الأربعاء، 12 ديسمبر 2018

رواية "يوميات شخص عادي جدًا"/ الحلقة العاشرة


كان الركاب يتمايلون  بتناغم عجيب مع تمايل سيارة 504، ذات الركاب التسعة (سبعة رجال وامرأتين). وكانت السيارة تبتلع طريق الأمل بسرعة فائقة، لا تعادلها إلا السرعة العجيبة التي سيبتلع فيها عقد التسعينيات آمال وأحلام جيل بكامله، قُدِّر لي أن أكون واحدا منه.
جيل كان يعتقد أن الباكالوريا هي بداية لتحقيق الأحلام، فإذا به يكتشف لاحقا بأنها كانت بداية للخيبة الكبرى التي ستلتهم كل الآمال والأحلام.
لقد قدر الله لي، ولحكمة بالغة لا يعلمها إلا هو، بأن أكون واحدا من ذلك الجيل، وأن أكون أيضا واحدا من ركاب تلك السيارة، التي اختزنت رحلتها من مدينة لعيون إلى العاصمة نواكشوط ذات يوم من أيام أكتوبر 1985، الكثير من أسرار رحلة أخرى، ستكون أكثر اختصارا، حتى وإن بدت أطول زمنيا. إنها رحلتي التي بدأت  يوم ولدت، وستنتهي حتما يوم أموت، في مكان ما، وفي لحظة ما، من يوم قادم لا محالة.

هكذا نحن مجبرون دائما على السفر عبر طريق سريع، يبدأ بالولادة، وينتهي حتما بالموت. إننا دائما في سفر، يمتد بمسافة أعمارنا، ويتسع بحجم أحلامنا، سنتساقط خلاله واحدا بعد واحد على أرصفة شارع العمر، الطويل والفسيح بأحلامنا، الضيق والقصير بمقياس ما تحقق، وما سيتحقق.
هكذا نحن دائما، سنسافر جميعا عبر ذلك الطريق، ولن يتخلف عن السفر إلا من لم يولد أصلا، أما من وُلِدَ فسيظل يلهث ويسرع الخطى إلى موت لا يعرف في أي مكان سيقابله، ولا في أي وقت سيلاقيه. ولأننا لا نعرف مكان أو زمان نهاية رحلتنا تلك، فَلِم نتعب أنفسنا بتحديد الأزمنة والأمكنة في تفاصيل تلك الرحلة العابرة، إذا ما أردنا أن نسردها بتفاصيلها العابرة ـ كما أفعل الآن أنا والكاتب ـ في يوميات عابرة، لقراء عابرين، يعيشون زمنا عابرا؟
ذلك سؤال كبير أثار جدلا حادا مع الكاتب، وكان أكثر حدة من الجدل الذي أثاره الخلاف بيننا حول البداية المناسبة لهذه الرواية، والذي أعتقد أنكم لا زلتم تتذكرونه، ولا زلتم تتذكرون كيف حسمته لصالحي.
إن أكبر مشكلة واجهتني خلال تقديم هذه اليوميات، هي أني ابتليت بكاتب من صلصال قديم، لا يملك من الجرأة ما يكفي لكي يتحرر من الأنماط التقليدية والضوابط البالية في كتابة السير.
وكم من مرة أغاظني هذا الكاتب بجملة بلهاء، ظل يكررها دائما في نقاشنا الذي أثارته هذه الحلقة.
ـ إنه لابد من احترام فواصل الزمن وهوامش المكان عند كتابة سيرتك الشخصية، أي أنه لا بد من احترام التاريخ والجغرافيا في سيرتك.
ولأن الكاتب كان يجد متعة كبيرة في أن يغيظني، فقد أضاف الجملة الأخيرة، والتي لا تضيف أي معنى لما قال، وإنما  أضافها فقط حتى يلفظ  كلمة جغرافيا التي أبغضها، وقد لفظها بنبرة عالية، وبصوت حاد، يختلف تماما عن أسلوبه الهادئ والمعهود في الكلام.
ـ ومن قال إنه لا بد من احترام خط الزمن عند كتابة السير؟ هكذا كنت أسأل الكاتب دائما، كلما كرر جملته البلهاء تلك.
وكان الكاتب يرد بالقول:
ـ إنه المنطق، إنها كل تجارب كتابات السير التي اطلعت عليها حتى الآن.
وكان ذلك الرد كافيا لأن يشعرني بأنه لا فائدة من مواصلة الحوار، لأنه لن يكون من الممكن أن تقنع شخصا تقليديا ككاتب هذه السيرة بأفكار غير تقليدية.
فالكاتب لا يزال غير قادر على أن يقتنع بأن سيرتي هي سيرة غير تقليدية، وأنها تختلف عن كل السير التي قرأها، فهي سيرة شخص عادي جدا، وليست سيرة لأحد المشاهير، لذلك فكان من الأنسب ـ حسب وجهة نظري ـ أن تروى بطريقة غير تقليدية، لأن ذلك وحده هو الذي كان بإمكانه أن يخفف من رتابة حياتي، ومن إيقاعها البطيء والرتيب.
كنت أشفق كثيرا على القراء، كلما طالعت حلقة منشورة من حلقات يومياتي، لأني كنت اكتشف مع كل حلقة أطالعها أن الكاتب قد فشل في أن يضيف شيئا قليلا من التوابل والبهارات ليفتح به شهية القراء لابتلاع حلقات رتيبة، من يوميات سيرة رتيبة، كتبت بأحرف وبكلمات في منتهى الرتابة والكآبة.
 ولعل أعظم مصيبة واجهتني أنا والقراء،على حد سواء، هي أن الكاتب لا يزال يتمسك ـ ورغم كل نقدي ـ  بأسلوبه البائس في كتابة حلقات هذه اليوميات، وهو الأسلوب المعتمد على احترام الخط الزمني للرواية، رافضا أن يتجاوز أي سنة من سنوات عمري، حتى لو لم يكن في تلك السنة أي حدث يستحق أن يذكر.
لم أستطع أن أقنع الكاتب بأن في حياتي ـ كما هو الحال بالنسبة لغالبية البشر ـ  لحظات تختزن من المشاعر والأحداث ما يكفي لأن يملأ مجلدات لو وجدت كاتبا مبدعا يبسطها وينثرها نثرا في صفحات هذه اليوميات، وبطريقة إبداعية تختلف عن الطريقة البائسة التي يعتمدها كاتب هذه اليوميات. وإن في حياتي سنوات أخرى قاحلة، لو وجمع كل ما فيها من أحداث لما ملأت صفحة واحدة من صفحات هذه اليوميات.
تلك حقيقة لم أستطع أن أجبر الكاتب على احترامها أثناء كتابة هذه اليوميات، وذلك بسبب أن العقد المبرم بيننا كان يسمح له بكتابة حلقات هذه الرواية  بالطريقة التي يراها هو مناسبة، ويسمح لي أنا بسرد الأحداث بالطريقة التي أرى أنا أنها هي الأنسب.
ولم يكن أمامي ـ أنا المكبل بعقد جائر في هذه الجزئية بالذات ـ  إلا أن أتوسل للكاتب، على غير عادتي، حتى يغير طريقته في سرد سيرتي الشخصية، ولذلك فقد قلت له في بداية هذه الجلسة المخصصة لأحداث الحلقة العاشرة من يوميات سيرتي.
ـ ما رأيك لو خصصنا هذه الحلقة للقطة واحدة من سفري إلى العاصمة، وهي اللقطة التي لا زالت تحتفظ بها ذاكرتي حتى الآن؟
أجاب الكاتب عن سؤالي الذي طرحته بسؤال ارتأى أن يطرحه بنبرة ساخرة.
ـ وما هي تلك اللقطة التي لا زالت تحتفظ بها ذاكرتك الكسولة، حتى الآن؟
ـ قد لا تصدقني إذا قلت لك  إني نسيت كل تفاصيل ذلك السفر الذي جرى منذ ما يزيد على ربع قرن، نسيت لحظة الانطلاق، ونسيت لحظة الوصول، ونسيت كل الذي حدث بين لحظة الانطلاق ولحظة الوصول، باستثناء لقطة واحدة لا زالت محفورة في ذاكرتي، لقطة لا طعم لها ولا لون، لا فرح فيها ولا حزن، لا خوف فيها ولا أمان يميزها عن غيرها، ومع ذلك فقد ظلت ـ ولحكمة ما ـ عالقة بذاكرتي، دون غيرها.
لقطة غريبة، وأغرب ما فيها، أنها خالية من أي شيء غريب.
لم يكن من الكاتب إلا أن كرر سؤاله مع زيادة مستوى السخرية في نبرته.
ـ وما تلك اللقطة التي لا زالت تحتفظ بها ذاكرتك الكسولة، حتى الآن؟
ـ أتذكر أني خلال ذلك السفر، وفي مكان ما على طريق الأمل التفت عن يميني وعن شمالي ومن أمامي ومن خلفي، فوجدت أن ثمانية من الركاب كانوا يتمايلون بتناغم عجيب مع تمايل السيارة، وذلك بعد أن غلبهم النعاس، فناموا.
 وكان كلما استيقظ أحدهم للحظة بفعل ارتطام أو هزة ما، عاد من جديد إلى النوم، في الوقت الذي بقيت فيه أنا مستيقظا طوال الرحلة، وكنت كلما وصلتني عدوى النعاس، وأغمضت عينيَّ للحظة قصيرة جدا، أعود لفتحهما من جديد.
رد الكاتب بسؤال يقطر سخرية، وكأنه قد امتص كل ما تبقى في حنجرته من سخرية.
ـ أتريد حقا أن نخصص حلقة كاملة من الرواية للقطة تافهة كهذه؟
ـ نعم، هكذا أجبت، ولا أدري إن كنت أنا الذي لفظت كلمة نعم، أم أن الكلمة كانت في عجلة من أمرها، فلفظت نفسها بنفسها.
ـ أنا على استعداد لتنفيذ طلبك الغريب هذا، ولكن بشرط.
ـ وما هو؟ هكذا سألت.
ـ أن توافق على تغيير اسم هذه الرواية، ليصبح: يوميات مجنون تافه جدا.
ـ ولكنك تعلم أني لست مجنونا، أما التفاهة فتلك حكاية أخرى.
ـ لست متأكدا تماما من صحتك النفسية، لذلك فإن كانت لديك شهادة صحة نفسية فأرجو أن تُريَنيها، فربما يطلب مني القراء مستقبلا أن أصورها وأنشرها في الرواية حتى يتأكدوا من أن بطل روايتي ليس بمجنون.
لم أجب الكاتب، وإنما اخترت أن ألوذ بالصمت، فقد كان من العبث بالنسبة لي، أن أحاول أن أثبت عدم جنوني لكاتب غبي. يقال بأن عالم الرياضيات بيرتراند راسل كان قد احتاج  لأكثر من 350 صفحة ليثبت أن: 1+1 = 2 .
خيمت لحظات من الصمت الثقيل، قطعها الكاتب بالإعلان عن استنتاج سخيف، كان قد توصل إليه للتو.
ـ لقد أيقنت الآن بأن أفكارك الغريبة هي التي كانت وراء فشلك في الحياة.
ـ وما الذي كان وراء فشلك أنت في الكتابة، يا كاتبنا العظيم ويا صاحب الأفكار النيرة؟
لم يجبني الكاتب، ولم يكن لديه ما يجيب به، ولذلك فقد واصلت الحديث، مع محاولة لتغيير مساره قليلا، وذلك بطرح السؤال التالي:
ـ هل ترغب في أن أكشف لك سبب فشلي في الحياة؟
ـ بالتأكيد، أرغب في ذلك.
ـ إن سبب فشلي في الحياة يعود أساسا إلى أني بقيت مستيقظا في السيارة خلال رحلتي تلك التي حدثتك عنها، والتي لم أعد أتذكر منه سوى تلك اللقطة العنيدة العالقة بذاكراتي.
رد الكاتب بكلمات ساخرة، لم يستطع ـ هذه المرة ـ أن يلفظها بنبرة ساخرة، بعد أن كان قد استهلك في بداية هذا الحوار، كل ما اختزنته حنجرته من سخرية.
ـ ما رأيك في أن تؤجل قليلا شرح سبب فشلك في الحياة، حتى نذهب إلى مستشفى المجانين، بمقاطعة السبخة، فربما تجد هناك من يفهم حديثك أكثر مني؟
ـ هذا اقتراح جيد، ولعل الجيد فيه هو أن توفق إدارة المستشفى في استغلال فرصة زيارتك لها، وتقرر أن تحتجزك في أحد عنابرها، تطبيقا لمبدأ الإنسان المناسب في المكان المناسب، فتكون بذلك هي أول مؤسسة موريتانية تطبق هذا المبدأ.
سكتُّ للحظة، عدلت خلالها جلستي، ثم واصلت حديثي بكلمات واثقة، وكأني معلم يحدث أحد تلاميذه الأغبياء في سنة أولى ابتدائي.
ـ يا أيها "الكاتب العبقري"، إني أعلم أن عقلك المتواضع لن يستوعب ما سأقوله لك الآن، ولكن أرجوك أن تنقل هذا الكلام ـ وبأمانة تامة ـ إلى القراء، فربما يكون من بينهم "مجنون" قادر على فهم ما سأقوله لك الآن، ورب سامع أوعى من مبلغ.
إن تلك اللقطة التي حدثتك عنها منذ لحظات، والتي لا زالت محفورة في ذاكرتي، رغم مرور ما يزيد على ربع قرن من الزمن، لم تكن لقطة عادية، حتى وإن بدت في ظاهرها مجرد لقطة عادية لا تثير أي فضول.
إن تلك اللقطة  تفسرـ يا "كاتبنا العبقري" ـ الكثير من أسرار حياتي، إنها تفسر ـ وكما قلت لك سابقا ـ سبب فشلي في الحياة، أو ما قد تعتبره أنت والقراء على أنه فشلا، وإن كنت أنا أعتبره أعظم نجاح حققته حتى الآن.
فأي نجاح أعظم من أن تظل مستيقظا لعقد كامل من الزمن، ودون أن تغمض عينا، في الوقت الذين يكون فيه كل من حولك في سبات عميق لا يستيقظون منه أبدا؟
أرجو أن لا تحاول الإجابة على هذا السؤال، فالسؤال ليس موجها إليك، يا "كاتبنا العبقري"، فأنا أعرف أنك لا تتقن الإجابة إلا على الأسئلة الهامشية، أما الأسئلة الكبرى، كما هو الحال بالنسبة لهذا السؤال، فلن يكون بإمكانك الإجابة عليها.
وأعلم ـ يا "كاتبنا العبقري" ـ  أني عانيت مشقة السفر في رحلتي تلك، لأني لم استطع النوم كما فعل بقية الركاب، وهو ما جعلني أعيش الرحلة لحظة لحظة، وأتجرع أتعابها كاملة، عكس بقية الركاب الذين ساعدهم النوم في قطع مسافات طويلة من الرحلة دون أي معاناة.
ونفس الشيء تكرر في رحلتي الأخرى، خاصة في عقد التسعينيات، والذي تعتبره أنت، كما قد يعتبره القراء، عقد فشل بامتياز بالنسبة لي، وإن كنت أنا أعتبره عقد نجاح بامتياز.
لم أستطع أن أغمض عيون الضمير، وأنا أبذل جهدا كبيرا لعبور المقطع الخاص بعقد التسعينيات من رحلة عمري، وكان عبور ذلك المقطع، من أصعب مقاطع عمري التي عبرتها حتى الآن.
لقد كان بإمكاني أن أغمض عينيَّ في رحلتي إلى العاصمة، كما فعل بقية الركاب، وكان ذلك سيخفف ـ لا محالة ـ من وغثاء السفر، ولكني لم أفعل. وكان بإمكاني أيضا ـ يا "كاتبنا العبقري" ـ أن أغمض عيون ضميري في التسعينيات، كما كان يفعل أغلب الناس، وكان ذلك سيخفف حتما من شقاء التسعينيات، ولكني لم أفعل، بل تركت عيون ضميري مفتوحة، لأصل إلى قمة الفشل في ظرف قياسي.
كان سائق سيارة 504 يتعمد أن يسوق سيارته بطريقة لا توقظ الركاب، ربما خوفا من طلباتهم المزعجة، وكان الركاب يجدون متعة في مواصلة نومهم، وكان الكل مرتاحا، باستثنائي أنا الذي لم تسرقني غفوة قصيرة في تلك الرحلة الشاقة.
كان سائق السيارة سعيدا بنوم الركاب، تماما كما كان سائق البلاد الذي استولى على زمرة قيادتها منذ يوم 12 ـ 12 ـ 1984، سعيدا بنوم شعب بكامله.
ولقد كان العام الدراسي 1984 ـ 1985 عام أحلام بالنسبة لي. ففي مطلع ذلك العام حلمت ببلد ينعم بالديمقراطية والعدل، وذلك بعد أن صدقت وعود قائد انقلاب 12ـ 12. وفي نهاية ذلك العام الدراسي حصلت على الباكالوريا (الدورة الثانية)، والتي كنت أعتبرها بمثابة تأشيرة  لتحقيق أحلامي الشخصية، ولم يكن تزامن حصولي على الباكالوريا مع انقلاب معاوية مجرد صدفة عابرة على رصيف شارع عمري. .
حلمان كبيران رسمتهما في ذلك العام الدراسي، حلم شخصي، وحلم للوطن، ولكن عقد التسعينيات لم يكن عقدا لتحقيق الأحلام، لا الشخصية منها، ولا تلك التي تتعلق بالوطن، وإنما كان عقدا لاغتيال كل الأحلام، وبشتى أصنافها، الكبرى أو الصغرى، شخصية كانت أو وطنية.
ففي عقد التسعينيات تبخرت أحلامي الشخصية لأني رفضت أن أغمض عيون الضمير، في ذلك العقد الذي أغمض فيه الجميع عيون ضمائرهم، فناموا وارتاحوا.
أغمض العلماء عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..
وأغمض المثقفون عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..
وأغمض الوجهاء عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..
وأغمض الشيوخ والصغار والنساء والرجال والبسطاء وكبار القوم عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..
لقد عبر الشعب كله عقد التسعينيات، وهو نائم مرتاح مغمض العيون، تماما كما فعل ركاب سيارة 504 في تلك اللقطة العالقة بعناد عجيب على حافة  ذاكرتي.
وكان الشعب يهذي وهو نائم..
ووصل الهذيان  بعجوز أن طلبت من الرئيس معاوية أن يحجز لها مقعدا في الجنة، وذلك بعد أن حقق لها كل أحلامها الدنيوية..
ووصل الهذيان بشخصية سياسية وإعلامية بأن قدمت ـ وهي نائمة ـ  المصحف الكريم للرئيس معاوية على أساس أنه ـ والعياذ بالله ـ هدية متواضعة.
ووصل الهذيان بشيخ كبير إلى أن أقسم بأن البركة نزلت من السماء ليلة 12 ـ 12، وأن أفراد عائلته شبعوا في تلك الليلة حتى من قبل أن يأكلوا..
لقد تعرضت الأخلاق والقيم في عقد التسعينيات إلى زلزال عظيم، جعل عاليها سافلها، و سافلها عاليها، ولعل المصيبة الكبرى أن الزلزال حدث والناس في سكرة نومهم يعمهون، ولم يشعر به أحد، إلا من رحم ربك.
إن أخطر الزلازل تلك التي تحدث والناس نيام.
يقول الأستاذ محمد يسلم ولد غالي في وصف تلك الفترة :
مكث عشرين سنهْ * * ونيِّفًا في السلطنهْ
يفسد والجميع في * *  نوم عميق وسِـنهْ
فعمم الإفساد في* *  كل مكان أمكنهْ
ولم يدع معارضا * *  يخشاه إلا سجنهْ
ولا مثـقـفا ولا **  فقيها إلا دجّـنهْ
فباع كلٌّ دينهُ * *  وخان كلٌّ وطنهْ
وفي عقد التسعينيات، وبعد الزلزال الكبير الذي دمر أخلاق الناس، لم يكن غريبا أن نشاهد ـ ونحن نيام ـ الشيخ الطاعن في السن، يظهر على الشاشة، وهو يرتعش، مصحوبا بدفتر أحد أحفاده، يدعي أنه دفتره هو، وأن ما كُتِب في الدفتر كتبه هو بيمينه، أو بشماله، في فصل محو الأمية الذي لم يزره إلا مع زيارة التلفزيون له.
وفي عقد التسعينيات كان بإمكاننا أن نشاهد ـ ونحن نيام ـ الطبيب، وهو يفتخر بكثرة القمامة في البلاد، ويعتبرها بشارة خير، لأنها جاءت نتيجة لطفرة استهلاكية غير مسبوقة لم يكن بالإمكان تنظيف مخلفاتها، حتى لو جيء بكل عمال النظافة في العالم.
وفي عقد التسعينيات كان بإمكاننا أن نسمع ـ ونحن نيام ـ  صاحب منظمة غير حكومية، وهو يهذي على شاشة التلفزة، ويقول بكل وقاحة، إن منظمته ستقضي ـ نهائيا ـ على الأمية في موريتانيا، بل وفي كل الدول المجاورة، خلال الأشهر الستة القادمة.
لم يبق فحش من القول إلا وسمعناه في عقد التسعينيات، في ذلك العقد الضائع من عمري، والضائع من عمر وطن بكامله، ولا يعني ذلك ـ بأي حال من الأحوال ـ أن هناك عقودا أخرى من عمري، أو من عمر الوطن، لم تكن عقودا ضائعة.
لم يكن أمامنا في عقد التسعينيات إلا واحد من خيارين اثنين: إما أن ننام فنُريح ونستريح، وإما أن نستيقظ فنَشقى ونُشقي.
وكانت من حين لآخر تحدث هزة، أو ارتطام ما، يجبر الجميع على أن يفتح عيونه، ولكن الكارثة أن الجميع لم يكن يفتح عيونه إلا بقدر مسافة الهزة، وعمر الارتطام، ثم يعود إلى نوم عميق، تماما كما كان يحدث لركاب سيارة 504 خلال عبورها  لطريق الأمل، فكان الركاب يستيقظون مسافة الهزة التي قد تتعرض لها السيارة، ثم يعودون إلى نومهم، وكأن شيئا لم يحدث.
وكانت أعظم هزة حدثت خلال فترة حكم معاوية هي تلك الهزة التي أيقظت الناس جميعا خلال يومي الثامن والتاسع من يونيو من العام 2003.
ثم عاد الناس لنومهم، بعد فترات من اليقظة، متفاوتة طبعا، كانت تختلف من شخص لآخر، كل حسب تأثيرات الهزة العظيمة عليه. ولكن المفارقة، أن قلة من أولئك الذين ناموا أكثر من غيرهم، في فترة حكم معاوية، هم الذي رفضوا أن يناموا نوما عميقا هذه المرة، وهم الذين أيقظوا الناس على هزة عظيمة أخرى، صادفت فجر الثالث من أغسطس من العام 2005.
وبالتأكيد فإني لم أسلم من نعاس عقد التسعينات، ولقد مرت بي أوقات كدت أن أغمض فيها عيون ضميري، تماما كما مرت بي لحظات في رحلة 504 كدت أن أغمض فيها عيون بصري، ولكني كنت دائما أتمكن من فتحهما من جديد.
لم أكن أنبل خُلقا من نيام عقد التسعينيات، ولم أكن أشرف منهم، ولا أكثر وطنية، ولا أقوى صلابة، حتى أفسر يقظتي بشيء من ذلك.
لقد كنت من نفس العجينة، وأتذكر أني في مرة من المرات، وبعد أن أرهقتني البطالة، وأتعبني السهر، قررت صحبة بعض أصدقائي أن أطلق مبادرة، كانت ستشكل لو أنها رأت النور حديث الناس في تلك الفترة.
ومن المعروف مما تم تسجيله من هذيان النائمين، أن أولئك الذين يُظهرون في البداية قدرة عجيبة على تحمل السهر لسنوات، هم الذين عندما يغلبهم النعاس، ويناموا في وقت متأخر، يصدمون الجميع بهذيان فاضح، لم يتجرأ عليه غيرهم ممن نام في وقت مبكر.
وكدت أن أنضم إلى أولئك، لأقول لنيام التسعينيات إنه بإمكاني ـ أنا أيضا ـ أن أغفو، وأن أهذي، وأن أبتدع مبادرة أختصر بها المسافات التي قطعوها هم خلال سنوات من النوم العميق. كنت أريد أن أقول لهم إن بإمكاني أن أقفز مباشرة إلى أعلى السلم، لأضع منكبي بمنكب أولئك الذين ناموا لعقد من الزمن.
كانت مبادرتي  ستعزف على وتر حساس جدا، لأنها كانت ستطالب بمملكة دستورية في موريتانيا، على أساس أن ذلك سيجنب البلاد أي هزات في المستقبل، وسيوقف مطامع الجميع لتظل السلطة حكرا لآل الطايع الكرام.
وتم إعداد خطة مثيرة لإخراج تلك المبادرة بطريقة في منتهى الإثارة، قادرة على أن تجعلها تبرز من بين مئات المبادرات، في ذلك العقد الذي لم ننتج فيه سوى مبادرات التصفيق والتطبيل للحاكم. وكانت المبادرة ـ بكل تأكيد ـ ستبهر كل النيام، وكانت ستلفت انتباه الرئيس.
وفجأة صحوت، كما كنت أصحو دائما كلما حاولتُ أن أغمض عينيَّ في تلك اللقطة العالقة بعناد عجيب في ذاكرتي، منذ ما يزيد على ربع قرن، خلال سفر على طريق الأمل، كنت مثقلا خلاله بحمولة كبيرة من الأحلام، لي، ولوطني،  سينتزعها مني عقد التسعينيات بعجرفة وبخشونة لم أكن أتوقعها.
صحوت لأغتال مبادرتي في مهدها، وذلك من قبل أن يتلقفها النيام فتصبح عملية اغتيالها عملية مستحيلة.
صحوت في الوقت المناسب، ليس لخصوصية تميزني عن بقية النيام، وإنما لأن رحمة من ربي قد تداركتني، كما كانت تتداركني دائما رحمته في كل تلك الأوقات التي كنت أضع فيها نفسي في مواضع الهلاك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق