الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

الرئيس والملازم/ قصة قصيرة.

لف على رأسه عمامة زرقاء، وغطى عينيه بنظارات سوداء، ثم جلس خلف مقود سيارة (v8) السوداء، وأدار المحرك، في اتجاه العاصمة، كان يريد أن يصل في أسرع وقت إلى العاصمة، وذلك بعد أن قضى يوما رائعا في مزرعته، أو محميته كما يسميها البعض.
شعر بسعادة غريبة في تلك اللحظات، وهي سعادة يعلم بأنها ستهجره، ولن تظهر من جديد إلا بعد أن يعود في نهاية الأسبوع القادم إلى مزرعته، إن هو تمكن من العودة إليها، فالأيام القادمة كان يعلم بأنها ستكون حبلى بالهموم والأحداث، وقد لا تسمج له بالعودة قريبا إلى مزرعته.
كان على يقين بأن الأسبوع القادم لن يكون مريحا على الإطلاق، فالمعارضة ستستأنف أنشطها، والمعاهدة ستتحدث عن مبادرتها، أما هو وأغلبيته الداعمة فسيتظاهرون بالانشغال بتحديد موعد للانتخابات القادمة.
وكان يعلم بأن هموم الأسبوع القادم لن تكون هموما سياسية فقط، فهناك أيضا أزمة مالي، تلك الأزمة التي أصبح لابد من اتخاذ قرار حاسم للتعامل معها، بعد أن استنفدت كل النقاشات المرتبطة بها.
وإذا كان من الصحيح بأنه لم يذق طعما للراحة منذ أن قرر ذات أربعاء من أغسطس أن يقود انقلابه الثاني، فالأيام التي أعقبت ذلك الأربعاء المثير كانت كلها حبلى بالهموم والمشاكل، فمن الصحيح أيضا أن الأسبوع القادم ستكون همومه من نوع خاص، لذلك فقد قرر أن يتزود لتلك الهموم بسرقة ما يمكن أن يسرقه من سعادة وفرح، خلال عطلته الأسبوعية.
وكانت وسيلته لذلك هي أن يمارس بعض هوايته التي أصبح يجد صعوبة كبيرة في ممارستها منذ أن أصبح رئيسا للبلاد.
وكان من بين هواياته الغريبة والخطيرة أيضا، والتي طالما نصحه المخلصون بضرورة تركها، هي أنه كان يحب دائما أن يبتعد عن حراسه، وأن يسوق سيارته بنفسه. وكم هو غريب أن تكون هواية رجل الأمن الذي سهر على أمن الرؤساء هي أن يبتعد عن رجال أمنه بعد أن أصبح هو رئيسا.
ورغم أنه كان يعلم ـ أكثر من غيره ـ بأن هذه الهواية لا تخلو من مخاطر، إلا أنه مع ذلك لم يستطع أن يتخلى عنها.
وكان يحلو له أن يمارس هذه الهواية على الطريق الرابط بين مزرعته والعاصمة، ذلك الطريق الذي يشعره دائما بأمن وأمان لا يحس بهما في أي مكان آخر، إنه ذلك الأمان الذي يخصك به مكان دون آخر لأسباب مرتبطة أساسا بالألفة.
ابتعدت سيارة (v8) السوداء عن السيارة المرافقة بحجة تجنب الغبار، وأخذت تبتلع الطريق بسرعة مجنونة، وبتلقائية عجيبة، أما سائقها فقد انشغل بحديث ممتع مع ابن عمه وصديقه، كان يحدثه بعفوية كان يعلم بأنه سيتركها بعد لحظات مع كل الأشياء الجميلة التي سيضطر لتركها أمام أسوار القصر الرئاسي عندما يفتح له الحراس أبواب ذلك القصر.
++++++++++
ترك الملازم فرقته بعد يوم تدريبي شاق، كان هو أيضا يريد أن يسرق لحظة سعادة بعد يوم كئيب لن يكون ـ بالتأكيد ـ أكثر كآبة من الأيام القادمة.
كان يعلم بأنه يمكن أن يُستدعى ـ هو وفرقته ـ في أي لحظة، وكان يعلم بأنه يمكن أن يطلب منه أن يسافر إلى الشمال المالي، وكان يعلم كذلك بأنه قد لا يعود أبدا من تلك الرحلة.
وكان كل شيء بالنسبة له يوحي بأن موعد السفر إلى الشمال المالي  قد اقترب، فاجتماعات العسكريين والسياسيين في المنطقة قد استنفدت، حتى العاصمة فقد تحول ليلها إلى نقاط تفتيش بحثا عن قادم مفترض، جاء من ذلك الشمال، جاء ولا يحمل معه من الهدايا سوى أكفان، كان على استعداد لأن يهديها لأول بريء يصادفه على قارعة أي طريق.
وبعد يوم تدريبي شاق، ترك ثكنته العسكرية قبيل غروب الشمس، واستدعى أحد الجنود ليصحبه في رحلة  كان يبحث من خلالها عن لحظة راحة شاردة، كان يعلم بأنه لن يصادفها على تلك الأرض الجرداء التي كانت توجد بها الثكنة.
ومع ذلك فقد قرر أن يبحث عن تلك اللحظة الشاردة، فمن يدري فربما يجدها عند بائع لبن الإبل في المنطقة؟
  أصر الملازم على أن يترك في الثكنة كل شيء يذكره بالحياة العسكرية باستثناء سلاحه طبعا، لذلك فقد استخدم  في رحلته  "السياحية" سيارته المدنية، وهي سيارة من نوع (تويوتا آنفسيس)، ولكي ينسى الثكنة وهمومها قرر أيضا أن يتخلص من بدلته العسكرية، وأن يكتفي بالتيشرت الأبيض، أما رفيقه في الرحلة فقد كان يرتدي "جلابية" بيضاء، ويلف رأسه بعمامة بيضاء، لم تخف لحيته الكثة.
انشغل الملازم الذي كان يسوق سيارة ( الآنفاسيس) بحديث عابر مع رفيقه في رحلته إلى بائع اللبن المجاور لثكنته، والتي كان يعتقد بأنها ستظل مجرد رحلة عابرة كغيرها من رحلاته السابقة.
++++++++++
خيم سكون فظيع على المنطقة، وبدأت جحافل الظلام تتحرك برهبة لتلف المنطقة الجرداء بسواد رهيب، ولم يكن ليُسمع في ذلك السكون الرهيب سوى صوت السيارتين، ولم يكن ليكسر ذلك الظلام الدامس الذي لف المنطقة سوى الضوء المنبعث منهما.
 كانت كل سيارة من السيارتين تسير في اتجاه الأخرى، وكان كل سائق يقود سيارته إلى أمر قد قدر، لعبت فيه التفاصيل الصغيرة دور البطولة المطلقة.
كانت سيارة (v8) تسير بسرعة، عكس سيارة (الأنفاسيس) التي كانت تسير ببطء، وعند الساعة 19 : 47 دقيقة بالتحديد تقابلت السيارتان، وأطلقت كل واحدة منهما على الأخرى ضوءا كاشفا استغله السائقان ليلقي كل واحد منهما نظرة خاطفة على من بداخل السيارة الأخرى، وذلك من قبل أن يقرر كل واحد منهما ما الذي سيفعله في اللحظات القادمة.
قرر الملازم أن يعترض السيارة (v8)  التي تجاوزت الخطوط الحمراء لثكنته، وأن يوقفها عن الحركة حتى ولو تطلب منه الأمر أن يقتل السائق ورفيقه.
وبسرعة لافتة أوقف سيارته، ونصب مدفعه، ثم وضعه إصبعه على الزناد استعدادا لأي ردة فعل من سائق السيارة المتجهة إلى ثكنته بسرعة غير بريئة.
وفي تلك اللحظات القصيرة مرت بذاكرته عشرات المشاهد والصور، تذكر عشرات نقاط التفتيش في العاصمة، والتي لابد أنها كانت تبحث عن شيء ما، فهل ما كانت تبحث عنه نقاط التفتيش الليلية في العاصمة هو ذلك الشيء القادم إليه في تلك اللحظات وبسرعة مقلقة؟ وتذكر أيضا عشرات العمليات التي نفذها الإرهابيون عن طريق سيارات مفخخة، ثم قفزت به ذاكرته إلى المستقبل، وتحديدا إلى صبيحة اليوم التالي، حيث توقع أن يتحدث الناس عن عشرات الجنود الذين قتلوا من فرقته، وربما يتحدثون أيضا عن الملازم الساذج والمنشغل عن سلامة فرقته بشراء اللبن من عند أصحاب المشاريع، وبالتجول بسيارته المدنية.
بعد كل تلك الخواطر قرر الملازم بأنه لن يترك السيارة القادمة تعبر من قبل أن تتوقف أمامه ويفتشها، لن تعبر مهما كان الثمن، ومهما كانت الكلفة.
أما سائق (v8) فقد اتخذ قرارا معاكسا لقرار الملازم، لقد قرر أن لا يتوقف إطلاقا، لأن أسوأ قرار كان يمكن أن يتخذه في تلك اللحظات هو أن يتوقف لتلك السيارة المدنية المشبوهة التي ظهرت فجأة في طريقه، والني يقودها شاب ثلاثيني بتشرت أبيض، ويرافقه شاب آخر بجلابية بيضاء وبلحية كثة.
هو أيضا خطرت بذاكرته خواطر كثيرة في لحظات سريعة، فتذكر عشرات الرؤساء والقادة الذين تم اغتيالهم، وتذكر عشرات الانقلابات، وتذكر أيضا بعض خصومه الذين يتربصون به، وعلى رأسهم أولئك الذين يبسطون سيطرتهم على الشمال المالي.
أضاء من جديد أضواء سيارته الكاشفة ليتأكد من تفاصيل الكمين الذي انتصب فجأة في طريقه، أحس بخطورة الموقف، فهو لم تعد تفصله عن الكمين إلا مائة متر، وكانت سيارته لا تزال تسير بسرعة 160 كلم / للساعة.
كانت الخيارات أمامه محدودة جدا، فسيارة الحرس كانت تبعد عنه في تلك اللحظات بأربعة مائة متر، والعودة ليست ممكنة، أما التوقف لهؤلاء المسلحين الذين ظهروا فجأة في طريقه، فكان هو أسوأ قرار يمكن اتخاذه.
وبسرعة من تعود على اتخاذ قرارات صعبة في أوقات حرجة، قرر أن يلتف قليلا بسيارته، وأن يزيد السرعة حتى تصل إلى 180 كلم / للساعة، وليحصل بعد ذلك ما سيحصل.
هذا الانحراف المفاجئ للسيارة المريبة  زاد من شكوك الملازم فبدأ بإطلاق النار، وقرر أن يستهدف سائق السيارة بشكل مباشر، لأن الوقت كان قد تأخر كثيرا على استهداف عجلات السيارة. ذلك التصرف من الملازم زاد أيضا من شكوك الرئيس. والحقيقة أن الشكوك كانت تكبر وتتسع وتزداد بسرعة رهيبة بين سائقي السيارتين، لذلك فلم يكن في تلك اللحظات بإمكان أي واحد منهما أن يتخذ قرارا أصوب من القرار الذي اتخذه، حتى ولو كان كل واحد منهما سينكشف بعد لحظات قليلة بأن قراره الذي اتخذ لم يكن ـ بالتأكيد ـ هو القرار الأسلم.
ثلاثة عشر رصاصة أطلقها الملازم، على تمام الساعة الثامنة مساءً إلا ثلاثة عشر دقيقة، وكان ذلك في اليوم الثالث عشر من أكتوبر، وهي الرصاصات التي ستجبر الرئيس على البقاء ثلاثة عشر ساعة في المستشفى العسكري، من قبل أن يتمكن من التحدث إلى الموريتانيين عما حدث في تلك  الليلة الاستثنائية في تاريخ البلد.
إيضاح: لقد كنت من الذين صدقوا رواية "النيران الصديقة"رغم أن الطريقة التي قُدمت بها تلك الرواية كانت تبعث الكثير من الشكوك. صدقت تلك الرواية لأن الفرضيات الأخرى ( الحارس، الانقلاب، القاعدة) لم تكن مستقيمة، ولا منطقية في مجملها. وتصديقي لتلك الرواية، ومنذ أن أعلن عنها وزير الإعلام بطريقته المرتبكة هو الذي جعلني أكتب في صفحتي عن الحلقة المفقودة في الرواية الرسمية، وقد أثار ما كتبت في صفحتي عن الحلقة المفقودة أسئلة مشككة أخرى، وهي الأسئلة التي أردت أن أجيب عليها من خلال هذه القصة القصيرة التي أسعى من خلالها أن أنقل القارئ إلى الحالة النفسية التي كان يعيشها الرئيس والملازم لحظة الحادثة، والتي جعلتهما يتخذا قرارين صائبين إذا ما عدنا لأجواء اللحظة، خاطئين إذا ما تأملنا في النتائج التي ترتبت عليهما. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق