تعرفت في الصف الثالث إعدادي على أساتذة
جدد، كان من بينهم أستاذ التاريخ والجغرافيا والذي أعتقد أنه كان يدعى "محمد
سالم" أو "أحمد سالم".
كان هذا الأستاذ شديد الإزعاج باختباراته
الشفهية التي كان يفتتح بها حصص مادته التي كانت هي
المادة الأكثر إزعاجا لي من بين كل المواد المقررة. ولقد نجحت في التحايل على هذا
الأستاذ مدة من الزمن، فكنت أصر دائما على أن آخذ مكانا متقدما أثناء حصصه، وكان
كلما طرح سؤالا رفعت يدي وقربتها منه حتى تكاد تلامس وجهه، ثم أبدأ أصرخ بأعلى صوتي:
ـ أستاذ أنا.. أستاذ أنا .. أستاذ أنا.
ونجحت تلك الحيلة، لفترة من الزمن، إلى أن فاجأني الأستاذ ذات مرة، وطلب مني أن أجيب على سؤال سخيف في الجغرافيا، بعد أن أزعجه صراخي المتواصل طلبا للسماح لي بالإجابة، وبعد أن كادت سبابتي تلامس خده.
ويومها اكتشف أستاذ التاريخ والجغرافيا أني
كنت أخدعه بجلوسي على الطاولة الأمامية، وبإلحاحي على طلب السماح بالإجابة، ولم
يكن منه بعد أن اكتشف ذلك، إلا أن قرر أن يحرجني مع بداية كل حصة من حصصه،
وأن يطلب مني أن أجيب على السؤال الشفهي الذي كان يفتتح به الحصة.
ودرَّسنا في نفس العام أستاذ للغة العربية
عُرف بتسامحه مع الطلاب. وقد وبخني يوما المراقب العام في الثانوية، وقال لي
بأني أنا هو أول طالب يشكو منه أستاذ اللغة العربية لمجلس التأديب خلال كل تاريخه
في الثانوية، مما يعني أنني كنت الأكثر تشويشا من بين طلاب كل الدفعات التي درسها
هذا الأستاذ، وأن شغبي أجبر هذا الأستاذ على معاملتي بما لم يعامل به طالبا من
قبلي.
ولقد كان أستاذنا للغة العربية "باب
ولد أمبارك" رحمه الله تعالى، يحب التدريس كثيرا، وقد قيل لي إنه لما تقاعد
قرر أن يتطوع بالتدريس في الثانوية لأنه لا يستطيع أن يتخيل حياة بلا تدريس.
ومن بين من درسنا في ذلك العام أستاذ
عراقي، كان يدرس مادة العلوم الطبيعية، وكان اسمه يبدأ ب"مؤيد"، وذلك هو
ما أتذكره الآن من اسمه، وكان لهذا الأستاذ دور كبير في انتشار الفكر البعثي في
ثانوية لعيون.
ولأنه كان أستاذا، ولأنه كان بعثيا فقد
حدثت بيني وبينه خلافات كبيرة، ولقد كنت أتعمد التشويش أثناء حصته، وكنت أبالغ في
التشويش باعتبار أن ذلك يعتبر عملا نضاليا، ويعد خدمة للتنظيم الناصري الذي لم
أخدمه إلا بالشغب والتشويش، أو بعدم تسجيل مادة اللغة الفرنسية في جدولي الزمني،
أو بالخروج المبكر من الفصل كلما كانت هناك دعوة لإضراب.
ودرَّسنا أيضا في ذلك العام أستاذ سوري،
وكان هو السوري الوحيد الذي درسني في ثانوية لعيون. وقد كان يدرسنا مادة
الرياضيات، وكنتُ أحصل فيها على نتائج جيدة جدا، ولكن مع ذلك قد كان أستاذنا
السوري غير راض عني، لكثرة شغبي. وقد تعهد لي، أكثر من مرة، بأنه لن يقبل بأن يتم
توجيهي إلى شعبة الرياضيات، وذلك رغم أن معدلي في هذه المادة كان يؤهلني لذلك.
وفي نهاية العام الدراسي، ومن قبل إعلان
التوجيهات، تم استدعاء هذا الأستاذ للعودة إلى سوريا، وقد قيل لنا في ذلك الوقت بأنه
كان ضابطا احتياطيا في الجيش السوري، وأنه قد تم استدعاؤه بمناسبة الاجتياح
الإسرائيلي لجنوب لبنان.
ولقد سمح لي استدعاء الأستاذ الضابط
بالتوجيه إلى شعبة الرياضيات، وهناك تعرفت على أستاذ تونسي يدعى ولي عبد الرؤوف
كان يدرسنا مادة الرياضيات، وكانت اختباراته صعبة جدا. وكان هذا الأستاذ
التونسي يغضب غضبا شديدا، ويتوعدني بنتيجة سيئة في الرياضيات كلما قابلني ليلا في
دار السينما بالمدينة، وكان كثيرا ما يقابلني هناك.
ولقد كانت نتائج طلاب الفصل في الرياضيات
سيئة بشكل عام، نظرا لصعوبة اختبارات وامتحانات أستاذنا التونسي، وكان يستوي في
ذلك الطلاب الذين يقضون ليلهم وهم يراجعون الرياضيات، وأنا الذي كنت أذهب إلى
السينما في ليالي الاختبارات، أو أنشغل في الأوقات التي أخصصها للمطالعة
بقراءة رواية، أو مجلة، أو كتاب في الفكر الناصري.
هذا الأستاذ درسنا أيضا في السنة الخامسة،
وفي تلك السنة درسنا أيضا أستاذ للفرنسية استطاع أن يشدني إلى مادته التي كنت أبخل
عليها ـ ولأسباب إيديولوجية معلومة ـ بتسجيل مواعيد حصصها في الجدول الزمني.
كان أستاذنا للفرنسية في ذلك العام يختلف
عن كل أساتذتنا الآخرين، كان مرحا، و مبدعا، ومنفتحا على كل الطلاب.
كان أول شيء شدني لهذا الأستاذ هو طريقته
الغريبة في رسم الحروف على السبورة، كان يرسمها كما ترسمها آلة طابعة، وكان يمد
بعضها مدا طويلا خاصة منها حرف (L) عندما
يكون في بداية الكلمة.
لم يكن أستاذنا للفرنسية في ذلك العام
يهتم بتلك الطقوس التي كان يتبعها الأستاذة، وكانوا يهتمون بها أكثر من اهتمامهم
بالدرس نفسه، وربما يكون ذلك هو ما شدني إليه أكثر. لم يكن أستاذنا للغة الفرنسية
يكتب ملاحظات عن درسه في دفتر الدروس، كما كان يفعل بقية الأساتذة، بل إنه كان
يكتب خواطر لا علاقة لها بالدرس، وكان في بعض الأحيان يكتفي بوضع أشكال ورسوم في
دفتر الدروس. ولقد حدث ذات مرة أن رسم في الخانة المخصصة لأستاذ الرياضيات، وهو ما
تسبب في خلاف شديد بين الأستاذين، والغريب أننا نحن طلاب القسم الخامس رياضي وقفنا
مع أستاذ الفرنسية، على حساب أستاذ الرياضيات الذي تعد مادته هي المادة الأهم
لدينا.
كان أستاذنا لمادة اللغة الفرنسية في ذلك
العام رائعا ومبدعا، ولكنه أيضا كان ثائرا على الأنماط التقليدية في تقديم الدروس،
ولم يحدث أن اختبرنا هذا الأستاذ أو قدم لنا امتحانا في الفرنسية طيلة العام
الدراسي. كان هم أستاذنا للفرنسية هو أن يشدنا لمادته التي كان البعض منا يرفض
الحضور إليها، بل ويرفض حتى تسجيل أوقاتها في جدول توزيع الزمن، ولقد وفق أستاذنا
في ذلك.
وفي نهاية ذلك العام اكتشفنا نحن طلاب
القسم الخامس رياضي في ثانوية لعيون، أن معدلاتنا في الفرنسية كانت تتطابق تماما
مع معدلاتنا في الرياضة البدنية التي كانت الخانة المخصصة لها في كشوف الدرجات
تجاور تماما الخانة المخصصة لمادة الفرنسية. ولا نعرف إلى الآن إن كان الأستاذ هو
الذي غالط الإدارة وقام بتسجيل نتائج مطابقة لنتائج مادة الرياضة البدنية، أم أن
الإدارة هي التي فعلت ذلك للخروج من المأزق الذي وضعها فيه أستاذ الفرنسية الذي لم
يسلمها أي نتائج في مادته حتى تضعها في كشوف درجات طلاب سنة خامسة رياضيات للعام
الدراسي 1983ـ 1984.
الشيء المؤكد هو أن ما تعلمته من
الفرنسية في ذلك العام قد فاق كل ما تعلمت منها خلال كل سنوات دراستي في
الثانوية، مع العلم بأن كل ما تعلمت من الفرنسية في مجموعه لا يستحق أن يذكر.
ومن الغريب حقا أنني كنت أنزعج في ذلك العام كلما تغيب أستاذنا للفرنسية عن حصة من
حصص مادته، أنا الذي كنت ـ قبل ذلك العام الدراسي ـ أبخل على مادة الفرنسية
بأن أسجلها في جدولي الزمني. ولم يكن أستاذنا لمادة اللغة الفرنسية في ذلك العام
سوى الأستاذ حبيب محفوظ رحمه الله، أو بداح كما كنا ندعوه، وهذا الأستاذ سيكتسب
شهرة كبيرة في عقد التسعينيات، وسيصبح الكاتب الصحفي الأبرز في موريتانيا
كلها. لقد كان من حسن حظنا أننا كنا هم أول من درسهم هذا الأستاذ بعد تخرجه من
المدرسة العليا للتعليم أستاذا لمادة اللغة الفرنسية.
ودرَّسنا أيضا في ذلك العام أستاذ مصري
يدعى سراج الدين طه سلامة. ولقد أحبني هذا الأستاذ كثيرا كما أحبني أستاذ التاريخ
في سنتي الأولى في ثانوية لعيون.
ولقد فاجأت أستاذي المصري الذي كان يدرسنا
مادة الفيزياء والكيمياء بما أحفظ من أغاني أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، ونجاة
الصغيرة، وأسمهان وغيرهم من مطربي ذلك الزمن.
كان أستاذ الفيزياء يدعوني إلى منزله
ليسمعني بعض الأغاني التي كان يعتقد أنها من الأغاني النادرة جدا، فإذا به يفاجأ أني
أحفظ كلمات تلك الأغاني، وأعرف من لحنها، ومن هو صاحب كلماتها، ومن
غناها، ومتى تم تسجيلها.
ومن المؤكد أني سأفاجئ أستاذ
الفيزياء مرة أخرى إذا ما قابلني في أيامنا هذه، واكتشف أني لم أعد أستمع
إطلاقا للغناء، ولم أعد أحفظ عشرين بيتا من الشعر حتى ولو جمعت كل ما أحفظ
من الشعر، سواء ما قيل قديما أو حديثا، وسواء ما كان منه فصيحا أو عاميا.
يبدو أني قد تغيرت كثيرا، فهل
حقا أني تغيرت؟
يصعب أن أجيبكم على هذا السؤال بنعم،
ويصعب كذلك أن أجيبكم عليه بلا.
وعموما فإني لن أضيع وقتي لأجيبكم على هذا
السؤال، لأن هناك سؤالا أكبر من هذا السؤال قد شغلني كثيرا أثناء سردي لهذه
اليوميات.
فهل الشخص الذي أحدثكم عنه في هذه السيرة
هو فعلا أنا؟ أم أنه شخص آخر؟
لقد اكتشفت خلال سردي لهذه اليوميات، أني
لا أعرف عن نفسي إلا الشيء القليل والقليل جدا. ولقد اكتشفت أنه من
السهل عليَّ جدا أن أتحدث عن الآخرين، ولكنه من الصعب عليَّ أن أتحدث عن نفسي، وأن
أقدمها كما هي، لذلك فعليكم أن تنتظروا مني كل شيء، إلا أن أقدم لكم نفسي على
حقيقتها في هذه الرواية، ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال أني سأحدثكم عن شخص آخر
في هذه الرواية، فكل الأحداث التي سأروي لكم هنا، هي فعلا أحداث قد وقعت في حياتي،
لكن ترتيبها وتتابعها في هذه اليوميات لن يعطيكم صورة كاملة ومكتملة عن حقيقتي.
فهناك أحداث أخرى حدثت في طفولتي وفي شبابي أثرت كثيرا في حياتي، لن أذكرها لكم في
الجزء الأول من هذه الرواية، لن أذكرها إلا في الجزء الثاني، والذي سأعود فيه بشكل
أكثر تفصيلا لوجه آخر من طفولتي، ولأحداث أخرى في حياتي، لم أحدثكم عنها، رغم أنها
أثرت في مسار حياتي تأثيرا كبيرا، وهي أحداث لم أشعر بأهميتها إلا منذ وقت قريب
جدا، وذلك عندما بدأت أحاول أن أتعرف على "شخصي الكريم".
ويمكنني أن أقول لكم، وأنا مرتاح البال،
بأني لا أدري إن كان الذي حدثتكم عنه فيما مضى من هذه اليوميات هو أنا؟ أو أن
الذي سأحدثكم عنه مستقبلا في الجزء الثاني هو أيضا أنا؟ وإذا كان كلا
الشخصين هو أنا فكيف تغيرت كل هذا التغير دون أن أشعر بذلك؟ لن يكون
ذلك هو السؤال الوحيد الذي لن تجيبكم عليه هذه اليوميات.
وما أستطيع أن أقوله لكم الآن بأنه ستمر
بكم لحظات أثناء قراءة هذه الرواية ستتوقعون خلالها أنكم قد اقتربتم كثيرا من
التعرف على حقيقة بطل هذه اليوميات، ولكن ستمر أيضا بكم لحظات أخرى ستكتشفون فيها أن
توقعكم ذاك لم يكن في محله.
وساعتها قد يندم الكثير منكم لأنه أضاع
وقته في قراءة حلقات هذه اليوميات، وربما يُحَمِّل بعضكم مسؤولية ذلك الوقت الضائع
لي ولكاتب هذه الرواية، لذلك فقد يكون من الضروري جدا أن نعيد عليكم الآن ما كنا
قد قلناه لكم سابقا، في أولى حلقات هذه الرواية. لقد قلنا لكم إن فكرة كتابتها
إنما هي مؤامرة وخدعة كبرى، دبرتها أنا والكاتب بحثا عن شهرة شاردة تفلتت من أمامنا
كثيرا. ولقد قلنا لكم أيضا، وفي نفس الحلقة إن
الخيار في النهاية يعود إليكم، فإما أن تتوقفوا من الآن عن قراءة الرواية، ولن
تخسروا شيئا، إذا ما توقفتم. وإما أن تواصلوا قراءتها، وقد لا تكسبون شيئا كثيرا،
إذا ما واصلتم قراءتها، لذلك فعلى من صُدِم منكم بعد إكمال قراءة هذه الرواية، أن
لا يلومن إلا نفسه.
وإذا ما اتخذتم القرار الخاطئ، وقررتم أن
تواصلوا قراءة هذه اليوميات، وهذا ما أتمناه فعلا، وإن كنت لا أنصحكم به، فسيكون
من اللازم أن أقول لكم الآن، إنه لم يكن بإمكاني في نهاية السبعينيات وبداية
الثمانينيات، أن أكون شخصا آخر غير الذي كنته.
لقد قدر لي أن أعيش في مدينة فاتنة ساحرة
لم تكن بالتأكيد مدينة متصوفة في ذلك الوقت، ولم يكن هناك من كان بإمكانه أن يضبط
سلوكها، كما هو الحال بالنسبة لكل المدن الموريتانية في نهاية السبعينيات وبداية
الثمانينيات.
لم يكن بإمكاني أن أكون غير الذي كنت، أنا
الذي وجدت نفسي بين عشرات الشباب، كان فيهم المشاكس، والتائه، والبائس،
والطائش، والمتعلم، والجاهل، والضائع، والسارق، والذكي، والغبي، والتافه،
والغسال، والخباز، والمناضل، والعابث، والمتشرد.
كنا نسهر معاً، وندخن معاً، ونزعج الآخرين
معاً، ونرتكب المخالفات معاً، حتى وإن اختلف دور كل واحد منا عن الآخر فيما كنا
نرتكب من مخالفات.
كنا نتناول الغداء في أغلب الأوقات معاً،
وكنا نتعشى معاً، وكان ذلك يطرح مشكلة كبيرة للأسر التي كانت تستضيفنا من حين
لآخر.
كانت الأسرة المستضيفة تفاجأ بدقائق قبيل
العشاء أو الغداء بقدوم ضيوف ثقلاء، ليس فيهم على الإطلاق من يعاني من نقص في
الشهية، وهو ما يجعلها تضطر لأن تقدم جل غدائها أو عشائها لضيوفها الثقلاء، فتكون
النتيجة أن يبيت أو يظل الكل جائعا: الضيوف الثقلاء، والأسرة سيئة الحظ التي قررت
الشلة أن تتوجه إليها في ذلك اليوم، ودون إشعار مسبق.
كانت وجبة الغداء في تلك الفترة ثابتة،
وكانت عبارة عن وجبة من الأرز الأبيض تتناثر على سطحها قطع صغيرة من اللحم،
وستتلون تلك الوجبة فيما بعد بلون أحمر فاتن، مع ظهور الطماطم المعلبة في سوق
المدينة، وقد شكل ظهور الطماطم المعلبة ثورة غذائية عظيمة، على الأقل، في لون وجبة
الغداء. أما العشاء فكان في الأغلب وجبة من كسكس القمح مع قليل من اللحم، أو بدون
لحم بالنسبة للأسر الفقيرة.
ويضاف للوجبات الثابتة ما كنا نلتهمه من
خبز الدفعة الثانية، أو خبز الضحى، والذي كنا نلتهمه حافيا في أغلب الأوقات، ومع
قليل من اللحم، وكثير من المرق في الأيام الاستثنائية. ولقد اشتهرت بعض مخابز
المدينة بدفعتها الثانية من الخبز، وكانت مخبزة بَرْكَه التي لا زالت موجودة
حتى الآن، هي المخبزة الأكثر شهرة في حَيِّنا.
ومع ذلك فقد عرفت المدينة عاما غريبا، لا
أستطيع أن أحدد لكم الآن إن كان في نهاية السبعينيات، أو في بداية الثمانينيات،
تطور فيه النمط الغذائي للمدينة تطورا هائلا ولافتا.
أتذكر أن النمط الغذائي للمدينة ـ ولأسباب
لا زلت عاجزا عن تحديدها ـ قد تغير تغيرا عجيبا، في ذلك العام الذي لم يسبقه عام
مثله، ولم يعقبه كذلك عام مثله. ففي ذلك العام خصص
الكثير من الأسر في المدينة مساحات في منازلهم لزراعة الخضروات ( الطماطم ـ
الجزر ـ البصل ـ البطاطس ـ النعناع....).
وفي ذلك العام كان العديد من الأسر ـ وبما
في ذلك أسر ذات دخل محدود جدا ـ يقدم طبق سلاطة بعد كل وجبة عشاء!!!!!
وشاع استخدام القهوة مع الفطور في ذلك العام، وظهر مع خبز الصباح عسل
مستورد من بريطانيا عليه صورة أسد، وانتشر استهلاك NESTELE) )، والتي أتمنى أن أحصل الآن على علبة منها، فطعمها
اللذيذ جدا لا يزال عالقا بلساني، وكأني حديث عهد بتذوقه.
إنه عام غريب حقا، شبعنا فيه كثيرا
من الوجبات اللذيذة، ولكننا عدنا بعده إلى وجباتنا المعهودة ( أرز أبيض أو أحمر في
الزوال، وكسكس بالليل، وقطعة من الخبز في الصباح قد لا تتكرر في الضحى).
وهناك عام آخر، جاء بعد عام الأكل اللذيذ،
كان عام تدخين بامتياز. في ذلك العام كثرت سجائر بغداد في مدينة لعيون، وكانت
سجائر بغداد تأتي كهدية من العراق إلى الشعب الموريتاني الشقيق، وكنا نحن في الشلة
جزء لا يتجزأ من الشعب الموريتاني الشقيق.
لذلك فكان من السهل جدا علينا في ذلك
العام، أن نحصل على نصيبنا من سجائر بغداد مجانا، أو بسعر زهيد جدا، في أسوأ
الأحوال.
لم تكن النقود متوفرة لدينا في ذلك الوقت،
وكنا نصرف ما يقع في أيادينا من نقود قليلة على تذاكر السينما، أو على خبز الضحى،
أو على السجائر الرخيصة، لذلك فقد كان لهدية العراق من سجائر بغداد قيمة كبيرة في
حياتنا، وقد ساعدت تلك الهدية في انتشار التدخين، بشكل واسع، بين شباب
المدينة ومراهقيها.
كانت أعمدة دخان سجائر بغداد تتصاعد
من الأمكنة التي كنا نجتمع فيها، ولم يكن غريبا أن تشاهد غمامة من الدخان
تظلنا أينما حللنا. كنا ندخن بشراهة، وكنا نتصارع في كثير من
الأوقات على عقب سيجارة كلما قل مخزوننا من السجائر.
وفي تلك الفترة أدمنا على لعب الورق، خاصة
لعبة (POKER)، ونظرا لندرة
النقود في تلك الفترة فكانت عيدان الثقاب هي التي تتم المقامرة بها.
كنا في بعض الأحيان نسهر على تلك اللعبة،
حتى الصباح، وكنا نتنافس كثيرا على جمع عيدان الثقاب، رغم أن تلك العيدان لم تكن
لها أي أهمية. كانت مشكلتنا في ذلك الزمن خصوصا عندما بدأت سجائر بغداد تختفي، هي
توفير السجائر نفسها، لا توفير عيدان الثقاب لإشعال تلك السجائر. ومن المؤكد أننا
لم نكن لنعدم ما نشعل به أي سيجارة نتمكن من الحصول عليها بطريقة أو بأخرى.
ورغم ذلك فقد كان يخاصم بعضنا بعضا على عود ثقاب واحد، إذا ما حصل خلاف على
ملكيته، وإذا ما ادعى أكثر من طرف ملكيته لعود الثقاب المتنازع عليه.
فهل كنت حقا، في النصف الأول من
الثمانينيات، بائسا إلى الحد الذي يمكن لي فيه أن أدخل في معركة شرسة من أجل عود
ثقاب؟ لا أستطيع الآن أن أقول لكم إني كنت بائسا إلى ذلك الحد. وفي المقابل، فهل
يمكنني أن أدعي بأني كنت ذلك الشاب المثقف الذي يندر أن تراه إلا وهو يحمل في يده
مجلة، أو رواية، أو كتابا في الفكر الناصري؟ يمكنني أن أدعيَ ذلك. ولكن لا يمكنني
أن أدعيَ أني كنتُ في ذلك الزمن، ولا حتى في أيامنا هذه، أحمل هم أمة بكاملها، حتى
وإن كنتُ قد حاولتُ في عقد الثمانينيات أن أمثل دور الشاب المهموم بقضايا أمته.
إني لم أكن هذا، ولم أكن ذاك. لم
أكن بائسا إلى الحد الذي أدخل فيه في معارك شرسة من أجل تحرير عود ثقاب استولى
عليه صديق بطرق غير شرعية، ولم أكن كذلك ذلك الشاب المثقف الذي يحمل هم أمة
بكاملها. لقد كنتُ خليطا بين هذا وذاك، مع اختلاف في المقادير والجرعات، كان بكل
تأكيد لصالح الشاب المثقف المشغول بهم أمته العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق