الأربعاء، 23 أكتوبر 2019

هل أصبحت لدينا "حصانة شرائحية"؟


لا خلاف على أن هناك مكونات وشرائح كانت في أغلب الأحيان هي الضحية لما يُمارس من عنصرية في هذه البلاد، ولا خلاف أيضا على أن هناك مكونة قد يكون بعض أفرادها أولى بالاتهام بممارسة العنصرية من غيرهم من أبناء المكونات الأخرى.
لا خلاف على ذلك، ولكن، ألم يحن الوقت لأن نفكر قليلا بالمقلوب، وأن نطرح السؤال الذي أصبح لابد من طرحه: هل أصبحت لدينا "حصانة شرائحية"؟

تصوروا مثلا بأن الفتوى التي جاءت في تسجيل صوتي، والتي تحدث فيها صاحبها عن جواز دخول أربعة أخوة بخادمهم التي ورثوها من أبيهم، تصوروا أن تلك الفتوى كانت قد صدرت من شخص آخر من مكونة أخرى، فلو أن تلك الفتوى صدرت من شخص آخر من مكونة أخرى لاشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، ولقامت دنيا الحقوقيين والسياسيين والمدونين، ولأُصدِرت البيانات تلو البيانات، ولنُظمت الوقفات تلو الوقفات، حتى وإن تراجع عنها صاحبها، ولكن، ولأن تلك الفتوى لم تأت من شخص من المكونة التي يُراد أن ينحصر الاتهام بالعنصرية بها، فقد تم التعامل معها ببرود شديد.
ألا يحق لنا هنا أن نطرح السؤال : هل نجا صاحب تلك الفتوى من ردود الفعل القاسية للمدونين والحقوقيين والسياسيين بسبب "حصانته الشرائحية" التي يتمتع بها؟
قبل ذلك بأيام معدودات تم تداول رسالة صوتية لشخص مجهول يسيئ فيها لشريحة من شرائح مجتمعنا، وكانت ردة الفعل قوية جدا، فاشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، وتم تنظيم وقفات احتجاجية. اللافت في الأمر هنا هو أن بعض أبناء تلك الشريحة التي أساء إليها شخص مجهول، سجلوا هم بدورهم رسائل صوتية بأسمائهم، وأساؤوا فيها لشريحة معينة ومع ذلك فلم يجدوا من يعاتبهم ـ ولو بكلام ناعم ـ على ذلك. فلماذا قامت الدنيا ولم تقعد لما أساء "مجهول" إلى شريحة معينة؟ ولماذا تم تجاهل إساءات أشخاص معروفين من تلك الشريحة لشريحة أحرى.؟ فهل السبب يعود إلى أن أولئك قد أصبحوا يتمتعون ب"حصانة شرائحية"؟
أذكر أني تابعتُ ذات مرة كلاما في غاية العنصرية لرئيس حزب لم يتم التشريع له حتى الآن، وقد تعود رئيس ذلك الحزب أن يصف مكونة معينة من مكونات مجتمعنا ب"البرابرة"، ومن المعروف بأن هذه الكلمة تستخدم في بعض معانيها لوصف كل من يطبع تصرفاته الجهل والوحشية والبعد عن التحضر، وهذا هو معناها الأكثر شيوعا وتداولا في الإعلام والسياسية. في كلامه ذلك تحدث المعني عن المكونة التي يصفها بالبرابرة بأسلوب يوحي بأنه يقصد المعنى القدحي لتلك الكلمة، فقال بأن هناك مكونة في بلادنا عاشت في البدو ولم يحكمها قانون ولم تعرف الحياة المدنية إلا في وقت متأخر على عكس المكونة التي ينحدر هو منها.
تصوروا أن مثل ذلك الكلام تلفظ به رئيس حزب سياسي ينتمي للمكونة التي وصفها المعني بتلك الأوصاف المسيئة، وتصوروا أنه وصف مكونة المعني بتلك الأوصاف المسيئة. لو أن شيئا من ذلك حدث لقامت دنيا السياسيين والحقوقيين والمدونين ولما قعدت أبدا، وذلك على الرغم من تجاهلهم الكامل لإساءات رئيس الحزب غير المشرع لإحدى مكونات مجتمعنا، فهل السبب في ذلك يعود إلى أن "الحصانة الشرائحية" هي التي حمت صاحب تلك الإساءة من السياسيين والحقوقيين والمدونين؟
الأخطر من ذلك كله، هو أن هذه "الحصانة الشرائحية" قد تجاوزت السياسية ووصلت إلى الدين لدرجة أصبحنا فيها نميز في المحاسبة والمساءلة الدينية بين الموريتاني والموريتاني. فإذا كان ظهور مواطنة موريتانية من شريحة معينة لا تغطي شعر رأسها قد يقيم الدنيا ولا يقعدها كما حدث مع فنانة سجلت فيديو، ومع كاتبة ظهرت في فيديو آخر، ومع مخرجة سينمائية تعودت على عدم تغطية رأسها، فإن ظهور موريتانيات أخريات من مكونة أخرى بتلك الصورة لا يثير أي استغراب ولا أية ردة فعل. هنا قد يكون الأمر متفهما لأن الغضب لم يكن لأسباب دينية، وإنما كان لأسباب اجتماعية  ترتبط بتقاليد تتعلق بالزي، ولكن ما لا يمكن تفهمه هو أن نلاحظ هذا التمييز في المحاسبة في أمور تتعلق بمقدساتنا الإسلامية، وبانتصارنا لعرض نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.
لقد تولى الدفاع عن كاتب المقال المسيئ محام من مكونة ومحامية من مكونة أخرى، وقد تعرض المحام لهجوم شرس من جماهير النصرة في حين أن المحامية لم تتعرض لأي هجوم من أي نوع وذلك على الرغم من أنها لم تكن أقل صلة بالملف من المحام المذكور. قد يقول قائل هنا بأن المحام قد تعرض لذلك التمييز بسبب تهجمه على العلماء وعلى المقدسات، لهؤلاء أقول بأن التمييز الذي أتحدث عنه قد جاء من قبل ذلك. فهل السبب في ذلك التمييز يعود إلى أن المحامية كانت تمتلك "حصانة شرائحية" لا يمتلكها المحام؟ أم أن السبب يعود إلى أن جماهير النصرة كانت تعتبر المحامية "مسلمة من الدرجة الثانية"، وأن المحام "مسلما من الدرجة الأولى"؟
إن السكوت عن "الحصانة الشرائحية" يحمل في طياته نوعا من "العنصرية الخفية"، ذلك أن عدم محاسبتنا لهذا السياسي أو ذاك الفقيه لأنه من شريحة معينة قد يعني في بعض دلالاته بأننا نعتبر ذلك السياسي أو ذلك الفقيه "مواطنا من الدرجة الثانية" يجب أن يعفى من المساءلة والمحاسبة التي يمكن أن يتعرض لها مواطن آخر من "الدرجة الأولى" من مكونة أخرى إن ارتكب الخطأ ذاته.
خلاصة القول : إن منح "حصانة شرائحية" لأبناء مكونة دون أخرى، هو نوع من العنصرية البغيضة، وتلك حقيقة يجب أن يسمعها من يرفعون اليوم لواء محاربة التمييز و العنصرية في هذه البلاد.  
حفظ الله موريتانيا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق