كيف ننهض بالعمل الخيري؟
ضمن سلسلة حلول قرآنية لقضايا تنموية معاصرة، ستتحدث ورقة اليوم عن العمل الخيري من خلال وقفات مع سورة القصص، وذلك بعد أن تم تخصيص الورقة السابقة، للحديث عن عوائق التنمية في عالمنا الإسلامي من خلال وقفات مع سورة النمل.
والحقيقة أن هناك دوافع ملحة فرضت اختيار هذا الموضوع من بين مواضيع تنموية أخرى ومن بين تلك الدوافع يمكن أن أذكر:
1ـ الحديث عن العمل الخيري في شهر القرآن، وفي شهر الإنفاق، من خلال تدبر بعض الآيات القرآنية هو حديث ممتع جدا ومغر جدا.
2 ـ من المفارقات المؤلمة جدا، أن الأمة التي أحدث دينها ثورة في مفهوم العمل الخيري، من خلال توسيع مجالات الصدقة والإنفاق، لتتسع لكل ذي كبد رطب، ومن خلال تنويع تلك المجالات، لتشمل كل ما يدخل السرور في النفس البشرية، سواء كان ذلك بشق تمرة، أو بابتسامة عابرة، أو بكلمة طيبة، أو حتى بنية صادقة. هي اليوم أمة تتعلم العمل الخيري من غيرها من الأمم، وهي بذلك تستورد أفعال الخير من الأمم الأخرى، بدلا من أن تكون هي من يصدر تلك الأفعال الخيرية للفقراء ولذوي الاحتياج من الأمم الأخرى.
3 ـ لقد أصبح المسلم يعيش حياة متخلفة، ويموت "موتة متخلفة "، بفعل الجوع، والمرض، والعطش، والكوارث، والحروب، وقتل البعض للبعض. وقد أصبح عالمنا الإسلامي مجرد خريطة كبرى لمقابر جماعية، يحفرها عدو خارجي يزداد غطرسة وظلما، وأنظمة حاكمة تزداد فشلا واستبدادا، وجماعات متطرفة تزداد قسوة، لدرجة جعلت من الحزام الناسف الذي لا يقتل إلا الأبرياء ، حرفة "إسلامية" خالصة، أو بلغة العصر، ماركة "إسلامية" مسجلة.
ومع مشاهد الموت اليومي للمسلمين، التي تنقلها الفضائيات إلى كل بيت مسلم، يظل الغائب الأكبر عن تلك المشاهد الأليمة، هو العمل الخيري الإسلامي. بينما يبقى الحاضر الأكبر هو المنظمات الخيرية الغربية، التي تأتي بأفواج من الشباب وبشيء غير يسير من المال ، لأغراض مشبوهة في بعض الأحيان ، وإنسانية في أحيان أخرى، لتخفف من معاناة المسلم الضحية ، التي تسبب فيها أخوه المسلم الحاكم، أو أخوه المسلم الإرهابي، أو العدو الظالم.
يغيب أبناء البلد المسلم الميسور، عن إخوتهم في البلد المسلم المنكوب. و يغيب الميسورون عن المفجوعين في البلد الواحد، بل وفي المدينة الواحدة ، وحتى في الحي الواحد. تاركين بذلك الساحة خالية للمنظمات الغربية، وللمتطوعين المسيحيين أو اليهود لكي يظهروا وكأنهم أكثر رحمة، وأكثر رأفة بالمسلم من أخيه المسلم.
لذلك فنحن اليوم بحاجة ماسة إلى وقفات قرآنية، لكي نستعيد من خلالها شيئا من "ألقنا"وإبداعنا الخيري، الذي جعلنا ذات يوم مُشرق، ننثر القمح على سفوح الجبال، لكي نطعم أسراب الطيور المهاجرة.
الوقفة الأولى: لقد تمثلت أول لقطة خيرية في هذه السورة، في إيواء وكفالة زوجة فرعون لطفل رضيع، حملته الأمواج إلى قصر فرعون. طفل سيسمى فيما بعد موسى عليه السلام، أي لقيط الماء أو ابن الماء حسب اللغة المصرية القديمة.
ومن تلك اللقطة يمكن الخروج بإشارتين اثنتين في غاية الأهمية:
الإشارة الأولى : وتكمن في أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه المرأة في العمل الخيري. فقد كانت المرأة هي أول من قدم عملا خيريا في هذه السورة، ويزداد دور المرأة أهمية، إذا ما كان العمل الخيري يتعلق بتربية وإيواء وكفالة ورعاية الأطفال، خاصة منهم اليتامى و أطفال الشوارع.
فمن المفزع أن أغلب أطفال الشوارع، قد يتحولون إلى قنابل إرهابية أو إجرامية موقوتة، للانتقام من المجتمعات التي بخلت عليهم بقليل من المال لإيوائهم أو لتعليمهم. وبخلت عليهم فوق ذلك بلمسة حنان، كثيرا ما تقدمها لهم بعض المتطوعات الغربيات القادمات من أماكن بعيدة.
الإشارة الثانية : أهمية القيام بالمتاح والممكن من العمل الخيري، حتى ولو تعلق الأمر بالعمل على إنقاذ ضحية واحدة، من بين آلاف الضحايا. لقد كان فرعون يقتل الأطفال بالجملة، ولم تكن زوجته قادرة على إنقاذ أي واحد من أولئك الأطفال، ولكنها عندما وجدت نفسها أمام حالة من تلك الحالات، يمكن إنقاذها، لم تتردد ولم تتأخر في تقديم العون لها.
وفي ذلك درس مهم لكل من يترك العمل الخيري، لاعتقاده بأن قدراته وإمكانياته لن يكون لها أي تأثير. فهو يعتقد خطأً عدم جدوائية الاهتمام بحالة واحدة أو بحالات محدودة جدا، في بلدان كبلداننا الإسلامية ، التي يوجد بها حسب تقرير حديث لليونسيف 600 مليون طفل يعاني من الفقر، والمرض، والحرمان من التعليم. ويموت فيها سنويا 4.3 مليون طفل دون الخامسة، بسبب سوء التغذية، أو بسبب أمراض يمكن الوقاية منها. كما تُحرم فيها نسبة 60% من الالتحاق بالمدارس الابتدائية، في 17 دولة إسلامية . في حين سجلت 11دولة إسلامية ، أعلى معدلات وفيات أطفال بالعالم.
البعض منا يتعامل بشكل سلبي، مع هذه الأرقام المخيفة، عندما يقلل من أهمية إنقاذ طفل واحد، من بين 4.3 مليون طفل يموتون سنويا، متجاهلا بذلك أنه لو حاول كل واحد منا أن ينقذ طفلا، بما هو متاح لديه، لأنقذنا وبدون مشقة، ملايين الأطفال الأربعة. وهو يتجاهل كذلك، أن من أحيا طفلا واحدا، فكأنما أحيا الأطفال جميعا. وربما يتمكن الطفل الوحيد الذي ننقذه، بتوفير لقاح مثلا، من أن ينقذ هو بدوره ـ عندما يكبرـ مئات الأطفال.
لقد ساهمت آسية في إنقاذ كل أطفال بني إسرائيل، لأنها أنقذت الطفل الذي سينقذ بعد ذلك بعقود من الزمن كل بني إسرائيل، من ظلم الطاغية فرعون. وهي لم تتعامل ـ وهذا ما علينا أن نتعلمه منها ـ بشكل سلبي مع الرضيع الذي ألقاه إليها اليم، بحجة أنه لا فائدة من المخاطرة لإنقاذ طفل واحد، في الوقت الذي يذبح فيه الأطفال وبشكل متكرر أمام عينيها.
الوقفة الثانية : رغم أن السورة الكريمة قدمت لنا صورا متنوعة من العمل الخيري، شاركت فيها كل الشرائح العمرية ( امرأة تكفل طفلا ، شاب يغيث مستضعفا ويسقي لنساء ، رجل من أقصى المدينة يكشف مؤامرة ويقدم النصيحة والاستشارة ، شيخ يُضيف غريبا ويوفر له عملا وزوجة) . فرغم أن مشاركة الكل في العمل الخيري بغض النظر عن الجنس أو العمر، هي مسألة بالغة الأهمية، وهو ما بينته السورة الكريمة، إلا أن الدور الذي يجب أن يلعبه الشباب في هذا المجال، يجب أن يكون دورا رائدا. ولقد ألمحت السورة الكريمة لذلك، من خلال عرض عملين خيريين، قدمهما الشاب موسى عليه السلام. قدمهما وهو يمر بوضعيتين في غاية التناقض، فالعمل الخيري الأول قدمه وهو أمير مدلل. أما الثاني، فقد قدمه وهو مطارد، خائف، جائع، غريب.
لقد تحدث القرآن عن قصة موسى بتفصيل، لم يتحدث به عن قصة نبي آخر. ولقد قدم لنا القرآن جوانب هامة من حياة موسى عليه السلام، فكانت كل مرحلة عمرية تقدم لنا جانبا محددا، من حياة هذا النبي الذي اصطنعه الله لنفسه.
فموسى الذي زاد على السبعين عاما على الأشهر، قد تميزت فترة شبابه بالعمل الخيري .
و ما قدمه موسى من عمل خيري في هذه السورة الكريمة، قدمه وهو شاب لا يتجاوز الثلاثين من عمره، وذلك بعد أن خصص كل شبابه للعمل للخيري، هذا إذا ما استثنينا الزواج والعمل.
فأين أنتم يا شباب العالم الإسلامي من العمل الخيري ؟ وأين أنتم من شباب موسى عليه السلام ؟ بل وأين أنتم في العمل الخيري من الشباب المسيحي أو اليهودي أو حتى الشباب الذين لا دين له ؟
ففي الولايات المتحدة الأمريكية التي تصنف العمل الخيري بأنه هو القطاع التنموي الثالث، تطوع في العام 1994 ما يزيد على 90 مليونا أغلبهم شباب، وهو ما يقترب من ثلث السكان، وبمعدل 4.2 ساعة أسبوعيا. وقد كان مجموع ساعات التطوع 20 بليون ساعة، أي ما يوازي عمل 9 ملايين موظف بدوام كامل، وهو ما تقدر قيمته ب 176 بليون دولار أمريكي.
أما في كندا، فإن91% من الكنديين الذين تزيد أعمارهم على 15 سنة يقدمون تبرعات نقدية أو عينية. وتوجد في كندا 175000 جمعية أهلية، منها 78000 مسجلة. أما في فرنسا، فقد بلغت الجمعيات الخيرية 600000 جمعية في العام 2003، في حين أن عدد الجمعيات زاد على مليون ونصف المليون في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي أمريكا مثلا تمتلك " بونا يتدرويز " لوحدها 1400 فرع، وهو ما يزيد على عدد كل المؤسسات الإسلامية في العالم.
أما في إسرائيل، فتوجد 35000 منظمة غير ربحية، وهو ما يفوق عدد الجمعيات في العالم العربي بأسره. ولقد استطاع يهودي أمريكي، اسمه "سورس" أن يؤسس مؤسسة " المجتمع المفتوح " والتي يوجد لها 33 فرعا ومركزا في دول العالم الثالث، منها 28 مركزا في العالم الإسلامي!
ومن المفارقات الأليمة، أن ما تنفقه سنويا واحدة من أهم منظمات الشباب الإسلامي ( الندوة العالمية للشباب الإسلامي ) في شرق العالم الإسلامي، وفي غربه، لا يمثل إلا 5% مما تنفقه مؤسسة "المجتمع المفتوح" في دول البلقان لوحدها.
يهودي آخرـ واليهود معروفون عادة بالبخل ـ تبرع للاستيطان في عام واحد، بما يفوق ما تبرعت به منظمة المؤتمر الإسلامي للمسجد الأقصى، خلال الأربعين سنة الأخيرة!
وذلك في الوقت الذي تجمع فيه المنظمات اليهودية الراعية لصندوق "الهيكل بالقدس"، تبرعات منتظمة من 50 مليون أمريكي، بهدف هدم المسجد الأقصى، وإنشاء الهيكل المزعوم.
وقد ساهم القطاع التطوعي ـ القطاع شبه الغائب في عالمنا الإسلامي ـ في دعم الاقتصاد الصهيوني في العام 2006 بما قيمته 14 مليار دولار، وهو ما يمثل نسبة 13.3 % من الناتج المحلي الإجمالي .
الوقفة الثالثة : من الإشارات المهمة التي قدمتها هذه السورة العظيمة، والتي على جميع المشتغلين بالعمل الخيري أن يتذكروها، خاصة في بداية مشوارهم الخيري، هي أن موسى عليه السلام كافأه الشخص الذي أغاثه بأن أفشى سره، مما جعل موسى عليه السلام يضطر للخروج من مصر، خائفا على نفسه من ظلم فرعون.
لقد خرج موسى من موطنه بسبب عمل خيري، ومع ذلك فكان أول ما قدم في موطنه الجديد هو عمل خيري آخر، رافضا بذلك أن يترك وشاية الإسرائيلي تُوقِفُ مشواره الخيري. فالعمل الخيري باب من أهم أبواب العمل الصالح، لذلك على الذي يحاول أن يدخل من ذلك الباب أن يتوقع اختبارا وابتلاء كبيرا، بقدر أهمية العمل الخيري نفسه. لكن ذلك الابتلاء ـ وهذه من نعم الله ـ سرعان ما يتوقف، إذا ما أصر فاعل الخير على الانضمام " لنادي أفضل الناس "، من خلال مواصلة فعل الخير، والإصرار عليه رغم الابتلاء.
ففي دقائق معدودة، حصل موسى عليه السلام على الأمن النفسي، والاجتماعي، والاقتصادي. وظهرت النتائج الدنيوية العاجلة للعمل الخيري الذي قدمه في مدين، وذلك بعد أن تجاوز مرحلة الابتلاء، من خلال الإصرار على فعل مزيد من الخير، رغم النتائج "الكارثية " لعمله الخيري الذي قدم في مصر.
الوقفة الرابعة: لقد كان موسى مهموما، جائعا، غريبا، وخائفا يوم قدومه إلى مدين. ورغم أن همومه في ذلك اليوم كانت لا تقاس بهموم غيره، إلا أنه مع ذلك لم يتوقف عن البحث عن المهمومين والضعفاء لكي يعينهم، وكأنه بذلك كان يريد أن يعقد صفقة مع رب العالمين، وهي صفقة لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال صفقة خاسرة ، لا في الدنيا، ولا في الآخرة. فماذا لو عقدنا نحن صفقات مشابهة، وتركنا همومنا الشخصية لرب العالمين، لكي نشتغل بهموم غيرنا من المستضعفين ، حتى ولو كانت تلك الهموم أقل إلحاحا من همومنا الشخصية ؟
لقد أصبح الكثير من المسلمين يعتقد أن العمل الخيري بصفة عامة، والإنفاق بصفة خاصة هي عبادة خاصة بالأغنياء دون الفقراء، وهنا لا بد من تسجيل الملاحظات التالية :
الملاحظة الأولى : لقد كان موسى عليه السلام هو الأكثر فقرا، والأكثر احتياجا، من بين كل تلك الجموع التي تواجدت عند بئر مدين في ذلك اليوم الذي دخلها فيه موسى عليه السلام وهو خائف يترقب. ولقد كان موسى رغم ذلك هو الوحيد الذي بادر في ذلك اليوم إلى تقديم عمل خيري. وهو بذلك لا يختلف عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي عاش في مكة فقيرا، ومع ذلك فقد قالت له أمنا خديجة رضي الله عنها بعد نزول الوحي : ( كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ).
وما قالته خديجة رضي الله عنها، يؤكد أن النبي صلي الله عليه وسلم ومن قبل أن يوحى إليه ، كان مشغولا ـ رغم فقره ـ بالعمل الخيري و بمد يد العون للغير. أما بعد نزول الوحي فحدث ولا حرج.
ولم يقتصر الإنفاق في أوقات الشدة والفقر على الأنبياء فقط. فقد قدم الصحابة دروسا رائعة في مجال الإيثار: مجاهدون في سبيل الله وفي رمقهم الأخير يتدافعون شربة ماء ، كل منهم يريد الآخر أن يشرب أولا ، حتى استشهدوا الثلاثة. فقير آخر من الصحابة يبادر بالتصدق قبل أغنياء الصحابة، وآخر يستدعي الضيوف إلى بيته رغم أنه لم يكن يملك من الطعام إلا ما يسد به رمق أبنائه. أما أمنا زينب بنت جحش رضي الله عنها، فكانت تعمل بيديها الشريفتين لكي تَكْسِبَ مالا تتصدق به على الفقراء .
فلم يكن غريبا إذاً أن يُنافس فقراء الصحابة أغنياء الصحابة في الإنفاق، لأنهم كانوا يعلمون أن أعظم الصدقات أجرا، هي تلك التي يتصدق بها المتصدق وهو يخشى الفقر.
ولأن البعض قد يقول بأن تلك القصص الرائعة، في مجال الإنفاق التي قدمها الصحابة رضوان الله عليهم، لم يعد بالإمكان تقديمها في عصرنا الحاضر. لأولئك أقدم مثالا أحب دائما أن أتحدث عنه، وهو ليس بالمثال اليتيم ولا بالمثال القديم جدا:
ذكر "أورخان محمد علي" في كتابه "روائع من التاريخ العثماني" قصة أغرب اسم جامع في العالم. وهو جامع صغير في منطقة "فاتح" في اسطنبول اسمه باللغة التركية : "صانكي يدم" أي: "كأنني أكلت" أو "افترض أنني أكلت". ووراء هذا الاسم الغريب، قصة غريبة طريفة، وفيها عبرة كبيرة. يقول "أورخان" : كان يعيش في منطقة "فاتح" شخص ورع، اسمه "خير الدين كججي أفندي" ، وكان صاحبنا هذا عندما يمشي في السوق ، وتتوق نفسه لشراء فاكهة، أو لحم، أو حلوى، يقول في نفسه : صانكي يدم.. كأنني أكلت.. ثم يضع ثمن تلك الفاكهة أو اللحم أو الحلوى في صندوق له. ومضت الأشهر والسنوات، وهو يكف نفسه عن كل لذائذ الأكل، ويكتفي بما يسد رمقه فقط . وكانت النقود تزداد في صندوقه شيئا فشيئا، حتى استطاع بهذا المبلغ الموفر القيام ببناء مسجد صغير في محلته. ولما كان أهل المحلة يعرفون قصة هذا الشخص الورع الفقير، وكيف استطاع أن يبني هذا المسجد، أطلقوا على الجامع اسم : جامع صانكي يدم، أي كأنني أكلت، أو أفترض أني أكلت وهذا الجامع لا يزال موجودا حتى الآن.
الملاحظة الثانية : إن الكثير من أوجه العمل الخيري قد لا تحتاج أصلا إلى المال، مما يفتح المجال واسعا للفقراء. فمن بين أولئك الذين دخلوا الجنة بسبب عمل خيري ، كان هناك من قدم عملا لا يحتاج لمال، فكنس مسجد، أو إزالة جذع شجرة عن طريق المسلمين، أو وسقي كلب ، هي من الأعمال التي لا تحتاج لإنفاق مال.
وفي عصرنا هذا توجد أعمال كثيرة لا تحتاج لمال كثير، أو لا تحتاج لمال أصلا، يمكن من خلالها أن ندخل السرور في قلوب المسلمين، وأن نكون بفعلها ممن يمشي في حوائج الناس. وذلك لكي نكون خيرا ممن يعتكف عشر سنوات، أو لكي نكون كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم الليل الصائم النهار .
الملاحظة الثالثة : لقد كان قارون الذي ذُكِرَت قصته في هذه السورة العظيمة ، من أغني بني إسرائيل ، بل ومن أغني أغنياء البشرية. ومع ذلك فقد ظل يرفض أن يُنفق شيئا يسيرا من ماله الكثير على فقراء بني إسرائيل. لقد ظل ذلك "الملياردير" يرفض أن يُحْسِن كما أحسن الله إليه، حتى خسف الله به وبداره الأرض.
وذِكْرُ قصة قارون في سورة القصص لوحدها من بين كل قصص القرآن، تلك السورة التي تحدثت عن المستضعفين وعن العمل الخيري ـ ليؤكد لنا بأن العمل الخيري ليس عملا خاصا بالأغنياء عن الفقراء، وإنما هو عمل عظيم يوفق الله له بعض عباده من الفقراء أو من الأغنياء، ويَحْرم منه البعض الآخر من الفقراء ومن الأغنياء على حد سواء.
الملاحظة الرابعة : لقد أثبت بعض الفقراء في عصرنا هذا ، أن العمل الخيري ليس عملا ترفيا خاصا بالأغنياء ، وهناك مؤسسات خيرية ناجحة تؤكد تلك الحقيقة .
وكمثال على ذلك يمكن أن نقدم تجربة البنجالي محمد يونس، الحاصل على نوبل في العام 2006 ، والذي هو واحد من المسلمين القلائل الذين أبدعوا في هذا المجال. ورغم أن الرجل قد اكتسب شهرة عالمية واسعة، إلا أنه مع ذلك لا زال مجهولا عند أكثر المسلمين.
لم يكن محمد يونس رجل أعمال بل كان أستاذا جامعيا. ترك التدريس في وقت مبكر، ليتفرغ لمساعدة الفقراء، الذين كانوا يموتون جوعا، بفعل المجاعة التي عرفتها بنجلادش في السبعينات.
أخذ د. محمد يونس يقترض لأنه لا يملك المال، وذلك لكي يقدم قروضا متناهية في الصغر لبعض فقراء بلده. وفي الوقت نفسه كان يبحث عن تمويل لأفكاره التي اعتبرها الجميع أفكارا مجنونة، وغريبة، وسخيفة، ومضحكة في نفس الوقت، لأنها كانت تشكل خروجا على النص . وكانت تشكل ثورة على المفاهيم السائدة في ذلك الوقت : فكيف يمكن تأسيس بنك خاص بالفقراء ؟ وكيف يمكن لمؤسسة مالية تريد أن تستمر أن تقدم قروضا للفقراء بلا ضمان ؟ وكيف يمكن تأسيس اقتصاد للفقراء في عالم لا يعرف إلا اقتصاد الأغنياء الذي يزيد الأغنياء غنى ويقتل الفقراء جوعا وفقرا وعطشا ومرضا وجهلا ؟
لقد أسس محمد يونس بنك غرامين (بنك القرية ) وكانت البداية ب27 دولارا فقط. وبنك غرامين اليوم يقدم قروضا تزيد على 5.7 مليار دولار. وهو موجود فيما يزيد على 40 دولة. وقد استفاد منه حتى الآن ما يزيد على 7 ملايين فقير.
كما يمكن هنا أن نقدم مثالا آخر يتعلق بعبد الرحمن السميط ( أسألوا الله له الشفاء) ،ذلك الطبيب الكويتي الذي لم يكن غنيا، والذي أحب العمل الخيري في أصعب صوره . لقد أسس السميط جمعية العون المباشر، ونافس الجمعيات الغربية في إفريقيا ، وتمكن خلال ثلاثين عاما رغم الأمراض الكثيرة التي أصابته ورغم المخاطر العديدة التي كادت أن تقضي على حياته، أن يُدخل في الإسلام ما يزيد على ستة ملايين. وأن يشيد 2750 بئرا ارتوازية في إفريقيا، ويبني 1200 مسجدا مع كفالة 9500 يتيم، وأن يدفع رسوم الدراسة عن 95000 طالب فقير، و يوزع 51000000 نسخة من المصحف. فضلا عن بناء 102 مركز إسلامي متكامل، و200 مركز لتدريب وتشغيل النساء ... إلخ
كلمة أخيرة : علينا أن نتعلم العمل الخيري من سيرة موسى عليه السلام الذي عاش في أمة مستضعفة، كما هو حال أمتنا الإسلامية في هذا العصر. فموسى الذي قال عنه الله تعالى (( ولتصنع على عيني )) كان لكل حدث في حياته مغزى. فالله كان يُعده لإنقاذ أمة مستضعفة، ذليلة، عانت من ظلم كبير، كما هو حال أمتنا الإسلامية اليوم.
لذلك فعلى شبابنا ممن يتألم لحال الأمة، أن يتعلم من الشاب موسى عليه السلام، والذي كان يعتبر بأن فعل الخير لا ظرفية له، ولا حدود له ، ولا وطن له. فلقد كان موسى عليه السلام يفعل الخير، أينما حل، وأينما ارتحل. يفعله وهو أمير مدلل، كما يفعله وهو فقير جائع. يفعله كلما وجد محتاجا لذلك، سواء كان رجلا أو امرأة، وسواء كان من وطنه أو من وطن آخر.
علينا أن نكون " خيريين بلا حدود " كما كان موسى عليه السلام، خيريا بلا حدود. وكما كان جميع الأنبياء والمرسلين، عليهم جميعا أفضل صلاة وأزكى سلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق