قديما قيل : مات الملك ..عاش الملك.
حديثا قيل: ماتت الأغلبية..عاشت المعاهدة.
لن يكون إعلان ميلاد "المعاهدة من أجل التناوب السلمي" يوم
أمس مجرد حدث سياسي عابر، فهذا الحدث لا يكتسب قيمته فقط من مكانة الذين تعاهدوا، ولا من أهمية ما
تعاهدوا عليه، بل يكتسبها من مفصلية اللحظة التي تم فيها إعلان ميلاد " المعاهدة
من أجل التناوب السلمي"، والتي ربما تكون هي اللحظة نفسها التي ستموت فيها
الأغلبية، حتى وإن كانت تلك الموت، لن ينظم لها "مجلس عزاء" مهيب في قصر
المؤتمرات، أو في دار الشباب يتناسب مع الحفل المهيب الذي نُظِم لها يوم أعلن عن ميلادها.
مسكينة هي أغلبية "رئيس الفقراء"، لقد ماتت وهي لا تزال
طفلة رضيعة، ماتت لأنها لم تمنح كمية كافية من اللبن، وهي التي كانت ككل أخواتها
من "الأغلبيات" تعتبر موريتانيا مجرد بقرة حلوب، وأن كل الحليب سيخصص
لها دون غيرها، ولكن الحليب هذه المرة خُصص لرضيع واحد.
ماتت الأغلبية لأنها ولدت مشوهة، ولم يكن من المحتمل أن تعمر كثيرا..
ماتت الأغلبية لأنها ولدت في عهد كثر فيه موت "الأغلبيات"،
ولم تسلم فيه أي أغلبية من الموت، فماتت أغلبية تونس، وماتت أغلبية مصر، وماتت
أغلبية السنغال، حتى أغلبية فرنسا ماتت..
ماتت أغلبية "رئيس الفقراء"، والمفجع أنها ماتت ولم تترك
ولدا صالحا يدعو لها، ولا عملا صالحا، ولا صدقة جارية، حتى أسماك "ياي
بوي" والتي كانت توزع يوم مسيرات المعارضة، قال رئيس الحزب الحاكم بأن
الأغلبية لم توزعها، قال ذلك في تلفزيون الأغلبية، بأيام معدودة قبل موت الأغلبية.
مسكينة هي أغلبية "رئيس الفقراء"، لقد أثارت الشفقة يوم
وُلدت..وأثارتها يوم فُطمت من قبل أن ترضع..وأثارتها يوم حاولت أن تنطق فعجزت..وأثارتها
يوم ماتت وهي لا تزال طفلة رضيعة.
ماتت "الأغلبية" فلا تتحدثوا عن الأموات، يرحمكم الله، وولدت
"المعاهدة من أجل التناوب السلمي"، فدعونا نتحدث عن الأحياء.
إن هناك فرصا عديدة أمام هذا المولود الجديد، قد تساعد في نموه، ومن
بين هذه الفرص، يمكن أن أذكر:
1 ـ إن الأغلبية الساحقة من الشعب الموريتاني، أصبحت مقتنعة بأن البلد
ليس على خير، وبأنه يعيش أزمة خطيرة، وبأن الحل لن يكون بالمزيد من التصفيق
للرئيس، كما كانت تفعل الأغلبية حتى ماتت، غفر الله لها.
إن أغلبية الشعب الموريتاني أصبحت مقتنعة بأن البلد يعيش أزمة، ولكن
هذه الأغلبية تختلف حول أسلوبين للتعامل مع هذه الأزمة، فجزء كبير من الشعب قد يرى
أن الحل في رحيل النظام، كما تدعو لذلك المعارضة المقاطعة للحوار. وجزء كبير آخر
قد يرى أن الحل في انتقاد الأوضاع بصوت مرتفع مع الدعوة إلى الحوار، كما جاء في
وثيقة "المعاهدة من أجل التناوب السلمي".
إن التنافس في المستقبل القريب سوف يكون بين خطابين : خطاب ينتقد
الأوضاع ، ويدعو إلى الرحيل (المعارضة المقاطعة)، وخطاب ينتقد الأوضاع، ويدعو
للحوار (خطاب المعاهدة من أجل التناوب السلمي). أما الخطاب الذي يمجد النظام فقد
أصبح خطابا ميتا، كما أصبحت الأغلبية أغلبية ميتة، وغفر الله لسبعمائة ألف مناضل
قيل أنها كانت تنتسب للحزب الحاكم.
2 ـ إن لمعاهدة التناوب السلمي خريطة سياسية واسعة يمكن أن تتحرك
فيها، ويمكن أن تستقطب الكثير من "ساكنتها". فهناك حزب "عادل"
وحزب "الحركة من أجل التأسيس" وحزب "التجديد الديمقراطي"، وهي
أحزاب يكاد خطابها السياسي أن يتطابق مع ما جاء في وثيقة المعاهدة. كما أن هناك
أحزابا أخرى قد تجعلها وحشة الوحدة تلتحق بالمعاهدة الجديدة كحزب "صار"
مثلا.
ثم إن هناك مبادرة "نداء من أجل الوطن" والتي ربما تكون
"المعاهدة من أجل التناوب السلمي" قد اعتمدت كثيرا في كتابة وثيقتها على
الأفكار التي كانت تطرحها هذه المبادرة منذ تأسيسها، والتي مثلت صوت الحكمة الذي
كان يسعى لأن يجمع أطراف الصراع على مائدة الحوار .
ولا يستبعد أيضا أن يلتحق بالأحزاب المشكلة للمعاهدة بعض الأصوات التي
انتقدت أخيرا الحزب الحاكم، من داخل هذا الحزب.
3 ـ إن الرئيس قد ينظر إلى هذه المعاهدة بوصفها هي قارب النجاة الذي
سينجي نظامه من الغرق، بعد أن فشلت أغلبيته الميتة في الوقوف في وجه المعارضة
المقاطعة للحوار، والتي كسبت نقاطا كثيرة في الفترة الأخيرة، لذلك فربما يمنح
الرئيس الكثير من الامتيازات ـ والتي حرم منها أغلبيته ـ لهذه الكتلة الجديدة،
والتي ربما تنجح في إدارة الصراع القادم، والذي سيتحول من صراع بين الأغلبية
والمعارضة، إلى صراع بين المعارضة المطالبة بالرحيل (المنسقية)، والمعارضة
المطالبة بتطبيق نتائج الحوار (المعاهدة).
إن هناك فرصا عديدة أمام "المعاهدة من أجل التناوب السلمي"،
ولكن ذلك لا يعني بأن وثيقة الإعلان عن ميلاد هذه المعاهدة لم تسلم من أخطاء
وهفوات كثيرة، لعل من أبرزها الانتقاد الشديد للمعارضة المقاطعة، ورفض أي حوار
جديد من قبل تطبيق نتائج حوارها مع السلطة، هذا فضلا عن قول الوثيقة بأن التفكير
ينصب حاليا على اختيار حكماء اللجنة المستقلة للانتخابات، والذين لن يكونوا حكماء،
إذا ما قبلوا بأن يتم تعيينهم وتنصيبهم دون حضور ومشاركة منسقية المعارضة
الموريتانية.
تصبحون وقد شيعتم الأغلبية..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق