لم يحدث أن شاهدتُ رئيسا أو وزيرا يوشح موظفين بمناسبة
أو بغير مناسبة إلا وطرحتُ على نفسي الأسئلة التالية: من أين جيء بهؤلاء الموظفين؟
وكيف تم اختيارهم؟ ولماذا غاب موظفون آخرون عن عملية التوشيح هذه؟
وفي أغلب الأحيان، بل وفي كل الأحيان، فإني كنتُ أفشل
دائما في أن أتوصل إلى إجابات مقنعة. والمؤسف أن الأمر لا يتوقف فقط على الأوسمة
الرسمية، بل إنه امتد في السنوات الأخيرة حتى شمل الأوسمة والتكريمات التي تنظمها بعض
منظمات المجتمع المدني، وبعض المواقع والجرائد، والتي تعودت على أن تمنح أوسمتها
لمن لا يستحق، وأن تحجبها ـ في الغالب ـ عمن يستحق.
ومما يؤسف له أكثر، هو أن هذه البلاد التي تم فيها
تمييع كل شيء، لم تسلم أيضا من تمييع الأوسمة والتكريمات، ومن المعروف بأن الأوسمة
والتكريمات يتم تخصيصها في كل دول العام لمن كان قد تميز و أبدع في مجال ما،
ولكنها في بلادنا تمنح لكل من هب ودب، ولا يحرم منها إلا من يستحقها فعلا.
وبالتأكيد فإن هناك استثناءات، وهناك أوسمة وتوشيحات
قد تم منحها لمن يستحقها فعلا، ولكن تلك تبقى مجرد حالات نادرة جدا، وتبقى مجرد
استثناء يؤكد القاعدة التي تقول : إنه لا يكرم في هذه البلاد ولا يوشح إلا من لا
يستحق التكريم والتوشيح.
ألم يحن الوقت لأن
نفعل شيئا ما من أجل إعادة الاعتبار للأوسمة وللتكريمات؟
لقد تابعتُ منذ أيام تقريرا على قناة الموريتانية،
وكان التقرير عن الطالب الذي احتل الرقم الأول على المستوى الوطني في الباكالوريا
(شعبة الرياضيات). ولقد ظهر في هذا التقرير الأستاذ الذي كان يدرس مادة الرياضيات
للطالب الذي احتل الرقم الأول في العام 2015، وهو نفس الأستاذ الذي كان قد درَّس لوالد
الطالب المتفوق نفس المادة، وهو نفس الأستاذ الذي كان قد درَّس لكاتب هذه السطور نفس
المادة في العام الدراسي : 1984 ـ 1985.
ثلاثون عاما مرت على هذا الأستاذ وهو يدرس مادة الرياضيات،
وفي كل عام كانت نسبة معتبرة من طلابه تتفوق في الباكالوريا، ومع ذلك فلم يحصل أن تم
تكريم هذا الأستاذ لا من طرف الجهات الرسمية، ولا من طرف أي واحد من تلاميذه الذين درسهم خلال الثلاثين
سنة الأخيرة.
لم يكرم هذا الأستاذ المتميز، لا رسميا ولا شعبيا،
وذلك رغم أن جميع طلابه ومن مختلف الأجيال والأعمار يتفقون على الأمور التالية:
1 ـ أن هذا الأستاذ ظل خلال هذه العقود الثلاثة،
وبشهادة طلابه ومن مختلف الأجيال، هو أول من يصل إلى قاعة الدرس، وهو آخر من يغادر
تلك القاعة. ولم يكن هذا الأستاذ يغادر قاعة الدرس إلا وترافقه مجموعات من الطلاب،
البعض يسأل عما استشكل عليه في الحصة، والبعض الآخر يطالب بحل بعض التمارين
المستعصية. ولم يكن غريبا أن تشاهد هذا الأستاذ وهو يجلس على قارعة الطريق، وسط
مجموعة من طلابه يحل لهم معادلة على التراب.
وكان في بعض الأحيان لا يصل إلى منزله الذي لا يبعد
كثيرا عن مكان التدريس إلا بعد صلاة المغرب، وذلك رغم أنه يكون قد غادر قاعة الدرس
عند الساعة الخامسة.
2 ـ يتفق طلاب هذا الأستاذ المتميز على أنه ليس من
الأساتذة الذين يطردون الطلاب، ولا من أولئك الذين يصرخون في الفصل، ومع ذلك فقد
تعود الطلاب في حصصه على أن يتوقفوا عن الضجيج وعن أي حركات يمكن أن تشوش على
الدرس، وحتى الطلاب الذين عرفوا بالتشويش والفوضى فقد كانوا يتوقفون أيضا عن
التشويش والفوضى خلال حصص هذا الأستاذ المتميز.
3 ـ لقد تعود الطلاب على القدوم من كل فج عميق إلى حصص
هذا الأستاذ المتميز، فكان يتوافد على حصصه المستمع الحر، والطالب الحاصل على
الباكالوريا، والذي قرر أن يعيد البالكالوريا مرة أخرى حتى يتفوق فيحصل على منحة،
ولم يكن الأستاذ يمنع أحدا من الحضور لحصصه، ولذلك فقد كانت قاعة الدرس تكتظ
بالطلاب خلال حصصه، ودون أن يتسبب ذلك في حدوث فوضى أو ضجيج خلال الحصة.
4 ـ يجمع طلاب هذا الأستاذ، ومن مختلف الأجيال على أن
أستاذهم للرياضيات هو من خيرة أساتذة الرياضيات في موريتانيا، وأنه كذلك من أحسن
الأساتذة خلقا، ومن أكثرهم جدية، ومن أشدهم تواضعا.
5 ـ إن هذا الأستاذ ليس أستاذ رياضيات فقط، فهو يدرس أيضا
الفقه واللغة خلال العطل الصيفية في مسجد القرية التي ينحدر منها، إنه لا يتوقف عن
التدريس على مدار السنة.
6 ـ من الصعب جدا أن تمر اليوم بأي مؤسسة أو أي شركة
أو أي إدارة موريتانية إلا ووجدت بها عددا قليلا أو كثيرا من طلاب هذا الأستاذ.وهناك
مهن أصبح طلاب هذا الأستاذ يشكلون فيها نسبا معتبرة كما هو الحال في مهنة الطب والهندسة،
وبمختلف تخصصاتها.
ألا يستحق هذا الأستاذ المتميز أن يكرم بعد ثلاثين سنة من العطاء؟
ألم يحن الوقت لأن ينظم عدد من طلاب هذا الأستاذ
المتميز، ومن مختلف الأجيال، حفلا تكريميا لأستاذهم المتميز؟
أليس من الواجب عليهم أن يتحركوا حتى يقنعوا السلطات
المعنية بأن توشح هذا الأستاذ المتميز بأعلى وسام وطني؟
ألم يحن الوقت، لأن نخصص يوما من كل عام للمعلم والأستاذ،
وأن يتم في ذلك اليوم منح أوسمة شعبية ورسمية لكل معلم أو أستاذ تميز في ذلك
العام؟
فيما يخصنا نحن طلبة " محمد المختار ولد الهادي"
أستاذ الرياضيات المتميز فقد بدأنا نتحرك. ولقد كانت البداية في تنظيم زيارة
لأستاذنا في منزله، ونعدكم بأننا سننظم في المستقبل القريب أنشطة تكريمية لهذا
الأستاذ المتميز، ونتمنى أن تشكل تلك الأنشطة سنة حسنة يحتذي بها طلاب آخرون،
فينظمون هم بدورهم أنشطة تكريمية لمن كان قد تميز من أساتذتهم ومن معلميهم.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق