ما يجري في مالي اليوم يتجاوز حدودها ليشكّل أزمة إقليمية ذات تداعيات خطيرة ومباشرة على موريتانيا وبقية جيران مالي. الأزمة معقدة ومركبة، تتداخل فيها الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والدينية، مما يجعل التعامل معها تحديًا استثنائيا.
الخيار الصعب: بين خطورة التدخل وضرورته!
من حيث المبدأ، لا يمكن لموريتانيا أن تخاطر بتدخل عسكري مباشر داخل الأراضي المالية، فذلك يتناقض مع مبادئ السيادة، ومخاطره متعددة، ويجب أن يبقى التدخل العسكري خطا أحمر دائما، وفي كل الظروف، لكن في المقابل، ليس من المقبول أيضا أن تقف الدولة مكتوفة الأيادي أمام تهديد يطال شيخ الطريقة الحموية محمدو ولد الشيخ حماه الله، والتي هي طريقة لها مكانتها الرمزية وأتباعها الكثر في موريتانيا. فالقضية هنا لا تتعلق بتهديد شخص مع أهمية هذا الشخص، وإنما تتعلق بتهديد شيخ طريقة تشكل جزءا من الامتداد الروحي والثقافي والاجتماعي لموريتانيا في فضائها الإقليمي.
خطوة وقائية عاجلة
أول ما يجب التفكير فيه هو إخراج شيخ الطريقة الحموية مع بعض أتباعه من الأراضي المالية، بشكل مؤقت، حتى تتضح مآلات الوضع، والقرار يجب أن يتخذه الشيخ الذي ما زال يرفض الخروج من مالي حسب ما يتم تداوله إعلاميا.
خروج الشيخ من مالي يعد خطوة ضرورية لحمايته شخصيا، ولحماية محيطه من أي مواجهات محتملة، كما أنها تمنح وقتا له وللدولة الموريتانية لتقدير الموقف وصياغة سياسة متوازنة. أظن أن قرار الخروج يجب أن يتخذه الشيخ محمدو في أسرع وقت ممكن.
الخلاف بين المتصوفين والسلفيين وقود إضافي للأزمة
أزمة مدينة انيور الحالية ليست أزمة أمنية فقط مرتبطة بالحركات المسلحة، وإنما هي أيضا أزمة دينية تذكي الصراع والخلاف بين الحركات السلفية والطرق الصوفية، ومما يزيد الأمر تعقيدا هو تزامنها مع ذكرى المولد النبوي الشريف حيث تعتبره االطرق الصوفية عيدا يجب تخليده والاحتفال به، بينما يعتبر بعض السلفيين الاحتفال به بدعة بل وكفر وضلال مبين.
هذا الخلاف لا يمكن التقليل من شأنه، عند الحديث عما يجري حاليا من حصار لمدينة انيور، خاصة وأن من يحاصر المدينة حاليا كان قد اختطف وقتل شيخا متصوفا في وقت سابق.
بالنسبة لنا في موريتانيا، هناك ثلاثة دروس أساسية ينبغي استخلاصها من المشهد المالي:
1. أولوية الوقاية: منع امتداد الفوضى التي أصبحت على حدودنا من الوصول إلى الأراضي الموريتانية، وذلك عبر تعزيز الرقابة الحدودية وتكثيف التعاون الاستخباراتي.
2. حماية شيخ الطريقة الحموية: فحماية الشيخ محمدو تدخل في إطار الأمن القومي لموريتانيا، لأن استهدافه يعني استهداف طريقة صوفية لها حضورها وتعتبر جزءا من النسيج الاجتماعي والديني في موريتانيا.
3. توازن العلاقات: الحفاظ على علاقة جيدة مع الحكومة المالية القائمة، مع الانفتاح على الأطراف الفاعلة الأخرى، لضمان لعب دور وساطة محتمل إذا ما نضجت الظروف لذلك.
ففي ضوء المشهد الحالي في مالي وتعقيداته المتشعبة، فربما تكون موريتانيا مدعوة ـ أكثر من غيرها ـ لطرح مبادرة إقليمية لحل الأزمة في مالي.
ختاما: الأزمة المالية ليست أزمة مالي وحدها؛ إنها أزمة جوارنا الإقليمي كله. وموريتانيا، بحكم التاريخ والجغرافيا والروابط الروحية، لا تستطيع أن تنأى بنفسها عنها. الخيار الصائب ليس في التدخل العسكري، ولا في الوقوف موقف المتفرج، وإنما في الجمع بين الحذر الدبلوماسي، واليقظة الأمنية، وحماية الموريتانيين كل الموريتانيين في مالي وعلى رأسهم الشيخ محمدو، ويستدعي ذلك تشكيل خلية أزمة أو لجنة وزارية ( الدفاع، الداخلية، الخارجية) تتابع ما يجري على الحدود يوميا، وتتخذ الإجراءات المناسبة في الوقت المناسب.
---
في ظل هذه التعقيدات البالغة الخطورة على حدودنا الشرقية ما تزال نخب التشظي منشغلة بنقاش لا يفيد حول بعض الهويات الضيقة.
حفظ الله موريتانيا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق