لا خلاف على أن الدول
المُسْتَعمِرة تركت خلفها قنابل موقوتة من خلال الحدود التي رسمت لمستعمراتها، تلك
الحدود التي تم رسمها بطريقة خبيثة حاولت من خلالها أن تعزل بعض المجموعات عن امتداداتها
البشرية، وأن تفصلها عن عمقها القبلي والقومي والديني.
ولا خلاف أيضا على أن
الكثير من الحكومات التي حكمت تلك الدول بعد الاستقلال لم تبذل أي جهد يذكر من أجل
تعزيز الولاء الوطني لتلك الأقليات التي عُزلت قسرا عن امتداداتها القبلية
والعرقية، وفُرض عليها العيش داخل أوطانها الجديدة التي رُسِمت حدودها من طرف الدول
الاستعمارية بطريقة ظلمت كثيرا تلك الأقليات. بل إنه يمكن القول بأن الكثير من تلك
الحكومات ظلم تلك الأقليات أكثر من ظُلم الاستعمار لها، وعزز في نفوس أبناء تلك
الأقليات الرغبة والميل إلى الانفصال عن دول وحكومات ظالمة تجاوز ظلمها ـ في كثير
من الأحيان ـ ظلم المستعمر.
لا خلاف في كل ذلك، ولكن
لا خلاف أيضا على أنه من مصلحة تلك الأقليات ـ ولأسباب لا يتسع المقام لبسطها ـ أن تحتفظ بأوطانها التي ورثت من الاستعمار، وأن
تعمل مع الأكثرية على بناء دولة ديمقراطية داخل تلك الحدود، يحصل فيها كل مواطن
على حقوقه كاملة، أما انفصال تلك الأقليات فستكون له آثار كارثية على الدولة الأم،
و على الدولة الجديدة، على حد سواء.
إن موقفنا مما يحدث
في مالي يجب أن لا نترك العاطفة تحكمه، بل علينا أن نستشير عقولنا في أي موقف نتخذه
من الدولة الجديدة، والتي ربما يعلن عن قيامها قريبا في الشمال المالي.
إن الاعتراف باستقلال
"أزواد" لن يكون ـ في اعتقادي ـ هو الموقف الأسلم، وذلك
لأسباب عديدة أذكر منها:
1 ـ إنه علينا أن
نتذكر ـ حتى لا نكون ممن يكيل بمكيالين ـ بأننا
رفضنا وبشدة انفصال واستقلال جنوب السودان
عن شماله، لذلك فعلينا أن نرفض انفصال شمال مالي عن جنوبها، وللأسباب نفسها التي
سقناها لتبرير رفضنا لانفصال جنوب السودان عن الوطن الأم.
2 ـ إن دعمنا
لاستقلال "أزواد" قد يعطي مبررا للماليين بتشجيع أي دعوة انفصالية يدعو
لها موريتانيون مستقبلا( لا قدر الله) ، لذلك فعلينا أن نعامل الآخرين بما نريدهم
أن يعاملونا به.
3 ـ إن قيام دولة في "أزواد" سيكون في
مصلحة القاعدة، والتي من المفترض أننا
نعتبرها عدوا لدودا لنا، وليس من مصلحتنا على الإطلاق أن نناصر قيام "دولة"
لن يستفيد من قيامها إلا عناصر القاعدة الذين قتلوا العشرات من جنودنا بدم بارد.
4 ـ إنه ليس من
الحكمة أن ندعم مشروع قيام دولة في الوقت الذي لم يستطع فيه المطالبون بتلك الدولة
أن يتفقوا على تصور موحد لمشروع الدولة الجديدة، وهو ما يعني ـ حسب تجارب سابقة ـ
بأن الدولة الجديدة ستكون مسرحا لحروب أهلية طاحنة لن يكون بالإمكان إيقافها.
5 ـ إن في الشمال
المالي من يسعى لإقامة إمارة إسلامية ستكون مهمتها الوحيدة هي محاربة الكفر أينما
كان، وهو ما يعني بأننا في موريتانيا سنكون من خصوم الدولة الجديدة، لأن جيشنا من
الجيوش الكافرة حسب أولئك الذي يحلمون بتأسيس تلك الإمارة، وهم الأعلى صوتا
والأكثر تسليحا من بين كل الفصائل المطالبة باستقلال "أزواد".
6 ـ إن الموقف الشعبي
والرسمي يجب أن يناصر كل الشعب المالي وبكل مكوناته وأعراقه، وعلى موريتانيا
الشعبية والرسمية أن تقف مع شقيقتها مالي حتى تتجاوز محنتها التي تمر بها، وحتى
تتمكن من بناء دولة عادلة وديمقراطية يجد فيها الطوارق حقوقهم كاملة غير منقوصة، ودون
الحاجة للدعوة للانفصال أو للطلاق الذي سيبقى أبغض الحلال عند الله.
إن ما يحدث اليوم في شمال مالي ليؤكد بأن دفاعي عن شرعية الحرب
التي كان يخوضها الجيش الموريتاني ضد عناصر القاعدة في الأراضي المالية لم يكن
موقفا خاطئا، حتى وإن انتقدني عليه الكثيرون ممن أحترم آراءهم لأنهم اعتبروه
مناصرة للسلطة القائمة ودعما لها.
لقد رفضت في سلسلة من
المقالات ( شكرا للجيش الموريتاني، الإرهاب بالوكالة، سامحونا، الكلام المباح....)
بأن أعتبر الحرب التي يخوضها الجيش الموريتاني ضد القاعدة بأنها حرب بالوكالة، بل
إني اعتبرت من يصفها بذلك بأنه يمارس إرهابا بالوكالة .
ولقد أثبتت التطورات
الأخيرة بأن الجيش الموريتاني قام بما كان يجب عليه أن يقوم به، وأن الحكومة
الجزائرية والمالية لم تتحملا مسؤوليتهما في هذه القضية لذلك فقد حدث ما حدث.
إن علينا أن نعلم ـ
بغض النظر عن موقفنا من النظام الحاكم ـ بأن قيام إمارة للقاعدة في الشمال المالي
سنتضرر منه نحن في موريتانيا ومالي والجزائر وبقية دول المنطقة من قبل أن تتضرر منه
فرنسا، لذلك فإن ما قمنا به سابقا من محاربة للقاعدة كان في مصلحتنا من قبل أن
يكون في مصلحة فرنسا أو غيرها من الدول الغربية.
تصبحون على موقف رشيد
من الأزمة المالية ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق