الأربعاء، 29 سبتمبر 2010

ملاحظات على مقال سعادة السفير


لم يختلف المقال الأخير لسعادة السفير الموريتاني في قطر عن مقالاته السابقة، لا من حيث سلاسة الأسلوب، ولا من حيث وضوح الفكرة، ولا من حيث القدرة على التنقيب واستكشاف الأدلة، حتى ولو كان ذلك في أرض جدباء قاحلة.
والحقيقة أن السفير الذي يشغل حاليا وظيفة رسمية سامية، قد انفرد بنمط خاص من الكتابة يميزه عن اتجاهين من كتابات الموظفين السامين. وقد يكون من المهم في بداية هذا المقال أن نحدد تلك الاتجاهات الثلاثة:
الاتجاه الأول : يمثله الكاتب الكبير "محمد الأمين ولد الكتاب"، والذي اختار ـ عن قصد ـ أن تقتصر كتاباته على القضايا الثقافية التي ليست لها كلفة، لا على الوظيفة، ولا على العلاقات الشخصية بالأطراف السياسية المتصارعة. وربما يقول قائل هنا بأن الوظيفة الحالية للكاتب الكبير تفرض عليه أن يكتب في القضايا الثقافية. كما أن حاجة الساحة الثقافية الماسة لكتاباته المتميزة في هذا المجال قد تشفع له، وتبرر التفرغ ـ على الأقل في الوقت الحالي ـ للقضايا الثقافية.
ورغم رجاحة تلك الحجة، إلا أن ذلك لن يمنعنا أن نذكر بأن هذا الكاتب الكبير له اهتمامات أخرى، خاصة في مجال الديمقراطية والتنمية. وأنه كان بإمكانه ـ لو أراد ذلك ـ أن يكشف لنا بعضا من أسباب هذا الفشل السياسي والتنموي الذي تتخبط فيه البلاد منذ نصف قرن ، كان بإمكانه أن يفعل ذلك ، لو كان مستعدا لأن يدفع الكلفة اللازمة لقول ذلك.
الاتجاه الثاني : أن تُحَول الوظيفة الرسمية كاتبا كبيرا إلى منافس لمهرجي الإعلام الرسمي، والذين ليس لهم من شغل إلا تمجيد السلطان وشيطنة خصومه.
وهذا الاتجاه يمثله كاتب الكبير، وموظف لامع يشغل حاليا منصب وزير للصحة. لقد اختار الوزير أن يكون موظفا من الدرجة الثالثة، في الإعلام الرسمي. واختار أن ينتقد المعارضة ـ وله الحق في انتقادها ـ بأسلوب لا يناسب مقامه، وهو أسلوب أصبح يتورع عنه بعض مهرجي الإعلام الرسمي. كما اختار أن يمتدح السلطان بأسلوب أصبح ـ كذلك ـ يتورع عنه مهرجي الإعلام الرسمي.
فأن يكتب وزير فتلك سنة حسنة، خاصة في بلدنا الذي يكاد ينعدم فيه الموظف الكاتب. وأن يدافع وزير عن حكومته، أو ينتقد خصومه فذلك حق طبيعي لا جدال فيه. أما أن يكتب كاتب كبير بحجم وزير الصحة، بالأسلوب الذي أصبح يكتب به منذ توليه الوزارة، فتلك مصيبة تستحق أن نعزي فيها جمهورا من القراء، لم يكن فيهم من يتوقع أن يتحول كاتب كبير وسياسي بارز، إلى موظف من الدرجة الثالثة في بيوت الشعوذة الرسمية، والتي تعرف اصطلاحا بمؤسسات الإعلام الرسمي.
الاتجاه الثالث: ويمثله السفير الذي استطاع أن يكتب عن مواضيع سياسية شائكة كالهوية والحوار، بأسلوب يُمتع القارئ ويحترم عقله، وينصف الخصوم السياسيين، ويرضي في نفس الوقت الرئيس وأنصاره.
لقد قال لي مرة القيادي البارز في حزب التكتل السيد " صداف ولد الشيخ الحسين " المعروف بشجاعته، وبجرأته في التعبير عن رأيه، والتي تظهر من خلال بيانه الأخير الذي رد فيه ـ عندما سكت الجميع ـ على "هفوة قاضي". لقد قال لي على هامش أول اتصال هاتفي يجمعنا، علق خلاله على مقال للسفير منشور آنذاك تحت عنوان" نحن والمصائب الثلاثة ومتطلبات المرحلة" "لقد كان مقالا رائعا لولا الفقرة الأخيرة التي كان على السفير أن يتركها لمناسبة أخرى". لقد كانت الفقرة الأخيرة من ذلك المقال موجهة لقارئ خاص هو الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
والفقرة الأخيرة تتكرر دائما في مقالات سعادة السفير، وإن كان يتغير موقعها من مقال إلى مقال. فتارة تأتي في بداية المقال، وتارة في وسطه أو آخره، وفي أحيان أخرى تأتي مبعثرة وغير منتظمة، كما هو الحال في المقال الأخير.
وتلك الفقرة التي أصبحت سمة بارزة في مقالات السفير لها ما يبررها. فالسفير هو الموظف السامي الوحيد الذي يمتلك الجرأة والشجاعة لأن يكتب في القضايا الشائكة، وهو في مقالاته يحاول دائما أن يرضي أطرافا ثلاثة، لها أمزجة متنافرة في أغلب الأحيان:
الطرف الأول : القارئ العادي : ولقد استطاع السفير وفي كل مقالاته، أن يحترم عقل هذا القارئ ، وأن يخاطبه بخطاب "عاقل"، يختلف كثيرا عن الخطاب الرسمي الساذج.
الطرف الثاني: المعارضة والخصوم السياسيون: فرغم أن السفير لا يبحث عن رضا المعارضة، إلا أنه مع ذلك يحاول دائما ـ عكس غيره ـ أن ينصفها، ولو قليلا، في كل ما يكتب.
الطرف الثالث: وهو قارئ خاص، لابد أن تخصص له فقرة خاصة، في كل مقال. وهي الفقرة التي تحدث عنها قيادي التكتل.
وعموما فالسفير يكتب عادة للعقلاء، وله مقالات عنونها ب: للعقلاء فقط. فهو يكتب للقارئ العاقل، وللمعارض العاقل، وهو عندما يغازل الرئيس فإنه يغازله بطريقة عاقلة، تختلف كثيرا عن المغازلة غير "المحتشمة"، التي يتبارى فيها "عشاق " الرئيس والمعجبون به من أغلبيته، أو من الطامعين في أن يكونوا من أغلبيته.
لقد تعرفت على سعادة السفير منذ مدة عن طريق الهاتف، عندما اتصل بي من قطر للتعليق على أحد مقالاتي المنشورة. ولقد كانت تلك المكالمة بداية لسلسلة من المكالمات تعرفت خلالها على خصال أخرى في شخصية السفير، لن أتحدث عنها الآن، لأنها ليست هي موضوع هذا المقال.
المهم أن تلك المكالمات كانت تتم على حساب رصيد هاتف السفير، سواء منها تلك التي كانت بمبادرة منه، أو تلك التي كانت بمبادرة مني. و أتذكر أني قلت له مرة، في واحدة من تلك المكالمات الطويلة:
ـ لقد قرأت مقالكم الجديد رغم أني لست من العقلاء الذين تحق لهم قراءته.
واليوم أقول لسعادة السفير بأني سأعلق على مقاله " عندما يكون الولاء للوطن" رغم أني لست من العقلاء الذين هم أهل لقراءته، مما يعني ـ بالضرورة ـ بأني لست أهلا للتعليق عليه.
وكل ما في الأمر هو أني خَبَرْت تواضع السفير، ورحابة صدره التي أغرتني بأن أكتب هذه الملاحظات، والتي لا تتعدى كونها مجرد ملاحظات لقارئ عادي على مقال استثنائي:
1 ـ لقد كان من الأسلم لسعادة السفير أن لا يكتب ردا على مقال " وزراء ولد الطايع بالأمس سفراء ولد عبد العزيز اليوم". فصاحب المقال لم يتحدث عن فساد وزراء ولد الطايع، وإنما حاول ـ وببساطة شديدة ـ أن يذكر الرئيس بأن الوزراء الذين كان يصفهم بالأمس بالفساد، قد عينهم اليوم سفراء.
فإلصاق تهمة الفساد بوزراء ولد الطايع لم تأت من كاتب المقال المذكور، وإنما جاءت من عند الرئيس نفسه. لذلك فرئيس الجمهورية كان أولى بأن يكتب له السفير ردا، بدلا من كاتب مقال " حكومة المنفى .." .
2 ـ من المؤكد أن صاحب المقال الذي أغضب السفير، وأثار أعصابه التي عهدناها هادئة لم يكتب ما يستحق" ثورة" السفير. فمن الواضح أن كاتب المقال يحترم كثيرا سعادة السفير. ومن المؤكد أن موقع " أمجاد " الذي نشر المقال يقدر كثيرا سعادة السفير. فهذا الموقع هو الذي كان ينفرد بنشر مقالات السفير، وهو الذي كان يثبتها مدة طويلة على صفحته الرئيسية، حتى يتيح قراءتها لأكثر عدد ممكن من الزوار.
ومن المؤكد كذلك أن سعادة السفير لم يغب عنه أن صاحب المقال قد جعل اسمه في آخر اللائحة، دون أن يكون في تسلسل المقال وصياغته ما يبرر ذلك، وكأني بصاحب المقال قد تمنى أن يسقط اسم السفير من لائحة وزراء الأمس سفراء اليوم، ولم يمنعه من ذلك إلا الأمانة والموضوعية.
3ـ لقد أثار السفير قضية هامة جدا تتعلق بعلاقة الأنظمة بالرجال، ومتى نحمل الرجال أو نعفيهم من أخطاء النظام الذي كانوا يشغلون فيه مناصب سامية؟
ومع أن هذا السؤال يستحق أن يفرد له مقال كامل، إلا أني مع ذلك أقول اختصارا بأن أي وزير من النظام السابق كان يبشر بذلك النظام، ويروج له، وكان يجعل الولاء له أهم من الولاء للوطن، فهو شريك لذلك النظام، وعليه أن يقاسمه الأيام "المرة" كما قاسمه الأيام "الحلوة" . وأعتقد أن الأمر يتأكد عندما يتعلق الأمر برؤساء حكومات في ذلك النظام، أو بأمناء عامين للحزب الجمهوري. وعموما فهذا الموضوع سنفصل فيه ـ إن شاء الله ـ عندما نتحدث مستقبلاعن أنواع المفسدين في النظام السابق، وعن طبقاتهم وتصنيفاتهم.
ولقد قدم السفير أمثلة من العالم كحجج، لعل من أبرزها احتفاظ " أوبوما" بوزير من حكومة " بوش". الشيء الذي أقوله هنا هو أن الوزير المذكور كان يتصرف بوصفه وزيرا لأمريكا، لا وزيرا لبوش. وهو بالتأكيد لم يكن يترك مصالح أمريكا لكي يتفرغ لمصالح الرئيس . ولم يكن يضيع وقته لفتح فصول وهمية لمحو الأمية، أو دور لكتب الطبخ والخياطة. وهو لم يكن ينشر ثقافة الفساد، ولم يكن يخفي عن الرئيس بوش مآسي أمريكا الأعماق عندما يزورها، من خلال استجلاب الخيام والسجاد وأكلة المال العام من الأصدقاء، ليحجب بهم عن الرئيس مآسي ومعاناة الأمريكيين الفقراء.
4 ـ تحدث السفير عن التواصل بين الأجيال واتهم صاحب مقال "حكومة المنفى" بأنه يريد الرئيس الحالي أن يحارب ويقاطع جيلا كاملا دون تبصر أو تريث..
لا أحد يدعو الرئيس لأن يحارب جيلا كاملا، ولا أعتقد بأن هناك عاقلا سيطلب من الرئيس أن يقطع كل صلاته بالأجيال الماضية، ولا أن لا يستفيد من تجاربهم وخبراتهم المتراكمة. وفي المقابل فإنه لا يجوز لوزراء الأمس أن يستنكروا على "ضحايا الفساد" مطالبتهم للرئيس الحالي بأن لا يجعل من تعيين وزراء الأمس قاعدة، بل عليه أن يجعل منه استثناء يقتصر على حالات محدودة، ومحدودة جدا يحتاج إليها الوطن وبشكل ملح. فهناك كفاءات وطنية حُرمت من التوظيف بالأمس، وهي لا زالت محرومة اليوم في موريتانيا الجديدة، وهي أولى ـ قطعا ـ بالتعيين من وزراء الأمس.
5 ـ لقد تحدث السفير عن تعامل الإسلام مع الرجال وهم قادمون من الجاهلية. وقدم سعادته عدة أمثلة لعل من أبرزها المثال المتعلق بالصحابي الجليل خالد بن الوليد. وهنا أذكر سعادة السفير بهذه الحادثة : فقد كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كغيره من الصحابة السابقين الأولين له منزلة عظيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد قال له خالد: أتستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها!، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : " مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحة " [ أورده ابن القيم في زاد المعاد ] .
تصبحون على مقال جديد لسعادة السفير ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق