الخميس، 29 ديسمبر 2011

الإعلان عن برنامج تلفزيوني متخصص في التنمية البشرية



ستبث التلفزة الموريتانية مساء الجمعة الموافق 30 ـ 12 ـ 2011، فيما بين النشرتين الإخباريتين الحلقة الأولى من برنامج "خطوة إلى القمة"، وهذا البرنامج هو أول برنامج متخصص في التنمية البشرية يبثه التلفزيون الموريتاني، والبرنامج من إعداد وتقديم خبير التنمية البشرية الأستاذ محمد الأمين ولد الفاظل ومن إنتاج مؤسسة القمة للإنتاج التلفزيوني.وحلقات هذا البرنامج هي حلقات مستقلة، ستناقش كل حلقة من حلقاته، موضوعا خاصا بها له علاقة بتنمية وتطوير الذات. وستكون الحلقة الأولى تحت عنوان " اكتشف الكنز" وهي خاصة بالموهبة وأساليب اكتشافها، أما الحلقة الثانية فستبث مساء الجمعة الموافق 6 ـ 1 ـ 2012 وستكون تحت عنوان " الالتفاتة القاتلة"، أما الثالثة فعن استثمار الفشل، والرابعة عن الثقة في النفس وهكذا...ويسعى البرنامج حسب القائمين عليه لتعزيز الثقة في نفوس المشاهدين، خاصة منهم الشباب، وذلك من خلال مساعدتهم على اكتشاف قدراتهم الذاتية، وإمكانياتهم الهائلة، باعتبار أن اكتشاف تلك القدرات والإمكانيات، يعتبر هو الخطوة الأولى للصعود إلى القمة..

الأحد، 25 ديسمبر 2011

الأحباب في القصر الرئاسي...وماذا بعد؟


فوجئت في مساء هذا اليوم، بخبر تناقلته المواقع الإخبارية، عن زيارة أداها بعض الأحباب للقصر الرئاسي، ورغم أني لا أعرف "دليل" الأحباب في هذه الزيارة، الأولى من نوعها، ولا أعرف إن كانت قد تمت استجابة لدعوة من رئيس الدولة، أو بمبادرة من أمير الجماعة، إلا أنه يمكنني القول بأن تلك الزيارة سيكون لها ما بعدها.

فإذا كانت هذه الزيارة قد تمت بدعوة من الرئيس، فذلك يعني أن الرئيس قد بدأ يفكر فعلا في مواجهة حزب"تواصل"، ذلك الحزب الذي أظهر في الأيام الأخيرة، بأنه قد قرر فعلا أن ينتقل من المعارضة الناصحة، إلى ما فوق المعارضة الناطحة.

ويبدو أن الرئيس، إن كان هو صاحب الدعوة، قد اختار لمواجهته مع تواصل، أن تتم بنفس الأساليب، وبنفس الأسلحة التي استخدمها في مواجهة شباب 25 فبراير. فعندما بدأ حراك الشباب في مطلع هذا العام، قام الرئيس بالدعوة لتأسيس أحزاب شبابية. ورغم أن تلك الأحزاب، لم تستطع أن تحتل موقعا في الساحة السياسية، لأنها تأسست تحت الطلب، ولم يكن تأسيسها نتيجة لقناعة أصحابها، إلا أنها مع ذلك، وهذا ما يجب قوله، قد استطاعت أن تربك شباب 25 فبراير، وأن تؤثر على حراكهم لفترة من الزمن.

فربما يكون الرئيس، قد بدأ يفكر في تأسيس حزب إسلامي، كما روجت لذلك بعض المواقع في الأيام الأخيرة، وستكون مهمة الحزب الجديد هي منافسة التواصليين على شعبيتهم المتماسكة لجد الآن.

ورغم أن هذا الحزب في حالة تأسيسه لن يكون قادرا على منافسة "تواصل" إعلاميا، على الأقل، في المستقبل المنظور، إلا أنه في المقابل سيكون قادرا على أن ينافسهم ميدانيا، على الأرض، خصوصا أثناء الحملات الانتخابية، و التي كان يتميز فيها التواصليون عن غيرهم، بقدرتهم الفائقة على طرق الأبواب، بابا بابا للدعاية لمرشحيهم. وهم في هذا المجال سيجدون أنفسهم مجرد تلاميذ في المرحلة الابتدائية، إذا ما نافستهم جماعة الدعوة والتبليغ في طرق الأبواب، خاصة في القرى والأرياف، وبالأخص في الأوساط الفقيرة، والتي تعتبر جماعة الدعوة والتبليغ هي الأقرب إليها.

أما إذا كانت الزيارة، قد تمت بمبادرة من الجماعة، وكانت بمثابة مقدمة لبداية تغيير جذري في اهتمامات الجماعة، التي كانت اهتماماتها بعيدة كل البعد عن "الهم الدنيوي العام"، فذلك يعني أن الأمر سيكون أشد إثارة، وأن الخريطة السياسية ستشهد تغييرات عنيفة لن يتأثر منها حزب "تواصل" لوحده.

فهذه الجماعة عندما تقرر أن تدخل العمل السياسي، بقناعتها، فذلك يعني أن الكثير من موازين القوى سيتغير، ليس بالنسبة لتواصل لوحده، ولا للتحالف بشقيه المحاور، والرافض للحوار، بل إن ذلك التغيير سيمس كل التشكيلات السياسية في البلد. وسيكون المشهد أشد إثارة، إذا كان الأستاذ الجليل "محمد ولد سيدي يحيى" على الخط.

ويعتقد الكثيرون، من خلال بعض الصور النمطية، بأن هذه الجماعة بلا نخبة، والحقيقة أنها مليئة بأصحاب الشهادات العالية، وبالكفاءات في شتى المجالات، إلا أنها تتميز عن غيرها بأنه يصعب التفريق، أثناء الخروج، بين الأمي الذي يشتغل في خدمة المنازل، وبين الإطار المتعلم الذي يشتغل في منصب سامي.

أما إذا كانت الزيارة، زيارة أخروية فقط، فأسأل الله تعالى، أن يوفق الرئيس، للخروج أربعين يوما مع جماعة الدعوة والتبليغ، وأن يرافقهم إلى داخل البلاد، ليرى عن قرب أوضاع المواطنين الصعبة في القرى والأرياف. وبالتأكيد فإن ذلك الخروج لن يجلب له إلا الخير في الدنيا والآخرة.

تصبحون على رئيس يخرج في سبيل الله...

السبت، 24 ديسمبر 2011

رسالتان إلى "رئيس الفقراء"


سيدي الرئيس،

إن هذه الرسالة المفتوحة والتي تحمل الرقم 25 ، تضم رسالتين : إحداهما رسالة كتبتها لكم على لافتة، وعلقتها خلال الأيام الماضية أمام القصر، وأمام البرلمان، وسأعيد تعليقها كلما وجدت فرصة لذلك. أما الرسالة الثانية فقد وجدتني ملزما لأن أكتبها لكم، بعد مهرجان المعارضة الحاشد، وذلك لكي أحدثكم عن سيدة فقيرة، شاركت وبحماس في مهرجان المعارضة، رغم أنها لم تكن، في أي يوم من الأيام، من أنصار المعارضة.

وهذه السيدة كنت قد حدثتكم عنها، في وقت سابق، وتحديدا في رسالتي المفتوحة رقم 10، والمنشورة بتاريخ 8 مايو 2010 . والتي جاء في مقدمتها : " سيدي الرئيس، سأحدثكم في رسالتي العاشرة عن سيدة فقيرة، قصتها مثيرة، تسكن في مقاطعة عرفات غير بعيد من ساحة "التغيير البناء".
هذه السيدة الفقيرة بذلت جهدا كبيرا من أجل نجاحكم في الانتخابات الرئاسية، وأنفقت من قوت عيالها على حملتكم الانتخابية. ورغم أنها لم تجد تعويضا من إدارة حملتكم على نفقات خيمتها التي ضربت، ورغم سخرية بعض جاراتها الداعمات لمنافسيكم من عدم التعويض لها، إلا أن ذلك كله لم يقلل من عزيمتها، ولم يؤثر مثقال ذرة على ولائها لكم.
لقد كانت تلك السيدة تقول بأنه على الفقراء أن ينفقوا من جهدهم ووقتهم ومالهم من أجل نجاحكم الذي سيشكل قطعا نصرا للفقراء، وهزيمة نكراء لرموز الفساد الذين أهلكوا البلاد والعباد، خلال العقود الماضية. بل إنها فوق ذلك جعلت من المنافسة بينكم وبين المرشحين الآخرين منافسة بين الخير المطلق، والشر المطلق. و جعلتها وكأنها حربا بين المسلمين والكفار. ولقد كانت تدعو لكم في جوف الليل ـ كغالبية الفقراء والبسطاء ـ وتسأل الله أن ينصركم على خصومكم من المفسدين.
واليوم، وبعد مرور تسعة أشهر على تنصيبكم، لم يعد لتلك السيدة إلا أمنية واحدة، وهي أن تقابلكم لتطلب منكم أن تعيدوا لها "صوتها" الذي منحته لكم خلال الانتخابات الرئاسية الماضية.
فلم تعد تلك السيدة تؤمن بالتغيير البناء، ولم تعد تبشر جاراتها بموريتانيا الجديدة، ولم تعد تحلم بأن يتحسن مستوى معيشتها. لقد تبخرت كل تلك الأحلام، ولم يعد لتلك السيدة إلا حلم واحد، وهو أن تتمكن من أن تستعيد "صوتها" لا أكثر ولا أقل." ذلك كان هو حال تلك السيدة الفقيرة منذ عام وسبعة أشهر، وكما جاء في رسالتي المفتوحة رقم 10، والتي كان عنوانها " أعيدوا لي "صوتي" ..يا سيادة الرئيس".

أما اليوم فحالها يخيف أكثر، ويقلق أكثر.

فهي لم تعد تكتفي بالمطالبة باستعادة صوتها الانتخابي، بل إنها قررت أن تتخذ قرارا، قد يبدو لكم غريبا، ألزمت نفسها من خلاله أن تعارضكم في كل مكان ناصرتكم فيه أثناء الانتخابات الرئاسية الماضية، وأن تبذل من جهدها ووقتها في معارضتكم، ما يضاعف ما بذلت من جهد ووقت في مناصرتكم.
فما الذي حدث في الثمانية والعشرين شهرا التي مضت من مأموريتكم؟ وما الذي جعل تلك السيدة تشعر بإحباط مخيف بعد حماس مفرط؟ ولماذا تُصر تلك السيدة أن تعبر عن مراراتها وإحباطها بحماس يُضاعف الحماس الذي عبرت به عن مناصرتها لكم. تلك أسئلة تستحق أن نبحث له عن أجوبة بعيدا عن "أنصاركم" الذين يضرونكم أكثر مما ينفعونكم.

إن تأسيس أحزاب جديدة، يزيد من اتساع الخريطة الحزبية للأغلبية، لن يكون هو الجواب المناسب لتلك السيدة الفقيرة التي لم تتحزب في يوم من الأيام، ولم تهتم في أي يوم من الأيام بالأحزاب.

إن الجواب على تلك الأسئلة، يجب أن يتم بطريقة أخرى، غير تأسيس المزيد من الأحزاب.

إن هذه السيدة التي كنتم تكلمونها، دون وسيط، قبل الانتخابات الرئاسية الماضية، لم تكلموها بعد نجاحكم في الانتخابات، إلا من وراء حجاب.

إن هذه السيدة التي وعدتموها بأنكم ستحاربون الفساد، قد خذلتموها عندما عينتم الكثير من المفسدين في وظائف حساسة، ووزعتم مجالس الإدارات على من لم تعينوا من المفسدين.

إن هذه السيدة التي وعدتموها بأنكم ستخلقون فرصا لتشغيل أبنائها، لا زالت هي التي تنفق على أبنائها الذين يحملون شهادات جامعية.

إن هذه السيدة التي وعدتموها بمستوى معيشة أفضل، أصبحت تشعر ومنذ تنصيبكم، بأنها بحاجة لأن تناضل أكثر، لكي توفر وجبة طعام، أو قرص دواء، أو جرعة ماء لها ولعائلتها الفقيرة.

إن هذه السيدة التي كانت تتوقع منكم أن تقيلوا "حكومة التراكمات"، وأن تبدلوها بحومة أكثر جدية، سمعتكم أكثر من مرة وأنتم تشيدون بانجازات الحكومة، وهذا هو أكثر شيء يغضب تلك السيدة، بل إنه أصبح يثير أعصابها.

إن هذه السيدة ترفض حكومة التراكمات، ولقد كتبت في وقت سابق على لسانها، وعلى لسان غيرها من الفقراء مقطوعة أرسل لكم مع هذه الرسالة فقرة منها:

إني أرفض حكومة بلا إنجازات..

إني أرفض حكومة التراكمات..

حكومة "معاليه" كلما أخفقت قال وزراؤها ذاك بسبب التراكمات..

إن ارتفعت الأسعار أنشدوا أغنية التراكمات..

إن توقف دفع الرواتب قالوا فعلتها التراكمات..

إن احتج عاطل قالوا لا وظيفة مع التراكمات..

إن مات جائع قالوا سنقتص له من التراكمات..

إن بكى طفل قالوا أبكته التراكمات..

إن أنَّ مريض لعنوا التراكمات..

إن عثرت بغلة بحثوا في أرشيف التراكمات..

وحكومة "معاليه" إذا ما أمطرت السماء قالت ذاك من الانجازات..

إن نجحت ثورة قالت حكومة "معاليه" نحن من أبدع الثورات..

إن هب نسيم سجلته في قائمة الانتصارات..

إن ضحكت طفلة بريئة كانت ضحكتها استجابة للتعليمات..

إن نامت قالوا نامت وفقا للتوجيهات..

إن استيقظت من غفوتها قالوا أيقظها شق الطرقات..

إن عملت صالحا وضعوه في ميزان الحسنات..

وإن أساءت أعادوا شريط التراكمات..

حكومة "معاليه" لها على الأثير صرخات..

وفي الميدان لم تترك أية بصمات..

إني أرفض حكومة بلا إنجازات..

إني أرفض حكومة بلا بصمات..

إني أرفض حكومة التراكمات..

وفقنا الله جميعا لما فيه خير البلاد، وإلى الرسالة السادسة والعشرين، إن شاء الله..

الاثنين، 19 ديسمبر 2011

يوميات شخص عادي جدا (6)


كنت سعيدا جدا بانتقالي للمرحلة الإعدادية، وكان دخولي لتلك المرحلة يعني بالنسبة لي أشياءً كثيرة. فهو من جهة سيضع حدا نهائيا لعمليات الضرب والتعذيب التي كنت أتعرض لها في المرحلة الابتدائية. كما أنه ـ من جهة أخرى ـ سيمكنني من أستمع وأتحدث بشكل مباشر مع الأساتذة "العرب" الذين يُدرسون في الثانوية، والذين كنت أحلم دائما بالتحدث معهم، بل وكنت أتتبعهم في سوق المدينة، لأسترق السمع إليهم، وهم يُحدثون خبازا أو جزارا أو بائعة خضروات. وهو فوق ذلك كله، أي الانتقال إلى المرحلة الإعدادية، سيمكنني من أن أكتب دروسي في دفاتر من فئة مائتي صفحة، والتي كنت أعتقد بأنه لا يجوز إطلاقا لتلاميذ المرحلة الابتدائية أن يكتبوا فيها دروسهم.

