السبت، 23 يناير 2010

بطاقة لاغية / ورقة خاصة بندوة الحكامة


تخيلت أنه قد وصلتني ـ عن طريق الخطأ ـ بطاقة دعوة من بين البطاقات الثمانمائة التي تكفل أمين عام وزارة الإسكان ـ بصفته الحزبية ـ بتوزيعها على كل من يهمه مستقبل هذا البلد. تخيلت ذلك، لأني موقن بأنه لا يوجد عمل بشري كامل، فقد يخطئ الأمين العام لوزارة الإسكان وتضيع عليه ـ على الأقل ـ بطاقة دعوة، وقد تقع تلك البطاقة الضائعة في يدي.
ثم تخيلت بعد ذلك بأني ألقيت كلمة ـ بوصفي مدعوا عن طريق الخطأ ـ في ندوة " أية حكامة نريد بعد خمسين سنة؟"
وتخيلت أني قلت :
أيها الحاضرون بأجسادهم والغائبون بعقولهم ... أيتها الحاضرات الغائبات ( هذه الفئة تمثل نسبة هامة من الحضور).
أيها الحاضرون بأجسادهم والحاضرون بعقولهم ... أيتها الحاضرات الحاضرات (هذه الفئة تمثل أقلية في القاعة).
أيها الغائبون بأجسادهم الحاضرون بعقولهم ... أيتها الغائبات الحاضرات (هذه تمثل نسبة ليست بالقليلة من الغائبين).
أيها الغائبون بأجسادهم الغائبون بعقولهم ... أيتها الغائبات الغائبات ( هذه الفئة تمثل أغلبية الغائبين).
حدث هرج ومرج كبير بعد تلك الكلمات، وتخيلت أني سمعت أكثر من في القاعة يطالب بإخراجي أو إسكاتي على الأقل. ثم تخيلت بعد ذلك أن أستاذي الذي أقدره كثيرا ( رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية ) تدخل عندما تذكرني ـ رغم مرور ما يزيد على عقدين من الزمن على آخر لقاء ـ و طلب من الحضور أن يسمحوا لي بالمواصلة، ثم طلب مني في المقابل أن أكون أكثر جدية في حديثي.
من حسن حظي أن رئيس الحزب الحاكم الحالي هو أستاذي للاقتصاد المالي في جامعة نواكشوط ، كما أن رئيس الحزب الحاكم السابق (عادل ) هو أستاذي للتخطيط ، وربما يكون رئيس الحزب الذي سيحكم مستقبلا هو أستاذي أيضا.
استجبت لأستاذي رغم أني كنت أود من خلال تلك التصنيفات التي أغضبت بعض المدعوين أن أثير نقطة هامة وأساسية، تتمثل في أن هناك أصنافا من الناس يتكرر حضورها الجسدي لكل ندوة أو نقاش دون أن تكون لها القدرة على تقديم أي شيء مفيد. في الوقت الذي تحرم فيه مجموعات أخرى من الحضور كان بإمكانها أن تثري النقاش، لذلك فأنا أعتقد بأن أول ما علينا فعله، هو أن لا نجامل في الدعوات عندما يتعلق الأمر بنقاش قضايا هامة ومعقدة كما هو الحال بموضوع ندوة الأغلبية.
المهم أني بدأت في قراءة الورقة التخيلية التي أعددتها بشكل سريع بسبب تأخري في تخيل إمكانية المشاركة. كانت الورقة مملوءة بالكلام المر الذي وجدت من الضروري أن يشاركني المؤتمرون في تجرع مرارته.
أولا عن أزمة مواطنة : هناك سؤال يؤرقني دائما سأطرحه على المؤتمرين عسى أن أجد فيهم من يجيبني : فمن نحن؟ وما هو الموريتاني؟ فهل نحن مجموعات من القبائل المتصارعة والتي كان قدرها أن تعيش على أرض واحدة ؟ أم نحن مجموعة من العبيد التي يحق لها أن تتحالف مع الشيطان لكي يحررها من البربر الظالمين المتوحشين ؟ أم هل نحن مجموعة من الزنوج التي تسعى لتأسيس دولة زنجية على الضفة الثانية من النهر ؟ أم هل نحن عرب عاربة أو مستعربة ؟ هل نحن صحراويون ثوار؟ أم نحن مغاربة ملكيون ؟ أم ليبيون أمميون ؟ أم مصريون ناصريون ؟ أم بعثيون عراقيون أو سوريون ؟ أم أننا لسنا عبيدا، ولسنا زنوجا، ولسنا عربا، وإنما نحن لاتينيون كوبيون وثوار جيفاريون ؟ أم أننا على النقيض من ذلك كله، فنحن إسلاميون تبليغيون لا يهمنا ما يدور في البلد من أحداث سياسية ؟ أم أننا عكس ذلك، إسلاميون غارقون في السياسة حتى التراقي ؟ يهتم بعضنا بما يدور في أطراف العالم الإسلامي أكثر من اهتمامه بما يدور على هذه الأرض المسلمة. ولماذا نحن نقبل ـ وهذا هو السؤال الذي يحيرني دائما ـ أن نكون كل شيء ولا نرفض إلا شيئا واحدا، وهو أن نكون موريتانيين ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ هذه ليست دعوة للقطرية الضيقة، وإنما هي دعوة لإعادة صياغة ترتيب الولاءات مع تخيل وجود بلد يستحق علينا واجبات ـ على الأقل ـ مقابل الإقامة فيه.
فمن المؤسف حقا أن أزمة الهوية والمواطنة في هذا البلد، هي أزمة نخبة، قبل أن تكون أزمة عامة. فهناك من النخبة من لا يهمه ـ إطلاقا ـ ما يحدث في هذا البلد الغارق في الأزمات، والذي لا تتركه مصيبة إلا لتسلمه لمصيبة أكبر. ولا تنقشع عنه أزمة إلا بعد أن تكون نذر أزمة أكبر قد بدأت تلوح في الأفق.
وهناك في هذا البلد من لا يكتب ـ رغم شوق القراء لما يكتب ـ إلا إذا أسيء إلى شقيق مجاور، وهناك من لا يكتب ولا يهتم إلا بذكرى ميلاد الزعيم ،أو بذكرى وفاة الزعيم الآخر، أو بذكرى استشهاد الزعيم الثالث، أو بذكرى ثورة الزعيم الرابع، أما غير ذلك من الأحداث فهو تافه لا يهم. ولا يستحق أن نكتب أو نتحدث عنه. حتى ولو تعلق الأمر بأحداث جسام تكاد تعصف "بالبلد الثاني" الذي يحمل ذلك "الموريتاني" جنسيته.
وكثيرا ما يساء إلى هذا البلد دون أن يجد من أبنائه من يرد على تلك الإساءة (هذا إذا ما استثنينا قلة قلية جدا من أبنائه ) وذلك في الوقت الذي توجد فيه كتائب، وطوائف، وميليشيات جاهزة، أو مجهزة، لكل منها خط أحمر، لا يمكن التحدث عنه . فتارة يكون ذلك الخط الأحمر أشقاء يطالبون بالاستقلال ، وتارة يكون زعيما عربيا توفي منذ عقود من الزمن، وتارة يكون رئيسا شهيدا، وتارة يكون زعيما عربيا لم يزل يحكم، وتارة يكون ذلك الخط الأحمر رمزا محليا لشريحة ما، أو لحزب ما، أو لحركة ما.
شيء واحد مستباح ولا توضع أمامه الخطوط الحمراء ولا حتى الصفراء: إنه موريتانيا وسيادتها ورموزها.
فمن المؤسف أنه في هذا البلد يوجد من يقدس بعض الرؤساء العرب، ولا يسمح بالتحدث عنهم، ومع ذلك فهو يصف رئيس موريتانيا بالحاكم العسكري ويصفه بألفاظ لا تليق. إن رئيس موريتانيا ـ للتذكير ـ هو أكثر الرؤساء العرب على الإطلاق شرعية منذ الانتخابات الرئاسية الماضية، شئنا ذلك أم أبينا. وهو الرئيس العربي الوحيد ـ أقول الوحيد، ثم أكرر الوحيد ـ الذي يمكن للمواطن أن ينتقده ـ سرا وعلانية ـ وينام بعد ذلك قرير العين . (مأساة حنفي التي كانت تشكل استثناء قد تعرف فرجا قريبا، فالرئيس تعهد بأنه سيأخذ بعين الاعتبار توصيات الندوة). وهذا الكلام لا يعني بأي حال من الأحوال أن لا ننتقد الرئيس، بل يجب علينا أن ننتقده، ولكن بوصفه رئيسا للجمهورية، إن كنا حقا نحترم هذا البلد الذي نعيش فيه .والذي يعتبر الرئيس رمزا من رموزه . ولمن سيزايد هنا فليقرأ : " الرئيس على الخط " أو "جحيم خمس نجوم" أو " تأملات في اللاشيء " .....ثم بعد ذلك فليزايد كما شاء. وهنا أغلق القوس الذي فتحته دون إشعار.
ومشكلتنا التي يجب علينا أن نتحدث عنها بشكل صريح هي أننا وطن يتشكل من عدة أوطان وعدة أعراق وعدة وإيدولجيات ...ومشكلتنا هي أننا من أقل بلدان العالم وطنية ( ولو كان هناك مقياس دولي للوطنية لكنا في أسفل اللائحة كما هو حالنا مع القضاء على الفقر والأمية والرشوة) ومشكلتنا أنه يوجد في هذا البلد ما يزيد على ثلاثة ملايين مواطن موريتاني بالبطاقة ، ولا يوجد فيه إلا قلة ممن هم موريتانيون بالشعور وبالانتماء وممن هم قادرون أن يجعلوا ولاءهم للوطن فوق أي ولاء آخر، سواء كان ذلك الولاء للقبيلة، أو للشريحة، أو للايدولوجيا، أو للحزب السياسي .
مشكلتنا في هذه البقعة من الأرض أننا نحن هم البلد الوحيد الذي يُهَمَّش فيه المواطن الصالح الذي يحب وطنه، يهمش لأنه لا يرضى أن يستنفر قبيلة، أو شريحة ،أو حزبا، من أجل أن يحصل على أبسط حقوق المواطنة. فالشهادات العالية لا تكفي للحصول على وظيفة إن لم "تزين" بوساطة وجهاء القبيلة أو الشريحة أو الحزب. الشيء الذي يساهم في تعميق الولاء للقبيلة على حساب الولاء للوطن .وما يحدث في التوظيف يحدث في كل الخدمات الأخرى التي يفترض أن تقدمها الدولة لمواطنيها.
مشكلتنا في هذا البلد هي أن المواطن الصالح يولد مهمشا، ويعيش مهمشا، ويموت مهمشا. ونسأل الله أن لا يبعث مهمشا. في حين أن ابن القبيلة أو الشريحة أو الايدولوجيا، يولد معززا، ويعيش معززا، ويموت معززا، بشكل يتناسب طرديا مع علاقة السلطات الحاكمة بقبيلته أو بشريحته أو بحزبه أو حتى بامتداده وولائه الخارجي.
فأي حكامة نريد بعد خمسين عاما ؟ إننا نريد وطنا نعيش فيه، لأننا لم نعد نطيق العيش بين مجموعة من القبائل التي تتنافس، أو بين مجموعة من الشرائح التي تتصارع ، أو بين مجموعة من الايدولجيوت التي تتباغض.. لقد سئمنا تلك الحياة .. سئمناها ..سئمناها .. أتسمعون يا مؤتمرون ؟؟ أتسمعون أيها الحاضرون ؟؟ أتسمعون أيها الغائبون؟؟
إننا نريد وطنا يحبه الموريتاني الزنجي أكثر من حبه لأي بلد إفريقي آخر، حتى ولو كان مليئا بأقربائه. و نريد وطنا يحبه الموريتاني العربي أكثر من حبه لأي بلد عربي آخر، إننا نريد وطنا يكون لمواطنيه اهتمامات مشتركة، بغض النظر عن الشريحة أو القومية. إننا نريد وطنا يدافع فيه الموريتاني العربي عن كل القضايا التي تهم الموريتانيون الزنوج. ونريد وطنا نري فيه الموريتانيون الزنوج في الصفوف الأمامية في كل تظاهرة تنظم لصالح إخوتهم في الدين، من المظلومين في فلسطين، أو في العراق، أو في أفغانستان.. إننا نريد وطنا يكون فيه الموريتاني الذي لم يعاني من العبودية هو من أشد الموريتانيين تحمسا لمواجهة مخلفاتها.إننا نريد وطنا لا يسمح فيه الموريتانيون العرب لأي كان بأن يكون عربيا قبل أن يكون موريتانيا. ولا يسمح فيه الموريتانيون الزنوج لأي كان بأن يكون إفريقيا قبل أن يكون موريتانيا.
إننا ببساطة شديدة ـ يا سادة يا كرام ـ نريد أن يكون الولاء للوطن على رأس قائمة ولاءاتنا، ثم يأتي بعد ذلك فراغ كبير يرتب بعده كل واحد منا ولاءاته الأخرى وفق ما يحلو له.
فهل ستحققوا لنا ذلك ؟ أم أنه علينا أن نستجلب ذرية صالحة من أمة أخرى تعمر هذه الأرض الطيبة؟ كما كان يقترح الكاتب الكبير أستاذي للفرنسية في ثانوية لعيون حبيب محفوظ رحمه الله.
ثانيا أزمة النخبة : إننا نحن البلد الوحيد الذي تُوَجِّه فيه العامة نخبها ، فبعد أن فشلت النخبة خلال العقود الماضية في التأثير على العامة لأسباب لا يتسع المقام لبسطها، أصبحت العامة هي التي تؤثر وتوجه وتحدد سلوك النخبة. واكتفت النخبة بلعب الدور الذي حدده له المجتمع، على طريقة الفن الهابط " الجمهور عايز كدة ". فأصبح "المثقف" عبارة عن معول لهدم ما بقي من قيم وأخلاق. فهو يسرق المال العام لأن الزوجة عايزة كدة، والقبيلة عايزة كدة، والمجتمع عايز كدة، وهو ينافق ويكذب ويصفق بأياديه وبأرجله لأن الجمهورـ عفوا السلطة ـ عايزة كدة.
ورغم أن الحديث عن أزمة النخبة يحتاج إلى ورقة كاملة، فإنني مع ذلك سأكتفي هنا بملاحظات سريعة عن جزئية واحدة دار حولها جدل كبير ألا وهي ضرورة تجديد النخبة.
الملاحظة الأولى : إن تجديد النخبة ـ خاصة السياسية منها ـ ليست عملية آلية تتم من خلال استقالة النخبة القديمة لتحل محلها نخبة جديدة.
الملاحظة الثانية : لقد أثبتت أغلبية النخب الشابة بأنها قصيرة النفس، عكس النخب القديمة، التي أثبت بعضها نفسا طويلا في النضال وفي الكفاح ، وتلك إيجابية كبيرة تحسب لشيوخ المعارضة.
الملاحظة الثالثة : إن ما يمكن عمله هنا هو إتاحة الفرصة للنخب الشابة لكي تظهر وتثبت وجودها، حتى تصبح بعد ذلك قادرة على سد الفراغ الذي ستخلفه النخب القديمة.
الملاحظة الرابعة : من المضحك المبكي أن بعض النخب الإعلامية القديمة والتي عُرِفَت بالتطبيل لكل الأنظمة السابقة هي التي تطالب ـ بمناسبة وبغير مناسبة ـ بضرورة تجديد النخب السياسية.
فالحكومة ـ يا سادة الإعلام الرسمي ـ لا تستطيع أن تجدد النخبة السياسية خاصة المُعَارِضة منها، والتي هي المستهدفة بخطاب التجديد. ولكن الحكومة في المقابل بإمكانها أن تجدد نخب الإعلام الرسمي التي تضرها أكثر مما تنفعها . كما أنه على المعارضة أن تطالب ـ وتلح على ذلك ـ بضرورة تجديد تلك النخبة الإعلامية التي شوهت في الماضي سمعة المعارضة، وذلك ـ بالتأكيد ـ سيكون أفضل بكثير من مقاطعة البرامج التلفزيونية.
ثالثا أزمة الأفكار: يمكن لنا أن نُعَرِّفَ الموريتاني بأنه هو الكائن البشري الوحيد الذي لا يستطيع أن يفكر لمدة خمس دقائق متواصلة في مشكلة عامة تهم بلده . كما يمكن تقديم تعريف آخر أكثر دقة وهو أن الموريتاني هو الكائن البشري الوحيد الذي يفكر بدماغه عندما يتعلق الأمر بمصلحة خاصة . ويفكر بأمعائه عندما يتعلق الأمر بمصلحة عامة. لذلك فقد أصبح من الضروري سَنُّ قانون يجرم التفكير بالأمعاء أثناء أوقات الدوام الرسمي.
إن لدينا في الحقيقة أزمة في الأفكار لأنه لا أحد يفكر في مصلحة هذا البلد . ولو أن كل واحد منا خصص خمس دقائق يوميا للتفكير وللبحث عن حلول لهموم هذا البلد ، لكان حالنا غير هذا الحال. يقول واحد من الأذكياء وهو " أينشتاين " بأنه من السذاجة أن نتوقع نتائج مغايرة إذا ما استخدمنا نفس أساليبنا القديمة. ولقد كان واحد من أغنياء هذا العالم وهو " بيل كيت" الذي يملك ثروة تعادل ميزانية خمس دول من "نمور آسيا" يُجَرِّدُ ـ قد لا يكون ذلك في يوم الخميس ـ كل عامل يكرر نفس الفكرة مرتين!
أما نحن فإننا نكرر نفس الفكرة الغبية أكثر من خمس مرات متوالية .
فالتعليم ـ كمثال ـ فشل فشلا كبيرا، وهو فشل انعكس سلبا على كل شيء، ولكننا بدلا من أن نفكر في إصلاحه فقد اكتفينا بدمج وتقسيم وزارة التعليم بشكل عبثي وصبياني حتى أصبحت هي الوزارة الأكثر انشطارا في العالم.
أتدرون كم من مرة انشطرت وزارة التعليم خلال السنوات الخمس الأخيرة ؟ لقد كانت وزارة واحدة قبل 3 أغسطس، ثم تحولت إلى وزارتين في المرحلة الانتقالية الأولى، ثم توحدت من جديد بعد تنصيب الرئيس السابق ، ثم انشطرت من جديد مع حكومة أستاذي الأولى، ثم توحدت في حكومته الثانية، ثم انشطرت من جديد مع الحكومة الحالية ، وربما تتوحد للمرة الرابعة بعد أن انشطرت ثلاث مرات في أقل من خمس سنوات!!!
أليس من السذاجة الكبيرة أن نتوقع إصلاحا للتعليم بهذه الطريقة ؟؟؟ وكيف يصلح التعليم ونحن منذ خمس سنوات مشغولون ومنشغلون بالإجراءات المصاحبة للدمج و للانشطار؟؟
ألا تسمعون... فما لكم إذاً لا تجيبون ؟؟؟
رابعا الأزمة الأخلاقية :
نحن كنا دولة بلا بنية تحتية، فلم تكن فينا مدارس ،ولا شوارع،ولا مستشفيات، لذلك فإن الواقع السيء لبنيتنا التحتية والتي تعتبر أسوأ بنية تحتية في المنطقة، ليس هو أسوأ ما نعاني منه .
إن أعظم مصائبنا هي أننا كنا بلدا له بنية أخلاقية، تشكل نظام وقاية لنا ضد كل الأخطار.
وهذه البنية انهارت تماما، وبسرعة مخيفة، فأصبحنا اليوم نعيش أزمة قيم ،وأزمة أخلاق، وأزمة نخبة، وأزمة مواطن، وأزمة مجتمع، وأزمة إدارة ...
لقد انعكست تلك الأزمة الأخلاقية على الإدارة، فالتعيين والاكتتاب أصبح يعتمد أساسا على مدى الاستعداد للتزلف والنفاق للسلطات الحاكمة. وبالطبع فإن من هو أقل كفاءة ،وأقل أخلاقا، هو الأكثر استعدادا للنفاق والتزلف. أما الأكفاء الذين يمتلكون شيئا من الأخلاق، فيصعب عليهم القيام بتلك التصرفات المشينة، الشيء الذي جعل الإدارة تستقطب الأسوأ وتطرد الأفضل، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.
ومنذ سنوات استوقفتني ظاهرة غريبة أثناء إعداد دراسة عن الأمية تحت عنوان " الأمية في موريتانيا مشاكل وحلول". لقد استغربت حينها أن نسبة محو الأمية كانت أعلى قبل إنشاء وزارة خاصة بمحاربة الأمية ،هناك إحصائيات رسمية تؤكد ذلك، أي أن القضاء على الأمية كان أفضل قبل أن تخصص موارد ضخمة ووزارة لمحاربة الأمية. هذا ما لم يكن الرئيس الأسبق معاوية يحب سماعه. (لقد أرسلت له ـ إبراء للذمة ـ نسخة من تلك الدراسة عن طريق البريد المضمون، وسلمت نسخة أخرى لعمال القصر لكي يوصلوها إليه).
نفس الشيء حدث بعد ذلك مع التعليم عندما خُصِصَّت له ولأول مرة وزارتان في المرحلة الانتقالية الأولى . ولقد اعترف الوزير الأول بعد انتهاء مأموريته بأن حكومته فشلت تماما في التعليم.
الظاهرة تكررت أيضا مع الرئيس السابق الذي انصب اهتمامه على محاربة الفقر، وأطلق برنامج التدخل الخاص، ومع ذلك فقد شهد عهده أول ثورة جياع ماتت فيها نفس بريئة.
وقبل محاربة الأمية حدث نفس الشيء مع الزراعة التي أعطت أسوأ النتائج في الأعوام التي خُصِصت فيها الموارد الضخمة للزراعة. وقبل الزراعة حدث نفس الشيء مع الصيد البحري.
فلماذا يزداد انهيار القطاع كلما زاد اهتمام الدولة به، من خلال تخصيص الموارد الضخمة لإصلاحه ؟ ثم أليس من الأفضل أن تحجب الدولة الموارد المالية عن القطاعات التي تريد إصلاحها، إذا كان ضخ الأموال لا يؤدي إلا لمزيد من الانهيار ؟؟
إن أزمتنا الأخلاقية هي التي يمكن لها أن تقدم تفسيرا منطقيا لتلك الظاهرة الغريبة ، فضخ الأموال في قطاع ما، سيجعله قبلة لكبار المفسدين واللصوص والمنافقين والمتزلفين في الإدارة، الشيء الذي يجعل ضخ الأموال في قطاع ما نقمة عليه لا نعمة .
خلاصة : إننا نعيش أزمات عميقة في كل المناحي ، أزمات عن اليمين ، وأزمات عن الشمال ، أزمات من فوق ، وأزمات من تحت، أزمات تأتي فرادى، وأخري تأتي مثني مثني، وأزمات أخرى لا تأتي إلا بالجملة.
وإنه لن يكون بإمكاننا أن نواجه تلك الأزمات ، إلا إذا استحضرنا مقولة لأينشتاين أيضا تقول : " إن الأزمات العميقة لا يمكن مواجهتها بنفس العقليات والأساليب التي أنتجتها".
وهذه المقولة سنكتشف أهميتها عندما نحصد ـ إن شاء الله ـ النتائج المثمرة للحوار مع السجناء السلفيين، والذي شكل بالفعل أسلوبا جديدا وطريقة جديدة تختلف عن أساليبنا التقليدية التي كانت تتسبب في المزيد من التطرف والإرهاب.
تصبحون وأنتم موريتانيون ........

الأحد، 17 يناير 2010

الكرامة العربية بأحرف معتدلة


ربما يكون البعض قد اعتقد سذاجة بأن حكام العرب سيعيشون صحوة تعيد إليهم شيئا يسيرا من كرامتهم الضائعة. وقد يكون السبب في ذلك الاعتقاد هو الصعود الحاد والمفاجئ الذي عرفته "كرامتنا الكروية " خلال مباريات مصر والجزائر في إطار تصفيات كأس العالم (من المؤسف أن كرة القدم لم تظهر في العصر الأموي أو العصر العباسي حتى تكون لنا كؤوس تراثية نفاخر بها الأمم الأخرى التي لها كؤوس وألقاب كروية معاصرة).
ربما يكون البعض قد اعتقد بأن تلك الطفرة التي عرفتها كرامتنا الكروية سيصاحبها صعود موازي في جوانب الكرامة الأخرى . وربما يكون البعض قد اعتقد ـ ولو للحظة ـ بأن الجدار المصري إنما جاء ليشكل ثورة على تلك الكرامة المعتدلة أو "المعدلة وراثيا" والتي أذلتنا كثيرا .. فربما يكون الجدار الفولاذي قد تم تشييده من أجل وقف تهريب الغذاء والدواء الذي كان يتم من خلال أنفاق تحت الأرض، لأن الكرامة العربية ـ قبل أن تعتدل و تُعَدَّل ـ لم تكن تسمح للعربي بأن يخفي الطعام والدواء الذي يساعد به جاره وابن عمه المحاصر.
وربما تكون فتوى الأزهر قد جاءت في هذا الإطار لتؤكد تلك الحقيقة. فعلماء الأزهر يعلمون بأن آلاف القطط قد تموت في " غزة " بفعل الجدار، وهم يعلمون كذلك بأن هناك امرأة دخلت في النار لأنها حبست هرة واحدة عن الطعام.
ولأنهم يعلمون ذلك، فربما تكون فتواهم قد جاءت من أجل إجبار النظام المصري على تقديم الغذاء والدواء والسلاح للأخوة في الدين والدم والجوار، بشكل علني، يتناسب مع عزة و كرامة العربي المسلم. تلك الكرامة التي تم تعديلها وتحريفها كثيرا في العقود الأخيرة حتى لا تتعارض مع " كرامة العدو" التي يدافع عنها الحكام العرب أكثر من دفاع العدو عنها (لاحظوا أن العدو قد اضطر لبناء جدار إلكتروني ولم يستطع ـ عكس مصر ـ أن يبنيه من الفولاذ "رأفة" بأهلنا في غزة).
من سمع الرئيس المصري ـ ذات يوم ـ يتحدث عن حرب تموز ويصفها بأنها " لعب عيال" ربما يعتقد بأنه قد شيد الجدار لكي يقدم المؤونة لأخوته في وضح النهار، وأمام الملأ، كما يفعل الرجال عادة، عكس ما كان يقوم به "عيال" حزب الله، الذين يحاكمهم القضاء المصري لأنهم كانوا يتخفون وهم يمدون يد العون لإخوتهم في "غزة". وهو تخفي لا يتلاءم مع الكرامة والشهامة العربية والإسلامية الأصيلة.
فالنظام المصري الذي يقوده "رجال " يختلفون تماما عن " عيال" حزب الله، ربما يكون قد قرر ـ ولو في وقت متأخرـ أن يقود صحوة عربية للدفاع عن الكرامة العربية المسلوبة.
والنظام المصري "الحساس جدا " ربما يكون قد استاء من صعود مؤشرات " الكرامة الفارسية " و " الكرامة العثمانية " و " الكرامة الفنزويلية " التي أذلت كثيرا الزعماء العرب بدفاعها عن قضاياهم في وقت اشتغلوا هم فيه بحروب كروية طاحنة.
وقد يكون الرئيس المصري قد أغاظه كثيرا أن يخرج " تركي " غاضبا من منتدى "دافوس" انتصارا للعرب، في الوقت الذي عجز فيه مصري، وهو "الأمين العام للكرامة العربية المعتدلة"، عن أن يتحرك من مكانه، وبقي "معتدلا" في جلسته، كأنه تمثال تم تحنيطه منذ آلاف السنين قبل تأسيس دولة الصهاينة وقبل أن تعيش مصر ومن ورائها العرب كلهم هذا الذل والهوان الذي يعيشونه اليوم.
وربما يكون الرئيس المصري قد أغضبه كثيرا ذلك الاعتذار المكتوب الذي قدمته إسرائيل وهي ذليلة، حقيرة، للحكومة التركية. في وقت يضطر فيه هو أن يعتذر بالغمز، وباللمز، وبالهمز، وبصريح القول للعدو في كل صباح ومساء، لأنه لم يزل في شعبه من يتألم بقلبه لما يحدث في فلسطين، ولأنه لم يزل في شعبه من يتجرأ على الدفاع عن الكرامة العربية حتى ولو تم ذلك من خلال لقطات من فيلم "أولاد العم".
وبالمناسبة فأولاد العم الذين تخلى عنهم الأقرباء سخر الله لهم أبناء عمومة جدد من تركيا، ومن إيران، ومن فنزويلا، وحتى من الإنجليز يناصرونهم بكل ما هو متاح.
وربما يكون الرئيس المصري قد أغضبته تلك العزة التي يتفاوض بها الرئيس الإيراني مع " الشيطان الأكبر" رغم أن إيران ليس لها امتداد قومي في المنطقة. أما أسن الزعماء العرب والذي يقود أكبر دولة عربية فإنه لا يُسْمَحُ له بالتفاوض، وإنما تأتيه أوامر شيطانية عليا، يجب عليه أن ينفذها فورا وبطريقة مذلة ومشينة ومخزية وحقيرة.
فربما يكون إذاً الرئيس المصري قد أغضبه كل ذلك، وقرر فجأة أن يستعيد لمصر دورها ومكانتها التي تليق بها، وهي قيادة العرب إلى العز والكرامة، بعد أن قادتهم في العقود الماضية باتفاقية "كامب ديفد" إلى الكرامة المعتدلة التي تمثل الدرك الأسفل من درجات الذل والهوان..
تلكم كانت مجرد أوهام وأمنيات لن تتحقق، فالرئيس المصري لم يعد يغضب بعد أن تفرغ لأمرين أساسيين اثنين : أولهما الدفاع عن التوريث، وثانيهما الدفاع عن الكرامة الرياضية المصرية التي يحاول الأشقاء ـ كل الأشقاء ـ النيل منها .
سيعمل العدو كل ما في وسعه من أجل تحذير العرب المعتدلين من خطورة المد التركي القادم، وسينبش منظرو الاعتدال تاريخ العثمانيين، وسيختارون أسوأ ما في ذلك التاريخ لتأكيد مزاعم العدو، وسيقود الرئيس المصري حلفا جديدا من المعتدلين العرب لمواجهة الخطر العثماني الزاحف الذي سيتحول في المستقبل القريب إلى تهديد أخطر من التهديد اليهودي ..
للرئيس المصري ولمنظري الاعتدال نقول : لو خيرنا بين أن نكون عربا معتدلين أو أتراكا لاخترنا أن نكون أتراكا أو إيرانيين أو حتى فنزوليين بالتجنس.
بل وفوق ذلك فإننا نقول بأننا أصبحنا نحتاج لأن نتعلم التركية أو الفارسية أو "التشافيزية "حتى، لكي نفهم كلمات من قبيل " الكرامة " أو " السيادة " أو " الأخوة" التي لم تعد لها أي شحنة دلالية إذا كتبت بأحرف عربية. اللهم إذا استثنينا تلك الكلمات التي يكتبها أطفال غزة أو " عيال" حزب الله.
تصبحون على كرامة عربية غير معتدلة ..

الاثنين، 11 يناير 2010

سري للغاية ...إلى رئيس الجمهورية ، كيف أصبحت إرهابيا !؟


سيدي الرئيس، أجدني مجبرا وملزما في نفس الوقت بأن أقول لكم وبوضوح شديد في بداية هذه الرسالة المفتوحة بأنه لو كانت القاعدة تمنح الأوسمة والتوشيحات لوشحت والي نواكشوط بأعلى وسام لديها على جهوده الجبارة التي يقوم بها من خلال سد كل الأبواب أمام الشباب للمشاركة الإيجابية في تنمية بلدهم، الشيء الذي قد يدفع بعضهم ـ لا قدر الله ـ إلى ردود أفعال طائشة وإلى طرق أبواب التنظيمات الإرهابية.
وفي هذه الرسالة المختصرة جدا ـ عكس الرسائل السابقة ـ سأحدثكم عن بعض تلك "الجهود الجبارة" التي كنت شاهدا عليها مع مجموعة من خيرة شباب هذا البلد.
لقد حاول بعض الشباب المنخرط في بعض الأندية والجمعيات الشبابية أن يقدم بعض الأنشطة الشبابية ضد الفساد، وذلك من أجل فتح قنوات للعمل الشبابي للمشاركة ميدانيا في الحرب المعلنة ضد الفساد.
ولقد كان من المفترض أن تبدأ تلك الأنشطة بتنظيم وقفة شبابية ضد الفساد مع بداية العام الجديد وذلك لتقديم نشاطين اثنين :
أولهما : تكريم الشرطي المعروف بشرطي نادي الضباط والذي يشهد له الجميع بالاستقامة وبالتفاني والإخلاص في العمل والذي لم يحصل ـ حتى الآن ـ على أي تكريم رغم أنه سيحال إلى التقاعد مع مطلع العام القادم.
ثانيهما : توزيع كميات كبيرة من شعار الحملة ووضع ملصقات الشعار في الإدارات التي تكثر فيها ممارسة الرشوة . ولقد تم اختيار " أنا مسلم .. أنا لا أرشي ولا أرتشي" كشعار للحملة وذلك للتذكير بأن المسلم الحقيقي لا يتعاطى الرشوة ولا يتعبد بسرقة أموال الفقراء والأيتام والمستضعفين.ولقد تم اختيار ذلك الشعار لمواجهة بعض المفاهيم الخاطئة التي ظهرت في السنوات الأخيرة والتي أفرزت بعض " العباد " الجدد الذين يصلون في المساجد، ويحجون ،ويصومون، ويتصدقون، ومع ذلك فهم لا يتورعون عن سرقة المال العام المخصص للأيتام وللمعوقين وللفقراء بصفة عامة .
ولقد قررت تلك الأندية أن تعتمد في كل أنشطتها على مواردها الذاتية المتواضعة، وعلى مشاركة أعضائها. ولقد استطاعت ـ بعد جهد كبيرـ أن توفر الأقمصة والقبعات واللافتات والملصقات الضرورية لتنظيم تلك الوقفة الشبابية، الشيء الذي جعلها ـ بعد أن جهزت كل شيء ـ تتقدم إلى الوالي بطلب الترخيص لتلك الوقفة.
وبعد أسبوع من التردد على مكتب الوالي، وبعد كثير من الإهانة ،و من الوعود الكاذبة، ومن الطرد في بعض الأحيان ـ بشكل غير لائق ـ من مكاتب الولاية، تم إبلاغ المجموعة بأن الوالي قد رفض الترخيص لتلك الأنشطة.
كان قرار الرفض مفاجئا رغم كل الإشارات السلبية التي سبقته، كان مفاجئا لأن محاربة الفساد هي العنوان الأبرز للعمل الحكومي .وكان مفاجئا لأنه جاء بعد أيام قليلة من رعايتكم لمنتدى الشباب. وكان مفاجئا لأنه جاء في وقت كان من المفترض أن نتعاون فيه جميعا ـ حكومة وشعباـ حتى لا نسمح للإرهابيين باكتتاب إرهابيين جدد.
ورغم ذلك فلم نيأس وحاولنا مرة أخرى من خلال تقديم نداء تم نشره في بعض المواقع والصحف الوطنية، طالبنا فيه السيد الوالي بأن يراجع قراره، وأن يسمح لنا بالقيام بتلك الوقفة الشبابية.
أصر الوالي على رفض الترخيص، الشيء الذي شكل صدمة كبيرة للشباب المطالب بتلك الوقفة، وهي صدمة جعلت بعضهم يسألني بصوت حائر، غاضب ، مخيف : لماذا لم يرخصوا لنا ؟ ولأني أخشى من أن يتحول الحماس الزائد، والوطنية العالية، والقدرات الكبيرة لبعض أولئك الشباب إلى كراهية وأفعال انتقامية ضد هذا المجتمع الذي يرفض أن يفتح لهم قنوات للمشاركة الإيجابية في تنمية البلد ، فلأني أخشى ذلك، ولأني لا أملك جوابا على السؤال، فقد قررت أن أطرحه أنا بدوري في ختام هذه الرسالة المفتوحة ، فلماذا لم يرخصوا لنا؟؟؟
وإلى الرسالة المفتوحة السادسة إن شاء الله، وفقكم الله لما فيه خيرالبلد...

الأحد، 3 يناير 2010

كلفة التغيير البناء




سيحاول هذا المقال أن يتحدث عن فرص نجاح التغيير البناء من منطلق علمي بحت واعتمادا على القانون الرياضي الشهير الذي يعتبر آخر ما توصل إليه أهل الاختصاص في هذا المجال:
C = A x B x D > X
إن هذا القانون هو الذي يحدد فرص نجاح أي تغيير سواء كان ذلك التغيير تغييرا بناء أو مؤتمنا أو هادئا أو صادقا أو حتى تغييرا في ظل الاستقرار.
وللاختصار فإننا سنقتصر هنا على مظهر واحد من مظاهر التغيير البناء، وهو المظهر الأكثر إثارة والأكثر تشويقا في ذلك التغيير كله، أي الحرب على الفساد التي أثارت جدلا كبيرا، خاصة في الأسابيع الماضية، بعد أن تم توقيف رجال الأعمال الثلاثة.
يقول القانون بأن فرص نجاح التغييرـ أي تغييرـ التي يرمز لها بــ "سي" تساوي حاصل ضرب درجة الاستياء من الظاهرة في معامل وضوح الرؤية في معامل مستوى الانجاز في الأشهر الأولى. ويقول القانون بأن هذا الناتج يجب أن يكون أكبر من "الإكس" والتي ترمز لكلفة التغيير.
وقبل الحديث بشكل مفصل عن عناصر معادلة التغيير فإنه من المهم جدا أن نتحدث قليلا عن بعض المفاهيم المرتبطة بالتغيير وبقانونه، وهي مفاهيم قد تغيب عن كثير من المحللين والكتاب والدارسين.
1ـ سنختلف لا محالة في قياس بعض الظواهر الإنسانية لأن تلك الظواهر لا يمكن حسابها بشكل دقيق بالأرقام إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية معادلة التغيير.
2ـ لكل تغيير كلفة لا بد أن يتم دفعها مع البدء في التغيير نفسه. بخلاف عدم التغيير الذي لا يدفع الناس كلفتها إلا بشكل مؤجل ( وهذا سبب من أسباب عديدة تجعل الكثير من المستهدفين بالتغيير يتخذون مواقف سلبية منه ).
فالحرب على الفساد لا بد أن تصاحبها ـ مع أول رصاصة تطلق ـ كلفة قد تترك آثارا مؤلمة ومؤلمة جدا. أما في حالة ترك الفساد على حاله فإن ذلك قد لا تكون له انعكاسات مؤلمة في الوقت الحالي، رغم أنه سيؤدي إلى نتائج كارثية في المستقبل المنظور.
3 ـ كثيرا ما يتحول بعض المستفيدين من التغيير إلى خصوم وأعداء لذلك التغيير. و يمكن هنا ذكر المثبطين الذين يحاولون التشكيك في استحالة أي تغيير، رغم أن مصلحتهم في نجاح التغيير. كما أن هناك فئة الخاملين التي تعمل من أجل أن تبقى الأمور خاملة.
4 ـ إن هذا القانون يصلح لكل أشكال التغيير، سواء كان ذلك التغيير فرديا يخص الأفراد، أو كان تغييرا داخل مؤسسة، أو منظمة، أو دولة. والشيء الذي يتغير في الأساس هو حرف (دي) الذي يرمز لمستوى الانجاز في الفترة الأولى للتغيير . فهو يجب أن تكون مدته قصيرة جدا بالنسبة للأفراد، ومتوسطة بالنسبة للمنظمات والمؤسسات، وطويلة نسبيا بالنسبة للدول.
5ـ إنه عندما يكون أي عنصر من عناصر التغيير الثلاثة يساوي صفرا، فإن مستوى التغيير سيكون صفرا، لأنه حاصل عملية ضرب بين العناصر الثلاثة.
6 ـ إن من الأخطاء التي يقع فيها أغلب الكتاب هي النظر إلى نصف الكأس، وسواء منهم من ينظر إلى نصفها الفارغ، أو من ينظر إلى نصفها المملوء. علينا أن ننظر إلى الكأس بنصفيها الفارغ والمملوء. وهذا بالضبط هو ما تحاول معادلة التغيير أن تتحدث عنه بطريقة رياضية رائعة. فالبعض لسبب أو لآخر لا يرى من الحرب على الفساد إلا كلفتها، وهو بذلك ينتقدها انتقادا فظيعا. وأما البعض الآخر فهو لا يتحدث إلا عن إيجابيات تلك الحرب، وهو بالتالي يمدحها مدحا عظيما. أما من يحاول أن يتحدث عن الكلفة وعن النتائج في آن واحد ويقارن بينهما فإنه لا محالة سيقترب من الحقيقة. وإن كان ذلك الاقتراب سيسبب له متاعب كثيرة مع كلا الفريقين، وعلى حد سواء. قديما قالوا بأن قول الحقيقة يزيد عدد الأعداء.
7ـ إنه ليس من الممكن أن نغرق في تحليلات رياضية في مقال مكتوب لقراء من مستويات شتى، لذلك فسأكتفي هنا بتقديم معادلة التغيير. والمهم أن يعلم القراء أن لكل تغيير عناصر ثلاثة لا يمكن أن يحدث دونها، وأن حاصل ضرب تلك العناصر الثلاثة يجب أن يكون أكبر بكثير من كلفة التغيير.
العنصر الأول : مستوى درجة الاستياء من الظاهرة المراد تغييرها، وكلما ارتفع ذلك المستوى كلما أدى ذلك إلى نتيجة أكبر. وفي موضوعنا الذي نتحدث عنه فإنه يمكن القول بأن مستوى الاستياء من الفساد مرتفع جدا، فمجمل الأحاديث والكتابات والخطابات تتنافس كلها في تبيان خطورة تلك الظاهرة، لذلك فلن أتوقف كثيرا عند هذا العنصر.
والخلاصة بالنسبة لدرجة الاستياء هي أنها مرتفعة جدا.
العنصر الثاني : وضوح الرؤية والذي ترمز له المعادلة بحرف (بي ) وهو يستحق وقفة ليست بالقصيرة.
فقد تكون الرؤية واضحة بالنسبة لرئيس الجمهورية في حربه على الفساد. وقد يكون جادا، صادقا، في حربه تلك. ولكن هناك حقيقة في أدبيات التغيير لا يمكن تجاوزها هنا : ليس المهم أن يكون القائد على حق، ولكن المهم هو أن يستطيع أن يقنع أغلبية من يقود بأنه على حق.
إن هناك بعض المآخذ التي تشوش كثيرا على رؤية المواطن العادي لجدية هذه الحرب. وهي مآخذ يجب أن تصحح فورا، إذا ما أريد لهذا المواطن أن يشارك بجدية في الحرب على الفساد، ومن هذه المآخذ أذكر:
أولا : من المؤكد أن القضاء على الفساد يحتاج إلى ترغيب وترهيب، أي إلى عصا وجزرة. وإذا كنا ننقسم حول الأسلوب الذي استخدمت به العصا، حيث أن البعض يرى بأنها استخدمت بفظاعة ضد مجموعة دون أخرى، في حين أن البعض الآخر يرى أنها استخدمت بشكل مناسب، وبطريقة مناسبة لم تميز بين مجموعة ومجموعة. فإذا كنا نختلف على طريقة استخدام العصا، فإنه لا يحق لنا أن نختلف على طريقة استخدام الجزرة التي كانت سيئة جدا. فقد أعطيت الجزرة لمن لا يستحقها، هذا إذا ما تتبعنا كل التعيينات والتوشيحات التي تمت بعد التنصيب. بل أن هذه الجزرة قد تم إعطاؤها في بعض الحالات لبعض رموز الفساد، من خلال تعيينهم في وظائف حساسة. والخلاصة هنا أن نصف سلاح الحرب على الفساد، أي مبدأ المكافأة قد تم استخدامه بشكل سيء. أما النصف الآخر أي العصا أو العقوبة فهو محل خلاف كبير.
ثانيا : لقد شوشت كثيرا قضية رجال الأعمال الثلاثة على رؤية المواطن العادي لشفافية الحرب على الفساد. والغريب أن الدولة كادت أن تغلق هذا الملف بطريقة رائعة جدا، وبانتصار كبير، ولكنها ـ وهذا ما تفعله دائما ـ اختارت أن تشوش على ذلك العمل الرائع بقرارات غريبة جدا. فالراجح حسب ما يقال بأن البنك المركزي كان قد وقع اتفاقا مع رجال الأعمال، لاستعادة المبالغ المنهوبة. وهو ما يعني أن رجال الأعمال قد اعترفوا ضمنا بالتهمة الموجهة إليهم . كما يعني أيضا بأن الدولة كانت ستستعيد تلك المبالغ المنهوبة، ولو خلال فترة طويلة بلا كلفة تذكر. وهو ما كان سيعيد للدولة شيئا من هيبتها المفقودة. ولكن الحكومة اختارت ـ لسبب لا أفهمه ـ أن تفسد ذلك كله. واختارت أن تجعل لذلك الملف كلفة كبيرة على الحرب على الفساد. فبغض النظر عن الطريقة التي سيغلق بها ذلك الملف مستقبلا، فإنه لم يعد من الممكن إغلاقه إلا بكلفة كبيرة وكبيرة جدا كنا في غنى عن دفعها.
ونفس الشيء تمارسه الحكومة الآن. فبعد لقاء رئيس الجمهورية بنقابة الصحفيين، وبعد محاولة فتح وسائل الإعلام الرسمية أمام الجميع، وبعد أن أصبح الكل يتوقع بأن الأشياء ربما تتحسن في هذا المجال مستقبلا. بعد ذلك كله، اتخذت الحكومة قرارات لا معنى لها للتشويش على تلك الصورة الجيدة التي بدأت تتشكل. ومن تلك القرارات إطالة الحبس التحكمي لحنفي و زيادة تكاليف الطباعة على الجرائد المستقلة. إنه "الإبداع " في صناعة الخصوم وهو الشيء الذي يبدو أن حكومتنا تتقنه بشكل جيد.
على الحكومة أن تعلم بأن حنفي لا بد أن يخرج من السجن. فهناك رأي عام يقف في صفه، وهناك نقابة للصحافة ستكون قضية حنفي هي قضيتها الأولى، فهي أول تحد تواجهه تلك النقابة بعد تأسيسها. لذلك فإن من مصلحة الحكومة أن تطلق سراح حنفي فورا قبل أن تزيد عليها المتاعب، وقبل أن تزيد من الكلفة التي سيسببها لها سجن حنفي. فكل يوم سيمر دون إطلاق سراح حنفي لابد أنه سيزيد من شك المواطن العادي في استقلالية القضاء.
وعلى من يهمه الأمر، أن يعلم بأن حنفي من طينة من البشر لا ينفع معها ما ينفع مع غيرها، أي الترغيب بالمال أو الترهيب بالسجن . حنفي تنفع معه طريقة واحدة، وواحدة فقط، ورغم أنها ليست بالطريقة السهلة إلا أنها هي المتاحة: مبارزة الكلمة للكلمة والفكرة للفكرة والمقال للمقال.
ثالثا : من الأشياء التي تركت غيوما كثيفة على الرؤية العامة يمكن ذكر ارتباك الحكومة، وارتباك خطابها الساذج في أغلب الأحيان. فالتغيير يحتاج لخطاب قوي جدا، وواضح جدا، يساعد في اكتتاب جنود جدد من خلال إقناع الخاملين والمثبطين، بدلا من خطاب مشوش قد يؤدي إلى انسحاب الكثير من أنصار الحرب، في بداية مشوارها، وفي وقت تحتاج فيه كثيرا إلى أولئك الأنصار.
وحتى لا يبقى هذا الحديث نظريا، فإن من المهم بمكان إسقاطه على ملف رجال الأعمال. وذلك لتسجيل ثلاث ملاحظات أضرت بذلك الخطاب كثيرا.
الملاحظة الأولى : لقد فشلت الحكومة في إقناع المواطنين بأن ملف رجال الأعمال ليس ملفا انتقائيا. وإذا كان هناك من يتهم بالانتقائية في هذا الملف فسيكون الرئيس الأسبق "معاوية". الشيء الذي يثير الضحك ، على الأقل في هذا الملف . وإذا كان هناك من يتهم بأنه اختار مجموعة أغلبها من قبيلة واحدة أو من جهة سياسية واحدة فهو الرئيس الأسبق "معاوية " الذي اختار تلك الأسماء واتهمها. أما الحكومة الحالية فقد وجدت أمامها ملفا كبيرا لم يغلق بعد. وهي لم تضف إليه اسما جديدا، ولم تحذف منه كذلك اسما.
الملاحظة الثانية : فشلت الحكومة في أن تقنع المواطن العادي بأنها كانت مجبرة على فتح ذلك الملف، ولم يكن أمامها خيار آخر. فهي التي وعدت ـ في وقت سابق ـ ذلك المواطن بالمحاربة الجادة للفساد. ثم وجدت أمامها ملفا لعشرات المليارات المنهوبة لم يتم إغلاقه. فما الذي كان بإمكانها أن تفعل؟ وهل هناك طريقة أخرى تنسجم مع برنامجها للتعامل مع ذلك الملف؟
الملاحظة الثالثة : فشلت الحكومة في الرد على من يقول بأن رجال الأعمال يملكون أدلة تبرئهم من تلك المليارات المنهوبة. وعجزت عن طرح سؤال بديهي جدا، ووجيه جدا : فإذا كان رجال الأعمال يملكون أدلة، فلِمَ لم يظهروها في الوقت المناسب، عندما تم فتح ذلك الملف؟؟؟ ولماذا لم يقدموا تلك الأدلة يوم كان الشهود يزاولون مهامهم، ويوم كان من يتهمهم لم يزل يزاول مهامه؟ ولِمَ لم يقدموها يوم كان فيه القضاء رحيما بمن ينهب الأموال الكبيرة وقاسيا مع من يسرق القليل ؟؟؟ لو فعلوها لأغلق ذلك الملف نهائيا، ولو فعلوها لاستراحوا هم وأراحوا غيرهم.
رابعا : من الأمور التي تساهم في عدم وضوح الرؤية عدم فتح قنوات للمشاركة الشعبية في هذه الحرب. لقد ذكرت سابقا وبشكل مفصل في مقال تحت عنوان " إعلان حرب " بأن الحرب على الفساد، لن يكتب لها النجاح، إذا لم تصاحبها انتفاضة شعبية ضده. واليوم لن أضيف جديدا لما قد قلت في السابق، سوى أن هناك كلمة تحت الشمس سيقولها بعض الشباب، أرجو أن تكون بداية لإطلاق الشرارة الأولى لتلك الانتفاضة.
الخلاصة : إن مستوى وضوح الرؤية لم يزل ـ حتى الآن ـ منخفضا جدا.
العنصر الثالث: مستوى الانجاز في الفترة الأولى: إن هناك وضعية سيئة نعيشها الآن، وهناك وضعية أفضل نحلم بها، ومن المفترض أن تكون هناك خطة حكومية، تنقلنا من الوضعية السيئة التي نتخبط فيها إلى الوضعية الأفضل التي نحلم بها، في مدة زمنية تقدر بخمس سنوات.
ويقول الخبراء بأن ما نقوم به في الأشهر الأولى أوفي السنة الأولى هو الذي سيتحكم في طريقة سيرنا في السنوات الخمس القادمة. فالحرب على الفساد تتطلب أولا أن نعرف مستوى الفساد الذي نعيشه اليوم ( إننا من أسوأ الدول العربية تقريبا، أما عالميا فإننا في الرتبة 130 ) . كما تتطلب منا أيضا تحديد موقع نطمح للوصول إليه في السنوات الخمس القادمة، وهو الشيء الذي لم تفعله الحكومة حتى الآن، وربما يكون السبب في ذلك هو أنها لا تريد تحديد هدف يمكن قياسه ويمكن أن تحاسب عليه. ولتلافي ذلك الخطأ فإني سأفترض جدلا بأن الحكومة تسعى خلال الخمس سنوات القادمة لأن يكون بلدنا هو الأول عربيا من حيث مستوى الشفافية، وأن يحتل ـ على المستوى العالمي ـ الرتبة رقم 35.
الخلاصة : علينا أن ننتظر حتى تنشر لائحة العام الحالي فإذا استطعنا بعد عام من الحرب على الفساد أن نقفز إلى الرتبة 100 مثلا فذلك يعني أن هذا العنصر مرتفع جدا. أما إذا حافظنا على نفس المستوى فإن ذلك سيعني أن مستوى الانجاز في العام الأول يساوي صفرا مما يعني أن درجة التغيير كانت صفرا.
تصبحون تحت الشمس مع " شباب ضد الفساد" ...