الثلاثاء، 30 سبتمبر 2025

صعود التفاهة في موريتانيا.. أزمة قدوة تهدد مستقبل الشباب!


لم يعد خافيا أن التفاهة في موريتانيا قد تحولت من مجرد ظاهرة هامشية إلى "تيار جارف" يكاد أن يجرف ويبتلع كل شيء يقع على طريقه، وذلك بعد أن بهر - أي تيار التفاهة الجارف -  عقول الشباب، وخطف أبصارهم، وخلق لهم قدوات وهمية من "اللاشيء".

يحدث هذا في وقت تكتفي فيه النخب الجادة، أو التي يفترض أنها جادة بالتفرج، أو تنشغل في أحسن الأحوال بصراع عبثي غير ناضج، يضع فيه الموالون النظام الذين يدعمون فوق المصالح العليا للبلد، ويضع فيه المعارضون المصالح العليا للبلد في درجة ثانية بعد مصالحهم السياسية الضيقة.

إن هذا الاختلال البيِّن في التوازن بين نخب جادة تكتفي بالتفرج، وتفاهة تتسع وتتمدد بشكل سريع، ينذر بخطر كبير يهدد مستقبل البلد. ومما يزيد من خطورة التهديد أنه لم تعد توجد في بلادنا نخبٌ جادة مقنعة وملهمة للشباب، قادرة على مقاومة تيار التفاهة الجارف، ويعود ذلك لأسباب كثيرة ذكرتها في مقالات سابقة، ولا يتسع المقام لاستعراضها هنا، ويبقى الزهد الإعلامي لبعض النخب التي كان يمكن أن تشكل قدوات للشباب في مجالها، أحد تلك الأسباب. وبخصوص الزهد الإعلامي لبعض النخب الجادة، فإني سأقدم لكم مثالا حيا يتعلق بصديقين فاضلين، قد لا يرتاحان لذكرهما في هذا المقام، ولكني سأذكرهما لأنهما خير مثال يمكن أن يقدم في هذا المقام، فهما من أوائل الموريتانيين الذين دشنوا الانترنت في بلادنا، ومع ذلك فلا يعرفهما إلا القليل جدا، ويمكنني أن أجزم  بأن نسبة من يعرفهما من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي قد لا تصل إلى 1%.

ويمكنني أن أجزم كذلك أن أغلبية من سيقرأ هذا المقال، لم تسمع من قبل عن إبراهيما با، وهو الموريتاني الوحيد الذي يشغل اليوم وظيفة سامية في شركة "ميتا" (فيسبوك)، ولا عن إسلمو ولد المعلوم، وهو أول موريتاني عمل في شركة "غوغل".

با إبراهيما وإسلمو ولد المعلوم يرجع لهما الفضل في تسجيل أول اتصال لموريتانيا بالانترنت من خلال تأسيسهما - بالتعاون مع آخرين - لأول مجموعة بريدية موريتانية على الإنترنت، وكان ذلك في العام 1994، وتبادلا من خلال تلك المجموعة أول رسالة إلكترونية يبعثها موريتاني لموريتاني عبر مجموعة بريدية موريتانية، إنهما من "الآباء المؤسسين" للإنترنت في موريتانيا، ومع ذلك فعندما نُجري اليوم بحثا في الانترنت عن صورهما فأقصى ما سنجد صورة أو صورتين، وعندما نزر حساباتهم في فيسبوك فستجدها شبه خاملة، إسلمو لديه عدد من الأصدقاء لا يتجاوز 180، وابراهيما با لديه حساب أكثر خمولا، مع عدد من الأصدقاء يقارب عدد أصدقاء إسلمو. 

إن زهد هذين الصديقين الفاضلين في الإعلام والظهور، حتى وإن  كان مفهوما ومتفهما على المستوى الشخصي، ويعكس مستوى من التواضع النادر في أيامنا هذه، إلا أنه في المقابل ترك فراغا في هذا الفضاء، وساهم في غياب رموز وقدوات حقيقية وملهمة للشباب في مجال الانترنت وعوالمه الواسعة.

عندما يصبح "اللاشيء" قدوة!

إن غياب إسلمو وابراهيما با وغيرهم ممن كان يمكن أن يشكل قدوات للشباب في عوالم الانترنت، يعدُّ أحد أهم أسباب سيطرة التفاهة والسطحية في فضاءات الانترنت، فمن المعروف أن الانترنت أصبح اليوم، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، هو صانع القدوات والمشاهير من التافهين والسطحيين،  فهو يأخذ الواحد منهم من اللاشيء فيجعل منه في غمضة عين شخصا مشهورا، مع أنه لا يملك أي شيء مفيد يمكن أن يقدمه للمجتمع، لا يملك غير الكلام  الساقط والبذيء، وأكثر نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي بذاءة وإساءة هم اليوم الأكثر شهرة ومتابعة، وعندما يشعر الواحد من هؤلاء تباطؤا في تصاعد شهرته، يفتعل معركة مع أخ له في التفاهة والسطحية، يستخدمان فيها مخزونهما من الكلام السيء والبذيء الذي لا ينضب، فيزداد بذلك عدد أصدقائهما ومتابعيهما، وتكثر التعاليق والإعجابات والمشاركة لما ينشران من تفاهة، ويتحول تبادلهما للشتائم إلى "قضية رأي عام" يتابعها الجميع.

لقد أصبح من العادي جدا أن تزداد شهرة كل ناشط في مواقع التواصل الاجتماعي إذا خاصم فجر، ولعلكم تتذكرون الآن نشطاء في هذا الفضاء ارتفعت أسهمهم وازدادت شهرتهم بعد معارك سخيفة استخدموا فيها ما استخدموا من كلام هابط وبذيء.

وعلى النقيض من زهد الصديقين إسلمو وابراهيم با في الإعلام، وهم الذين يمتلكون ما يمكن أن يقدموه للإعلام،  نجد أن نجوم التفاهة والسطحية في الانترنت، وهم الذين لا يملكون أي إنجاز معرفي أو مهني، ولم يقدموا في حياتهم شيئا مفيدا سوى الصراخ بالكلام السيء والبذيء،  نجدهم مع ذلك حريصين على الظهور باستمرار  في مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى تقديم "اللاشيء" في أحسن الأحوال، وتقديم السيء والبذيء في أغلب الأحوال، فيتحولون بتكرار ظهورهم، وبما يتلفظون به من كلام سيء وبذيء إلى قدوات لآلاف المراهقين والشباب الذين ربما يكونون قد أعياهم البحث عن قدوات صالحة في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يقضون فيها جل أوقاتهم، فلم يجدوها.

في مثل هذا الوقت الذي اختارت فيه النخب الجادة - أو أجبرت- على الأنزواء والتفرج، وعلا فيه ضجيج التافهين واتسع حضورهم في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت هي الموجه الأول للشباب، فسنجد أن شبابنا قد انقسم إلى ثلاث فئات أساسية:

1. شباب متسرب من المدارس: يمثل نسبة كبيرة من الشباب، انخرط جله في عالم الجريمة وتعاطي المخدرات. أغلب الجرائم المسجلة في السنوات الأخيرة يقف وراءها شباب أو مراهقون تسربوا من التعليم.

2. شباب منشغل بالتفاهة: لا يتعاطى المخدرات ولا يرتكب جرائم، ولكنه ضائع في متابعة محتوى فارغ، يصنع من التافهين الذين يجمعون مالا سهلا من هذه المواقع رموزا وقدوات يحتذى بها.

3. شباب جاد وناجح في مساره التعليمي، وفيه من يمتلك مواهب في مجالات نافعة، لكنه بلا قدوات ملهمة، ولا يجد حاضنات ترعاه.

الحاجة إلى صناعة القدوة والحاضنة

إن غياب الرموز القابلة للتسويق إعلاميا وثقافيا للشباب يُعدُّ مشكلة كبرى، فالشباب الجاد بحاجة إلى حاضنات ترعاه وقدوات ملهمة. ولذلك فقد اقترحتُ سابقا أن يعلن عن يوم وطني للمواهب الشبابية يستقبل فيه رئيس الجمهورية في القصر الرئاسي كل الموهوبين الذين مثلوا بلادنا في مسابقات إقليمية أو دولية في شتى المجالات العلمية والثقافية والرياضية، هذا فضلا عن إطلاق جائزة وطنية للمواهب الشبابية تحمل اسم رئيس الجمهورية، ليكرم من خلالها شبابنا المتميز علميا أو ثقافيا أو رياضيا.

إن الأخذ بهذه المقترحات سيساعد في خلق رموز شبابية من الوسط الشبابي نفسه، ويمكن لهذه الرموز  أن تشكل مستقبلا قدوات ملهمة للشباب الضائع في مواقع التواصل الاجتماعي، ويمكنها أن تعيد الاعتبار للجدية في صفوف الشباب، بدلا من تركه يتخبط في في التفاهة ويسير خلف التافهين.

ختاما

إن موريتانيا بلد شاب، 70% من سكانه تحت سن الثلاثين. ومصير هذا البلد مرتبط بمصير شبابه. فإذا تُركوا لسطوة التفاهة وضجيجها، فإن المستقبل سيكون مقلقا. أما إذا تم الاستثمار في المواهب والقدوات الحقيقية، فإن موريتانيا يمكن أن تحجز مكانة لائقة في عالم يتغير بسرعة.

في الصورة أتوسط صديقي الفاضلين إبراهيما با وإسلمو وقد التقطها لبرفسير محمد باب سعيد. منذ فترة وأنا أدعو الصديقين الفاضلين لحضور حلقة من صالون المدونين للحديث عن تجاربهما في غوغل وفيسبوك، وعن قصة أول اتصال لموريتانيا بالانترنت، وأرجو أن يتحقق ذلك في أحد مواسم الصالون القادمة. 

حفظ الله موريتانيا..

عن مبادرة ترامب!


مما لا شك فيه أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أكثر الرؤساء الأمريكيبن انحيازا للعدو الإسرائيلي، ومبادرته الأخيرة تعكس ذلك الانحياز الفج، فهي مجرد وثيقة استسلام تمت صياغتها في شكل مبادرة.

ورغم ذلك، فقد قوبلت هذه المبادرة  بترحيب كبير من قادة الدول العربية والإسلامية، بل رحبت بها كذلك حكومات غربية كانت مواقفها السابقة مشرفة وشجاعة اتجاه فلسطين، كما هو الحال بالنسبة لحكومة إسبانيا على سبيل المثال. 

إن هذا التباين بين مضمون المبادرة المشكوك فيه، وموجة الترحيب بها حتى من طرف حكومات كان موقفها مشرفا، يضعنا أمام حيرة شديدة، ويثير  العديد من الأسئلة الصعبة حول ما يجري بالفعل.

ولفهم هذا المشهد المعقد، يمكن تصور ثلاثة فرضيات رئيسية:

الفرضية الأولى: أن يكون العالم قد قرر التخلي كليا ونهائيا عن فلسطين، والتوقف عن الدفاع عن حقوقها، وذلك بعد أن خذلها عسكريا في حرب الإبادة، وخذلها دبلوماسيا في كسر  الحصار والتجويع، وها هو يخذلها اليوم تفاوضيا بقبول مبادرة ترامب التي تمثل في حقيقتها مجرد استسلام بشروط نتنياهو.

الفرضية الثانية: أن تكون المبادرة، رغم صدورها من ترامب، أقل سوءا مما نتصور، فربما تكون قد تضمنت الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، ولهذا فقد رحب بها العديد من قادة الدول العربية والإسلامية والأوروبية .

الفرضية الثالثة: أن المبادرة سيئة بالفعل، وهي مجرد محاولة لتحقيق ما عجز عنه نتنياهو بالحرب من خلال المفاوضات، ولكن الدول التي كانت تتخذ مواقف أكثر إيجابية اتجاه فلسطين وصلت إلى مرحلة من اليأس جعلتها تدرك أنه في ظل إدارة ترامب لا أمل بحل عادل.

ولأن حرب الإبادة تحولت إلى مأساة إنسانية غير محتملة، على الأقل على مستوى بعض الشعوب الغربية، فقد قبلت هذه الدول مكرهة لا بطلة بمبادرة ترامب. قبلتها فقط من أجل إيقاف القتل والتجويع والحصار ولو بشكل مؤقت، على أمل أن تتاح فرصة أخرى مستقبلا لفتح باب تفاوضي جدي أكثر إنصافا.

في النهاية، تكشف الفرضيات الثلاث أن القضية الفلسطينية لا تزال رهينة لمعادلات دولية معقدة، وأن موازين القوى والخيارات السياسية تُدار غالبا بمعزل عن العدالة والحق التاريخي. غير أن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن فلسطين ستظل، ومهما تواطأ العالم أو يئس، قضية حية في وجدان الشعوب، وأن أي مبادرة ظالمة كمبادرة ترامب لن تغلق ملف الصراع، حتى وإن رحبت بها كل دول العالم.

يبقى أن أقول بأن أي موقف ستتخذه حــ.مـاs من هذه المبادرة سيكون هو الموقف الأسلم الذي علينا أن ندعمه، سواء كان موقفا رافضا أو قابلا لها.

ويبقى الأمل قائما، فحــ.مـاس حتى وإن خذلها العالم كله، فذلك لا يعني هزيمتها، فالنصر والهزيمة لا يأتيان من أمريكا، والكون لا يسير وفق مزاج وغطرسة ترامب ولا وفق جبن القادة العرب والمسلمين المتخاذلين.

إن النصر لا يأتي إلا من عند الله، والله قادر على أن ينصر المستضعفين، ويهزم الجبارين الظالمين، متى أراد، وكيفما أراد.

حفظ الله فلسطين.

الاثنين، 29 سبتمبر 2025

مقترح لتخفيف كثافة حركة السير على المقطع (نواكشوط – ألاك)


في إطار الجهود الوطنية الرامية إلى الحد من حوادث السير، وسعيا لتخفيف الضغط المروري على مقاطع حيوية من طريق الأمل، فإننا في حملة معا للحد من حوادث السير  نتقدم إلى الجهات المعنية بهذا المقترح العملي، الذي نرى أنه يستحق الدراسة الجادة، لما له من أثر مباشر على السلامة الطرقية، واستغلال البنية التحتية الطرقية - وبمختلف محاورها - بشكل أمثل.

من المعروف أن مقطع (نواكشوط – ألاك) يشهد كثافة مرورية كبيرة، تتسبب في زيادة حوادث السير على هذا المقطع، ومع أن الحل الجذري لهذا المشكل يتمثل في تشييد طريق مزدوج على هذا المقطع، إلا أن ذلك قد يتطلب وقتا وتمويلا، مما يستدعي التفكير في حلول مؤقتة وفعالة.

وعليه، فإننا في حملة معا للحد من حوادث السير نقترح اتخاذ إجراء يُلزم الشاحنات القادمة من المملكة المغربية والمتجهة إلى جمهورية مالي بالمرور عبر  المسار التالي: نواذيبو – الشامي – أكجوجت – أطار – تجكجة – صنكرافة، وذلك بدلا من المسار التقليدي: نواذيبو – نواكشوط – بوتلميت – ألاك - صنكرافة.

لقد لاحظنا في قافلة "معا من أجل خريف آمن" التي جابت مؤخرا  كل الولايات وسلكت كل المحاور الطرقية أن طريق (تجكجة – أطار)  شبه خالٍ من حركة السير، حيث لم تمر عليه سوى عشر سيارات خلال 12 ساعة قضيناها على هذا الطريق، وهو رقم لا يتناسب مع حجم الاستثمار  الكبير الذي خُصص لهذا الطريق.

ولذا فإن اتخاذ إجراء يقضي بإلزام الشاحنات المغربية المتجهة إلى مالي بالمرور بهذا الطريق، سيساهم في استغلاله، وسيخفف ذلك من الضغط المروري على المقطع (نواكشوط - ألاك)، ولا يحتاج هذا التعديل في مسار الشاحنات المغربية المتجهة إلى مالي إلا لبعض التحسينات والتعديلات في بعص الممرات الجبلية على هذا الطريق.

وسيكتسب  هذا المقترح وجاهة أكبر بعد افتتاح معبر "امكالة" الحدودي بين بلادنا والمملكة المغربية، وكذلك بعد تشييد الطريق الرابط بين تجكجة وكيفة.

إننا نعتقد أن العمل بهذا المقترح سيُسهم في:

1 - التقليل من حوادث السير على محور (نواكشوط – ألاك).

2 - استغلال المحور الطرقي الرابط بين الشامي -  أكجوجت - أطار - تجكجة - صنكرافة، أحسن استغلال .

3- تعزيز  التوازن في حركة السير على مختلف المحاور الطرقية.

إننا نأمل في حملة معا للحد من حوادث السير  من الجهات المعنية دراسة هذا المقترح بجدية، واتخاذ ما يلزم من إجراءات للتخفيف من الضغط المروري على بعض المقاطع الحيوية من طريق الأمل، والتقليل - بالتالي - من حوادث السير على هذه المقاطع.

نواكشوط بتاريخ: الاثنين 29 سبتمبر 2025

معا للحد من حوادث السير.

الأحد، 28 سبتمبر 2025

موريتانيا والصبر الاستراتيجي: الرد الأمثل على النظام الفاشل في مالي!


تمَّ مؤخرا تداول مقطع مصور على منصات التواصل الاجتماعي يظهر فيه من يحمل صفة "وزير المصالحة" في مالي، وهو يسيء إلى موريتانيا بشكل يثير الشفقة أكثر مما يثير الغضب؛ فحال هذا البلد الشقيق والجار معروف، ومن المثير للشفقة حقّا أن يسخر وزير في بلد على طريقه للانهيار والتفكك من بلد آمن ومستقر له علاقات حسنة مع الجميع.

لقد أثار هذا المقطع — المثير للشفقة أولا — موجة من الغضب الشعبي في موريتانيا، تخللتها دعوات لرد رسمي حازم. وهذا شيء مفهوم ومتفهم ومبرر عاطفيا، خاصة وأن هذه الإساءة تأتي بعد سجل مؤلم من اعتداءات الجيش المالي على مواطنين موريتانيين مسالمين خلال السنوات الأخيرة.

من المتفهم حقّا أن يثير هذا المقطع المسيء غضب كل موريتاني وطني لا يجامل في الدفاع عن سمعة بلده، ولكن في مجال السياسة الخارجية والعلاقات مع الدول، فإن الأمور لا يمكن أن تُدار بالعاطفة والانفعال، بل إنها تُدار بالحكمة وبما يخدم المصالح العليا للبلد في الحاضر والمستقبل.

إن انجرار الحكومة الموريتانية وراء استفزاز كهذا، رغم إغراءاته ودغدغته لعواطف ومشاعر الكثير من الموريتانيين، قد يوقعنا في فخ نصبه النظام المالي الذي يعاني من أزمات داخلية متفاقمة، وصلت إلى مستويات بالغة الخطورة تنذر بقرب سقوط هذا النظام، وربما تفكك الدولة المالية.

يدرك النظام الانقلابي في مالي أنه يواجه تحديات وجودية: تدهور الأمن، فقدان السيطرة على أغلب الأراضي المالية، أزمة اقتصادية خانقة، ضعف الشرعية السياسية، وضغوط شعبية متصاعدة. وفي مثل هذه الظروف، تلجأ الأنظمة الفاشلة والضعيفة — كما هو حال النظام الانقلابي في مالي — إلى تصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج، باعتبار ذلك آخر مخرج لها لصرف انتباه المواطنين عن إخفاقات النظام الداخلية وفشله البيّن في إدارة وتسيير شؤون البلد.

إن الإساءة إلى موريتانيا من طرف وزير مالي ليست إلا محاولة بائسة ويائسة من حاكم باماكو  لخلق "عدو خارجي" يوجّه إليه غضب الشعب المالي، ويشغله عن مشاكله الداخلية التي وصلت إلى مستويات لا تُطاق؛ خاصة في الفترة الأخيرة، والتي أحكمت فيها الحركات المسلحة الحصار الاقتصادي على نظام غويتا الفاشل، والذي أصبح يجد صعوبة حتى في توفير المحروقات لتنقّل "وزير المصالحة" الذي سخر مؤخّرا من موريتانيا في المقطع المتداول على منصات التواصل الاجتماعي.

إن كل هذه الأزمات التي يحاول النظام الانقلابي في مالي أن يخلقها مع موريتانيا — البلد الوحيد الذي رفض أن يحاصر الشعب المالي ويشارك في تجويعه — إنما هي من أجل إطالة عمره لأشهر معدودة، ولذا فإن أي رد صدامي من موريتانيا تحركه العواطف على الاستفزازات المالية سيكون بمثابة وقوع في الفخ، وسيشكل خدمة مجانية للنظام المالي الفاشل؛ فأي ردة فعل قوية من الحكومة الموريتانية ستمنح للنظام الذي يحتضر في مالي "حقنة حياة" من خلال إعطائه فرصة ثمينة لتأجيج مشاعر الماليين والظهور لهم بأنه يدافع عنهم ويحميهم من "عدو خارجي" هو موريتانيا.

نعم للصبر الاستراتيجي.

على موريتانيا أن تواصل حربها ضد الهجرة غير الشرعية، وأن تكثّف من نشاطها الاستخباراتي، وأن تعزز من وجودها العسكري في الولايات الحدودية. ولكن عليها كذلك أن تمارس سياسة ضبط النفس في التعامل مع النظام الفاشل في مالي، وهذا ليس موقف ضعف، وإنما هو موقف ناضج يجمع بين القوة والحكمة.

إن الأنظمة الفاشلة التي تُحرم من خلق "عدو خارجي" لتوجيه غضب شعبها الداخلي إلى ذلك العدو الخارجي ستنهار حتما، وستسقط من الداخل بسبب تراكم إخفاقاتها الكبيرة. ولذا فترك النظام المالي يواجه أزماته الداخلية هو الموقف الأسلم، وهو أقوى وسيلة للرد على استفزازات هذا النظام الفاشل.

إن موريتانيا قادرة على أن تنتصر بصمتها المدروس وصبرها الواعي على النظام الانقلابي الفاشل في مالي، وقادرة على أن تُفشل مخططات هذا النظام وسعيه لتصدير أزماته إلى الخارج لينجو من حبل المشنقة الذي بدأ يقترب كثيرا من رقبته.

وعندما يسقط النظام الفاشل في مالي — وهو سيسقط حتما بعد ان اكتملت كل علامات سقوطه — فحينها سنقطف ثمار صبرنا الاستراتيجي، وحينها سيكون بإمكاننا أن نفتح صفحة جديدة مع الحكام الجدد في مالي. ولن يقف الشعب المالي ضد فتح صفحة جديدة، خاصة بعد أن تجنَّبنا السقوط في فخ نظام غويتا الفاشل. ولو أننا كنا قد سقطنا في هذا الفخ لتمكن النظام الفاشل في مالي من خلق عداء بين الشعبين الشقيقين والجارين، الشعب الموريتاني والمالي، وكان من الصعب تجاوزه مستقبلا، حتى ومن بعد سقوط ذلك النظام.

لقد حكمت الجغرافيا على بلدنا بأن يشترك مع مالي أطول حدود له، وحكم التاريخ والمصالح على الشعبين الموريتاني والمالي بكثير من التداخل الاجتماعي والاقتصادي، وتلك أمور يجب أن تكون حاضرة دائما قبل اتخاذ أي قرار قد يؤدي إلى إشعال حرب بين البلدين الجارين والشقيقين: موريتانيا ومالي.

حفظ الله موريتانيا...

الجمعة، 26 سبتمبر 2025

في هذه المدينة تعلمتُ أهم درس في حياتي!


بعد أكثر من عقدين من الزمن، هأنذا أعود اليوم إلى مدينة سيلبابي التي تعلمت فيها أهم وأعظم درس في حياتي. والغريب في الأمر أن هذا الدرس لم أتعلمه في جامعة، ولم يلقنه لي أستاذ جامعي، بل تعلمته من نساء أميات جئت إلى المدينة في مطلع الألفية لأعلمهن القراءة والكتابة، فإذا بي أتعلم منهن أهم درس تعلمته - حتى الآن - في حياتي..

في مطلع هذه الألفية دفعتني البطالة، وأنا خريج قسم الاقتصاد، إلى أن أقبل بتدريس قسم لمحو الأمية في مدينة سيلبابي مقابل تعويض زهيد. 

كان القسم يضم نساءً أميات كبيرات في السن، من بينهن من لم تكن تحفظ سورة الفاتحة. 

وقد دفعتني حاجة "تلميذاتي" الملحة للتعلم، ورغبتهن في ذلك. إلى أن أبذل جهدا مضاعفا، طلبا للأجر أولا، وتأدية - ثانيا - لعمل أتقاضى عليه راتبا، ولأني كنت أحترم عقولهن رغم أميتهن، فقد اجتهدت في البحث عن منهجية تدريس تُناسب مستواهن العمري والعقلي، وذلك بدلا من أن أكتب لهن على السبورة، وكما كان يفعل آخرون: "خديجة تلعب مع صديقاتها" أو " قطتي جميلة" إلى غير ذلك مما علق بأذهانكم من جمل كهتين في المرحلة الابتدائية.

جمعتُ - في إطار مبادرة تطوعية أطلقتها في تلك الفترة - نسخا من الجزء الأول من القرآن الكريم، كُتبت بخط كبير، ووزعتُ تلك النسخ على تلميذاتي، كما اقتنيتُ لهن مكتبة صوتية، أغلبها كان أشرطة للأستاذ الجليل محمد ولد سيدي يحي، وطلبت منهن أن يجتمعن كل ليلة في منزل إحداهن للاستماع بشكل جماعي إلى أحد الأشرطة، ثم نراجع في اليوم الموالي ما جاء في ذلك الشريط من أحكام عن الصلاة أو الوضوء ....إلخ

أتذكر أني خصصت إحدى حصص التربية المدنية للحديث عن أهمية نظافة الشارع، فذكرت لهن - كمدخل للدرس - الحديث الشريف الذي جاء فيه: "تعدِلُ بيْن الاثْنَيْنِ صدَقَةٌ، وتُعِينُ الرَّجُلَ في دابَّتِهِ، فَتحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أوْ ترْفَعُ لَهُ علَيْهَا متَاعَهُ صدقةٌ، والكلمةُ الطَّيِّبةُ صدَقةٌ، وبِكُلِّ خَطْوَةٍ تمْشِيها إِلَى الصَّلاَةِ صدقَةٌ، وَتُميطُ الأذَى عَن الطرِيق صَدَقةٌ". وفي الحصة التالية فوجئت بأن معظم "التلميذات" حاولن تطبيق الدرس. فإحداهن قالت إنها سبَّحت طوال طريقها إلى السوق، وأخرى نظفت المسجد المجاور لبيتها، وثالثة ابتسمت كثيرا لكل من قابلته، حتى لجارة لها كانت على خلاف شديد معها!

كانت المفارقة الصادمة هي أن الأستاذ ـ عفا الله عنه ـ هو الوحيد في الفصل الذي لم يحاول أن يطبق أي جزئية من الحديث الذي درَّس لتلميذاته!!!

وأذكر  أيضا أني كنت أأسف كثيرا لتغيب بعض "تلميذاتي" بسبب المرض، ومع ذلك فلم يخطر ببالي أن أزور أي واحدة منهن أثناء المرض، ولكني عندما مرضتُ أنا فوجئت بهن يوما يزرنني حيث أسكن، رغم بعد المسافة، وكانت من بينهن عجائز يجدن مشقة كبيرة في المشي. وعندما استغربت منهن ذلك، قالت لي إحداهن: "ألم تقل لنا في درس سابق إن سبعين ألف ملك يصلون على من يزور مريضا؟ فهل تريد أن تحرمنا من هذا الأجر العظيم؟"

هنا أدركت أني لم أكن أنا المدرس في ذلك الفصل، بل كنت التلميذ الحقيقي. فقد تعلمت من نساء أميات أن العلم ليس ما نسمعه أو نكتبه، وإنما ما نطبقه في حياتنا. لقد طبقن ما تعلمن، بينما أنا الذي كنت أظن نفسي  هو "الأستاذ" لم أطبق إلا القليل مما تعلمت!

ومنذ ذلك الحين، ترسخ في ذهني أن العلم النافع هو ما نعمل به، تماما كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون، فكان الواحد منهم لا يتجاوز عشر آيات من القرآن تعلمها حتى يعرف معانيها ويعمل بها، فيتعلم غيرها، وهكذا.

اليوم، أعود إلى سيلبابي بعد أكثر من عشرين سنة، وهي المدينة التي مارستُ فيها أول عمل تطوعي مؤسس، أعود إليها في عمل تطوعي آخر، ومع أني قد لا ألتقي بتلميذاتي أو "أستاذاتي" ـ إن كن ما زلن على قيد الحياة ـ فأنا لم أعد أتذكر أسماءهن ولا ملامحهن، حتى أسأل عنهن، وتلك واحدة من نقاط ضعفي التي تتسبب لي دائما في حرج كبير، فأنا سريع النسيان للأسماء والملامح، وقد لا يسلم من ذلك من كان عهدي به قريبا، فكيف لمن كان عهدي به يزيد على عقدين من الزمن؟

قد لا ألتقي بأستاذاتي الفاضلات في سيلبابي، ولكني سأبقى أعترف لهن دائما بالجميل، بعد أن تعلمتُ منهن أهم وأعظم درس تعلمته في حياتي.

حفظ الله موريتانيا...


الخميس، 25 سبتمبر 2025

نعم لحوار حياة بين السائق والطريق!


إن للشارع لغة خاصة، شأنه في ذلك شأن أي فضاء آخر نتعامل معه في حياتنا اليومية. هذه اللغة لا تُنطق بالكلمات، بل تُقرأ بالعين وتُفهم بالعقل، وتستوجب ردة فعل محددة، وتتمثل هذه اللغة في الشواخص الإرشادية والتحذيرية التي تثبت على الطرق والشوارع لتكون عينا ثالثة للسائق، ورفيقا آمنا لسالك الطريق.

فالسائق لا يستطيع أن يتوقع كل المخاطر، ولا أن يعرف تفاصيل الطريق مسبقا، لذلك جاءت الشواخص لتقول له بلسان السلامة الطرقية:  "انتبه.. هنا خطر، هنا منعطف، هنا يمنع التجاوز....إلخ"

خلال 15 يوما جابت فيها قافلة #معا_من_أجل_خريف_آمن كل المحاور الطرقية المهمة في البلاد، خرجنا بملاحظة مفادها أن طُرقنا في الغالب طرق خرساء لا تُحدث السائق أبدا، وإن حدثته في حالات نادرة حدثته بلغة  غير مفهومة وغير واضحة، وغياب هذا الحديث عن محاور طرقنا كان هو موضوع الحلقة رقم 13 من البث المباشر للقافلة، وهي الحلقة التي نظمناها مساء أمس في ضواحي كيهيدي.

هناك طرق لا نوجد بها شواخص، بل أكثر من ذلك، فهي لا تقدم لك أبسط معلومة تحتاجها، كتحديد المكان الذي أنت فيه، وهذا هو حال الطريق الرابط بين تجكجة وأطار،  وبين أطار وازويرات،  وكذلك بين أكجوجت والشامي، في هذه الطرق ثبتت الأعمدة التي تكتب عليها المسافة، ولكن الأعمدة تُركت بيضاء دون أن يكتب عليها أي شيء.

لا يتوقف تعطل الحوار بين السائق والطريق بسبب صمت الطرق فقط، ففي طرف الحوار الثاني، نجد أن السائق لا يفهم أصلا لغة الطريق، ولا يستطيع أن يفك رموزها، إن حدثه الطريق.

لقد شاركتُ في عدة مواسم من جائزة أحسن السائق، وخلال تصفيات تلك الجائزة كنا في اللجنة المشرفة عليها نوجه أسئلة بسيطة للسائقين، من قبيل ماذا يعني الخط المتقطع والخط المتواصل على الطريق؟ وكنا نعرض على بعضهم إشارات بسيطة كإشارة ممنوع التجاوز فلا يعرفونها!

مقترحات من أجل إطلاق حوار جدي بين السائق والطريق: 

1. إطلاق برنامج وطني عاجل لنصب الشواخص الإرشادية والتحذيرية على كل المحاور الطرقية، وأن يكون ذلك وفق المعايير الدولية المعمول بها.

2. إطلاق حملات تحسيسية مكثفة تستهدف السائقين، تشرح لهم أهمية الإصغاء للغة الطريق، وضرورة فهمها، وذلك من خلال شرح الرموز والصور  والأعداد التي توضع على أهم الشواخص المستخدمة في بلادنا.

3 - إعطاء أسئلة الشواخص قيمة أكبر في امتحانات رخصة القيادة، والرفع من شأنها حتى تصبح مقصية في حالة تعثر الإجابة عليها؛ 

4. إدراج مادة  السلامة الطرقية في المناهج الدراسية، مع التركيز على الشواخص.

ختاما

علينا أن نتذكر دائما أن كل شاخصة تُنصب بشكل صحيح، قد تنقذ نفسا بشرية بريئة من الموت. فالشواخص ليست مجرد لافتات عليها رسوم أو أعداد، بل هي لغة حياة، يخاطب بها الطريق السائقين والمشاة، فعلينا جميعًا أن نتعلم تلك اللغة، ونفرض احترامها في طرقنا إنقاذا للأنفس وصيانة للمتلكات.

#السلامة_الطرقية_مسؤولية_الجميع 

#معا_للحد_من_حوادث_السير

الأربعاء، 24 سبتمبر 2025

للجادين فقط (دعوة لنقاش مسودة تصور أولي لحملة ضد التفاهة)


كيف نحارب التفاهة؟ خطة ثلاثية الأبعاد

 أولا: على مستوى الأفراد

1 - المقاطعة الواعية: لا إعجابات، لا تعليقات، لا مشاركة للمحتوى التافه، هذا عن المحتوى أما بخصوص الحسابات، فعدم متابعتها، أو إلغاء متابعتها فهو أول خطوة في تجفيف منابع التفاهة.

2 - دعم البديل الهادف: لا يمكن أن نحارب التفاهة دون تقديم بديل هادف وجذاب.

قدِّم المفيد، وشارك، وعلٍّق، وأعجب بكل محتوى مفيد تصادفه، حتى ولو لم تتفق مع صاحبه في الرأي. الهدف هنا هو دعم المحتوى المفيد، لا الشخص الذي يقدمه.

3 - المقاطعة الاقتصادية: قاطع السلع والخدمات التي تُسوّق أو يروج لها عن طريق حسابات تافهة أو محتوى تافه.

 ثانيا: على مستوى النخب

1 - إنتاج محتوى منافس: لا يكفي أن ننتقد، بل يجب - وكما قلتُ سابقا - أن نقدم البديل المفيد والجذاب في آن واحد، فالمحتوى الهادف يجب أن لا يكون مفيدا فقط، بل يجب أن يكون جذابا كذلك.

2 - إطلاق منصات وصفحات ومواقع متخصصة في شتى المجالات.

3 - دعم الشباب الذي يقدم محتوى مفيدا ومميزا، فالدعم المعنوي قد يكون أهم من الدعم المادي.

4 -  الحديث عن مخاطر التفاهة، وتبيان تأثيرها السلبي على الذائقة العامة للمجتمع، وعلى قيمه وثوابته.

ثالثا: على مستوى المجتمع المدني

1 - إطلاق حملات ضغط، والتي يمكن أن تتحول إلى مقاطعة، لمنتجات وخدمات الشركات والمؤسسات التي تسوق أو تروج عبر حسابات تافهة أو محتوى تافه.

2 - إطلاق برامج ومسابقات تحفِّز  الشباب على الإبداع في مجالات مفيدة.

3 - حملات ضغط على الجهات الحكومية  المعنية لسن قوانين تحمي المجتمع من الانحدار القيمي، دون  المساس - طبعا -  بحرية التعبير.

4 -إطلاق  مبادرات منوعة للحد من التفاهة، مثل: "أسبوع بلا تفاهة" أو "يوم  للمحتوى المفيد"، وذلك  لتشجيع نشطاء التواصل الاجتماعي على نشر المفيد، والتفاعل الإيجابي مع ما ينشر من محتوى مفيد.

هذه مسودة تصور أولي لحملة توعوية ضد المحتوى التافه، استخلصتُ أفكارها والنقاط التي تضمنتها من منشورات كتبتها في وقت سابق عن التفاهة.

طبعا هذا مجرد تصور أولي، وهو بحاجة إلى التطوير والتحسين، وسيكون ذلك من خلال ما تقدمون من مقترحات وملاحظات لتطويره وتحسينه.

الاثنين، 22 سبتمبر 2025

صراع الجدية والتفاهة في موريتانيا: فَلِمن ستكون الغلبة؟


نعيش في موريتانيا اليوم صراعا جديدا غير معلن بين خصمين غير متكافئين: التفاهة التي بدأت تكسب المعركة، وتحتل مواقع مؤثرة في صناعة الرأي العام، والجدية التي توشك أن تُهزم وتستسلم، ما لم تُدرك نخبها خطورة الموقف، فَتُعِدَّ أساليب جديدة لإدارة الصراع، واستعادة ما فُقد من مواقع استراتيجية.

هذا الصراع ليس صراعا ثانويا ولا عابرا، بل هو صراع مصيري سيحدد مستقبل بلادنا، وهو ما يفرض على النخب الجادة أن تتحرك وفق خطة واضحة لمقاومة تيار التفاهة الجارف.

من الصراعات التقليدية إلى صراع جديد

عاشت النخب الموريتانية خلال العقود الماضية - كغيرها  من النخب - صراعات تقليدية، فعلى المستوى الإيديولوجي، عاشت صراعا بين الكادحين والناصريين والبعثيين والإسلاميين، وسياسيا عاشت صراعا بين الأغلبية والمعارضة، واجتماعيا عرفت صراعات بين الأعراق والقبائل والجهات، وصراعات أخرى في مرحلة لاحقة بين العمال وأرباب العمل.

اليوم لم تعد هذه الصراعات التقليدية هي الأهم، ولم يعد أصحابها يمتلكون القدرة على توجيه الرأي العام والتأثير فيه. فقد سحب التافهون والسطحيون البساط من تحت أقدامهم، وأصبحوا هم "قادة الرأي" الذين يوجهون المجتمع، ويطلقون على أنفسهم - وبكل جرأة - صفة "المؤثرين"، وكأن التأثير  في المجتمع أصبح حكرا خاصا بهم دون غيرهم.

كيف هيمنت التفاهة؟

لقد تبدلت ساحات الصراع، فأصبحت معارك الرأي العام تُدار اليوم من منصات التواصل الاجتماعي، بشكل أساسي، حيث تتحكم الخوارزميات في توجيه الاهتمام، وهي خوارزميات تعمل لصالح السطحية، وعلى خلق مجتمع استهلاكي مغيب عن مشاكله الحقيقية وقضاياه الجوهرية.

فبدل أن يُسمع صوت العقل والحكمة، أصبح الصوت الأعلى هو صوت الضجيج والتفاهة، ولم تعد قيمة الشخص تُقاس برجاحة عقله، أو صدق موقفه، أو سمو هدفه، بل بعدد الإعجابات والمشاهدات التي تحصدها سخافاته.

وإذا ما أحكمت التفاهة سيطرتها في بلدنا، فلن ينفع يومئذ صدق المثقف، ولا إخلاص المناضل، ولا نضج السياسي، ولا عمق تحليل الكاتب الصحفي، وسيجد الجميع أنفسهم على قارعة الطريق، خارج دائرة الفعل والتأثير.

معالم دولة التفاهة والتافهين

من أبرز العلامات الكبرى على اقتراب "قيام دولة التافهين" في بلادنا، أن رجال الأعمال أصبحوا يطاردون اليوم السطحيين لتسويق منتجاتهم وخدماتهم، وأن السياسيين وكبار الموظفين أصبحوا يلهثون خلف التافهين لتلميعهم بعد فشلهم في أداء مهامهم والقيام بأدوارهم. ومن تلك العلامات الكبرى أن الناس يتناقلون سخافاتهم في الصالونات ووسائل التواصل الاجتماعي.

وفي المقابل، وهذه أيضا من العلامات الكبرى لقرب قيام دولة التافهين أن السياسي الجاد إن وُجد، والنقابي المخلص، والمثقف العضوي، أصبحوا كلهم خارج دائرة الاهتمام، ويُنظر إليهم من طرف المجتمع على أنهم ثقلاء مملين يعيشون خارج العصر.

إن الخطر لا يكمن في وجود أشخاص تافهين - فهذا أمر طبيعي في كل مجتمع - بل يكمن في أن تتحول التفاهة إلى نظام متكامل يتحكم في المجتمع، ويوجه الرأي العام، ويؤثر في السياسات العامة، في ظل استقالة النخب الجادة، وقبولها بالإنزواء والجلوس على مقاعد التفرج.

جبهة الجدية وتحمل المسؤولية 

إن الصراع لم يعد محصورا اليوم في معارضة وموالاة يعيشان توازنا غريبا في الضعف منذ سنوات، ولا في إيديولوجيات تحتضر في مجموعها منذ زمن، ولا حتى في صراع أجيال بين جيل قديم يرفض التقاعد، وجليل جديد يعتقد أن دوره في تحمل المسؤولية قد حان. إن الصراع الأهم لم يعد محصورا في تلك الصراعات التقليدية، بل أصبح الصراع الأهم، هو الصراع بين التفاهة والجدية، ونتيجة هذا الصراع هي التي ستحدد حاضر، ومستقبل البلاد.

للتفاهة أشكال ومظاهر متعددة، فهي قد تتجسد في سياسي شعبوي بخطاب قبلي أو شرائحي، أو في مثقف ضعيف الإرادة يُغَيِّره المجتمع بدلا من أن يُحاول هو أن يُغَيِّر المجتمع، أو في صحفي يلهث خلف التافهين، ويتعامل معهم على أساس أنهم قادة رأي يستحقون الإعجاب والتقدير.

أما جبهة الجدية فتضم كل سياسي وطني، ومثقف ملتزم، وصحفي ومدون لا يغريهم البريق الزائف للتفاهة، ولا يبحثون عن التفاعل على حساب المضمون.

لقد صار من الضروري أن تدرك النخب الجادة أن عنوان الصراع قد تغيّر، وأن النضال الحقيقي اليوم هو ضد تتفيه المجتمع وتسطيحه، وأن الشجاعة الحقيقية هي في الوقوف بثبات أمام سيل التفاهة الجارف.

ما العمل؟

على النخب الجادة أن تتعلم أدوات العصر بدل رفضها، وأن تتقن لغة التواصل المؤثرة دون التخلي عن العمق. كما يجب أن تدرك أن الصمت أو الانزواء ليس حيادا، بل هو خدمة للتفاهة.

وعليها أن تتوحد - مهما اختلفت مواقعها السياسية واهتماماتها  -  لأن خطر التفاهة أكبر من أي خلاف  أو صراعي داخلي، فالتفاهة عندما تتحكم، فإن كل جاد سيخسر بغض النظر عن موقفه السياسي، وعن مجال اهتمامه.

وفي انتظار أن تتوحد النخب الجادة، فيمكن لكل شخص جاد، أن يسهم بشكل فردي في مواجهة التفاهة، وذلك من خلال خطوات عملية، لعل من أبرزها:

1- تجاهل المحتوى التافه، وعدم التفاعل معه كليا، فحتى الانتقاد والتفاعل السلبي معه سيزيده انتشارا.

2 - عدم متابعة "نجوم التفاهة" على وسائل التواصل الاجتماعي، وإلغاء متابعتهم لمن كان يتابعهم.

3 - مقاطعة السلع والخدمات التي تُسوَّق عبر التافهين.

4 - بذل كل ما هو متاح من جهد لتصحيح الذائقة المجتمعية المنحرفة بفعل هيمنة التفاهة والسطحية.

ختاما

إننا أمام صراع مصيري، فإما أن تنتصر الجدية فيستعيد المجتمع ذائقته الجمعية السليمة، أو تنتصر التفاهة فيتحول البلد إلى خشبة مسرح عبثي كبير ، يصفق فيه الجمهور للتفاهة وصناعها، وللسخافة وروادها، وللسطحية ونجومها.

إن الدخول في حلبة هذا الصراع لم تعد اليوم خيارا، بل أصبحت مسؤولية مجتمعية، لا يمكن أن نتخذ منها موقفا محايدا، فإما أن نكون في جبهة مقاومة التفاهة، وإلا فإننا سنصبح وقودا لنشر التفاهة وتكريسها في المجتمع.

حفظ الله موريتانيا...

الأربعاء، 17 سبتمبر 2025

بيان من حملة "معًا للحد من حوادث السير"


في إطار الحملة التوعوية الكبرى للسلامة الطرقية، وبعد مرور قافلة "معا من أجل خريف آمن" بمدينة لعيون في محطتها السابعة من رحلتها التوعوية التي ستجوب كل ولايات الوطن، فإننا في حملة "معا للحد من حوادث السير" نسجل بقلق كبير الوضعية المتردية التي وصلت إليها بعض المقاطع المتهالكة من طريق لعيون - كبني، والتي باتت تشكل خطرا مباشرا على ممتلكات سالكي هذا الطريق، وعلى حياتهم أيضا.

لقد بلغ تهالك بعض المقاطع شمال وجنوب مدخل المدينة مستويات غير مقبولة، وباتت هذه المقاطع تكبد خسائر مادية كبيرة لأصاحب السيارات، كما أنها تهدد حياة سالكي الطريق،  وتسبب لهم مشقة كبيرة.

المؤسف في الأمر أن بعض هذه المقاطع المتهالكة ظلت على حالها تلك منذ سنوات دون أن تشهد أي عملية ترميم جدية وفق المعايير المطلوبة، وذلك في وقت يتم فيه تشييد طرق فرعية جديدة  أقل أهمية من هذا الطريق الحيوي.

وعليه، فإننا في حملة معا للحد من حوادث السير ندعو وزارة التجهيز والنقل وكل القطاعات المعنية إلى المسارعة في ترميم المقاطع المتهالكة من طريق لعيون - كبني، وأن يكون ذلك الترميم وفق المعايير الدولية التي تضمن تحمل الطريق للضغط الكبير الذي يتعرض له باستمرار  بسبب حجم ونوعية السيارات والشاحنات التي تسلكه يوميا.

إن حماية الممتلكات وإنقاذ الأرواح يبدأ بطريق آمن، ولذا فتأخير ترميم المقاطع المتهالكة من طريق لعيون- كبني، أو ترميمها بطرق بدائية لا تحترم المعايير والمواصفات المطلوبة، سيعني تكبد المزيد من الخسائر المادية وتعريض أرواح سالكي هذا الطريق الحيوي للخطر.

حملة "معًا للحد من حوادث السير"

لعيون:  16 سبتمبر  2025

لمطالعة البيان بالصوت والصورة 👇



الثلاثاء، 16 سبتمبر 2025

بيان الخذلان العربي الإسلامي!


عندما أقرأ نصا طويلا، أخرج عادة بفائدة ما، غير أنني اليوم قرأتُ نصا طويلا دون أن أخرج بأي فائدة تُذكر. كان ذلك النص يحمل عنوانا كبيرا: "البيان الختامي للقمة العربية والإسلامية الطارئة" المنعقدة في الدوحة.

خمسة وعشرون نقطة تضمّنها البيان، لم أجد بينها نقطة واحدة مفيدة،  تليق بحجم التحديات أو بمستوى العدوان الوحشي الذي تتعرض له غـ.ـ.ـزه، ولا حتى بمستوى العدوان على الدولة التي استضافت القمة، والتي كانت تتولى الوساطة، وتوجد بها أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، ومع ذلك لم تسلم عاصمتها من القصف نهارا جهارا.

كان الأجدر بقادة العرب والمسلمين ألّا يعقدوا قمة طارئة أصلا، ما داموا سيخرجون للعالم ببيان هزيل كهذا. لو لم يجتمعوا، لظل بعض الحالمين الطيبين - من البسطاء والسذج -  يعلّقون أوهاما على أن القادة العرب والمسلمين لو اجتمعوا في مثل هذا الظرف العصيب لأصدروا بيانا قويا غير بيانهم الباهت الذي أصدروا، والذي هو بمثابة إعطاء إشارة خضراء للعدو لارتكاب المزيد من الإجرام والإبادة، وقد فهم العدو رسالة القمة، فزاد من وحشيته وهمجيته في غــ.زه.

ولعل أكثر ما استفزني في البيان هو قولهم: "وإذ نؤكد أن غياب المساءلة الدولية، وصمت المجتمع الدولي إزاء الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، قد شجع إسرائيل على التمادي في اعتداءاتها..."

وكأن العرب والمسلمين أنفسهم لم يكونوا هم أول من صمت، وأول من خذل،  وأول من تواطأ، فمن ذا  الذي خذل فلسطين غيرهم؟ ومن ذا الذي يمدُّ اليوم  الجسور مع العدو، ويقيم العلاقات العلنية والسرية معه أكثر من  حكومات بعض الدول العربية والإسلامية، وذلك في وقت توجد فيه دول  غير  عربية  كإسبانيا وجنوب إفريقيا مثلا، اتخذت مواقف أكثر جرأة وشجاعة من أغلب الدول العربية والإسلامية.

والأدهى والأمر  أن هناك شعوبا غربية خرجت إلى الشوارع بمئات الآلاف ضد حرب الإبادة هذه، في وقت لم تتحرك فيه الشعوب العربية والإسلامية، واكتفى الكثير منها بالتذمر الصامت والخجول.

لقد أصبحت شعوب بعض الدول الغربية أكثر تعاطفا وتضامنا مع غــ.ـزه من بعض الشعوب العربية والإسلامية.

حقا إننا نعيش زمنا غريبا: قادة عاجزون، شعوب مُستسلمة، ودم فلسطيني يسيل على مرأى من الجميع. 

من الغريب حقا  أن يصل مستوى الخذلان الرسمي والشعبي عربيا وإسلاميا إلى هذا الحد.

الاثنين، 15 سبتمبر 2025

إلى القادة العرب والمسلمين.. لا نريد قمة استثنائية مكررة!


في يوم السبت 11 نوفمبر 2023، عقد قادة الدول العربية والإسلامية قمة عربية إسلامية استثنائية في الرياض، وأصدروا حينها "قرارًا تاريخيًّا" من ثمانية بنود. ولا أدري لماذا سموه قرارا بدلا من بيان؛ فقد تكررت في هذا القرار كلمة "فوري" بمختلف صِيَغها ومشتقاتها في نقاطه الثمانية، وكأن الذي أصدر ذلك القرار أراد أن يقول بلغة فصيحة وصريحة إنه قادر على تنفيذ بنوده الثمانية بشكل فوري. ولكن، وللأسف الشديد، فلا شيء نُفِّذ من القرار التاريخي لقمة الرياض الاستثنائية؛ بل إن كل النقاط التي أثارتها تلك القمة في قرارها التاريخي ازدادت تأزما وتعقيدا.

وللتذكير - ولعلَّّ الذكرى تنفع القادة العرب والمسلمين- فسنذكر القادة بما وعدوا بتنفيذه بشكل فوري في قمة الرياض 2023، نذكرهم به من خلال استعراض قرارهم التاريخي من جديد نقطة نقطة دون أن نزيد كلمة أو نحذف أخرى، مع طرح سؤال بعد كل نقطة للتأكيد على أن تلك النقطة لم تنفذ لا بشكل فوري، ولا بشكل غير فوري، بل إنها ازدادت تأزما وتعقيدا.

إليكم النقاط الثامنية التي جاءت في "قراركم التاريخي" الذي أصدرتموه في قمة الرياض 2023، والذي وعدتم  بتنفيذ نقاطه الثمانية بشكل فوري:

1 ـ كسر الحصار عن غزة وفرض إدخال قوافل مساعدات إنسانية عربية وإسلامية ودولية، تشمل الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع بشكل "فوري". نطرح السؤال هنا: هل كُسِر الحصار على غزة أم أنه ازداد استحكاما وقسوة؟

2 ـ دعم كل ما تتخذه جمهورية مصر العربية من خطوات لمواجهة تبعات العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، وإسناد جهودها لإدخال المساعدات إلى القطاع بشكل "فوري" ومستدام وكاف. السؤال هنا: هل اتخذت مصر خطوات لإدخال المساعدات إلى القطاع بشكل فوري، وهل تمَّ إسناد تلك الخطوات من طرف بقية الدول العربية والإسلامية؟

3 ـ مطالبة مجلس الأمن اتخاذ قرار "فوري" يدين التدمير الهمجي الذي تمارسه إسرائيل للمستشفيات في قطاع غزة. هل اتخذ مجلس الأمن قرارا فوريا بذلك أم أن الفيتو الأمريكي ما زال يعمل على عرقلة أي قرار من هذا القبيل؟

4 ـ ضرورة أن يفرض القرار على إسرائيل، بصفتها القوة القائمة بالاحتلال، التزام القوانين الدولية وإلغاء إجراءاتها الوحشية اللاإنسانية بشكل "فوري". هل التزمت إسرائيل بالقوانين الدولية، وهل ألغت إجراءاتها الوحشية؟

5 ـ بدء تحرك دولي "فوري" باسم جميع الدول الأعضاء في المنظمة والجامعة لبلورة تحرك دولي لوقف الحرب على غزة. هل حدث أي تحرك دولي مكن من وقف الحرب على غزة؟

6 ـ التأكيد على ضرورة العودة "الفورية" لهؤلاء النازحين إلى بيوتهم ومناطقهم. هل عاد النازحون بشكل فوري إلى منازلهم أم أن عدد النازحين ظل في ازدياد خلال السنتين الأخيرتين؟

7 ـ التأكيد على ضرورة اتخاذ المجتمع الدولي خطوات "فورية" وسريعة لوقف قتل المدنيين الفلسطينيين واستهدافهم. هل اتخذ المجتمع الدولي خطوات أوقفت قتل المدنيين الفلسطينيين، أم أن عمليات القتل ازدادت من حيث العدد والوحشية؟

8 ـ التأكيد على ضرورة تحرك المجتمع الدولي "فورًا" لإطلاق عملية سلمية جادة وحقيقية تفرض السلام على أساس حل الدولتين الذي يلبّي جميع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. هل انطلقت عملية سلام جادة، وهل تمَّ تحقيق حل الدولتين، أم أن الرئيس الفلسطيني ما زال يُحرَم من التأشيرة الأمريكية لحضور الاجتماعات الدولية التي يمكن أن تُناقش هذه المواضيع؟

يظهر من خلال الأسئلة التي طرحناها بعد كل بند من البنود الثمانية أن القرار التاريخي الذي أصدره القادة في قمة الرياض 2023 كان مجرد حبر على ورق، وأنه لم يتعامل معه أحد في هذا العالم بجدية. بل على العكس من ذلك، فإن كل النقاط التي أثارها وطالب بحلها بشكل فوري ازدادت تعقيدا وتأزّما، نقطة نقطة بندا بندا.

لقد أصبح الحصار على غزة بعد قمة الرياض وقرارها التاريخي أشد، والمجازر أبشع، والتواطؤ أوضح، والخذلان أوسع؛ بل إن جرأة العدو ازدادت أكثر بعد تلك القمة، فقصف عاصمة دولة عربية توجد بها قاعدة أمريكية وتقود جهود الوساطة، ولهذا تمت الدعوة إلى قمة عربية إسلامية استثنائية جديدة.

إننا لا نريد لقمة الدوحة 2025، التي جاءت بعد أن أبرق العدو الصهيوني برسالة واضحة وغير مشفَّرة مفادها أنه لا بلد عربي أو إسلامي آمن أمام يده الباطشة والغادرة، وأن إسرائيل التي تدعمها أمريكا سيبقى لها الحق - كل الحق- في أن تقصف أي عاصمة عربية أو إسلامية متى شاءت وكيفما شاءت. لا نريد لقمة الدوحة 2025 أن تكون مثل قمة الرياض 2023؛ أي أن تكتفي باتخاذ قرارات لا يتجاوز عمرها الافتراضي الدقائق القليلة التي تُتْلَى فيها على مسامع القادة، ولا يبقى لها من أثر إلا ما تؤرشفه الصحف والمجلات والمؤسسات الإعلامية في أرشيفها المكتوب أو المسموع أو المرئي.

إننا اليوم بحاجة إلى قمة استثنائيةٍ بحق، تصدر قرارات استثنائيةٍ بحق، في هذا الظرف الاستثنائي الصعب الذي تمر به الأمة العربية والإسلامية، على أن تعمل - وهذا هو الأهم - على التنفيذ الفوري لتلك القرارات.

مرة أخرى، أجدني مضطرا لأن أعيد إرسال هذا المقترح إلى القادة العرب والمسلمين قبل قمتهم في الدوحة، وفي اعتقادي الشخصي فإن هذا المقترح هو المخرج الوحيد من الهوان والذل الذي تعيشه الدول العربية والإسلامية منذ عقود.

لقد بات من الملحّ جدا التفكير في تأسيس حلفٍ إسلامي قوي تنخرط فيه الدول الإسلامية، ويمكن أن تتشكل نواته الأولى من السعودية وباكستان وإيران وتركيا ومصر (بالإضافة إلى قطر التي تعرضت مؤخرا للعدوان والتي تستضيف القمة)، لتشمل بعد ذلك بقية الدول الإسلامية. فبحلف كهذا سيكون بإمكاننا أن نحرر فلسطين، وبحلف كهذا سيكون بإمكاننا أن نحلّ مشاكلنا دون الحاجة للاستجداء بالآخرين، وبحلفٍ كهذا سنحمي قيمنا الإسلامية من علمنة القيم التي يقف خلفها الغرب المسيحي. ولتشكيل نواة هذا الحلف لا بد للدول المؤسسة لتلك النواة أن تتخذ بعض الخطوات والإجراءات التمهيدية المطمئنة:

1 ـ أن تعتذر الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن تدخلاتها السابقة في بعض الدول العربية، وأن تلتزم التزامًا صريحًا وقويًا بالتخلي نهائيًا عن أي وصايةٍ على الشيعة خارج حدودها، وأن لا تعمل مستقبلا - تحت أي ظرف - على تحريك الشيعة في بعض البلدان العربية والإسلامية لتحقيق المزيد من المصالح والنفوذ خارج حدودها على حساب دول عربية وإسلامية أخرى.

2 ـ أن تُوقِف المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج منح الأموال الضخمة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ فليس من الحكمة وضع كل البيض في سلةٍ واحدة، خاصةً إذا كان صاحب تلك السلة هو الرئيس ترامب المعروف بتقلب مزاجه، وعلى أن تُوجَّه تلك الأموال لتعزيز مكانة الحلف الإسلامي المنتظر، أو تُوجَّه لدعم بعض الدول الإسلامية المحتاجة.

3 ـ أن تقطع مصر وتركيا (وقطر) وبشكل فوري علاقاتها الدبلوماسية مع العدو الصهيوني، وتفتح مصر حدودها لكسر الحصار.

هذا مجرد مقترح أقدمه للقادة العرب والمسلمين، وأعلم مسبقا أن الغالبية من الشعوب العربية والإسلامية تعتبر كتابة مثل هذا المقترح مجرد تضييع للوقت والجهد فيما لا طائل من ورائه؛ فهذه الشعوب لم تعد تتوقع من قادتها أي عمل جدي لصالح فلسطين أو لصالح بلاد العرب والمسلمين.

نعم، لقد بلغ اليأس هذا المستوى بل أكثر؛ ومع ذلك أرجو أن يجد هذا المقترح آذانا صاغية وقلوبا واعية وعقولا راجحة تؤمن بضرورة العمل به.

حفظ الله بلاد العرب والمسلمين...




الأحد، 14 سبتمبر 2025

قافلة توعوية تفتح النقاش حول خطورة الترويج للقيادة المتهورة عبر منصات التواصل الاجتماعي


في إطار جهودها المستمرة لنشر الثقافة المرورية وتعزيز الوعي بأهمية السلامة الطرقية، أطلقت قافلة "معًا من أجل خريف آمن" أولى جلساتها التوعوية المفتوحة عند مشارشذيششذش١ثف مدينة ألاك، حيث خُصصت الجلسة لمناقشة ظاهرة الترويج للسرعة المفرطة والقيادة المتهورة عبر مقاطع مصورة، والتي انتشرت بشكل واسع خلال الأيام الأخيرة، على منصات التواصل الاجتماعي.

وفي كلمة بالمناسبة، عبَّر منسق حملة "معا للحد من حوادث السير" السيد محمد الأمين الفاضل عن استغرابه الشديد لقيام بعض من يُعرفون بـ"المؤثرين" بنشر مثل هذه المقاطع، في وقت حرج،  سُجِّلت فيه أرقامٌ مفزعة لعدد الوفيات في حوادث السير، حيث سُجِّلت 17 حالة وفاة خلال أسبوع واحد فقط.

وأكد منسق الحملة أن هذه المقاطع المتداولة بشكل واسع،  لا تشكل فقط مقاطع للتسلية والترفيه، وإنما تساهم - وهذا هو مكمن خطورتها - في تعميق السلوكيات الخطرة في صفوف الشباب والمراهقين، وترسيخ ظاهرة القيادة المتهورة (اتكاسكادي)،  والتي أودت في السنوات الأخيرة بحياة العديد من الشباب.

وشهدت الجلسة نقاشا موسعا حول الهيمنة المتزايدة للتفاهة والسطحية على منصات التواصل الاجتماعي، حيث حذّر المتحدثون من خطورة تلك الهيمنة، وتأثيرها السلبي على الذائقة الفردية والمجتمعية، داعين إلى:

1. تصحيح الذائقة الفردية والجمعية، من خلال تعزيز تداول المحتويات الهادفة، وعدم التفاعل مع المحتوى السطحي والتافه؛.

2. تحمُّل القطاع الخاص لمسؤوليته الاجتماعية، والامتناع عن دعم أو الترويج لبضائعه وخدماته من خلال المحتوى السطحي والتافه، فذلك هو الذي يمنح أصحاب ذلك المحتوى نفوذا غير مستحق، وتأثيرا  في المجتمع من شأنه أن يزيد من إفساد الذائقة المجتمعية .

وتأتي هذه الجلسة النقاشية ضمن سلسلة من الأنشطة التوعوية والحوارات المفتوحة التي تعتزم القافلة تنظيمها في مختلف ولايات الوطن، وذلك بهدف تشكيل وعي مجتمعي بأهمية السلامة المرورية.

ألاك 12 سبتمبر ،2025

حملة معا للحد من حوادث السير

الجمعة، 12 سبتمبر 2025

عندما ينسحب المصلحون ويتصدر التافهون


أخطر ما يهدد أي مجتمع، هو أن تستقيل نخبه الصالحة من الشأن العام، وتكتفي بالتفرج، وذلك في وقت يزداد فيه حضور التافهين، وتتسع فيه قدرتهم على التأثير.

لقد استقالت أغلب النخب الصالحة في المعارضة والموالاة من قضايا الوطن، وتركوا الساحة لنخب انتهازية تعرف جيدا كيف تتحرك بحيوية، لا لإصلاح البلد بل لإفساده، وفي الوقت ذاته، وهذا هو أخطر ما في الأمر، تمددت ثقافة التفاهة في مجتمعنا ونخبنا مشكلة بذلك ما أسميته في مقال سابق مثلث التفاهة المكتمل الأركان:

1 -  ذائقة مجتعية مشوهة لا تحتفي إلا بالسخافات؛

2 -  مؤسسات عمومية وقطاع خاص وجدا ضالتهما في التافهين لتسويق ما يريدان تسويقه من خدمات أو سلع، ولتلميع ما يريدان تلميعه من التافهين والسطحيين؛

3 - نخب انتهازية تتحكم في المجالين العام والخاص، ترفع من شأن التافهين وتقصي العقلاء.

إن استمرار اتجاه البوصلة في هذا الاتجاه سيعني سقوط المجتمع في هاوية لا قرار لها، فالمجتمع الذي يُبَجَِل تافهيه ويهمش عقلائه، لن ينهض أبدا، وهو بذلك يكتب شهادة موته البطيء.

إن مواجهة خطر التفاهة  يبدأ أولا بإدراك الخطر، ثم بمواجهته بشجاعة، وتبدأ  تلك المواجهة بعلاج ذائقتنا الفردية والجمعية، وتصحيح اختياراتنا. يجب أن نختار المحتوى الجيد، ونشجع الأصوات الهادفة، وننخرط في الشأن العام بجدية .

يجب أن نتحرك من موقع التفرج إلى موقع الفعل، ومن الخمول إلى الحيوية، وعلينا أن نرفع أصواتنا في وجه التفاهة، ونكف عن التصفيق للتافهين.

موجبه أني منذ سنوات أنشط في مجال التوعية حول خطورة حوادث السير، ولما انتقدتُ يوم أمس من تصفونه "مؤثرا" يروج للسرعة المفرطة، والتي لا تحتاج أصلا لمن يروج لها في صفوف شبابنا، فالحوادث الناتجة عن تهور المراهقين لا تحصى ولا تعد، عندما انتقدت سلوك ذلك "المؤثر" خرج بعض أهل الفيسبوك يدافعون عنه، وهو الذي جاء إلى بلدنا ليروج للتفاهة والسخافة، وذلك في وقت يتعرض فيه أهله وأهلنا في غzه إلى أبشع حرب إبادة في التاريخ الحديث.


نص كلمتي بمناسبة انطلاق قافلة معا من أجل خريف آمن..


نلتقي في صبيحة هذا اليوم المبارك في إطار الحملة التوعوية الكبرى للسلامة الطرقية، ولإعطاء إشارة الانطلاق لقافلة "معًا من أجل خريف آمن"، قافلة تحمل – بإذن الله – رسالة حياة ونداء أمل، من خلال سعيها الحثيث لحماية الأرواح والممتلكات من خطرٍ أصبح يهدد كل أسرة موريتانية، ألا وهو خطر حوادث السير.

أيها الحضور الكريم؛

إننا لسنا أمام حوادث سير عابرة أو أرقام ثابتة جامدة، بل نحن أمام حرب شوارع صامتة تحصد أرواح العشرات من مواطنينا كل شهر. 

فقد فقدنا – في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر الجاري وحده – سبعة عشر شخصًا على الأقل، نسأل الله تعالى أن يتغمدهم بواسع رحمته، وأن يلهم ذويهم الصبر والسلوان.

وراء كل رقم في هذا العدد أسرة منكوبة، أو أطفال تيتموا، أو أمهات ثكلى، ومجتمع يتألم بصمت، وربما بتفرج.

ومن هنا تظهر أهمية هذه القافلة التي تنطلق اليوم، فهي ليست مجرد حملة إعلامية أو تسويقية، بل هي صرخة إنذار وتحرك واسع، يهدف إلى نشر ثقافة الوعي الطرقي، وتذكير السائقين والمارة والجهات المسؤولة أن السلامة الطرقية مسؤولية مشتركة، وأن كل تقصير فيها سيكون ثمنه أرواح تُفقد وممتلكات تُهدر، ودموع تسيل وأحزان تتجدد.

أيها السادة؛

لقد أدركنا في حملة "معًا للحد من حوادث السير" أن مواجهة هذا الخطر تتطلب تضافر الجهود وتكامل أدوار:

الموظف في وزارة التجهيز والنقل الذي يؤدي عمله بإخلاص؛

المهندس الذي يشيد الطرق وفق المعايير الدولية؛

السائق الذي يتقيد بإجراءات السلامة الطرقية؛

رجل الأمن الصارم في نقطة التفتيش؛

الناشط الجمعوي الذي يقوم بالتوعية؛

المدون الذي ينتج محتوى هادفًا في السلامة الطرقية

ورجل الأعمال الذي يتحمل مسؤوليته الاجتماعية تجاه مجتمعه ووطنه.

كل هؤلاء شركاء في إحياء الأنفس، وكل من ساهم منهم في نشر ثقافة السلامة الطرقية قد يكون ممن أنقذ نفسًا بشرية من هلاك محقق، وربما ينال  بذلك  - إن صدق في نيته وأخلص في عمله - أجر "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا".

أيها الحضور الكريم،

إن هذه القافلة جاءت ثمرة شراكة استراتيجية بين المجتمع المدني والقطاع الخاص، حيث تجسد مؤسسة "غَـزة أبي" نموذجًا مشرفًا في تحمل المسؤولية الاجتماعية برعايتها لهذه القافلة التوعوية. فشكرًا لها، وشكرًا للقائمين عليها. ونأمل أن يكون هذا التعاون فاتحة لشراكات أوسع وأعمق، لأن مواجهة نزيف الطرق مسؤولية تتجاوز حدود الأفراد والجمعيات، لتصبح التزامًا مجتمعيًا شاملًا.

إننا جميعًا مدعوون لأن نجعل من خريفنا الجميل في هذا العام خريفًا آمنًا، وموسم راحة واستجمام لنا جميعًا، لا موسم أحزان ودموع.

إننا مدعوون لنثبت أن الوقاية من حوادث السير ممكنة، وأن تلك الوقاية تبدأ بخطوة، وأن كل جهد صادق يمكن أن يشكل خطوة البداية.

في الختام، أجدد شكري لكل من ساهم في هذه القافلة: من نشطاء ورعاة ومنظمين،  وإعلاميين، وسائقين ملتزمين. وأسأل الله أن يجعل عمل هذه القافلة التوعوية في ميزان حسنات كل من دعمها وساهم فيها.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.


الخميس، 11 سبتمبر 2025

انطلاق قافلة "معًا من أجل خريف آمن" للتوعية حول السلامة الطرقية


انطلقت اليوم الخميس 11 سبتمبر 2025 من مطار نواكشوط القديم قافلة "معا من أجل خريف آمن" في إطار شراكة بين حملة "معا للحد من حوادث السير" وشركة "غزه أبي" لتحويل الأموال النقدية، وستمر هذه القافلة بكل المحاور الطرقية، وستجوب كل ولايات الوطن. 

ويأتي انطلاق القافلة في وقت حرج على مستوى السلامة الطرقية، حيث تزامن موسم الخريف مع تنظيم العديد من المهرجانات الثقافية في هذا العام، وهو ما زاد من حجم حركة السير ومن عدد حوادث السير، وهذا  ما أشار إليه  منسق حملة معا للحد من حوادث السير  السيد محمد الأمين الفاضل في كلمته عندما قال إن: "سبعة عشر شخصا على الأقل" فقدوا حياتهم خلال الأسبوع الأول من شهر سبتمبر الجاري.

ووصف ولد الفاضل" حوادث السير بأنها "حرب شوارع صامتة" تحصد أرواح المواطنين، مبرزا أن وراء كل رقم في إحصائيات الوفيات أسرة منكوبة، مؤكدا في كلمته أن هذه القافلة ليست مجرد حملة إعلامية، بل هي "صرخة إنذار وتحرك واسع" تهدف إلى ترسيخ ثقافة الوعي الطرقي في مختلف أنحاء الوطن.

بدوره، أكد مدير شركة "غزة أبي" السيد سيد أحمد أمبارك  أن رعاية شركته لهذه القافلة تأتي إيمانا من إدارة الشركة بدور المؤسسات الاقتصادية في خدمة المجتمع والمبادرات الإنسانية. وأوضح أن الشركة تسعى من خلال دعمها لهذه القافلة إلى أن تكون شريكا في بناء مستقبل أكثر أمانا، يتجاوز تأمين المعاملات المالية إلى صون الأرواح وحماية المجتمع.

وأعرب مدير شركة غـــ.زه أبي عن أمله في أن تكون هذه القافلة بداية لمرحلة جديدة من الوعي على الطرقات الموريتانية.

حفل انطلاق  القافلة شهد حضور عدد من النواب ونشطاء المجتمع المدني المهتمين بالسلامة الطرقية. 

وقد تحدث في الحفل بعض أعضاء الحملة وداعميها، وعلى رأسهم  نائب مقاطعة أركيز محمد المصطفى وخبير السلامة الطرقية محمد محمود ولد الداه والفنان التشكيلي خالد ولد مولاي إدريس والفاعل في مجال السلامة الطرقية أبوه ولد اميسه.

وقد أشاد المتحدثون بأهمية هذه القافلة، وثمنوا الشراكة بين القطاع الخاص والمجتمع المدني في مجال السلامة الطرقية، آملين أن يتكرر مثل هذا النوع من المبادرات في المستقبل للحد من حوادث السير في موريتانيا.


































الأربعاء، 10 سبتمبر 2025

إلى سمو أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني


صاحب السمو، أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني

في ظل العملية العسكرية الغادرة التي نفذها العدو الإسرائيلي ضد بعض قادة حماس في عاصمة بلدكم الشقيق، أرفع إليكم، وإلى شعبكم الكريم، أصدق مشاعر التضامن والمؤازرة، وذلك بعد أن تجاوز هذا العدوان كل الأعراف، وضرب بعرض الحائط كل القوانين الدولية، واستهدف عاصمة الدولة التي كان يوجد به وفده للتفاوض!

إن هذه العملية لم تكن مجرد اعتداء على قادة فلسطينيين تعود العدو على الاعتداء عليهم في ظل تفرج عربي وإسلامي مشين، بل كانت بالإضافة إلى ذلك رسالة صريحة وفصيحة ووقحة أيضا من إسرائيل إلى كل الدول العربية والإسلامية، مفادها أن لا أحد بعد اليوم بمنأى عن بطشها، مهما كانت علاقاته مع الولايات المتحدة، ومهما بلغ حجم التعاون العسكري أو السياسي معها. فحتى في ظل وجود قاعدة أمريكية على أرض قطر، وفي ظل عرض قطر للمبادرة الأخيرة للرئيس الأمريكي ترامب، على الفلسطينيين والعدو الإسرائيلي، فكل ذلك لم يكن كافيا لمنع إسرائيل من تنفيذ حماقتها ضد قطر، بل ربما تكون مبادرة ترامب والقاعدة العسكرية الأمريكية سهلت أو ساهمت أو استخدمت - بشكل أو بآخر -  كخديعة لتوجيه ذلك الهجوم العسكري الغادر. ويكفي  أن ترامب نفسه أكد بلسانه أنه كان على علم بالهجوم، وأنه ربما يكون قد تأخر في إبلاغ قطر به، أليس هذا التبرير أكثر وقاحة من هجوم العدو على عاصمة دولة أرسل لها وفدا للتفاوض؟

لقد أثبتت هذا الهجوم أن التعويل على أمريكا، وخاصة في عهد ترامب، يعدُّ خطأ استراتيجيا كبيرا، وأن أمن الدول العربية والإسلامية - وفي مقدمتها دول الخليج -  لا يمكن أن يُبنى على وعود واشنطن، التي لا تتردد في التضحية بأعز أصدقائها من أجل إرضاء الكيان الصهيوني. وإذا كانت قطر، بكل ما قدمته من دعم سياسي واقتصادي للولايات المتحدة، وخاصة في عهد ترامب، لم تحمها أمريكا من بطش إسرائيل، فكيف سيكون حال بقية الدول العربية والإسلامية؟

إننا اليوم كعرب ومسلمين أمام لحظة تاريخية فارقة، وكنا دائما امام لحظات تاريخية فارقة لم ننتبه إليها، ولكن هذه اللحظة بالذات أصبح من الواجب الانتباه إليها، فهي تفرض علينا إعادة النظر - وبشكل حاسم - في تحالفاتنا وصداقاتنا، وفي أسس أمننا القومي. 

لقد آن الأوان لتأسيس حلف إسلامي قوي، يشكل قطبا عالميا جديدا في ظل عالم يتجه نحو التعددية القطبية. ونعلم أن سموكم، بما عُرِف عنكم من مبادرات رائدة، قادرون على إطلاق شرارة هذا الحلف الاستراتيجي، خاصة وبعد أن تعرضت بلادكم  لهذا العدوان الغادر والسافر من العدو الصهيوني.

من هنا، اسمحوا لي يا صاحب السمو، أن أعيد نشر فقرة من النداء الذي وجهته سابقا إلى قادة الدول العربية والإسلامية، وهي الفقرة المتضمنة لجواب على سؤال مهم يقول: "هل من مخرج من واقع الهوان الذي نتخبط فيه اليوم عربا ومسلمين؟" وكلي أمل أن تحظى هذه الفقرة من النداء باهتمام سموكم، واهتمام بقية قادة الدول العربية و الإسلامية.

نص الفقرة المقتطعة من النداء: 

هل من مخرج من واقع الهوان الذي نتخبط فيه اليوم عربا ومسلمين؟

للإجابة على هذا السؤال، لابد وأن نُذَكِّر  أولا بأننا في بلاد العرب والمسلمين جرّبنا نظامَ عالم القطبين من قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، ثم جرّبنا بعد ذلك نظام عالم القطب الواحد، وفي كلا الحالتين كنا هم الخاسر الأكبر، ففي نظام القطبين وجَّه سلف بعضكم (المقصود هنا القادة العرب والمسلمين) وجهه شطر الاتحاد السوفيتي، فخذله الاتحاد السوفيتي في ساعة الضيق والعسرة، فعلم أن هذا البلد لا يمكن أن يُعَول عليه في أوقات الشدة، ولكم أن تسألوا مصر والعراق وسوريا وليبيا وإيران في حرب الاثني عشر يوما، ووجَّه سلف أكثرِكم وجهه شطر الولايات المتحدة، فعلم، وفي أكثر من مناسبة، بأن أمريكا لن تترد في أي لحظة بالتضحية بمصالحها مع كل العرب والمسلمين، قادة وشعوبا، في سبيل إرضاء دويلة الكيان الصهيوني، وفرض استمرار سيطرتها، وبقائها هي سيد المنطقة تبطش فيها متى شاءت وكيفما شاءت. ولقد تجلت هذه الحقيقة أكثر مع عودة دونالد ترامب إلى الحكم في مأمورية ثانية.

إن فقدان الثقة لدى الشعوب العربية والإسلامية لا يتوقف عند القادة، بل إنه يمتد ليشمل كل المؤسسات والهيئات العربية والإسلامية والدولية القائمة، فلا أمل يرجى من الجامعة العربية، أو منظمة التعاون الإسلامي، فهذه منظمات أصبحت في عداد الأموات، ولا أمل يرجى كذلك من الأمم المتحدة وكل الهيئات التابعة لها، فهذه المنظمة الدولية فضحتها حرب الإبادة في غزة، فكشفت عن شللها البين وعجزها الفاضح.

وبالعودة إلى النظام العالمي، والذي لابد أن يتشكل من جديد بعد انتهاء صلاحية وفعالية الهيئات الدولية التي قام عليها في الماضي،  فالراجح أن هذا العالم لن يكون عالم قطب واحد، ولا عالم قطبين، وإنما سيكون عالما متعدد الأقطاب، وهو ما يلزمنا عربا ومسلمين أن نعمل على تأسيس قطب أو حلف إسلامي خاص بنا، يدافع عن مصالحنا ويحميها.

ومن المؤكد أن الدول العربية والإسلامية تمتلك كل المقومات لتُشَكل قطبا عالميا قويا قادرا على الدفاع عن مصالح العرب والمسلمين في العالم، فمن الناحية العسكرية، هناك باكستان التي تمتلك سلاحا نوويا، وهناك إيران التي أثبتت مؤخرا أنها قادرة على مواجهة الكيان المغتصب بمفردها، وهناك دول أخرى لها قوتها العسكرية  المعتبرة، ومن الناحية الاقتصادية فهناك العديد من الدول العربية والإسلامية التي تمتلك اقتصادا قويا، وموارد مالية هائلة.

نعم لقد بات من الملح جدا التفكير في تأسيس حلف إسلامي قوي تنخرط فيه الدول الإسلامية، ويمكن أن تتشكل نواته الأولى من السعودية وباكستان وإيران وتركيا ومصر، (بالإضافة إلى قطر بعد العدوان الإسرائيلي) لتشمل بعد ذلك بقية الدول الإسلامية، فبحلف كهذا سيكون بإمكاننا أن نحرر فلسطين، وبحلف كهذا سيكون بإمكاننا أن نحل مشاكلنا دون الحاجة للاستجداء بالآخرين، وبحلف كهذا سنحمي قيمنا الإسلامية من علمنة القيم التي يقف خلفها الغرب المسيحي، ولتشكيل نواة هذا الحلف فلا بد للدول المؤسسة لتلك النواة من أن تتخذ بعض الخطوات والإجراءات التمهيدية المطمئنة:

1 ـ أن تعتذر الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن تدخلاتها السابقة في بعض الدول العربية، وأن تلتزم التزاما صريحا وقويا بالتخلي نهائيا عن أي وصاية على الشيعة خارج حدودها، وأن لا تعمل مستقبلا ـ تحت أي ظرف ـ على تحريك الشيعة في بعض البلدان العربية والإسلامية لتحقيق المزيد من المصالح والنفوذ خارج حدودها على حساب دول عربية إسلامية أخرى؛

2 ـ أن تُوقِف المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج منح الأموال الضخمة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فليس من الحكمة وضع كل البيض في سلة واحدة، وخاصة إذا كان صاحب تلك السلة هو الرئيس ترامب المعروف بتقلب مزاجه،  على أن توجه تلك الأموال للتعزيز من مكانة الحلف الإسلامي المنتظر، أو توجه لدعم بعض الدول الإسلامية المحتاجة؛

3 ـ أن تقطع مصر وتركيا (وقطر)ـ وبشكل فوري ـ علاقاتها الدبلوماسية مع العدو الصهيوني، وتفتح مصر حدودها لكسر الحصار.

هذا مجرد مقترح أقدمه للقادة العرب والمسلمين، وأعلم مسبقا أن الغالبية من الشعوب العربية والإسلامية تعتبر كتابة مثل هذا المقترح مجرد تضييع للوقت والجهد فيما لا طائل من ورائه، فهذه الشعوب لم تعد تتوقع من قادتها أي عمل جدي لصالح فلسطين أو لصالح بلاد العرب والمسلمين.

نعم لقد وصل اليأس إلى هذا المستوى بل أكثر، ومع ذلك أرجو أن يجد هذا المقترح آذانا صاغية، وقلوبا واعية، وعقولا راجحة، تؤمن بضرورة العمل به.

مع كل التقدير والاحترام لكل القادة العرب والمسلمين.

حفظ الله الأمة العربية و الإسلامية...

كتبه محمد الأمين الفاضل (مواطن من موريتانيا)

Elvadel@gmail.com