وفي يوم الافتتاح من العام الدراسي 1979 ـ 1980 وليت وجهي شطر ثانوية "لعيون"، والتي دخلتها لأول مرة، وأنا حافي القدمين. والسبب في ذلك أني وجدت عند المدخل الرئيسي بعض طلاب الثانوية الأقدم، والذين طلبوا مني أن أخلع نعلي، لأنه لا يجوز دخول الثانوية لغير الحفاة. رفضت في البداية أن أخلع نعلي، ولكني لما رأيتهم خلعوا نعالهم قبل الدخول، خلعت نعلي، وأخذت أسير معهم إلى مباني الإدارة، وأنا حافي القدمين.

قطعت عدة أمتار وأنا أسير حافي القدمين، ولم أتوقف عن السير حافيا، إلا بعد أن انفجر أحدهم ضاحكا، قبل أن تنتقل عدوى الضحك للآخرين.

كان مثل تلك القصص يتكرر مع مطلع كل عام دراسي، ولم أكن أنا بالتأكيد هو الضحية الوحيد في ذلك العام الدراسي. ولقد حاولت أنا بدوري، في العام الموالي، أن أسخر من بعض طلاب الثانوية الجدد، كما سَخِرَ مني بعض طلابها الأقدمين، ولكني لم أوفق في ذلك. والحقيقة أني كثيرا ما أخطط للأشياء بشكل جيد، ولكني أفشل عند التنفيذ. ورغم أني الآن أصبحت أعرف سبب ذلك، إلا أني في ذلك الوقت كنت أعتقد بأن ما يُفشل خططي، هو أني كنت أتعرض لمؤامرة كبرى، تقودها الامبريالية العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وتشارك فيها جهات عديدة أخرى، بما في ذلك معزاتنا الحمقاء، والتي ساهمت كثيرا في تنفيذ المخطط الجهنمي الذي يحاك ضد "شخصي الكريم".

وفي ذلك العام تم تخصيص مخزن كبير في الثانوية، لكي يستقبل طلاب الشعبة العربية. ولقد تم تقسيم المخزن عن طريق صفائح الخشب، إلى فصلين اثنين، استقبلا كل الناجحين في المسابقة العربية لدخول سنة أولى إعدادية من ثانوية "لعيون". وكنا نحن طلاب الفصول العربية نشعر في ذلك الوقت، بالكثير من الإهانة. وسنعلم لا حقا بأن ذلك كان هو الحال بالنسبة لكل المؤسسات التعليمية في البلاد. كما سنعلم بعد عقد من الزمن، وعندما نتخرج، ونبدأ بالبحث عن وظائف، بأننا سُنعامل من طرف الإدارة، بنفس الإهانة والاحتقار التي عاملتنا بها ثانوية "لعيون" في ذلك العام الدراسي.

لم أعد أتذكر الآن أول حصة أحضرها في "الفصل المخزن"، ولكني لازلت أتذكر كل أساتذتي في ذلك العام، باستثناء أستاذ مادة الفرنسية. وكان من بين أساتذتي أربعة أساتذة تونسيين، وهو ما يعني بأنني في ذلك العام الدراسي وجدت فرصة كبيرة للتحدث مع الأساتذة "العرب".

وكان من بين أساتذتنا التونسيين، أستاذ التاريخ والجغرافيا، ويسمى "على بالحاج". ولقد أحبني هذا الأستاذ كثيرا، وكان يدعوني إلى منزله من حين لآخر. وقد أهداني بعض كتب "محمود المسعدي"، والتي لم أفهم منها شيئا، في ذلك الوقت، ولا أعتقد بأني سأفهم منها شيئا إن أعدت قراءتها الآن. والغريب أن نتائجي في التاريخ، كانت سيئة جدا، رغم صداقتي القوية بأستاذه. وكان أستاذ التاريخ يكتب لي ملاحظة بجنب النتيجة السيئة التي كنت أحصل عليها في اختباراته، وكانت الملاحظة تقول بأن كتابتي لا يمكن قراءتها إلا في العقود القادمة، نظرا للطريقة الغريبة التي كنت أرسم بها الحروف. وكنت أفرح كثيرا بتلك الملاحظة لأنها كانت تعني بأن الأستاذ لم يتمكن من قراءة ما كتبت، وهو بالتالي لم يكتشف ضعفي في مادته، والتي لم أكن أهتم بها كغيرها من المواد الأدبية.

وفي نهاية العام، قرر أستاذ التاريخ أن يصحح الدفاتر. ولقد حاولت أن أستغل تلك الفرصة، لأحصل ـ ولو لمرة واحدة ـ على نتيجة متميزة، تنال إعجاب أحب الأساتذة إليَّ، في أول عام لي في الثانوية. اشتريت دفترا جديدا، ونسخت فيه كل دروس التاريخ والجغرافيا في ذلك العام، واستخدمت القلم الأحمر لكتابة العناوين، وأقلام الرصاص الملونة لرسم الخرائط. وبعد جهد شاق، أصبحت أملك أروع دفتر للتاريخ والجغرافيا في كل الفصل، بل وفي كل ثانوية "لعيون"، إن لم أقل على عموم التراب الوطني . ونظرا لإعجابي بدفتر التاريخ، لم أكن أتركه ليفارقني، وفي الليلة التي سبقت تصحيح الدفاتر، نمت بشكل مفاجئ، ودفتر التاريخ قرب وسادتي، فجاءت معزاتنا الحمقاء، والتهمت الدفتر، ولم تترك منه إلا بعض الأوراق الممزقة.

ولم تكن تلك هي الحماقة الوحيدة التي ترتكبها معزاتنا الحمقاء، ولم تكن تلك هي المشاركة الوحيدة لمعزاتنا الحمقاء في المؤامرة التي تحاك ضدي.

فنفس المعزاة ستلتهم بعد ذلك سلسلة من قصص المغامرين الثلاثة، أو الخمسة، لم أعد أتذكر الآن عددهم بالضبط. والسلسلة جمعتها أنا وصديقي الذي تعرفت عليه في ذلك العام الدراسي، والذي ساعدني ـ وكما ذكرت لكم سابقا ـ في إقناع الكاتب بتغيير عنوان هذه الرواية.

كنت أنا وصديقي، نجمع كل ما نحصل عليه من نقود لنشترى أجزاء تلك السلسلة، والتي كانت تباع أجزاؤها بأسعار مجحفة بنا في ذلك الزمن.

ولقد كنت أعُد معزاتنا الحمقاء، بأنها مرجع من مراجع التاريخ في المدينة، وبأنها أول معزاة تتخصص قي تاريخ الفراعنة في مصر، نظرا لما التهمت من تاريخهم المسطر في دفتري الرائع. أما بعد أن التهمت سلسلة المغامرين الثلاثة أو الخمسة، فأصبحت أعتبرها، أنا وصديقي، نجم المشاغبين في الثانوية، بأنها أذكى معزاة في مدينة "لعيون" وضواحيها.

ومن بين أساتذتنا التونسيين في ذلك العام، أستاذ الرياضيات السيد "أزكولي حمادي"، هكذا كان يسمى، حسب ما أعتقد. ولقد كان هذا الأستاذ ضعيفا في مادة الرياضيات. وكان يقول لنا كلما واجهته مشكلة أثناء الدرس، بأن مشكلته ليست في الرياضيات، وإنما في اللغة العربية التي يدرس بها مادته. وكان نفس الأستاذ يدرس سنة أولى فرنسية، وكان يقول لهم أيضا بأن مشكلته ليست في الرياضيات، وإنما في اللغة الفرنسية. ولقد غاب عن أستاذ الرياضيات بأننا نحن وطلاب الأقسام الفرنسية، كنا نتقابل كثيرا، وكنا نسخر كثيرا من حجته تلك.

كانت نتائجي في الرياضيات جيدة، وهكذا ستظل دائما، خلال كل دراستي، ولكن لم تكن علاقاتي جيدة بأستاذ الرياضيات، ولا بزوجته "السيدة ازكولي"، والتي كانت تدرسنا مادة العلوم الطبيعية.

أتذكر أنه في يوم من الأيام، جاء صديقي، يحمل بندقية من نوع البنادق التي يتكسب عليها البعض أمام الثانويات والأسواق، في أيامنا هذه. وأتذكر أنه في ذلك اليوم كان لدينا اختبار في الرياضيات على تمام الساعة العاشرة. ذهبت أنا وصديقي إلي أحد الجبال المحيطة بالثانوية، لتجريب البندقية، وللتنافس في الرماية، ولم نشعر بمرور الوقت، حتى مر على موعد الاختبار ما يقارب نصف الساعة.

عدنا إلى الفصل، وطلبنا من الأستاذ أن يسمح لنا بالدخول، ولكنه رفض.

أخرج صديقي بندقيته، وصوبها نحو الأستاذ، وهدد بإطلاق الرصاص إذا لم يسمح لنا الأستاذ بالدخول، وبالمشاركة في الاختبار.

قلت لصديقي بصوت مرتفع أردت أن يسمعه الأستاذ:

ـ لا تطلق الرصاص، فأن نجد صفرا في اختبار الرياضيات خير لنا من أن نقتل أستاذا.

أخذ الأستاذ يتوسل لنا، ويطلب منا أن نتوقف عن تصويب البندقية نحوه، ووعدنا بأنه سيسمح لنا بالمشاركة في الاختبار، ولقد فات الأستاذ بأن البندقية التي لدينا، لا تستطيع أن تقتل عصفورا.

أما "السيدة ازكولي" أستاذة العلوم الطبيعية، وزوجة أستاذ الرياضيات، فقد رفضتُ أنا وصديقي أن ندخل عليها الفصل، بحجة أنها امرأة.

كنا قبل حصة العلوم الطبيعية، نسحب طاولة من الفصل، ونضعها مقابل النافذة، حتى نتابع دروس "السيدة ازكولي"، ونحن خارج الفصل، لأننا كنا ندعي بأننا رجالا، والرجال لا يقبلون أن تدرسهم امرأة، هكذا كنا نبرر عدم حضورنا لحصص العلوم الطبيعية في ذلك العام.

وفي أول اختبار في مادة العلوم، رفضت "السيدة ازكولي"، أن تستقبل أوراق الإجابة التي أعددتها أنا وصديقي، ونحن خارج الفصل. وبعد ذلك بأيام، قمنا بتهديد أستاذة العلوم، فرضخت لنا، وقبلت أن تستقبل إجاباتنا التي كنا نُعِدُّها من خارج الفصل، وكانت تعطينا نتائج جيدة، ولكن في نهاية العام اكتشفنا بأن الأستاذة التونسية التي عادت إلى بلدها في ذلك العام، قد خدعتنا، فقد كانت معدلاتنا النهائية، في مادة العلوم الطبيعية، هي أسوأ المعدلات في الفصل كله.

وكان أيضا من بين أساتذتنا التونسيين، أستاذ مادة التكنولوجيا التي ألغيت من المناهج، في ذلك العام. ومن الغريب أن مادة التكنولوجيا، والتي كانت تدرس من قبل الثمانينات، لا تدرس لطلاب الثانوية في العقد الثاني من الألفية الثالثة.

أما أساتذتنا الموريتانيين، فكان أشهرهم على الإطلاق، أستاذ التربية الإسلامية، و الذي درس أجيالا عديدة في ثانوية "لعيون"، كان من بينهم أستاذي الذي سيدرسني الاقتصاد القياسي، في جامعة نواكشوط، بعد ذلك بعقد من الزمن .

وكانت تُروى عن هذا الأستاذ قصص عجيبة، من بينها أنه قال لبعض التلاميذ بأن الطائرة التي عادت به إلى أرض الوطن، لم تستطع أن تحمله هو وشهاداته في نفس الوقت، لذلك فقد اضطر الرئيس الراحل "المختار ولد داداه"، لأن يؤجر طائرة خاصة لحمل شهادات أستاذنا للتربية الإسلامية. وما أستطيع أن أؤكده لكم هنا، هو أن الرئيس الراحل لم يذكر في مذكراته قصة تلك الطائرة التي تم تأجيرها لحمل شهادات أستاذ التربية الإسلامية في ثانوية "لعيون".

وكان يُروى أيضا عن هذا الأستاذ، بأنه قد قال لبعض تلاميذه، بأنه كان يتمشى في يوم من الأيام في القاهرة، ومر قرب ملعب لكرة القدم، أثناء مباراة رياضية، وكانت الجماهير تُصفق للاعب مشهور كان نجم تلك المباراة. يقول أستاذ التربية بأنه دخل وسط الملعب، وركل الكرة إلى أعلى حتى غابت عن أنظار الجماهير، ليبدأ تصفيق حاد تشجيعا له. ويقول الأستاذ بأنه ترك الملعب، وذهب إلى بيته وأخذ حماما، ثم عاد إلى الملعب، فوجد الجماهير لازالت تصفق، والكرة تقترب من السقوط على أرضية الملعب، فما كان من الأستاذ إلا أن ركلها مرة ثانية، ركلة أقوى، لم تسقط بعدها على الأرض، وحتى يومنا هذا، ويومنا هذا تعني يوما من أيام عقد السبعينات، لايمكنني تحديده.

ويُجمع طلاب الثانوية بأن هذا الأستاذ لا يصحح أوراق الاختبارات والامتحانات، وإنما يوزع النتائج وفق مزاجه. ومن طرائفه في هذا المجال، أنه كان يعطي لبنات والي المدينة حينها نتائج جيدة، رغم أنهن، لم تكن من بينهن من تستطيع أن تكتب اسمها بالعربية. ولم تكن تهمهن الدراسة أصلا، بل كن يقضين معظم وقتهن في لعب كرة السلة، وكان مظهرهن وهن يلبسن قمصانا وبنطلونات رياضية، ويلعبن كرة السلة، أمام دار الشباب، مثيرا لاستغراب واشمئزاز سكان المدينة.

وفي الاختبارات الشفهية، كان أستاذ التربية يطلب من كل الطلاب الخروج من الفصل، عندما يبدأ في طرح أسئلته على إحدى بنات والي المدينة.

وكانت الأسئلة من نوع : ما هذا؟

فتجيب ابنة الوالي: هازا كلمن، يعني هذا قلم.

فيقول الأستاذ : رائع، رائع ، رائع، ويرفع بها صوته حتى يسمعه الطلاب خارج الفصل، ثم يشير الأستاذ إلى الطلاب بالعودة إلى الفصل. وعند عودتهم يخبرهم بأن ابنة الوالي قدمت أجوبة رائعة، وأن من سوء حظهم أنهم كانوا خارج الفصل، ولم يتمكنوا من سماع الأجوبة الرائعة لابنة الوالي، والتي تعكس ـ حسب الأستاذ ـ مستوى متميزا في مادة التربية الإسلامية!!!

ولقد كنت أنا من ضحايا مزاج أستاذ التربية، وكانت نتيجتي ثابتة في كل اختباراته وامتحاناته في ذلك العام، وكنت أحصل دائما على 4/20. ولقد تمنيت أن أحصل ولو لمرة واحدة، على ثلاثة أو اثنين أو حتى على صفر، بدلا من الأربعة التي بدأت تزعجني كثيرا، في ذلك العام. ولقد كان الأستاذ يناديني باسمي الكامل مع كل اختبار ليقول لي، وبأعلى صوته : لقد حصلت على "كَطْ"، هكذا كان ينطق رقم أربعة بالفرنسية.

ورغم ذلك كله، فكنا نعد أستاذ التربية رجلا صالحا، وكنا نروي عنه حكايات غريبة، ولعل من أشهرها حكايته مع أستاذة فرنسية تدعى"SUIZANE". كانت تلك الأستاذة نحيفة الجسم، وكانت تحلق شعر رأسها بانتظام، وكانت تلبس دائما بنطلونا مع قميص. ويقال أن أستاذ التربية كان يعتقد بأنها رجل، وكان يصافحها كلما قابلها في الثانوية. وفي يوم من الأيام، أخبره أحد الأساتذة، عندما رآه وهو يصافح أستاذة الفرنسية، بأن "SUIZANE" امرأة وليست رجلا.

فما كان من أستاذ التربية إلا أن سحب يده بسرعة، وقال: اللهم احرقها بالنار، كما حرقتنا بالنار. ويؤكد البعض بأن ذلك اليوم الذي دعا فيه أستاذ التربية بالنار للأستاذة الفرنسية، كان هو نفس اليوم الذي اشتعلت فيه ثلاجة في منزل الأستاذة، مما تسبب في إصابتها بحروق خطيرة، نقلت بعدها في طائرة إلى نواكشوط، لتنقل بعد ذلك إلى فرنسا، قبل أن تنقطع عنا أخبارها بشكل كامل.

وكان من بين أساتذتنا في ذلك العام أستاذ اللغة العربية "محمد عثمان"، وكان أستاذا رائعا بحق، وكانت حصصه من أروع الحصص. ولقد حصلت في العربية على معدل متميز، رغم أني كنت أتظاهر أمام الطلاب باحتقار المواد الأدبية، إلا أني خارج الثانوية كنت من المهتمين باللغة والأدب، وكنت أقرأ الكثير من كتب الأدب. وكان والد صديقي رحمه الله، عالما وشاعرا وأديبا، وهو الذي أعطاه الصحفي والناقد "الشيخ سيدي عبد الله" شيئا من حقه، عندما عده بأنه رائد النقد الحديث في موريتانيا، حتى وإن كان قد أخطأ كثيرا في سرد سيرة حياته. وكانت لرائد النقد الحديث في موريتانيا، رحمه الله، مكتبة متميزة، كنت أنا وابنه نقضي فيها الكثير من أوقاتنا، كما كنا نتعلم منه، وبشكل مباشر. كنا نهتم كثيرا بالمطالعة التي لا صلة لها بالمناهج المقررة، عندما نكون خارج الثانوية. أما عندما نكون داخل الثانوية، فإننا نتفرغ للشغب والفوضى، ونبتعد عن كل أشكال المطالعة والدراسة. كان أمرنا عجيبا ومثيرا.

كنا أصغر طالبين في الثانوية، وكنا من أشد الطلاب ذكاءً، ومن أكثرهم فوضى وشغبا و إزعاجا للإدارة وللأساتذة. ولم ينافسنا في الشغب في ذلك العام ، إلا طالبان، ولكنهما لم يكونا متميزين دراسيا. أحدهما وجد صفرا في أحد الاختبارات، فأخبر والدته بذلك، فأخذت الوالدة تزغرد فاجتمع عليها الجيران، وسألوها عن سبب زغردتها، فأخبرتهم بأن ابنها بشرها بأنه حصل على صفر في الامتحان. كانت الأم المسكينة تعتقد بأن الحاصل على الصفر يستحق كل تلك الزغاريد التي أطلقتها في ذلك اليوم.

وفي سنتي الثانية في الثانوية، لم تكن لي مشاكل تذكر مع الأساتذة، بل أني كنت أتجنب الاصطدام بهم، منذ أن تآمرت عليَّ طبشورة في الفصل، وسببت لي موقفا محرجا ومؤلما مع أستاذ التاريخ في ذلك العام.

ففي أول اختباراته، طرح علينا أستاذ التاريخ سؤالا يقول: ما هي الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني أمية؟ ولأني لم أكتب شيئا في دفتري عن دولة بني أمية، ولأني لم أكن واثقا بأن التفلسف في الإجابة على هذا السؤال سيأتي بنتيجة، لذلك رفعت يدي، وطلبت من الأستاذ أن يسمح لي بطرح سؤال. أذن لي الأستاذ، فقلت: يا أستاذ، هل تريدنا أن نذكر كل الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني أمية، بما في ذلك الأسباب الثانوية، أم يكفي أن نذكر الأسباب الرئيسية لوحدها؟

قد يتخيل من سمع ذلك السؤال، بأنه ليست لدي مشكلة في الإجابة، والحقيقة أنه لدي مشاكل كثيرة في الإجابة، وتلك المشاكل هي التي جعلتني أطرح ذلك السؤال.

أشار عليَّ الأستاذ بالجلوس، وطلب مني أن أتوقف عن طرح الأسئلة، وإلا فإنه سيضطر لإخراجي من الفصل.

التزمت بأوامر الأستاذ وقتا قصيرا، ثم تذكرت بأنه من الأفضل لي أن أحصل على صفر بسبب عدم المشاركة في الاختبار، بدلا من الانصياع لتهديد الأستاذ، والمشاركة في اختبار، لن أحصل فيه ـ حسب المتوقع ـ إلا على خمسة نقاط أو ستة.

وقفت من جديد، وقلت: يا أستاذ، هل تريدنا أن نذكر كل الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني أمية، بما في ذلك الأسباب الثانوية، أم يكفي أن نذكر الأسباب الرئيسية لوحدها؟

ـ أخرج من الفصل، هكذا رد الأستاذ.

أشار لي أحد الطلاب بالخروج، وكان في إشارته الكثير من السخرية.

وقبل أن أخرج، أخذت قطعة من طبشور، كانت على طاولتي، ويبدو أنها كانت قطعة عميلة لأمريكا، ورميتها بقوة في اتجاه الطالب المستهزئ بي، ولكن قطعة الطبشور غيرت مسارها في اتجاه جبهة الأستاذ.

التفت إليَّ الأستاذ، ثم قال بكلمات، كانت أشد إيلاما من وخزات إبر "المعلم المشكلة"، ومن صطل "معلم تحسين الخط"، ومن لكمات "المعلم الملاكم":

ـ أتضربني هكذا. ولم يقل غير ذلك، وليته قال أكثر من ذلك.

ليته لم ينطق بتلك الكلمتين، وليته لم ينطقهما بصوته الهادئ، وليته صرخ في وجهي، وليته صفعني، وليته شتمني، وليته فعل أي شيء غير النطق بتلك الجملة الهادئة التي عذبني بها زمنا طويلا.

فكرت في أن أعتذر له، وأن أقول له بأني لم أكن أقصد رميه بقطعة الطباشير، وإنما كنت أقصد أحد الطلاب، ولكني لم أستطع النطق، حتى وإن نطقت فإني كنت واثقا بأنه لن يصدقني، ولن يصدق بأني أتعرض لمؤامرة كبرى، وبأن قطعة الطباشير التي سقطت على جبهته كانت عميلة لأمريكا.

تصبب جسمي عرقا، وشعرت برغبة جامحة في البكاء، ولولا رجولة كاذبة كنت أتمثلها، لبكيت واسترحت.

ففي كل حياتي الدراسية، لم أشعر بالارتباك مثلما كنت أشعر به في تلك اللحظات.

ورغم أني كنت من أكثر الطلاب شغبا وفوضى، إلا أنه كانت لدي خطوط حمراء، لم أكن لأتجاوزها، وكان من بين تلك الخطوط الحمراء أن لا أرفع يدي في وجه من هو أكبر مني سنا، خاصة إذا كان أستاذا، وفي سن والدي رحمه الله، هكذا تربيت، وهكذا كنت دائما. فأنا لم أكن سيء الخلق، حتى وإن كنت من أكثر الطلاب شغبا وفوضى.

كان رفع اليد في وجه من هو أكبر مني سنا جريمة نكراء لا يجوز ارتكابها، ولو كان ذلك مما يجوز، لصفعت شرطيا بائسا أهانني أمام الجميع، أو على الأقل لرميته بحجارة وهربت.

ففي احد الأيام ذهبت لأتابع إحدى المحاكمات المفتوحة أمام الجماهير، وكنا في ذلك الوقت نهتم كثيرا بالمحاكمات، وبمتابعة مرافعات المحامين، وخصوماتهم في قاعات المحاكم. ذهبت في ذلك اليوم، رفقة أصدقاء لي، كانوا أكبر مني سنا، ولكنهم كانوا لا يزالون يحلمون بالنجاح في مسابقة دخول الإعدادية، والالتحاق بي في الثانوية.

عند الباب استقبلنا شرطي بائس، وسمح لكل أصدقائي بالدخول، أما أنا فقد رفض أن يسمح لي بالدخول، ونصحني بأن أذهب للشارع لألعب مع زملائي الأطفال هناك.

فلو كان ضرب الكبار يجوز لي، لرميت ذلك الشرطي البائس بحجارة على الوجه، ثم أطلقت ساقي للريح.

كان هناك خيط رفيع بين إزعاج الكبار والإساءة إليهم، ولم أكن لأسمح لنفسي بتجاوز ذلك الخيط الرفيع. كانت الفوضى والشغب من الأشياء الجائزة لنا نحن الصغار لإزعاج الكبار. ولكن الإساءة إليهم بكلمات جارحة، أو بالضرب فذلك كان مما لا يجوز في أي ظرف من الظروف.

كانت هناك تصرفات يسمح لنا الكبار بممارستها، حتى ولو كانت تزعجهم كثيرا، ولكن كانت هناك تصرفات أخرى لا يجوز لنا الإقدام عليها.

ولقد ارتكبت في يوم اختبار التاريخ، واحدة من أبشع تلك التصرفات التي لا يجوز الإقدام عليها. ومما زاد من بشاعة ما قمت به، هو ردة فعل الأستاذ الهادئة، على تصرفي الطائش.

ومنذ ذلك اليوم لم أرفع بصري في وجه أستاذ التاريخ، وكنت أتجنب دائما أن أقوم بأي حركة، أو أن أحدث أي صوت أثناء حصصه.

وفي كل حصة كنت أحاول أن أعتذر لأستاذ التاريخ، بسلوكي الجديد، والذي استغربه زملائي في الفصل كثيرا. ولقد شعر الأستاذ بذلك التغير الذي طرأ على سلوكي، منذ حادثة الطبشور، وهو ما جعله يتقبل اعتذاري دون أن يخبرني بذلك، وإن كانت نتائجي في كل اختبارات وامتحانات التاريخ، التي تم إجراؤها بعد حادثة الطبشور، لتؤكد بأن أستاذ التاريخ قد تقبل اعتذاراتي.

تصبحون على الحلقة السابعة من الرواية...

الحلقة الخامسة من اليوميات: http://www.elvadel.blogspot.com/2011/10/5.html

الحلقة الرابعة:

http://www.elvadel.blogspot.com/2011/10/4.html

الحلقة الثالثة:

http://www.elvadel.blogspot.com/2011/10/3.html

الحلقة الثانية:

http://www.elvadel.blogspot.com/2011/10/2.html

الحلقة الأولى:

http://www.elvadel.blogspot.com/2011/09/1.html

تمهيد للرواية:

http://www.elvadel.blogspot.com/2011/09/blog-post_19.html