لا شك بأن العملية الدنيئة والجبانة التي راح
ضحيتها العلامة الفقيه "محمد سعيد رمضان البوطي" والعشرات من طلابه كانت
واحدة من تلك العمليات التي تزلزل أصحاب العقول، وتزيد من حيرتهم، في هذا الزمن الذي أصبحت أيامه ـ كل أيامه ـ حبلى بمثل
هذه الفواجع التي تزلزل عقول النخب، من قبل عقول عامة الناس.
وللأسف فلم تكن مصيبتنا فقط في رحيل عالم
جليل مع العشرات من طلابه بسبب عملية انتحارية
جبانة داخل مسجد، بل كانت مصيبتنا
أيضا في أن البعض من "النخب الثورية" لم يوفق في اتخاذ موقف سليم بحجم
الفاجعة، فخرج علينا بموقف طائش وصادم، وكأنما قد أصابته شظية من شظايا الانفجار
فسببت له لوثة عقلية وفكرية.
إن ردود الأفعال الصادمة التي أعقبت هذه
الفاجعة الأليمة، وخاصة منها تلك التي جاءت من جهات ثورية، هي التي دفعتني لتسجيل هذه
الملاحظات السريعة:
1 ـ أعتقد بأننا نتفق جميعا على أن البوطي يعد واحدا من كبار علماء الأمة الذين خدموا
الدين الإسلامي. نتفق على ذلك حتى وإن كانت الغالبية منا قد صُدمت بسبب ذلك الموقف
الذي اتخذه البوطي، والذي اختار فيه أن يكون في صف المجرم بشار. ولكن ورغم ذلك
الموقف الصادم للبوطي، فإنه لا يمكن لنا إلا أن نحسن الظن بهذا العالم الجليل،
والذي نحسبه قد اجتهد، وله أجر الاجتهاد، حتى وإن أخطأ. ومما يزيد من حسن ظننا
بالبوطي كون هذا العالم الجليل كان معروفا ـ عند خصومه من قبل أنصاره ـ بأنه من
الزاهدين في الدنيا وفي زخرفها.
2 ـ إن قتل البوطي لا يجوز بأي حال من
الأحوال، وهذا ما أفتى به كبار العلماء، خاصة إذا كان ذلك داخل مسجد، وأثناء حلقة
تعليم.
فللرجل حرمته حتى ولو لم يكن عالما، وللمسجد
حرمته، ولحلقات العلم حرمتها.
ثم إن الرجل لم يحمل سلاحا، وإنما كان يحمل
معه فتاوى وخطبا، وقد تصدى له علماء أجلاء بفتاوى وبخطب، ومن خلال منابر أقوى من
تلك المنابر التي كانت متاحة للبوطي. لذلك فالمعركة مع البوطي كان يجب أن لا
تتجاوز مقارعة الحجة بالحجة، والرد على الخطبة بالخطبة، وعلى الفتوى بفتوى، ثم
يترك الناس من بعد ذلك للخطاب الذي اقتنعوا به.
3 ـ رغم أن الجهة التي كانت وراء الفاجعة لم
يتم تحديدها بشكل قاطع، فربما يكون نظام بشار هو الذي قام بالعملية، وربما تكون
جهات تابعة لدول أجنبية، أو ربما تكون تابعة لأحدى فصائل الثوار، أو ربما تكون العملية
هي نتيجة لمبادرة من شخص أو مجموعة قليلة من
الأشخاص قرروا ـ لسبب أو لآخر ـ أن يرتكبوا تلك الحماقة. فرغم أن كل تلك
الاحتمالات قائمة، إلا أنه مع ذلك يمكن القول بأن الجريمة ستزداد بشاعة لو أن
عناصر ثورية هي التي كانت تقف وراءها. فالثورة التي جاءت ضد الاستبداد وضد تكميم
الأفواه، لا يجوز لها أن تقتل عالما أو أي إنسان عادي لأنه اتخذ موقفا لم يكن
لصالحها. لا يجوز للثوار أن يستخدموا السلاح إلا لمواجهة الجيش السوري وشبيحته،
أما المدنيين من أنصار بشار، والذين لم يحملوا سلاحا، وإنما اكتفوا بالمنابر الإعلامية
و الدينية و السياسية فهؤلاء لا تجوز مواجهتهم بالسلاح، لأن مواجهتهم بالسلاح قد تعني
بأنه لا فرق بين نظام بشار والثوار، فالكل يستخدم السلاح لإسكات من يخالفه الرأي.
4 ـ على الذين احتفلوا بهذه العملية الجبانة
ممن يدعون بأنهم من مناصري الثورة السورية أن يعلموا بأنهم قد أضروا بالثورة
السورية من قبل أن يضروا بنظام بشار.
إن فرحتهم المعلنة بهذه العملية الدنيئة قد
قدم حجة داعمة لنظام الطاغية بشار ستساعده في تسويق دعواه التي تقول بأن الثوار هم
الذين قتلوا البوطي، وأين؟ في مسجد!!
إن ذلك الفرح الذي عكس غباءً سياسيا، وسقوطا أخلاقيا، وجرأة على العلماء قد أثبت بأن بعض أنصار الثورة السورية هم أكثر ضررا عليها من أعدائها.
إن ذلك الفرح الذي عكس غباءً سياسيا، وسقوطا أخلاقيا، وجرأة على العلماء قد أثبت بأن بعض أنصار الثورة السورية هم أكثر ضررا عليها من أعدائها.
5 ـ على العكس من تلك المواقف التي لم تكن
على المستوى الحدث، لا شرعيا، ولا سياسيا، ولا أخلاقيا، فقد كانت هناك مواقف أخرى
موفقة، وتستحق أن يشاد بها، وهي مواقف صدرت من علماء أجلاء، ومن بعض الثوار، ومن
جماعات سياسية متعددة تحسب على الثورة.
6 ـ هناك ملاحظة أخيرة تتعلق بالطرف المعادي للثورة السورية، وهي
ملاحظة لابد من تسجيلها هنا، وتتعلق بأولئك الذين تباكوا على البوطي، ليس حبا
للبوطي، ولا حبا للعلماء، وإنما استغلالا لهذه الفاجعة، ذلك أن البكاء على البوطي
في مثل هذا الوقت قد يخدم موقفهم المعادي للثورات والداعم للدكتاتوريين.
وعلى أولئك المتباكين أن يعلموا بأنه لم يعد
بإمكانهم أن يخدعوا الناس بحزن زائف ومزيف. فمن يصف علماء أجلاء بأوصاف لا تليق،
ويطلق عليهم علماء الناتو، لن يصدق أي عاقل بأن بكاءه على البوطي كان انتصارا
للعلم وللعلماء، فلو لم يكن البوطي من أنصار النظام السوري الظالم لما حزن أي واحد
من أولئك على رحيله، ولا على رحيل علمه الغزير.
فكفكفوا دموعكم فإنها لم تعد لتخدع أحدا..
حفظ الله الثورة السورية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق