خمسون عاما مرت ـ تقريبا ـ على ميلاد الحالة الموريتانية، تلك الحالة التي شكل ميلادها ونموها وتطورها نموذجا فريدا عصيا على الفهم...
خمسون عاما مرت وموريتانيا لا زالت ترفض ـ وبإصرار عجيب ـ أن تهبط ولو بدرجة واحدة عن مكانتها "المعتبرة" التي احتلتها على صعيد سلم الفشل العالمي، تلك المكانة التي جعلتها تتربع على إمارة التخلف، و الجهل، والفقر، والفساد، والجوع، والمرض، والانقلابات..
فهي لا زالت ـ حسب المؤشرات الدولية ـ من الدول الأكثر تخلفا في العالم، و الأكثر أمية، والأكثر فقرا، والأكثر جوعا، والأكثر انقلابات، والأكثر فشلا.. وهي لا زالت كذلك من الدول الأقل نموا، و الأقل تنافسية، والأقل شفافية، والأقل أمنا، والأقل استقرارا..
خمسون عاما ونحن نسير بلا بوصلة.. فماذا بعد ؟
في الابتدائي كان يقول لنا المعلم بأن شواطئنا من أغنى الشواطئ في العالم بالسمك. وكنا نحن نردد ـ وببراءة الطفولة ـ تلك الجملة، رغم أننا لم نتذوق طعم السمك ونحن صغار، ولم "نتذوق" طعم عائداته بعد أن أصبحنا كبارا. لقد كانت هناك قلة قليلة من بني جلدتنا ابتلعت الشواطئ بكل أسماكها وحيتانها، فحرمتنا من أكل السمك صغارا، وحرمتنا من عائداته كبارا.
وفي الابتدائي كان يقول لنا المعلم: إن بلدكم يمتلك أطول قطار في العالم. وكنا نحن نفتخرـ وبسذاجة الطفولة ـ بأننا نمتلك أطول قطار في العالم. وعندما كبرنا اكتشفنا بأن طول القطار كان نقمة ولم يكن نعمة، فطوله ساعد في استنزاف حديدنا لصالح القلة القليلة التي لا تشبع أبدا، حتى ولو ابتلعت مع ما في المحيط من سمك وحيتان حمولات أطول قطار في العالم من الحديد ولعقود متواصلة.
وفي الابتدائي كان يقول لنا المعلم بأنه في بلدنا يوجد نحاس كثير، وتوجد ثروة حيوانية هائلة، وتوجد مساحات شاسعة صالحة للزراعة. وكنا نحن نردد ـ وبغباء الطفولة ـ ما كان يقوله المعلم. وعندما كبرنا تمنينا لو أن معلمنا لم يقل لنا بأن في بلدنا سمك كثير، ولا حديد كثير، ولا نحاس كثير، ولا مساحات شاسعة. فربما لو لم يقل لنا ذلك لما حلمنا بعيش كريم، ولكنا أكثر استعداد للبؤس، والجوع، والفقر، والضياع، والجهل، والإحباط الذي نتخبط فيه الآن.
وغدا ربما يقول معلمون آخرون لأجيال أخرى، بأن موريتانيا من أغنى البلدان بالنفط، والذهب، واليورانيوم تلك المعادن التي تشير بعض المؤشرات إلى وجودها بكثرة.
وبعد خمسين عاما أخرى، ربما تُصدم تلك الأجيال ـ كما صُدِمت أجيالنا ـ عندما تكتشف بأن الذهب واليورانيوم والنفط بكل مشتقاته، كل تلك الثروات تم ابتلاعها بنفس الطريقة العجيبة التي ابتلع بها السمك والحديد والنحاس...
خمسون عاما سُرِقت فيها أحلام أجيال وأجيال... فماذا بعد؟
في الابتدائي كان يقول لنا المعلم : إن أرضكم أرض المنارة والرباط ، أرض المرابطين أرض شنقيط، أرض العلم والعلماء ، أرض الإشعاع الثقافي، أرض الرجال، وأرض الأخلاق الفاضلة، والقيم السامية.
وعندما كبرنا أصبحنا نخجل من أن نقول للآخرين بأننا شناقطة، بعد أن أصبح الشنقيطي رمزا للتحايل، والخداع، والسرقة، والشعوذة في كل قارات العالم وبلا استثناء..
وبعد اكتمال الخمسين عاما اكتشفنا بأن بلاد شنقيط أصبحت عاجزة عن تقديم الجائزة الرسمية الوحيدة التي كانت تقدم في بلاد شنقيط (جائزة شنقيط ). واكتشفنا أن عاصمة بلاد الإشعاع الثقافي قد فشلت في أن تكون عاصمة للثقافة الإسلامية. كما اكتشفنا أن بلاد العلم والعلماء لا توجد فيها مكتبة عامة، حتى دور كتب الطبخ والخياطة وقصص عبير التي كانت منتشرة في البلاد، قد تم إغلاقها جميعا، وتم دفن ما فيها من كتب في مقبرة جماعية بمخازن الحالة المدنية.
خمسون عاما من " الضياع الوطني" نهبنا فيها كل رصيد الشنااقطة من السمعة الحسنة... فماذا بعد؟
لقد فشلنا حتى في إرسال أحد عشر شابا لتمثيلنا في تصفيات كروية، أصبحت كل الدول المجاورة ـ ونحن دائما نحب أن نقارن أنفسنا بدول الجوار ـ تتطلع للفوز ببطولتها، وتخجل من أن يقتصر دورها على المشاركة. أما نحن فأقصى ما نحلم به رياضيا هو أن نتمكن من المشاركة في تلك التصفيات.
خمسون عاما مضت... وخمسون حلما لم تتحقق.
في الابتدائي قال لنا المعلم أشياء كثيرة، وزرع في أنفسنا أحلاما كثيرة، قال لنا بأن عاصمتنا فتية، وبأن دولتنا فتية. وكعادتنا كنا نردد ـ ببساطة الطفولة ـ ما كان يقوله المعلم.
وعندما كبرنا اكتشفنا بأن بلدنا عانى من شيخوخة مبكرة مزمنة، وأن عاصمتنا شاخت وهي لا تزال فتية، وأصبحت مدينة أثرية، قبل أن تكمل عقدها الخامس. فشوارعنا الفتية تقعرت وهي فتية، ومؤسساتنا العامة انهارت أو صفيت وهي فتية، والمباني الرسمية القليلة أصبحت مباني أثرية رغم أنها فتية. وأطفال عاصمتنا شاخوا وهم أطفال، وشبابها شابوا وهم شباب، فهم لا يحتاجون ـ كغيرهم من الشباب ـ لملاعب رياضية، ولا لحدائق نزهة، ولا لمسارح....ولا..ولا..
خمسون عاما من "الفشل الوطني العام" في كل الأصعدة... فمن المسؤول؟
بالتأكيد يستطيع كل واحد منا أن يجيب على هذا السؤال بطريقة تقليدية، فالنظام الحالي يستطيع أن يقول بأن الأنظمة السابقة كانت هي السبب. ويستطيع كل نظام سابق أن يحمل النظام اللاحق له مسؤولية الفشل لأنه انقلب على "مسار التنمية" الذي كانت تنتهجه البلاد. وبإمكان الشعب أن يحمل المسؤولية لنخبه، وبإمكان النخب أن تحمل المسؤولية للشعب.فالكل بإمكانه أن ينتقد الكل.
هناك نكتة تقول بأن أحد الرؤساء العرب لما سُئِل عن السبب في فشله في تنمية بلده، أجاب بأن السبب يعود لكونه يقود شعبا عربيا.
والحقيقة أن في هذا الجواب الساخر شيء من الحقيقة قد لا يكون "الزعيم العربي" هو الذي قصده. فسلبية الشعوب العربية، واستعدادها للخضوع، والخنوع، وتقبلها لسياسات فاشلة، بل وتجاوبها المنقطع النظير مع تلك السياسات ساعد كثيرا في تخلف البلدان العربية.
فنحن جميعا في هذا البلد نخبا وعامة، حكاما ومحكومين نتحمل جزءا من هذه الحصيلة الكئيبة، ومن هذا الفشل الرسمي والشعبي الذي نعيشه اليوم. وإذا كان الحكام والنخب قد ارتكبوا " كبائر" عليهم أن يتوبوا منها، وأن يكفروا عنها بتضحيات جسيمة. فإننا نحن عامة الشعب قد ارتكبنا " صغائر" علينا كذلك أن نتوب منها، وأن نكفر عنها بتضحيات "صغيرة".
ولأنني في هذا المقال لا تهمني"كبائر الكبراء"، بقدر ما تهمني "صغائر الصغار" فسأقتصر هنا على تقديم بعض "الأفكار الصغيرة" التي أناشد كل القراء الإيجابيين أن يشاركوا في تنفيذها، وذلك حتى لا نظل تنفرج ببلادة، ونتعامل بسلبية مع هموم بلدنا الكثيرة.
وهذه الأفكار جاءت كإجابات عملية على السؤال التالي : ما الذي يمكن أن يقدمه مواطن عادي مثلي ومثلكم، لكي يساهم إيجابيا في نجاح الاحتفال بخمسينية الاستقلال الوطني؟
لقد جرت العادة لدى كل رؤساء هذا البلد أن يحيطوا أنفسهم برجال من الأسفنج، يمتلكون قدرة عجيبة على التشكل وفق مزاج ورغبات كل من يترأس. ولقد نتج عن ذلك أن طفا " الغثاء الثقافي" على المشهد الثقافي. وعلا "الزبد السياسي والإداري والإعلامي" على السطح السياسي والإعلامي والإداري. أما ما ينفع الناس ثقافيا أو إعلاميا أو إداريا أو سياسيا فقد ظل مدفونا في باطن الأرض، أو لُفِظ ـ في أحسن الأحوال ـ للتسكع في الخارج بحثا عن لقمة العيش. ولقد فات أولئك الرؤساء بأن القائد الناجح هو الذي يحيط نفسه بقادة ناجحين، لا برجال من الأسفنج.
وجرت العادة ـ وهذه مصيبة كبيرة من مصائبنا الكبيرة ـ عند الاحتفال بذكرى كل استقلال، أن تقتصر التكريمات والتوشيحات على بعض الزبد والغثاء مما لا ينفع الناس. و كان يتم التركيز دائما على الزبد والغثاء الأكثر غثائية، والأكثر قدرة لأن يطفو على الجميع.
وتفاديا لتكرار تلك المصيبة في الاحتفالية الكبيرة بمناسبة الذكرى القادمة لعيد الاستقلال، جاء السؤال: ما الذي يمكن أن يقدمه مواطن عادي مثلي ومثلكم، لكي يساهم إيجابيا في نجاح الاحتفال بخمسينية الاستقلال الوطني؟
هناك أشياء كثيرة لا تحتاج لموارد ولا لوسائل غير متاحة، يمكننا أن نقدمها:
1 ـ يمكننا أن نعد لائحة من مائة شخصية أغلبها من الشباب قدمت خدمة لهذا البلد، تستحق عليها التكريم. ويمكننا أن نختار تلك اللائحة بشكل شفاف، وبمشاركة كل من يرغب في ذلك. كما يمكننا أن نقدم تلك اللائحة ـ وبشكل جماعي ـ في والوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة إلى السلطات المعنية.
2 ـ يمكننا كذلك أن نعد لائحة ثانية من مائة شخصية تشغل الآن وظائف سامية، رغم أنها كانت تشغل وظائف سامية في نظام "ولد الطايع" الذي تم الانقلاب عليه، بحجة أنه أفسد البلاد والعباد. الغرض منه هذه اللائحة هو حرمان أفرادها من التكريم في الاحتفالات القادمة، و تذكير السلطات الحالية بأن كل رجال التغيير في ظل الاستقرار والذين تركهم "ولد الطايع" ليلة الثالث من أغسطس وهو راض عنهم، قد أصبحوا هم رجال الصفوف الأمامية في معركة التغيير البناء.
3 ـ يمكننا أن نجمع ونقدم بعض الأفكار الإبداعية والمتنوعة للمساعدة في نجاح الاحتفالات القادمة.
و المؤكد أنه بإمكاننا أن ننجح في تنفيذ هذه الفكرة على أحسن وجه إذا ما توفرت لدينا الإرادة الكافية، وإذا ما التزمنا بالشفافية والموضوعية في اختيار الشخصيات، وإذا ما أحسنا استخدام الآليات التي سيتم إتباعها، والتي سيتم الإعلان عنها في وقت لاحق إن شاء الله.
تصبحون على تضحيات "صغيرة" من أجل خمسينية موريتانيا ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق