بدءا لابد من الاعتراف بأن الشكوك ما تزال قائمة حول
حقيقة وجود هيبة للدولة الموريتانية، وما إن كانت تلك الهيبة قد وُلدت أصلا
حتى يكون بإمكاننا أن نعلن عن موتها، وبالتالي أن نعزيكم في فقدانها. ولكن، وحتى
وإن افترضنا جدلا بأن هيبة الدولة الموريتانية قد عاشت يوما ما على هذه الأرض،
وبأنها كانت حية ترزق، حتى وإن افترضنا ذلك جدلا، فإنه بإمكاننا اليوم أن نقول
لكم، وبراحة ضمير، بأنها إن كانت قد عاشت على هذه الأرض، فإنها قد ماتت بسكتة
قلبية أو بجلطة في الدماغ في مبنى الولاية بازويرات، وذلك في صبيحة يوم الثلاثاء
الموافق 28 مايو 2013 .
إن ما حدث في ازويرات في ضحى ذلك اليوم لم يكن
حدثا عاديا، خاصة وأنه حدث في ولاية أنعم الله عليها بوالٍ جنرال، وكان عضوا في
المجلس الأعلى للدولة الذي انقلب على الرئيس السابق انتصارا لهيبة الدولة، ولهيبة مؤسستها
العسكرية التي أساء إليها الرئيس السابق عندما أقال حفنة من القادة العسكريين دفعة
واحدة ذات صباح أربعاء مثير.
لقد كان الانتصار لهيبة الدولة ولمؤسستها العسكرية من
أهم الحجج التي تم تقديمها لتبرير انقلاب السادس من أغسطس، لذلك فإنه يحق لنا أن
نتساءل بعد مرور خمس سنوات على ذلك الانقلاب عن أي إهانة للدولة أخطر من سقوط مبنى ولاية بكاملها في يد مجموعة من العمال
الغاضبين؟
وأي إهانة للمؤسسة العسكرية أخطر من أن يُحتل مكتب
الجنرال الوالي من طرف مجموعة من العمال الغاضبين، وذلك بعد أن عجز عن حمايته، أي
المكتب، كل الموجود في المدينة من حرس ودرك وشرطة؟
ولعل أكثر ما يقلق في الأمر هو أن كل ذلك قد حدث بعد
مرور وزير الداخلية بالمدية، وكذلك بعد فترة وجيزة من عملية اعتداء على حاكم
مقاطعة دار النعيم.
فعن أي هيبة للدولة يمكننا أن نتحدث ما دامت
السلطة عاجزة حتى عن حماية حكامها وولاتها بما في ذلك أغلى وأثمن وأعز والي في
البلد كله (سيادة الوالي الجنرال)؟
وعن أي هيبة للدولة ولجيشها ولقوات أمنها ولمخابراتها
يمكن أن نتحدث ما دام الكل قد فشل في تقدير حساسية موقف، وفي تقدير حجم الغضب الذي
أصبح يعيشه العمال المعتصمون، والذي كان واضحا بأنه قد أصبح خارج السيطرة، وبأنه
قد ينفجر كالبركان في أي لحظة؟
ألم يكن الظرف الزمني للاعتصام (شهر مايو)
والحيز الجغرافي له (مدينة ازويرات) وطابعه الاجتماعي والسياسي (عمال مناجم)، ألم
يكن كل ذلك يكفي لأن يجعل الجنرال الوالي ووزير الداخلية ومدير الشركة يتوقعون أن
شيئا ما يمكن أن يحدث، إذا ما تسللوا هم ليلا، كما فعلوا، وتركوا المدينة لآلاف العمال
الغاضبين والمحبطين؟
لقد كان من الواضح جدا، حتى لمحدودي الذكاء من أمثالي،
بأن الأمور لا محالة ستخرج عن نطاق السيطرة إذا ما ظلت السلطات المعنية
تواصل كذبها وخداعها واستهزاءها بالعمال، ولكن، وفي هذه مفارقة عجيبة، فإن الجهة
الوحيدة التي لم تكن قادرة على توقع ذلك، هي الجهة التي كان بإمكانها أن تتفادى
حدوث ما حصل في صبيحة يوم الثلاثاء.
لقد حاول العبد لله أن يحذر المعنيين بالأمر من خطورة
الاستمرار في تجاهل معاناة العمال، فأطلق صفارة إنذار منذ ما يزيد على عام،
وتحديدا في يوم 16 مايو من السنة الماضية، وذلك من خلال مقال على لسان العمال كان
بعنوان: "اسمعوا أنينا من قبل أن...!؟"، ولكن، لم يكن هناك من هو على
استعداد لسماع أنين العمال، فحدث ما حذر منه المقال: اشتعلت النيران في المدينة
والتهمت ما تبقى من هيبة للدولة.
إن أخطر ما في كارثة الثلاثاء هو أنها أظهرت ـ
بالإضافة إلى كوارث أخرى ـ بأن السلطة القائمة لم تعد تمتلك نقطة القوة الوحيدة التي
كانت تمتلكها سابقا، والتي كانت تتمثل في الشجاعة والجرأة على حسم الأمور.لقد
التهمت نيران الثلاثاء آخر ما تبقى من نقطة القوة تلك، فظهر النظام ضعيفا مهزوزا،
وغير قادر على حسم أي أمر. فمن جهة فلا هو قادر على تلبية مطالب المحتجين، و من
جهة ثانية فلا هو قادر على معاقبتهم إذا ما تجاوزوا حدود الاحتجاج السلمي وبدؤوا
في التخريب، وفي السطو، وفي حرق وإتلاف الممتلكات العامة أو الخاصة.
وبالإضافة إلى ذلك العجز البين، فإن السلطة القائمة
أظهرت عجزها كذلك عن وضع حد لهذا الخطاب القبلي والجهوي والعرقي والفئوي الصاخب
والمتصاعد، والذي يستقطب في كل يوم المزيد من "المثقفين"، ومن
"العقلاء"، وحتى من "الشباب الجامعي" ملتهما بذلك ما
تبقى من هيبة للدولة الموريتانية.
لقد غاب ـ أو غُيب ـ الرأي السديد، والصوت الرشيد، ولم
يعد يُسمع في موريتانيا اليوم إلا
الخطابات المتطرفة، أو الصيحات العنصرية، أو الاستنفارات القبلية، أو الاستغاثات
الجهوية.
وبالمناسبة ـ وهذه مفارقة تختزل كل المأساة ـ فإن أول بيان يصدر بعد أحداث ازويرات، كان بيانا
موقعا باسم قبيلة موريتانية، وكانت تلك سابقة من نوعها، وهي سابقة تكفي لوحدها لأن
تجعلنا نقرأ الفاتحة على روح الفقيدة هيبة الدولة الموريتانية.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق