الأحد، 16 ديسمبر 2018

رواية "يوميات شخص عادي جدًا"/ الحلقة 11


لم أكن في منتصف الثمانينات لأتخيل نفسي أستاذا، فقد كنت أكره تلك المهنة كرها شديدا. وربما يكون ذلك بسبب أني كنت من أكثر الطلاب شغبا، وكنت أخاف أن يبعث الله إليَّ ـ عندما أصبح أستاذا ـ طالبا مشاغبا ومزعجا مثلما كنتُ، ولكن رغم ذلك، فقد بذلت في مطلع العام الدراسي 1985ـ 1986 جهدا كبيرا لكي يُسْمَح لي بالترشح في مسابقة اكتتاب الأساتذة التي نظمت في ذلك العام.

 لقد اضطررت لأن أترشح لتلك المسابقة لأن الخيارات كانت بالنسبة لي محدودة جدا. فإما أن أكون أستاذا، وإما أن أسجل في جامعة نواكشوط الفتية حينها، والتي لا زالت حتى يومنا هذا توصف بأنها فتية رغم أنها دخلت في عقدها الرابع، ورغم أنها لفظت عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل إلى آلاف الأسر المنهكة أصلا، وأجبرت تلك الأسر المنهكة على أن تواصل الإنفاق على من توقعت ذات يوم أنه سيصبح هو معيلها.

والحقيقة أن جامعة نواكشوط لم تكن فتية في أي يوم من الأيام. فقد ولدت هذه الجامعة بوجه شاحب، مليء بالتجاعيد، وربما يعود ذلك إلى تسميتها بجامعة نواكشوط، فنواكشوط نفسها، والتي يقال عنها إنها عاصمة فتية، قد شاخت في وقت مبكر من عمرها، بعد أن طغت عليها ملامح الشيخوخة، وهي لا تزال تعيش طفولتها الصغرى. 
ترشحت في ذلك العام لمسابقة دخول المدرسة العليا للتعليم، ولكن السيدة با، السيدة القوية في ذلك الزمن، والتي كانت مديرة المدرسة حينها، رفضت السماح لي بالمشاركة في تلك المسابقة، بحجة أني لم أبلغ بعد سن الرشد، حسب ما تقول وثائقي الرسمية.
قالت السيدة با إنها لن تفتح أبواب مدرستها لمراهق مثلي، لم يبلغ بعد عامه الثامن عشر، وقالت إنها لن تسمح لي ولا لغيري من المراهقين بأن يتخرجوا أساتذة من المدرسة التي تتولى هي إدارتها.
 قالت السيدة با كلمتها، ولم تكن هناك كلمة يمكن قولها في المدرسة العليا للتعليم بعد كلمة السيدة با، ذلك ما قاله لي العارفون بأمور الوزارة، وأكده لي  كذلك كل من التقيت بهم من الطلاب القدامى في هذه المدرسة.
ورغم ذلك فقد اجتمعنا نحن الذين حرمتهم السيدة با ـ لسبب أو لآخر ـ من المشاركة في مسابقة الأساتذة، واتصلنا بوزير التعليم حينها، الوزير الذي أطال المقام بالوزارة ليفسدها أكثر، وأحدثنا أمام مكتبه ضجة كبيرة، اضطر بعدها لأن يطلب من أحد مستشاريه أن يرافقنا إلى السيدة با، ويطلب منها أن تسمح لنا بالمشاركة في المسابقة.
بعد تلك الضغوط، وبعد الكثير من الإجراءات الشكلية، سمحت لنا السيدة با بالمشاركة الشكلية في المسابقة، وأقول المشاركة الشكلية لأنها كانت قد قررت ـ فيما يبدو ـ أن لا تسمح لأي واحد منا بالنجاح في المسابقة، وهو ما كان.
لم يشفع لي لدى السيدة با أني كنت سأقضي أربع سنوات (مدة التكوين في المدرسة)، من قبل التخرج، وسيصبح عمري بعد التخرج إحدى وعشرين سنة، أي أني لن أتخرج إلا بعد بلوغ سن سيكون بإمكان صاحبها أن يتحمل كامل المسؤولية. لم تقبل السيدة با بأن تحسب لي سنوات التكوين التي سأقضيها في المدرسة لأن حسابها  كان لصالحي. ومن المفارقات الغريبة أنني بعد ذلك بأعوام ستحسب لي سنوات التكوين لأن حسابها لم يعد لصالحي، بعدما اقترب عمري من سن الأربعين، وأنا لازلت أبحث عن وظيفة. فكنت أمنع من المشاركة في بعض المسابقات عندما وصل عمري لست وثلاثين سنة بحجة أني سأقضي أربع سنوات في التكوين، ولن أتخرج إلا وعمري أربعين سنة، وهي السن التي  كانت الوظيفة العمومية لا تقبل باكتتاب من وصل إليها.
 هكذا دائما هي الإدارة الموريتانية، تطبق نص القانون، دون تأويل، عندما يكون ضد المواطن، وتؤوله إذا كان في تأويله ما يمكن أن يتضرر منه مواطن عاد مثلي.
كان تصرف السيدة با بالنسبة لي تصرفا استفزازيا بامتياز، مثلها مثل ذلك الشرطي البائس في مدينة لعيون، والذي سمح لبعض أصدقائي ممن هم أكبر مني سنا، وأقل تعليما، بمتابعة جلسات المحاكمة بينما نصحني أنا بأن أذهب لألعب مع أصدقائي الأطفال على قارعة الطريق.
لقد سمحت السيدة با لطلاب كانوا أقل مني مستوى بأن يكونوا أساتذة، بينما رفضت أن تسمح لي أنا بأن أكون أستاذا لمادة الفيزياء، أنا الذي كنت أتوقع أن أقل وظيفة تليق بشخصي الكريم هي أن أكون خبيرا أو عالما في أشهر وكالة عالمية للفضاء.
لقد أهانتني السيدة با في ذلك العام، ولم يكن أمامي إلا أن أبتلع تلك الإهانة، وأن أسجل في قسم الاقتصاد بجامعة نواكشوط الفتية.
كان تخصص الاقتصاد بالنسبة لي مجرد تخصص بلا معنى، ولم أستطع أن أحب مادة الاقتصاد كما كنت أحب مادة الرياضيات، ولكنني في المقابل لم أكن أكرهها كما كنت أكره مادتي الجغرافيا والعلوم الطبيعية.
سجلت في قسم الاقتصاد ذات آخر خميس من شهر أكتوبر من العام 1985م. وكان لذلك اليوم شأن كبير في المسودة الأولى من هذه الرواية عندما كانت تحمل عنوان: "أعقاب سجائر رخيصة". وقد خُصِصَتْ لذلك الخميس في المسودة الأولى من هذه الرواية عدة صفحات تمت صياغتها مرات عديدة، وهو ما أزعج الكاتب كثيرا، ولكن في هذه النسخة من الرواية فإنه لن يكون لذلك الخميس أي شأن يذكر. وأرجو أن لا تسألوني عن سبب تغير حال هذا اليوم في نسختيْ الرواية، لأن ذلك أحد أسرار هذه اليوميات التي لن أبوح لكم بها إطلاقا، ولن يكشفها لكم الكاتب، حتى لو طلبتم منه ذلك، ففي عقد الاتفاق مع الكاتب كان هناك شرط واضح وصريح جدا يمنع أي حديث عن تفاصيل ما جرى في ذلك الخميس.
في قسم الاقتصاد تعرفت على الكثير من الزملاء والأصدقاء الجدد، كما تعرفت أيضا على العديد من الأساتذة بعضهم كان يعاملني باحترام شديد، وكأني لست طالبا لديه، والبعض الآخر كان يتعامل معي بوصفي طالبا مزعجا، كان القسم سيكون رائعا، لو لم أكن أحد طلابه.
والحقيقة أني كنت دائما هكذا خلال كل مراحل دراستي، ولم يحصل أن تغير سلوكي في أي مرحلة من مراحل دراستي.
كنت في كل مرحلة دراسية، وفي كل عام دراسي، أتعرف على معلمين أو أساتذة جدد، وكانت علاقتي بهم تتحدد في الأيام الأولى من كل سنة.
كان بعضهم يعاملني، ومنذ أول يوم، باحترام كبير، ولم يحدث أن خيبت ظن أي واحد من أولئك المعلمين أو الأساتذة الذين كانوا يعاملونني باحترام في أول لقاء.
وكان بإمكاني دائما، أن أجعلهم يشعرون بأنهم لم يخطئوا عندما احترموني منذ لحظات التعارف الأولى. وكان بإمكاني أن أظهر لهم أدبا جما كلما قابلتهم، وأن أفاجئهم في كل حين بحركة أو بتصرف ما يعزز من ذلك الاحترام.
وفي المقابل فإني أيضا لم أخيب ظن أولئك الأساتذة الذين أظهروا، ومنذ اللحظات الأولى، انزعاجا شديدا من وجودي في الفصل.
فقد كان بإمكاني أيضا، وفي كل حصة، أن أقوم بحركة ما، أو بتصرف ما، يؤكد لأولئك الأساتذة الذين أساؤوا الظن بي، منذ اللحظات الأولى، أنهم لم يخطئوا عندما أساؤوا الظن بي، بل إنهم  قد أصابوا، عندما توقعوا أني سأزعجهم كثيرا.
لقد كنت شخصا غريبا في سلوكي، على الأقل في هذه الجزئية، فكان بإمكاني أن أكون دائما عند حسن ظن من أحسن الظن بي من الأساتذة والمعلمين، وأن أكون ـ وفي نفس الوقت ـ عند سوء ظن من أساء بي الظنون منهم.
وكان بإمكاني دائما، وفي كل سنة دراسية، أن أترك انطباعين متناقضين جدا لدى أساتذتي في كل عام دراسي. فمنهم ـ وهذه هي الغالبية ـ من كان يعتبرني أسوأ طالب صادفه في كل حياته المهنية، وفيهم من كان لا يجد أي حرج في أن يقول لطلابه ولزملائه من الأساتذة بأنه لم يصادف في حياته المهنية  طالبا أحسن خلقا مني، ولا أكثر اجتهادا ومثابرة.
ولقد كان أستاذ الإحصاء في جامعة نواكشوط محمد الصغير ولد محمد تقي الله رحمه الله تعالى، واحدا من أولئك الأساتذة الذين كانوا يعتبرونني من أحسن الطلاب خلقا.
وأتذكر أنه في يوم من الأيام، قال لطلاب الفصل إنه كان يتمنى لو كانوا جميعا مثلي : خلقا، واجتهادا، وذكاء، ومثابرة، وهي الأمنية التي استغربها الطلاب كثيرا، لأنهم عرفوني فوضويا ومشاغبا، لا أصل إلى الفصل إلا متأخرا، وأخرج منه ـ في الغالب ـ مبكرا، ولا أستمع للمحاضرات في ذلك الجزء القصير من الحصة الذي أقضيه داخل الفصل، وكثيرا ما كنتُ  أفشل في كتابة محاضرة كاملة على عكس غيري من الطلاب.
لقد كان أستاذ الإحصاء رحمه الله تعالى يعتقد أني كنت أدون كل محاضراته، وأني كنت أراجع ـ وبانتظام ـ تلك المحاضرات.
وربما يكون أستاذ الإحصاء، رحمه الله تعالى، قد اعتقد ذلك نتيجة لمشاركتي الجيدة أثناء حصته، أو نتيجة للعلامات المتميزة التي كنت أسجلها في اختباراته، والتي كانت تشكل دائما أفضل نتيجة في مادتي الإحصاء والرياضيات المالية اللتين كان يدرسهما لنا في الجامعة.
والحقيقة أني لم أكن بحاجة لمراجعة المواد ذات الطبيعة الرياضية، أو الاهتمام بها أصلا، حتى أسجل فيها نتائج مميزة، ذلك أن خلفيتي الرياضية ونبوغي المبكر في هذه المادة، كانا كافيين لتسجيل نتائج مميزة، بل كانا كافيين ـ مع قليل من الجهد ـ لتدريس المقررات التي كانت تدرس لنا في ذلك الوقت، لو أنه تم تكليفي بتدريسها.
ومن بين الأساتذة الذين كانت علاقتي بهم جيدة يمكن أن أذكر الرئيس الحالي لحزب "عادل"، الأستاذ يحيى ولد الوقف، والذي درسنا مادة التخطيط في السنة الرابعة. ولقد سجلت في امتحان مادته أعلى نتيجة في ذلك العام نظرا لأنها كانت من المواد التي تعتمد شيئا ما على الرياضيات.
وبالمناسبة فقد درسني أيضا، في السنة نفسها، الرئيس السابق لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية، الأستاذ محمد محمود ولد محمد الأمين. وكان هذا الأستاذ  قد درسني مادة المالية العامة، وكان من الأساتذة الذين كانت علاقتي بهم سيئة. ولقد سجلت في مادته نتائج متدنية جدا، تعكس طبيعة العلاقة المتوترة التي كانت تربطني به.
ودرسني كذلك محافظ البنك المركزي المساعد، الأستاذ محمد عمارو، الذي سيتم اتهامه، وبعد عقدين من تدريسه لنا، في ملف فساد مع ثلاثة من كبار رجال الأعمال في البلاد. ولقد كان هذا الأستاذ من الأساتذة الذين ربطتني بهم علاقة جيدة، وكانت نتيجتي في مادة الاقتصاد القياسي التي كان  يدرسها لنا في السنة الرابعة هي أعلى نتيجة تم تسجيلها في مادته في ذلك العام.
لم أكن أهتم كثيرا، لا في داخل الجامعة ولا في خارجها، بالمحاضرات ولا بالمناهج المقررة، ومع ذلك فقد كنت أميل كثيرا للقراءة، وكان المهم بالنسبة لي أن يكون ما أقرؤه غير ذي صلة بالمقررات الدراسية.
كان بإمكاني أن أقضي الساعات الطوال وأنا أقرأ أي كتاب أو مجلة أو جريدة أو أي مكتوب آخر يصادفني، مهما كانت طبيعة ذلك المكتوب، المهم أن لا تكون له صلة بما أدرس. لقد قرأت خلال دراستي، ومن الغلاف إلى الغلاف، مئات الكتب التي لا صلة لها بتخصصي، فقرأت الكثير من الروايات والقصص، وقرأت عددا لا بأس به من كتب السياسة، ومن كتب الأدب، ومن كتب أخرى متنوعة، وقرأت كذلك كتب التاريخ في مرحلة لاحقة، بعد تجاوزي للمرحلة الثانوية، وبعد أن انفصلت هذه المادة الوديعة عن مادة الجغرافيا الكئيبة. ولكني مع ذلك لا أذكر أني قرأت عشر صفحات متتالية من أي كتاب في الاقتصاد، ليس بسبب كره هذه المادة، وإنما لكونها كانت من المواد المقررة، حتى  كتب القانون فقد هجرتها كما هجرت كتب الاقتصاد، لا لشيء إلا لأن القانون  كانت تجمعه مع علم الاقتصاد كلية واحدة.
لقد كان عقلي مشاكسا، ولذلك فقد كنت أرفض دائما أن يلقنني الآخرون أفكارا جاهزة، مهما كانت طبيعة تلك الأفكار، كما كنت أكره المقررات الجاهزة كرها شديدا، وأعتقد أن ذلك كان من بين الأسباب التي جعلتني أفشل في أن أكون ناصريا متميزا.
لقد كانت مقررات الجامعة في ذلك الوقت، وأعتقد بأنها لا زالت كذلك حتى الآن،  مجرد مقررات تلقينية، ولذلك فقد كرهتها كرها شديدا.
كانت جامعة نواكشوط بالنسبة لي مجرد محطة عابرة، في رحلتي العلمية، والتي لم تعد لها بوصلة، منذ أن فشلت في الحصول على منحة، لأتخصص في مادة الرياضيات، تلك المادة التي أحببتها، والتي كنت أعتقد بأني لو تخصصت فيها لكنت شيئا مذكورا، يختلف تماما عن حالي الآن: شخص عادي جدا، يعيش متنقلا بين هوامش المكان وفواصل الزمن، ويثير الشفقة أكثر مما يثير الحسد.
لم تكن الجامعة بالنسبة لي محفلا للتحصيل العلمي، ولكنها كانت مجرد مكان للتعرف على زملاء وأصدقاء جدد، أو لتعميق صداقات أخرى، بدأت بالمرحلة الثانوية ولم تنته بالمرحلة الجامعية.
وكان من بين من تعرفت عليهم في الجامعة، وفي السنة الأولى من قسم الاقتصاد، محمد ولد أعمر المكلف حاليا بمهمة في الرئاسة، والوزير السابق للتعليم في وزارة ولد الوقف التي تم الانقلاب عليها.
كان الطالب محمد أعمر واحدا من أصدقائي الذين تعرفت عليهم في الجامعة، ولقد شكلت أنا وهو مع أصدقاء آخرين مجموعة موحدة للمراجعة. وكان هذا الصديق يختلف معي في أشياء كثيرة، فهو كان طالبا منظما جادا، وإن كانت جديته لا تخلو من هزل في بعض الأحيان، بينما كنت أنا فوضويا ساخرا، وإن كان هزلي لا يخلو من جدية في بعض الأحيان. كان  تخصصه أدبيا، وكان ضعيفا في الرياضيات، ولكنه كان جيدا في المواد الأدبية، وكان ثرثارا رائعا، بينما كنت أنا جيدا في مادة الرياضيات وملحقاتها، ضعيفا أو على الأصح، مهملا للمواد ذات الطبيعة الأدبية، وكنت أجد صعوبة كبيرة في مواصلة الحديث عن أي موضوع لخمس دقائق كاملة.
كان محمد أعمر منظما لدرجة يستحيل فيها أن تعرف متى سحب ثوبه من عند الغسال، ولا متى حلق شعر رأسه عند الحلاق، إن كان أصلا يحلق عند الحلاق. لقد كان طول شعر رأسه ـ منذ أن عرفته ـ  ثابتا لا يتغير بسنتيمتر واحد، وهو ما جعلني أتهمه بأنه كان يحلق شعر رأسه بنفسه، وأنه كان يقوم بذلك خفية، وبشكل أسبوعي، مما جعل طول شعر رأسه ثابتا لا يتغير أبدا. أما أنا فكنت على العكس تماما، فكان بإمكان الجميع أن يعرف متى سحبت ثوبي من عند الغسال، وكان بإمكانهم كذلك أن يعرفوا متى مررت بالحلاق.
ولقد تمكن محمد أعمر من تسجيل الرقم الأول في دفعتنا، ولقد استفاد كثيرا من ثرثرته في الامتحانات الشفهية.
بعد التخرج انقطعت علاقاتي بمحمد ولد أعمر، ولم نعد نلتقي إلا صدفة وفي مناسبات محدودة جدا، وفي فترة تكليفه بمهمة في الرئاسة وفي فترة كنتُ فيها أنا أمينا تنفيذا مساعدا للمنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة (أكبر تجمع معارض) التقينا وبمبادرة منه في إطار محاولة لجر السلطة والمعارضة إلى حوار، وللأسف فقد كانت تلك المحاولة مخيبة للآمال.
كان الطالب محمد أعمر منظما جدا، ولكنه كان يتحول إلى شخص فوضوي جدا، إذا ما قورن بطالب آخر كان من بين مجموعتنا، إنه  الطالب محمد الخطاط، الذي لا يمكن أن تراه في تلك المرحلة إلا وهو يرفل في ثوب شديد النظافة.
 كان هذا الطالب في معظم أحواله لا يأتي إلى الجامعة، إلا وهو يخفي عينيه بنظارات فاخرة، ويلف معصمه الأيسر بساعة فاخرة، ويتعلق بجيب دراعته قلم فاخر، هذا فضلا عن الحقيبة الفاخرة التي كان يحملها دوما، والتي تكون في العادة مليئة بالدفاتر وبالأوراق الفاخرة.
وكان هذا الطالب كثيرا ما يشاهد وهو يُخْرج مناديل ورقية لتنظيف الكرسي الذي سيجلس عليه، وكذلك للجزء الذي يقابله من الطاولة، والذي سيضع عليه  حقيبته وأوراقه.
كانت أوراق ودفاتر محمد خطاط الرائعة  تغريني كثيرا في أوقات المراجعة، ولذلك فقد كنت أبذل جهدا كبيرا لإعارتها منه خلال الساعات المخصصة المراجعة. كانت أوراقه ودفاتره  تفتح شهية أكثر الطلاب كسلا للمراجعة، وكنت دائما بحاجة لما يفتح شهيتي للمراجعة في الليالي التي تسبق الامتحانات، أما في غير تلك الليالي فلم أكن لأتعب نفسي بالمراجعة.
وكنت أجد دائما صعوبة في أن أعيد لمحمد خطاط دفاتره وأوراقه على هيئتها الأصلية، وهو ما كان يتسبب في غضبه وسخطه. كان محمد الخطاط منظما في كل شيء، حتى في عدد السجائر التي يدخنها سنويا. فكان يدخن ـ حسب إحصائيات بعض الطلاب ـ ثلاثمائة وسبعين سيجارة في العام، ففي كل يوم كان يدخن سيجارة واحدة، لا يزيد عليها، إلا في الأيام الاستثنائية في حياته، والتي كان يدخن فيها سيجارة إضافية زيادة على السيجارة المعهودة.
وللأسف الشديد فإن هذا الزميل هو الوحيد من بين المجموعة الذي لم أقابله من بعد التخرج إلا في مرة واحدة أو اثنتين، ولا أدري إن كان لا يزال صامدا ـ حتى الآن ـ على منهجه الدقيق في الحياة، وعلى أناقته، أم أن المجتمع وظروف الحياة قد شغلاه عن ذلك.
كان أيضا من بين الطلاب الذين درسوا معي في الجامعة، والذين تمكنوا من الحصول على وظائف سامية، الوزيرة السابقة فاطمة بنت خطري، والتي عُرفت بالنضال في التيار الناصري، وهي لا تزال طالبة في الثانوية. وأظن أنها اعتقلت مرة، فكانت بذلك هي أول طالبة أسمع عن اعتقالها. وهذا ليس إلا مجرد ظن، ولا يمكنني أن أتأكد من ذلك، رغم أن إمكانية الاتصال هاتفيا بالوزيرة السابقة أمر متاح، مما يعني إمكانية التأكد من صحة هذه  المعلومة. .
لا أستطيع أن أتصل الآن بالوزيرة، لأن ذلك سيخل بشرط أساسي اشترطته على نفسي، عند البدء في سرد هذه اليوميات، وهذا الشرط يفرض عليَّ أن لا أعتمد إلا على ذاكرتي في سرد أحداث هذه اليوميات.
وما أستطيع أن أجزم به الآن هو أن هذه الوزيرة المنحدرة من أسرة لها ثقلها الاجتماعي والسياسي في الحوض الشرقي، كانت ممن ناضل بقوة في الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية التي تشكلت بعد انقلاب السادس من أغسطس 2008. وستواصل هذه الوزيرة فيما بعد  نضالها السياسي من خلال منسقية المعارضة، ومن بعد ذلك من خلال المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة الذي أنتمي إليه، والذي كنتُ من أوائل من طرح فكرة تأسيسه من خلال "نداء 4 دجمبر".
قبل انقلاب السادس من أغسطس بثلاث سنوات كانت فاطمة بنت خطري تشغل وظيفة مديرة مساعدة في الشركة الوطنية للإيراد والتصدير. تلك الوظيفة التي جرت العادة أن تتنقل صاحبتها مباشرة إلى وزيرة للمرأة، هذا هو ما حدث مع أغلب الوزيرات اللواتي تم تعيينهن في عهد الرئيس معاوية على رأس وزارة المرأة، لذلك فقد جاء انقلاب 3 أغسطس 2005 صادما ـ على الأقل في ظاهره ـ لفاطمة بنت خطري، ولمسارها الوظيفي.
ولكن مع ذلك فسيتم تعيينها وزيرة للمرأة، في أول حكومة يعينها الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، وستظل تلك هي وظيفتها حتى فجر السادس من أغسطس 2008.
كان أيضا من بين زملائي في الجامعة، والذين تمكنوا من الوصول إلى وظائف سامية، الطالب أحمدو ولد محمد الراظي، وهو الطالب الذي سيصبح فيما بعد موظفا في هيئة البريد والمواصلات، ثم موظفا في شركة "موريتل"،  ثم أمينا عاما في وزارة الوظيفة العمومية، ثم وزيرا للتعليم الأساسي، فوزيرا للدفاع الوطني، ثم عاطلا عن العمل من بعد الإقالة من وزارة الدفاع الوطني.
وأحمد ولد محمد الراظي معروف ببساطته وبتواضعه الجم، وقد استطاع أن يحافظ على ذلك التواضع، حتى من بعد أن أصبح وزيرا. فهو لا يزال يسكن في منزله في مقاطعة عرفات،  ذلك المنزل الذي ظل خاليا من أي حارس، في فترة توليه وزارة التعليم الأساسي، وبعد أن أصبح وزيرا للدفاع، واضطر لأن يأتي بحرس، جاء بحرس، ولكن ظل وجودهم شكليا أمام المنزل. ولقد شهدت النائب لمات منت مكي المعروفة بنقدها القاسي لوزراء الحكومة على تواضعه وبساطته، وذلك عندما شكرته في إحدى مداخلاتها لأنه لا يزال يصر على أن يدرس أبناءه في ثانوية عمومية كثانوية عرفات.
وكان من بين زملائي كذلك الطالب عبد الله ولد محمد محمود، والذي ـ حسب علمي ـ  كان هو الطالب الوحيد من بين دفعتنا الذي التحق بالإدارة الإقليمية. ولقد بدأ مساره الوظيفي برئيس مركز أطويل الإداري من قبل أن يعين حاكما لمقاطعة أمبود، تلك المقاطعة التي مكث فيها زمنا طويلا، وكان قبل الانقلاب الأخير، واليا لاترارزة، وهو الآن يعمل مستشارا لوزير الداخلية.
كذلك كان من بين زملائي في الجامعة الطالب أحمدو سالك ولد بياه والذي سيصبح فيما بعد، هو الطالب من بين دفعتنا الأكثر شهرة على موقع تقدمي، حيث سيرتبط اسمه ببعض ملفات الفساد وببعض الفضائح التي كان ينشرها الموقع عن كمال ابن عم الرئيس.
ولقد سألت مرة أحمدو سالك، عما كان ينشر عنه في موقع تقدمي، فقال لي بأن ذلك مجرد افتراءات تستهدفه شخصيا، ولا يعرف لماذا يستهدفوه دائما في هذا الموقع؟
كان أحمدو سالك طالبا متميزا، ولقد تمكن من أن يأتي الأول في شعبة التخطيط في عام التخرج. ولقد بدأ حياته المهنية في البنك الموريتاني للتجارة الدولية، وأعتقد أنه كان ممن ناضل فترة من الزمن في المعارضة، وذلك من قبل أن يلتحق بالأغلبية الحاكمة، وقد شغل نائب المفتشة العامة للدولة لفترة من الزمن، وظل في ذلك المنصب إلى أن أطاح به التحقيق الذي قاده حول فساد الشركة الوطنية للإيراد والتصدير، وقد تم تعيينه من بعد تلك الإقالة في مشروع "لننتج في موريتانيا".
وكانت من بين زملائي كذلك، الطالبة أمعيزيزة بنت محفوظ ولد كوربالي، والتي شغلت منصب الأمينة العامة لوزارة المالية، في فترة كنتُ أنا فيها هو صاحب الشهادة الوحيد الذي يتقاضى في هذه الوزارة  راتبا لا يصل إلى 4500 أوقية جديدة، أي أنه من فئة رواتب البوابين والفراشين بالوزارة، إن لم يكن أدنى.
أذكر أن الأمينة العامة، وبمبادرة شخصية منها، استدعتني ذات مرة إلى مكتبها، ووعدتني بأنها ستصحح هذه الوضعية المشينة، وبأنها لن تقبل أن يبقى زميلها في الدراسة يتلقى راتبا من فئة رواتب البوابين بالوزارة.
لم يتغير حال الراتب من بعد ذلك الوعد، ولم يتم استدعائي إلى أي وظيفة في الوزارة، ولم أسأل الأمينة عن السبب في تراجع حماسها، ولا عن طبيعة العوائق التي حالت دون وفائها بوعدها، لم أسألها عن أي شيء من ذلك، وإن كان الراجح عندي أن أوامر عليا  هي التي كانت السبب في التراجع عن ذلك التعهد، ولي شواهد عديدة على أوامر عليا تم إصدارها لحرماني من حق مشروع. وفي نفس الوزارة كان يوجد زميل دراسة آخر وهو الشيخ ولد سيديا الذي يشغل حاليا منصب مدير عام للميزانية، وقد تقلد من قبله العديد من الوظائف في نفس الوزارة.
هؤلاء بعض زملائي في الجامعة ممن احتل وظائف سامية، أما بالنسبة للأغلبية من زملائي فلم تكن طريقهم سالكة بالمرة. ولكني مع ذلك لن أحدثكم عنهم في هذه اليوميات، وذلك لأن هذه اليوميات كان قد تم تخصيصها لسيرة واحد من المجموعة التي لم تكن طريقها سالكة، ولعل من خُصِصت له هذه اليوميات، كان هو الأكثر تعثرا في مساره من بين أفراد كل تلك المجموعة، وذلك بعد أن اختار أو أجبر ـ وكلاهما صحيحة ـ على أن يسلك الطريق الأكثر وعورة، ليشبع بذلك روح التحدي لديه،  تلكم الروح التي ظلت تزداد عنفوانا، كلما ازداد هو تعثرا.
ولا يمكنني أن أكمل الحديث عن دفعتي في الجامعة، دون أن أترحم على روح الطالبة الفاضلة لميمة بنت الهاشم، والتي اختطفها الموت وهي لا تزال في عز شبابها.
كانت لميمة رحمها الله تعالى، تتميز عنا جميعا، بخلقها، وبجديتها، وبانشغالها بدراستها، وبتركيزها على طلب العلم، ولم يكن انحدارها من أسرة ميسورة ليؤثر سلبا على جديتها في الدراسة، لذلك فقد ظلت دائما من المتفوقات المتميزات في الفصل حتى تخرجت لتعمل في وزارة التخطيط، وتحديدا في خلية إعادة الاعتبار للقطاع العمومي.
وأتذكر أنه في يوم من الأيام، جاءتنا الطالبة لميمة رحمها الله تعالى، وأعتقد أن ذلك كان في صفنا الثالث في الجامعة، لتخبرنا بأنها كادت أن تموت بسبب تماس كهربائي، جدث في دار أهلها بتفرغ زينة نتيجة لأمطار كانت قد تهاطلت في ذلك الوقت.
وأتذكر أن لميمة رحمها الله تعالى، قالت لنا بعد تلك الحادثة التي كادت أن تتسبب في وفاتها، بأن ما أزعجها حقا هو أنها كانت تعلم أنها لو توفيت فعلا، بسبب تلك الحادثة، فإن الجميع كان سيكتفي بأن يتحدث عنها قليلا، ويحزن قليلا، من قبل أن ينساها الجميع، وكأنها ما عاشت يوما على هذه الأرض.
رحم الله لميمة بنت الهاشم رحمة واسعة، وأدخلها فسيح جناته، لقد حدثتنا في نهاية الثمانينيات عما كان سيحدث بعد ذلك، وكأنها كانت تراه. ولقد استطاعت بكلماتها البسيطة العميقة تلك أن تتحدث عن مصيرنا جميعا.
فكل واحد منا سيترك في يوم قادم لا محالة، هذه الحياة الخداعة، وسيتحدث عنه وقت رحيله، قليل أو كثير من الناس، وسيحزن له قليل أو كثير من الناس، ولكن في النهاية لن يكون باستطاعته أن يشغل أولئك الذين تحدثوا عنه، وحزنوا له، إلا وقتا قليلا، من قبل أن يتناسوه، وكأنه ما عاش يوما على هذه الأرض.
أقول هذا الكلام لأني أعلم ـ يقينا ـ بأن هذا الشخص العادي جدا الذي يحكي لكم سيرته، سيترككم حتما في يوم قادم، وهو عندما يترككم، فلن تتحدثوا عنه إلا قليلا، ولن تحزنوا لرحيله إلا قليلا، وستنسونه جميعا، وكأنه ما عاش يوما على هذه الأرض.
ولقد كاد شيء من ذلك أن يحدث في ليلة مفزعة من ليالي العام 2000 على ما أعتقد، واعذروني فهناك أحداث في حياتي لا أستطيع أن أحدد لكم بشكل يقيني وقطعي السنة التي جرت فيها تلك الأحداث.
أذكر أني قبل تلك الليلة المفزعة، كنت أصف دائما زوجة أحد أصدقائي بوسع الخيال، كلما حدثتني عن قصة وفاتها في ليبيا، والتي حدثت في إحدى المستشفيات الليبية، عندما كانت تستشفي هناك، من مرض شديد ألم بها أثناء إقامتها في ليبيا.
كانت زوجة صديقي تؤكد لي دائما أنها ماتت فعلا، وأنها سمعت الأطباء هناك وهم ينعونها، وأن كل تفاصيل حياتها مرت عليها، في لحظة قصيرة جدا، من قبل موتها.
كانت تتحدث عن وفاتها وكأنها حدثت فعلا، وكنت أنا أسخر من حديثها عن قصة وفاتها، والتي لم أكن أعتبرها إلا مجرد خيال في خيال، نتيجة لشدة المرض، أو نتيجة لخوف زوجة صديقي من الموت، مما جعلها تتوهم أنها ماتت فعلا.
ولكن الذي حدث معي بعد ذلك، قد جعلني آخذ قصة وفاة زوجة صديقي، على محمل الجد، وهذا لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ أني صدقت وفاتها، فهي بالتأكيد لم تمت، ودليلي على ذلك هو أنها لا زالت على قيد الحياة، أطال الله عمرها.
وبالتأكيد فإني أنا أيضا لم أمت في تلك الليلة المخيفة التي خُيِّل إليَّ أني مت فيها، والدليل على ذلك هو أني ـ ولله الحمد ـ لازلت حيا أرزق، أسرد حلقات يوميات حياتي، بما فيها أحداث تلك الليلة المفزعة، ولكن مع ذلك لا أستطيع أن أصف لكم ما حدث في تلك الليلة المخيفة، إلا أنه كان بمثابة تجربة موت حقيقي، كتب الله لي من بعدها عمرا إضافيا، وله الحمد والشكر على ذلك.
 لم أكن مرتاحا، في أول تلك الليلة التي سأموت في ثلثها الأخير، ولكني مع ذلك لم يكن بإمكاني أن أحدد بالضبط الشيء الذي كنت أشكو منه. ولقد اعتقدت في البداية أن الأمر مجرد إرهاق يحصل دائما في أول أيام عيد الفطر، خاصة أني قبل ذلك العيد، كنت قد اعتكفت في العشر الأواخر في المسجد الذي كنت نائبا لمؤذنه، وكانت تلك هي أول مرة في حياتي أعتكف فيها لعشرة أيام.
في تلك الليلة المرعبة، ذهبت إلى فراش النوم، وأنا لا زلت أشكو من شيء ما، لم أتمكن من تحديده، وبعد مرور وقت لا أعتقد أنه كان طويلا، حدثت أشياء مخيفة ومفزعة، يستحيل أن أصفها لكم كما حدثت في تلك الليلة، ولكني مع ذلك سأحاول أن أصف لكم بعض اللقطات السريعة التي لا تزال عالقة بالذاكرة.
صحيح أني تألمت في تلك الليلة، ولكن المشكلة لم تكن في آلامي، فهي لم تكن فظيعة جدا، كما أنه لم يكن بالإمكان تحديد مصدرها، أو طبيعتها.
عندما بدأت الحالة تزداد سوءا، أخذت أقرأ سورة الكهف، ولا أدري إن كنت قد تمكنت من مواصلة قراءتها أم لا؟ الشيء الذي لا يزال عالقا بذاكرتي، هو أني استعدت إدراكي لحظة ما، فوجدتني أتلو الآيات المتعلقة بحوار موسى عليه الصلاة والسلام مع العبد الصالح، ثم بعد ذلك لم أعد قادرا على التلاوة، حتى لو كانت تلاوة بالقلب.
تمثل لي البحر وكان مظلما مرعبا، ولكن كان بإمكاني دائما، رغم ظلامه أن أشاهد السفينة وهي تتقاذفها الأمواج. ولقد أحسست بأن هناك علاقة ما، بيني وبين تلك السفينة التي تتقاذفها الأمواج المتلاطمة، وبدأت أحس شيئا فشيئا ـ عكس ما تخيلت أول الأمر ـ بأن هذه السفينة التي أشاهدها الآن ليست هي السفينة المذكورة في سورة الكهف.
ثم بعد ذلك بدأت الأمور تزداد تعقيدا، وبدأت الأحداث المفزعة تتسارع، وبدأت روحي تخرج من جسدي. كان جسدي يتصبب عرقا، وكنت أحس بذلك، ولكني لم أكن قادرا على التصرف في هذا الجسد الذي بدأت أشعر بأنه بدأ ينفصل عني، وأصبح ينتمي إلى عالم آخر، لقد فقدت وبشكل كامل القدرة على التواصل مع جسدي.
حتى أولئك الذين كانوا ينامون بجنبي في الغرفة، كنت أحس بوجودهم، ولكني لم أكن قادرا على الاتصال بهم، بل وكنت أشعر في تلك اللحظات بأني لن أقابلهم إلا في عالم آخر، غير هذا العالم الذي سأغادره بعد لحظات معدودة.
تمثلت لي حياتي، وما جرى فيها من أحداث، في لحظة قصيرة كأنها ثانية واحدة، إن لم تكن أقل، تماما كما حدث مع زوجة صديقي عند موتها، ولا تسألوني كيف تم اختزال حياة تزيد على ثلاثة عقود في ثانية واحدة!!
بدأت أشعر براحة غريبة، وبشيء من سعادة لا يخلو من قلق، وبشيء من هدوء لا يخلو من فزع.
كان بإمكاني أن أتابع ذلك الحدث الجلل الذي كان يحدث في تلك اللحظات. كان جسدي يبتعد عني، بنفس المسافة التي كان يبتعد بها عني النائمون من حولي. كان كل شيء عرفته في دنياكم هذه يبتعد عني إلى ماض سحيق سحيق، وكانت روحي ترحل شيئا فشيئا إلى عالم آخر، كنت أتابع ذلك المشهد الفظيع بهدوء مثير.
واصلت روحي رحيلها إلى العالم الآخر، وواصل جسدي رحيله إلى ماض سحيق، كانا يرحلان في اتجاهين متعاكسين، وكنت "أنا" أتابع رحيلهما بهدوئي المثير.
واصل الموت وبخطواته الحاسمة والواثقة اقترابه مني، وبدأ يغطيني بردائه الثقيل، وكان كلما لف عضوا من جسدي، أيقنت بقرب النهاية، وبقيت أتابع المشهد الفظيع إلى أن لف الموت كامل جسدي، فعلمت حينها بأني قد متُّ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق