الأربعاء، 26 فبراير 2020

ألا يمكن أن ننصف شريحة دون أن نظلم أخرى؟


من المؤكد بأن الحصيلة التي تحققت خلال الستين سنة التي مرت على استقلال موريتانيا كانت هزيلة جدا، ولا يتعلق الأمر بقطاع دون آخر. فالتعليم منهار، والصحة رديئة، ونسب الأمية والفقر والفساد والبطالة مرتفعة جدا، والعقليات لم تتغير إلى الأحسن، أما عن الغبن والفوارق الاجتماعية وغياب دولة المواطنة فحدث ولا حرج.

هذا الفشل المتعدد الأوجه لا يمكن أن نفرق في أسبابه ولا في العوامل التي أدت إليه، فلا يمكننا أن نقول مثلا بأن هناك أسبابا معينة أدت إلى فشلنا في التعليم والصحة ومحاربة الفقر والفساد والأمية، وأن هناك سببا مختلفا عن كل تلك الأسباب هو الذي أدى إلى فشلنا في محاربة ظاهرة الاسترقاق والقضاء على الغبن الاجتماعي.

يحاول البعض أن يقول بأن العنصرية هي التي كانت وراء فشل الدولة الموريتانية في القضاء على الغبن الاجتماعي، ويرى هؤلاء بأن الدولة الموريتانية هي دولة شريحة واحدة.

إني من الذين يرون بأن  الدولة الموريتانية قد فشلت في القضاء على الغبن الاجتماعي وعلى مخلفات الاسترقاق لنفس الأسباب التي أدت بها إلى الفشل في التعليم والصحة ومحاربة الفساد والفقر.

هناك طرحٌ آخر يرى أصحابه بأن العنصرية هي السبب الوحيد والحصري الذي أدى إلى الفشل في القضاء على مخلفات الاسترقاق، وينقسم أصحاب هذا الطرح إلى طائفتين :

طائفة أولى ترى بأن هناك شريحة من شرائح المجتمع ظلت خلال الستين سنة الماضية تتحكم في كل شيء، وظلت ـ ولدوافع عنصرية ـ تقصي كل المكونات والشرائح الأخرى من خيرات البلاد.

إن رأي هذه الطائفة يصطدم بجملة من الأمور :

1 ـ أن نسبة كبيرة  من الشريحة المذكورة (يمكن تقدير تلك النسبة ب70%) هم من الفقراء والمهمشين، وهذه النسبة أصبحت تعاني اليوم من ظلم مزدوج فهي تعاني من الغبن والتهميش في وطنها، وتتهم في الوقت نفسه بأنها تمارس العنصرية لإقصاء بقية شرائح ومكونات المجتمع!

2 ـ أن هناك نسبة معتبرة من أبناء هذه الشريحة تمكنت من جمع المال بعيدا عن الدولة، ومن خلال ممارسة التجارة، فهناك قبائل جل أبنائها يعيش في الغربة ومن الغربة جمع أموالا معتبرة ...كما أن هناك عددا كبيرا من أبناء هذه الشريحة يعيش من عمله الذي يمارسه في الخارج، والذي لا علاقة للدولة به، فكثير من أبناء هذه الشريحة هاجر إلى دول الخليج وإلى أمريكا بحثا عن عيش كريم لم يجده في وطنه.

3 ـ هذه الشريحة ليست بالتأكيد على قلب رجل واحد وحالها في ذلك كحال بقية شرائح ومكونات المجتمع، فداخل القبيلة الواحدة هناك أسر مستفيدة من الدولة، وحتى تبقى تلك الأسر مستفيدة فإنها تعمل ـ ليل نهار ـ  على إقصاء وتهميش بقية الأسر الأخرى، ولذا فمن الساذج جدا أن نقول بأن هناك شريحة في غاية الانسجام، وأنها تجتمع وتخطط وتنسق فيما بينها من أجل إقصاء بقية شرائح ومكونات المجتمع.

4 ـ داخل المكونات الأخرى توجد مخلفات استرقاق ويوجد إقصاء وتهميش، حتى وإن قل الحديث عنه من طرف "الحقوقيين"..فهل الشريحة المتهمة دائما بالعنصرية هي التي تقف وراء ذلك؟

هذا عن الطائفة الأولى أما الطائفة الثانية، فهي وإن كانت لا تفسر الفشل في القضاء على مخلفات الاسترقاق بعنصرية شريحة معينة، إلا أنها تفسره بعنصرية الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في موريتانيا، وتقول هذه الطائفة بأن تلك الأنظمة كانت وما تزال تسيطر عليها شريحة واحدة..في النهاية لا خلاف جوهري بين الطائفتين اللتين تفسران الفشل في القضاء على الفوارق الاجتماعية بالعنصرية.

كل النقاط التي أوردناها لدحض حجة الطائفة الأولى تصلح لدحض حجة الطائفة الثانية، ويمكن أن نضيف إليها نقطة أخرى مفادها أنه إذا كانت كل الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في موريتانيا أنظمة عنصرية تعمل لصالح شريحة واحدة، فلماذا كان أكثر سجناء تلك الأنظمة وقتلاها من تلك الشريحة التي تحكم باسمها؟

لقد كانت الشريحة التي يُقال بأنها هي الأكثر ممارسة للعنصرية من خلال الأنظمة الحاكمة هي الأكثر تعرضا للسجون والقتل من عهد الرئيس الراحل المختار ولد داداه إلى عهد الرئيس محمد خونا ولد هيدالة.

قد يختلف الأمر قليلا في عهد الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع، والذي لم تكن له صلة بالشريحة التي تتهم بالعنصرية، فقد عاش في عزلة عنها، وكان يسخر من القبائل، فيصفهم ب "لقويبلات"، ولكن الذي حدث أنه تعرض لمحاولة انقلابية من مكون واحد، وكأي مستبد فقد تعامل مع تلك المحاولة الانقلابية بطريقة بشعة . قد يقول قائل هنا لماذا قتل معاوية قادة المحاولة الانقلابية التي كان يخطط لها بعض الضباط الزنوج  في العام 1987 ولم يقتل قادة المحاولة الانقلابية التي قادها ضباط بيظان في العام 2003؟

بالنسبة لي فأرى بأن السبب يعود إلى الظرف الزمني، ولا علاقة له بالعنصرية، فانقلاب فرسان التغيير كان في العام 2003 بعد سبع سنوات من "الديمقراطية" وفي تلك الفترة كانت توجد صحافة ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب سياسية معارضة، وكانت توجد قنوات تلفزيونية عربية ودولية لا تترك شاردة ولا وواردة. من الراجح عندي بأن الرئيس معاوية كان سيقتل كل فرسان التغيير لو أن محاولتهم الانقلابية كانت في عقد الثمانينيات، مثلما قتل ولد هيدالة قادة محاولة السادس عشر من مارس. ومن الراجح عندي أيضا بأنه لو تم تأجيل محاولة ضباط الزنوج الانقلابية إلى العام 2003 لما استطاع معاوية أن يقتل قادة تلك المحاولة الانقلابية.

خلاصة القول

في موريتانيا هناك غبن وهناك فوارق اجتماعية لم نستطع أن نذيبها خلال الستين سنة الماضية، وقد آن الأوان لأن  يعمل النظام الحاكم والمجتمع على إذابتها، وأن يجعلا من ذلك أولوية الأولويات، ولكن ليس من الإنصاف ولا من العدل ولا من الحكمة أن نحمل مسؤولية الفشل في القضاء على مخلفات الاسترقاق لشريحة واحدة من شرائح المجتمع الموريتاني.  

 

حفظ الله موريتانيا...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق