقابا شديدا، على صورة لم أرسمها. ورفضت في ذلك اليوم ـ الذي سيكون له ما بعده ـ أن أزيل عن وجهي الدماء التي كانت تغطيه، من قبل أن يراها المدير الجهوي. وكنا في ذلك الوقت قد بدأنا نسمع، من مصادر غير موثوق فيها، بأن الضرب المبرح للتلاميذ، يعد جريمة تستحق العقاب.

وفي طريقي إلى الإدارة الجهوية، والتي كانت تبعد عن مدرستنا، أربعة كيلومترات تنقص أو تزيد قليلا، صادفت بعض نساء الحي، اللاتي أجبرنني على العودة معهن إلى المنزل، من قبل أن أوصل مظلمتي إلى الإدارة الجهوية.

وبعد ذلك بمدة، شعرت ذات مساء بحمى شديدة، أثناء حصة دراسية مع "معلمنا الملاكم"، فما كان مني إلا أن تقدمت بأدب جم إلى "المعلم الملاكم"، وطلبت منه أن يأذن لي بالذهاب إلى المنزل، لأني بحاجة عاجلة للعلاج من الحمى الشديدة، التي كنت أعاني منها، في ذلك المساء.

لم يكلف "المعلم الملاكم" نفسه أن يتحقق من صحة مرضي، وبخل عليَّ بلمس وجهي، ولو لمرة واحدة، بيد غير مقبوضة، وغير مصحوبة بلكمة قوية. واكتفى بأن قال لي:

ـ عد إلى مكانك..فأنا أعرف حيلك.

عدت إلى مكاني، وبدأت أشعر برغبة شديدة في الغثيان. ولم تكد تمر دقائق على عودتي إلى مكاني، حتى بدأت أشعر بأني سأتقيأ في الفصل، إن لم أخرج وبشكل سريع إلى ساحة المدرسة.

في تلك اللحظات الحرجة، خطرت ببالي فكرة عظيمة، هكذا دائما تأتي الأفكار العظيمة، تأتي في أوقات غير مألوفة، وغير طبيعية.

لقد عزمت بعد حادثة الصورة المشؤومة، وبعد فشلي في إيصال شكوايَ إلى الإدارة الجهوية، على أن أنتقم من "المعلم الملاكم"، انتقام "رجل" من رجل، حيث تتم عملية الانتقام، وجها لوجه، وأمام تلاميذ الفصل، وفي وضح النهار.

ولقد انتظرت كثيرا أن تأتي الفرصة المناسبة للانتقام، وها هي قد أتت.

إن أعظم لحظات الانتصار، هي تلك التي نسجلها ضد خصمنا، عندما نشعر بأننا نمر بلحظة ضعف قوية، ويكون خصمنا يشعر بأنه يمر بلحظة قوة.

ففي ذلك المساء، كنت أشعر بضعف شديد، فقد كنت أعاني من حمى فظيعة، وقد رفض المعلم "الملاكم" أن يسمح لي بالذهاب إلى أهلي للعلاج. بينما كان "المعلم الملاكم" يشعر بالقوة، فالفصل كله كان تحت السيطرة، ولم يكن هناك أي تلميذ يتجرأ على أن يقطع ذلك الصمت الرهيب، الذي خيم على فصلنا، في تلك اللحظات، التي كان فيها معلمنا "الملاكم" يتصفح دفاتر الواجبات، دفترا تلو دفتر.

كنت أشعر بأن الفرصة المتاحة أمامي الآن، قد لا تتكرر أبدا. وأنه عليَّ أن أستغل هذه اللحظة الحرجة، وأوجه للمعلم "الملاكم" الضربة القاضية، انتقاما من عقوبته الظالمة التي عاقبني بها على صورة لم أرسمها، ولا أعرف من رسمها.

كان عليَّ في تلك اللحظات أن أكون "رجلا"، حتى ولو كانت حقيقتي تقول بأني مجرد تلميذ بائس، يعاني من حمى شديدة، ويكاد يتقيأ في الفصل، مما يعني بأني سأتعرض للسخرية من تلاميذ الفصل في الأيام القادمة.

في تلك اللحظات الحرجة، كان بإمكاني أن أتحول إلى "رجل" يحترمه التلاميذ، وكان بإمكاني أيضا أن أتحول إلى مصدر سخرية للتلاميذ. وكان عليَّ أن اختار وبسرعة، أي الحالتين أريد أن أكون. فكان عليَّ أن أحدد أين سأتقيأ، لأن تحديد ذلك المكان، هو الذي سيرفعني إلى رتبة الرجال، أو يهبط بي إلى زمرة التلاميذ المنبوذين، الذين يسخر منهم زملاؤهم، في كل حين.

أقنعت نفسي بأنه بإمكاني أن أكون "رجلا"، وبإمكاني أن أجعل من ضعفي قوة عاتية، وأن أحوله إلى سلاح فتاك. وأقنعتها بأني لو استخدمت ضعفي بشكل ذكي، فإني لا محالة سأكسب المعركة، التي كنت أخطط لها في ذلك المساء المثير.

وما أروع أن ينتصر تلميذ بائس، يعاني من حمى شديدة، يكاد يتقيأ في الفصل،على "المعلم الملاكم"، وبالضربة القاضية.

صحيح أن السلاح الذي سأستخدمه لتوجيه الضربة القاضية، لن يكون سلاحا نظيفا. ولكن لا مشكلة، فالأسلحة المستخدمة في الحروب كلها، ليس فيها أي سلاح نظيف، حتى ولو كانت في ظاهرها أسلحة نظيفة. ثم إنه ليس من العدل أن يُطلب من تلميذ يعاني من حمى شديدة، أن لا يستخدم إلا الأسلحة النظيفة، في مواجهة "معلم ملاكم"، يملك من العتاد والأسلحة الشيء الكثير.

تركت طاولتي، واتجهت إلى "المعلم الملاكم" لتوجيه الضربة القاضية. ولقد حاولت أن أتحرك بهدوء، حتى لا اقطع الصمت الرهيب الذي كان يخيم على الفصل. كنت أريد أن أباغت "المعلم الملاكم" حتى تكون الضربة قاضية فعلا.

وعندما أصبحت بجوار طاولة "المعلم الملاكم"، أخذت أتقيأ، ولم أتمكن ـ بفعل الحمى ـ من الاحتفاظ بما في بطني، حتى أكون فوق رأس "المعلم الملاكم"، لأفرغ على رأسه كل ما في بطني، كما كان مرسوما في الخطة الانتقامية. ولكن مع ذلك تمكنت من أن أتقيأ على بعض دفاتر الواجبات، وعلى كم دراعة معلمنا "الملاكم"، وعلى جزء كبير من سطح طاولته، التي يجلس خلفها.

أخذ "المعلم الملاكم" يسب ويشتم ويصرخ، ولكنه في النهاية لم يستطع أن يوجه لي،هذه المرة، لكمات على الوجه، عقابا على جريمة ارتكبتها مع سبق الإصرار والترصد، رغم أنه كان كثيرا ما يوجه لي لكمات على جرائم لم أقترفها. لم يكن "معلمنا الملاكم" قاسيا لدرجة أن يوجه لكمات لتلميذ مريض، أصبح واضحا للجميع أنه يعاني من حمى فظيعة. ولم يكن رحيما لدرجة يسكت فيها عن جريمة ارتكبها تلميذ يعاني من حمى شديدة، ويكاد ـ لولا العناد ـ أن يسقط مغشيا عليه من شدة الحمى.

وكان ذلك الارتباك الذي بدا على "المعلم الملاكم"، في تلك اللحظات الرائعة، هو أكبر دليل على أن عملية الانتقام لم تفشل تماما.

كانت الحمى قد وصلت إلى درجة لا تطاق، وكنت في تلك اللحظات أكاد أسقط مغشيا عليَّ من شدتها. ولكن كان عليَّ أن أقاوم، وأن أظل واقفا. كان عليَّ أن أكون "رجلا" في تلك اللحظات، والرجال لا يغشى عليهم عندما يكونون وجها لوجه مع خصومهم. ولم يكن من المناسب أن أضيع تلك اللحظة، ولا أن لا أتلذذ بلحظة انتصار انتظرتها طويلا. وكان عليَّ أن لا أسمح للحمى ـ مهما كانت قسوتها ـ بأن تحرمني من أن أتمتع برؤية "المعلم الملاكم" وهو مرتبك، حائر، لا يعرف كيف يتصرف داخل الفصل.

إنه حقا لمشهد رائع، يستحق مني أن أقاوم الحمى بقوة، وأن لا استسلم لها، حتى أسجل كل تفاصيله الصغيرة، قبل الكبيرة.

بعد تلك العملية الانتقامية، شعرت بأني لم أعد طفلا، فالأطفال لا يمكنهم أن يجمعوا بين نشوة الانتصار وآلام الحمى في وقت واحد. وفي ذلك المساء استطعت أن أجمع بين النشوة والألم، ولم أسمح للحمى أن تسلبني مثقال ذرة من نشوة الانتصار على "المعلم الملاكم".

ـ سيدي هل أعود إلى مكاني أم أذهب إلى المنزل للعلاج؟

نطقت بتلك الكلمات، ليست استجداءً، ولا طلبا للإذن من "المعلم الملاكم"، الذي كان واضحا أنه فقد زمام المبادرة في تلك اللحظات الرائعة. وإنما نطقت بها لأزيد من ارتباكه، ولأظهر ذلك الارتباك لتلاميذ الفصل.

ولم يجبني "المعلم الملاكم"، حتى اليوم، فهو لم يطلب مني أن أعود إلى مكاني في الفصل، ولم يأذن لي بالذهاب إلى المنزل.

تصبحون على الحلقة الرابعة من الرواية...