في فصل الصيف كانت ترتفع
أسهمي الشخصية ارتفاعا ملحوظا، ويزداد الطلب على "شخصي الكريم"، وتتنافس
أسر عديدة في حَيِّنا لكي تكتسبني وتستقطبني إليها. أما في الخريف فكانت أسهمي
الشخصية تنخفض انخفاضا كبيرا، في حين أنها كانت تحتفظ بقيمتها العادية جدا في فصل
الشتاء.
لقد عرفتْ أسهمي
الشخصية في عقد الثمانينات تذبذبا حادا في بورصة الحي، وظلت تتذبذب بين مستويات
ثلاثة تبعا لتغير فصول السنة، أما بعد الثمانينات، فقد شهدت ركودا في كل الفصول،
أعقبه هبوط حاد، استمر لسنوات، ولم يتخلله أي ارتفاع يذكر. وهذا الهبوط المستمر، هو
الذي جعلني ـ مع أسباب أخرى ـ أفرض على الكاتب تسمية هذه الرواية، بيوميات شخص
عادي جدا، رغم اعتراضه الشديد على هذه التسمية.
وفي ليلة من ليالي
صيف العام 1985، وفي ذروة ارتفاع أسهمي الشخصية، وصلتني دعوات من عدة أسر، وكان عليَّ أن أختار واحدة
منها، على أساس مدى قدرتها على الاستجابة للشرط الجديد الذي كنت قد وضعته في تلك
الليلة، والذي كان يختلف تماما عن كل الشروط التي كنت أضعها سابقا لتلبية الدعوات
التي كانت تصلني بالجملة، مع غروب شمس كل يوم من صيف العام 1985، والذي ارتفعت فيه
أسهمي الشخصية ارتفاعا لافتا، لا يعادله إلا ارتفاع درجات الحرارة، والتي وصلت في
صيف ذلك العام، كما هو حالها في كل صيف، إلى مستويات لا تطاق.
في تلك الليلة كان
شرطي الوحيد هو أن توفر لي الأسرة التي سألبي دعوتها مذياعا جيدا، يكون قادرا على التقاط
حصة تلك الليلة من البلاغات والاتصالات الشعبية، بشكل جيد، ودون أن تكون هناك
أصوات جانبية قد تؤثر سلبا على الاستماع الجيد للحلقة، أي أن تكون الأسرة التي سألبي
دعوتها بلا أطفال صغار.
كان ذلك هو شرطي الوحيد
في تلك الليلة، ولقد كان شرطا غريبا بحق، فأنا كنت في تلك الفترة أنتقد كثيرا برنامج
البلاغات والاتصالات الشعبية، وأعتبره من أبرز مظاهر التخلف في البلاد.
كنت أنزعج جدا من
برنامج البلاغات و الاتصالات الشعبية، ولم أكن أطيق سماعه، رغم الخدمات الجليلة
التي كان يقدمها للناس في ذلك العهد الذي كان خاليا من أغلب وسائل الاتصال المتاحة
لنا اليوم. ولم يكن بإمكان أي واحد منا، في ذلك العهد، أن يتخيل أن الانترنت قادم،
أو أن الهاتف المحمول، سينتشر بين الناس، وسيتيح لكل واحد منهم، أن يتصل بمن شاء،
في أي وقت شاْء، إذا كان الرصيد ـ بطبيعة الحال ـ يسمح بذلك.
كانت الأسر التي تملك
مذياعا تصر في كل ليلة على سماع حصة البلاغات، لتعلم من توفى في تلك الليلة، وتم
نعيه ببلاغ، وكذلك من وُلِد من الجواري والغلمان، هذا فضلا عن تتبع أسفار أولئك
المسافرين الذين لا تتوقف أسفارهم أبدا، والذين هم دائما بحاجة لمن يستقبلهم بجمال
في أمكنة محددة، لا أريد تسميتها هنا. ولقد كان إصرار القائمين على البلاغات على
استخدام مصطلح الغلام والجارية، هو أشد ما كان يغيظني عند سماع حصص البلاغات
والاتصالات الشعبية، فهذه المصطلحات كانت بالنسبة لي تمثل زمنا آخر، غير ذلك الزمن
الذي كنا نعيشه في الثمانينات.
وكانت البلاغات تسبب
ـ من حين لآخر ـ مشاكل لمستمعيها، فقد يحدث أن تعتقد بعض الأسرـ نظرا لتشابه
الأسماء ـ بأن أحد أفرادها قد مات، لأن هناك اسما يطابق اسمه قد تم نعيه في حصة من
حصص البلاغات والاتصالات الشعبية، وهو ما يجعل البعض ممن يحمل اسما يطابق اسما تم
نعيه في البلاغات، يضطر لأن يرسل هو بدوره بلاغا لأهله لكي يطمئنهم ويبشرهم بأنه لم يمت
بعد، وبأنه ليس ذلك الميت الذي تم نعيه في حصة سابقة من البلاغات والاتصالات
الشعبية.
ولقد حدث نفس الشيء
مع أسرتنا، فقد اعتقدنا بأن جدي رحمه الله، قد توفي قبل موته الحقيقي، لأن هناك
اسما يطابق اسمه تماما تم نعيه في حصة من البلاغات، وفي فترة كان فيها جدي رحمه
الله في سفر إلى العاصمة نواكشوط.
لقد كنت أنزعج تماما عند
سماع البلاغات والاتصالات الشعبية، إلا أن أهم شيء كان عندي في تلك الليلة هو أن أستمع لحصتها من البلاغات،
في جو هادئ تماما، لا صوت فيه ولا ضوضاء.
ولقد ظلت علاقتي
بالمذياع علاقة جيدة، باستثناء تلك الأوقات التي كانت تبث فيها البلاغات
والاتصالات الشعبية. وكانت هذه العلاقة في بدايتها، تقتصر على سماع الأغاني،
ومراسلة البرامج التي يتم فيها إهداء الأغاني.
ولقد كنا في "الشلة"
نواظب في كل مساء على الاستماع للإذاعة الهندية، وكنا في تلك الفترة نرسل بعض
الرسائل البريدية لطلب بعض الأغاني الهندية، وكنا نهديها مع ذكر الألقاب التي كان
يلقب بها بعضنا البعض، والتي كانت في مجملها عبارة عن أسماء مختارة لبعض مشاهير
السينما الهندية.
وبعد تلك المرحلة
انتقلنا إلى سماع الإذاعات الناطقة بالعربية، وبدأنا نهتم بالمسلسلات الإذاعية،
تماما كما يهتم الكثير من شباب اليوم بالمسلسلات التلفزيونية المدبلجة، مكسيكية
كانت أو تركية.
وأتذكر أن أول مسلسل
إذاعي تابعناه بشكل جماعي، كان مسلسل "الزير سالم" والذي كانت تقدمه
الإذاعة البريطانية في تلك الفترة، و كنت أنا من اكتشفه، وأقنعت "الشلة"
بمتابعة حلقاته بانتظام.
وبعد تلك الفترة بدأت
أهتم بالبرامج الثقافية، وابتعد عن الأغاني والمسلسلات، ولقد كانت البداية مع البرامج
الثقافية التي كانت تبثها إذاعة موريتانيا، والتي لا زلت أذكر من بينها، برنامجا
ثقافيا خفيفا، كان يسمى "من كل واحة ثمرة"، كنت أتابعه بانتظام، وأعتقد
بأنه كان يبث كل يوم خميس.
لم أكن في الماضي،
ولا في الحاضر، من المهتمين بالنشرات الإخبارية، ولا بالبرامج السياسية التي كان
يهتم بها أهل المدينة، بمن فيهم أولئك الرجال الذين لم تكن تسمح لهم قدراتهم
اللغوية بأن يفهموا ما يقال في النشرات الإخبارية، ومع ذلك فقد كانوا يصرون على
متابعتها بانتظام في إذاعة (B.B.C )، وكان
من أشهر أولئك الذين يصرون على متابعة الأخبار دون أن يفهموها، رجل معروف في
المدينة، لا تفته نشرة للأخبار، وكان كلما سئل عما قالته الإذاعة، أجاب بكلمتين لا
يغيرهما أبدا: "العالم ضاع ".
كانت الـ (B.B.C ) تعتبر أشهر إذاعة على
الإطلاق، في ذلك الزمن. وكان يكفيها شهرة بأنها كانت تنقل لمستمعيها دقات ساعة
"بيكبن" الشهيرة، تلك الساعة التي كان أهل المدينة يضبطون عليها ساعاتهم
اليدوية، وكانوا يعتبرونها حكما بينهم إذا ما اختلف توقيت ساعاتهم اليدوية. ولم
يشذ عن هذه القاعدة إلا رجل واحد في المدينة، كانت ثقته في ساعته اليدوية بلا
حدود، وكان يعتبرها هي المقياس، ولذلك فقد كان يمتدح ساعة "بيكبن"
ويعتبر توقيتها دقيقا إذا ما تطابق مع توقيت ساعته هو، وكان ينتقدها، ويعتبر توقيتها
غير دقيق إذا ما خالفت توقيت ساعته، ولو بثواني معدودة.
في الثمانينات كنت أكتفي
ـ في كل يوم ـ بسماع نشرة واحدة من النشرات الإخبارية للإذاعة
البريطانية، أما اليوم، فقد أصبحت أكتفي بقراءة الشريط الإخباري لقناة الجزيرة، وفي حالة
وجود حدث عظيم أضطر لأن أعطي للأخبار وللبرامج السياسية حقها من الاهتمام
والمتابعة.
ولقد كنت ـ ولازلت ـ
أستغرب من أولئك الذين بإمكانهم أن يظلوا يوما كاملا يتابعون نشرات الأخبار
المكررة، حتى في تلك الأيام العادية، والخالية من الأحداث الهامة التي تستحق كل
ذلك الاهتمام والتركيز على النشرات الإخبارية.
لقد كنت في
الثمانينات، كما هو حالي الآن، أبحث دائما
عن البرامج الثقافية، ولعل التغير الوحيد، هو أني في الثمانينات كنت أبحث عن
الثقافة في الإذاعات، وفي الكتب، أما
اليوم فأصبحت أبحث عنها في القنوات الفضائية والانترنت.
في تلك الليلة
المظلمة من ليالي صيف العام 1985، ابتلعت طريقي بسرعة كبيرة، في اتجاه المنزل الذي
قررت المبيت فيه. والحقيقة أن الظلام بالنسبة لي لم يكن ليشكل عائقا، فقد كنت أحفظ
تضاريس الكثير من طرق المدينة، لذلك فقد
تساوى لدي السير في الليالي المظلمة والليالي المقمرة، هذا إن لم يكن السير في
الليالي المظلمة، كان أفضل، لأنه كان يعفيني من بذل أي جهد للنظر إلى أسفل حتى
أتبين المكان الذي أضع فيه قدمي.
في الطريق، كانت
الأصوات تصلني متقطعة ومتداخلة، ولكنها كانت أصواتا مألوفة تماما بالنسبة لي، وكان
بإمكاني أن أحدد مصدر كل صوت منها، سواء منها تلك التي تأتي من بشر، أو تلك التي
تأتي من حيوانات أليفة.
وكان من أكثر تلك
الأصوات إزعاجا، صوت نباح كلاب "أسعيدة". وكانت
"أسعيدة" تملك كوخا قبالة منزلنا،
تسكن فيه لوحدها مع كلابها، وكان الجميع يتجنب الاحتكاك بها، فهي كانت جاهزة
دائما لأن تجعل من كل كلمة شاردة، أو أي إشارة عابرة من جار، أو من عابر سبيل،
مقدمة لخصومة قد تستخدم فيها كل الأسلحة، بما فيها تلك المحرمة محليا.
والغريب أن
"أسعيدة" العجوز الأمية، والتي كانت تسكن لوحدها مع كلابها، والتي لم
أكن أعتقد بأنها تفهم أي شيء مما يدور حولها، كشفت لي في يوم من الأيام ـ وفي لحظة
صفاء عابرة ـ بأنها تنتمي لحركة الكادحين
كما كانوا يسمون هم أنفسهم، أو الشيوعيين كما كنا نحن نسميهم، ونحن عندما أقولها
في الثمانينات، فأعني بها الناصريين، أما في التسعينات فإنها تعني اللاشيء، في حين
أنها ستعني ـ فيما بعد العام ألفين ـ جماعة الدعوة والتبليغ.
وما أفادتني به العجوز
"أسعيدة" هو أن كلابها دربوني على أفضل الأساليب، وأحدث التقنيات
للتعامل مع الكلاب الشرسة. في البداية كانت علاقتي بالكلاب علاقة سيئة تماما، وكنت
أدخل معهم في صراع شديد، كلما خرجت من منزلنا ليلا، أي أنني كنت أدخل معهم في
معركة واحدة، على الأقل، كل ليلة تقريبا.
وبعد سنوات لا أدري
كم عددها، شهدت علاقتي بكلاب "أسعيدة" تحولا كبيرا، كان حصيلة لاتفاقية
غير معلنة بيني وبين الكلاب، توقفت بموجبها عن رميهم بالحجارة، وتوقفوا هم عن
نبحي، حتى ولو وتجاوزت ـ عن طريق الخطأ ـ الحدود الفاصلة بين منزلنا وكوخ
"أسعيدة"، ووطئت إحدى قدميَّ على تراب تدخل في الحوزة الترابية لجارتنا
الشيوعية، أو الكادحة إذا شئتم.
لقد كنت ـ ولا فخر ـ أنا الشاب الوحيد في مدينة "لعيون"
كلها، والذي كان بإمكانه أن يطأ بقدمه ـ ليلا ـ على أرض تقع داخل حدود أراضي
جارتنا دون أن تهجم عليه كلابها، ولم تكن تلك هي ميزتي الوحيدة، فقد كانت لي ميزات
عديدة من هذا القبيل، لن أذكر لكم منها إلا هذه .
لقد علمتني كلاب
"أسعيدة" بأن أكبر غلطة يمكن أن
أرتكبها خلال مواجهة مع كلب شرس، هي أن أترك ذلك الكلب يشعر ـ ولو للحظة ـ بأن في قلبي ذرة خوف منه، أما أكبر حماقة يمكن
أن أرتكبها فهي أن أهرب من أمامه.
ولقد نفعني هذا الدرس
كثيرا، عندما أصبحت ـ فيما بعد ـ مساعد مؤذن مسجد "العباس" بمقاطعة "عرفات".
لقد كنت أتكفل في تلك الفترة بالعناية بالمراحيض التابعة للمسجد، وبأذان السدس،
لأن المؤذن الرئيسي، كان شيخا ضريرا، وكان يجد صعوبة كبيرة في الذهاب إلى المسجد
في وقت متأخر من الليل لأداء الأذان.
كنت في كل ليلة أذهب
إلى مسجد "العباس" في حدود الساعة الرابعة، تزيد قليلا، أو تنقص قليلا،
حسب فصول السنة، وكنت حينها أسكن في مكان بعيد نسبيا عن المسجد. وما زلت أذكر إحدى
الليالي التي اعترضت طريقي فيها مجموعة من الكلاب الطائشة كان عددها يزيد على
العشرة.
كنت أنا الوحيد الذي
أسير في الشارع، في ذلك الوقت المتأخر من الليل، لذلك فقد اتجهت نحوي الكلاب بسرعة
مخيفة، يسبقها نباحها الذي كان يخيف أكثر، لتشكل حولي ـ وبسرعة لافتة ـ دائرة مغلقة جعلتني في مركزها بالضبط، وكأنها
اعتمدت في ذلك على حسابات رياضية دقيقة.
لم يكن مني إلا أن
جلست في مكاني، وأخذت أراقب الكلاب وهي تنبح بشراسة، وكأني لست معنيا بنباحها.
أخذت الكلاب تقترب
مني شيئا فشيئا، وتزيد من حدة نباحها، في الوقت الذي كانت تعمل فيه على تضييق
الدائرة، في حرب نفسية أدرتها ببراعة لابد
أنها أذهلت مجموعة الكلاب التي هاجمتني في تلك الليلة.
كنت كلما حاولت أن
أقف وأتقدم قليلا، كانت الكلاب تزيد من حدة نباحها، وتعمل على تضييق الدائرة أكثر،
أما إذا عدت إلى الجلوس، فكانت تخفف من حدة نباحها، وتتراخى ـ قليلا ـ في إحكام
الدائرة.
ولقد تمكنت من الخروج
من دائرة الرعب، بعد دقائق بدت وكأنها دهرا، وبعد عمليات جلوس ووقوف كثيرة، ومراوغات
عديدة، كنت أتقدم خلالها قليلا.
وأعتقد بأنه لو قدر
لواحد من مجموعة الكلاب تلك، أن يكتب عن ذكرياته في مقاطعة "عرفات"، لذكرني في تلك الذكريات بوصفي الآدمي الأكثر
شجاعة في مقاطعة "عرفات" كلها.
لم يكن نباح كلاب
"أسعيدة" هو الصوت الوحيد الذي كان يمكن سماعه في تلك الليلة المظلمة، والتي
قررت أن أستمع فيها إلى كامل حصة البلاغات والاتصالات الشعبية.
كانت هناك أصوات أخرى، ولكنها كانت أقل بكثير من الأصوات
المعهودة التي كان يمكن سماعها في الليالي العادية، وكان السبب في ذلك هو أن بعض
الأسر، وجل شباب الحي ترك المدينة بعد إغلاق المدارس، وتوجه إلى البادية.
كان الشباب يجد سعادة
كبيرة في الذهاب إلى البادية من قبل تساقط الأمطار، ليشارك في عمليات إغاثة قطعان
الحيوان، والتي تكون في أمس الحاجة لمن يعتني بها، في ذلك الوقت الحرج الذي يسبق
هطول الأمطار من كل سنة.
لم أكن مثل غيري من
الشباب في هذه الجزئية، ولم أكن أفهم لماذا يتحمسون دائما للذهاب إلى البادية في
تلك الأوقات التي تكون التغذية فيها سيئة جدا، والأعمال الشاقة كثيرة جدا، بما
فيها عمليات إيقاف البقر الذي يعجز عدد منه عن الوقوف لوحده بسبب الهزال والأمراض.
لقد كنت أمتلك في صيف
ذالك العام حجة قوية للبقاء في المدينة، مع النساء والأطفال، عكس السنوات الأخرى،
والتي كنت أفرض فيها البقاء دون أن تكون لي حجة، تبرر ذلك. ولهذا السبب كانت أسهمي
الشخصية ترتفع في بورصة الأهالي كل صيف، وكانت تأتيني في كل ليلة دعوات عديدة من الأقارب
والجيران للمبيت معهم بعد أن يكون أبناؤهم قد سافروا إلى البادية، وكانت الأسر التي
تسكن في أطراف الحي هي الأكثر إلحاحا في دعواتها.
أما في موسم الخريف،
فلم أكن أجد من يهتم بي إطلاقا، أو يدعوني لأي مهمة مهما كانت بساطتها، فقد كان من
المعروف للجميع بأني لا أصلح لإنجاز أي مهمة، مهما كانت بساطتها، لذلك لم يكن يُتصل بشخصي "الكريم"،
كما يحدث مع باقي الشباب، إذا ما كانت هناك حاجة لسلخ شاة، أو لحلب بقرة، أو للبحث
عن ضالة من الإبل.
وصلت إلى المنزل الذي
كان يقع في أقصى الجنوب، على حدود المنازل المهجورة، وكانت تسكن فيه أرملة أحد
أصدقاء والدي رحمه الله، كان قد توفي منذ سنوات، وكانت تسكن معها بناتها الصغيرات.
استقبلتني والدة الأسرة، والتي كانت أيضا والدتي
من الرضاعة، بحفاوة تلقائية، وإن كانت لا تخلو في هذه المرة، من مبالغة زائدة، فرضها
الظلام الحالك، وفرضتها أيضا تلك الأصوات التي كانت تبعثها الرياح في تلك الليلة
المظلمة والعاصفة، من داخل أطلال المنازل المجاورة، تلك المنازل التي خربت بعد أن تركها أهلها منذ
سنوات، عندما قرروا الرحيل إلى حي
"الداخلة"، وهو ما انعكس سلبا على حينا، والذي كان من قبل تلك الهجرات
الجماعية قد عرف ازدهارا كبيرا.
توجهت مباشرة إلى الفراش المعد لي، والذي تم
وضعه ـ وبعناية فائقة ـ في جانب العريش المقابل للمنازل المهجورة، وبعد أن أخذت
مكاني على الفراش طلبت من إحدى البنات بأن تأتيني بجهاز الراديو. وكانت الأسرة
تملك جهاز (SHARP) من أحدث الأجهزة الموجودة في الحي في ذلك
الوقت، وكان قادرا على أن يلتقط الإذاعة الموريتانية بشكل جيد.
ولكن في تلك الليلة
العاصفة، والتي كان يلمع فيها برق بعيد، بين الفينة والأخرى، فلم يكن بالإمكان
التقاط البث بجودة عالية، حتى ولو تم ربط هوائي المذياع بسلك من الحديد، وتم تثبيت
طرف السلك في أعلى العريش، تماما كما فعلت في تلك الليلة.
يبدو أني لم أنجح في
الباكالوريا، كان ذلك هو ما استنتجته بعد سماع آخر بلاغ من حصة تلك الليلة من
البلاغات والاتصالات الشعبية، والتي كانت هي ثاني ليلة ترسل فيها بلاغات للناجحين
في الباكالوريا العلمية في ذلك العام، وللناجحين أيضا للدورة التكميلية.
لقد كانت تلك هي
الليلة الثانية التي كنت أنتظر فيها من يرسل لي بلاغا ليخبرني بأني نجحت متفوقا في
الباكالوريا شعبة العلوم الطبيعية. ولقد كان كل الناجحين في الباكالوريا ينجحون
بتفوق في حصص البلاغات والاتصالات الشعبية، حتى ولو جاءت أسماؤهم في أسفل لائحة
الناجحين، ويعود سبب ذلك، إلى أن مرسلي البلاغات تعودوا على أن يضيفوا ـ وبشكل
تلقائي ـ كلمة متفوق، بعد كل كلمة ناجح، حتى ولو كان الناجح الذي يريدون أن يبشروه
بالنجاح، قد حصل بالكاد على معدل عشرة.
ولقد ازددت في تلك
الليلة كرها للبلاغات والاتصالات الشعبية.
لقد كنت موقنا بأني
سأنجح متفوقا في الباكالوريا، رغم أني في ذلك العام كنت قد أضعت ثلاثة أشهر كاملة
لم أدرس فيها درسا واحدا. كما أني اضطررت في ذلك العام، لأن تحول إلى شعبة العلوم
الطبيعية، لتصبح مادة العلوم الطبيعية هي أعلى المواد ضاربا، تلك المادة التي كنت أكرهها
كرها شديدا، لا يعادله إلا كرهي للبلاغات والاتصالية الشعبية، وإن كان يأتي في
درجة ثانية بعد كرهي لمادة الجغرافيا، والتي بسبب كرهي لها، أصبحت أكره مادة
التاريخ الوديعة، لا لشيء، إلا لأنها تلازم مادة الجغرافيا في المناهج التربوية.
لقد اضطررت ـ بعد
الفصل الأول من ذلك العام الدراسي ـ لأن
أتحول إلى مادة العلوم الطبيعية، انتصارا لكبرياء مدينة "لعيون"، والتي
أهانتها وزارة التعليم في ذلك العام، أو على الأصح هكذا خُيل إليْ في تلك المرحلة
المشاكسة من عمري.
ففي مطلع العام الدراسي
1984 ـ 1985 أخبرتنا إدارة ثانوية "لعيون" بأننا نحن طلاب سنة نهائية
رياضيات قد تم تحويلنا إلى ثانوية "كيفة"، وذلك بحجة أن عددنا المتحصل
من ولايتين ( الحوض الشرقي، والحوض الغربي) لم يبلغ النصاب اللازم لافتتاح فصل،
لذلك فقد سافرنا إلى "كيفة"، واتصلنا بإدارة ثانويتها. وبعد أسابيع من الانتظار والتردد على
إدارة الثانوية، أخبرونا هناك بأن النصاب لم يكتمل أيضا، بعد إضافة طلاب ولاية
لعصابة، وأعتقد بأن العدد المتحصل من ثلاث ولايات لم يتجاوز 11طالبا، وهو ما جعل
إدارة ثانوية "كيفة" تطلب منا الذهاب إلى العاصمة للدراسة هناك.
وفي العاصمة أخبرونا
بأنه قد تم تحويلنا إلى ثانوية "بوتلميت"، وهناك لم نستطع أن نتخذ قرارا
جماعيا، وتركنا لكل واحد منا الحرية في اتخاذ القرار الذي يراه مناسبا له.
بعضنا قرر البقاء في
ثانوية "بوتلميت"، والبعض الآخر تقدم بطلب لكي يحول إلى إحدى ثانوية
العاصمة، أما أنا وأحد زملائي فقد قررنا أن نعود إلى ثانوية "لعيون"،
وأن نتحول إلى شعبة العلوم الطبيعية.
لقد اعتبرت في ذلك
الوقت، بأن تحويل طلاب من ثانوية "لعيون"، وهي عاصمة ولاية، إلى ثانوية
"بوتلميت" وهي مجرد عاصمة مقاطعة، كان بمثابة إهانة خطيرة لكبرياء مدينة أحببتها كثيرا، ولا زلت أحبها
حتى اليوم، رغم أني أصبحت أشعر بالغربة كلما زرتها، وأشعر أيضا بالإهانة كلما مررت
بأحد شوارعها، وكلما نظر إليَّ سكانها الجدد بنظرات مستكشفة، وكأني غريب عن هذه
المدينة، أو كأني ما مرت بي أيام كنت أعرف فيها عن هذه المدينة ما لا يعرفون، عن
أهلها، عن أسرارها، عن شوارعها، عن جبالها، عن أزقتها، عن خصومات أهلها، عن
تحالفاتهم، عن أسرار بيوتها، عن مجانينها، عن الطائش والرزين فيها، عن قصصها التي
تروى، وتلك التي لا تروى، عن حرها، عن عصبية أهلها، عن طيبهم، عن كرمهم، عن
خرافاتهم، عن مشعوذيهم، وعن كبريائهم التي وُلدت معهم يوم وُلدوا على أرض مدينة من
كبرياء.
لقد انتصرت في ذلك
العام لكبرياء مدينة من كبرياء، كانت ـ
وستبقى ـ تسكن قلبي، حتى وإن لم يعد جسدي يسكنها، عدت إلى ثانويتها، في ذلك العام،
شامخا، "مرفوع الرأس"، كأي جبل من الجبال المحيطة بها. عدت لأن المدينة
التي أصبحت أشعر بغربة فظيعة كلما زرتها، كانت بالأمس، قد استودعتني شيئا غير يسير
من كبريائها، ومن حماقاتها، ومن عصبيتها كان يكفي لاتخاذ قرار طائش، كقرار العودة
إلى ثانوية "لعيون"، والتسجيل في شعبة العلوم الطبيعية التي كنت أكرهها.
مرت عليَّ ساعات
طويلة من تلك الليلة المظلمة والعاصفة، وأنا أتقلب في الفراش، دون أن أستطيع النوم، ولكن في صباح اليوم التالي
وجدت من يخبرني بأنه سمع في نفس الليلة
بلاغا يؤكد نجاحي للدورة الثانية.
لقد مر البلاغ الخاص
بي دون أن أسمعه، وكان في ذلك خير، لأن ذلك وحده هو الذي كان سيجعلني أفرح بنجاحي
إلى الدورة الثانية، بعد أن أيقنت من رسوبي لأول مرة في حياتي، بعد سماع آخر من
بلاغ من بلاغات تلك الليلة.
ولقد تمكنت من النجاح
في الدورة الثانية، والتي كان النجاح فيها يعني بأن واحدا من أهم أحلامي في تلك
المرحلة المشاكسة من عمري لن يتحقق. كان النجاح في الدورة الثانية، يعني بأنه لن
يكون بإمكاني أن أحصل على منحة للخارج للتخصص في الرياضيات، وهو ما يعني أيضا بأني
لن أكون كبير علماء وكالة (NASA) الأمريكية، كما كنت أحلم بأن أكون.
تصبحون على الحلقة
العاشرة من الرواية...
لمطالعة الحلقات السابقة:
الحلقة الخامسة : http://www.elvadel.blogspot.com/2011/10/5.html
الحلقة الرابعة:http://www.elvadel.blogspot.com/2011/10/4.html
الحلقة الثانية:http://www.elvadel.blogspot.com/2011/10/2.html
الحلقة الأولى:http://www.elvadel.blogspot.com/2011/09/1.html
تمهيد للرواية:http://www.elvadel.blogspot.com/2011/09/blog-post_19.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق