الاثنين، 29 أبريل 2013

يوميات شخص عادي جدا/ رواية في حلقات



رواية "يوميات شخص عادي جدا"
الجزء الأول


مقدمة

لقد قررت ابتداءً من يوم الأحد 18 ـ 12 ـ2011، أن آخذ لنفسي قسطا من الراحة، أتوقف فيه عن الكتابة في الشأن السياسي، والتي أعتبرها من أشق أنواع الكتابة، وذلك لأتفرغ لمشروع رواية سميتها " يوميات شخص عادي جدا"، وكان من المفترض أن تكون قد اكتملت منذ مدة، إلا أن التزامي بكتابة مقال سياسي، كل أسبوع، حال بيني وبين البدء الفعلي في كتابتها.


تعطل المشروع كثيرا، لذلك فقد كان لابد من اتخاذ قرار حاسم ومتطرف كهذا، ألتزم من خلاله للقراء الكرام بأن أكتب لهم في كل أسبوع حلقة جديدة من رواية "يوميات شخص عادي جدا "، وأن أنشرها، وأن أواصل كتابة الحلقات، حتى أصل ـ إن شاء الله ـ إلى الحلقة الأخيرة، والتي ستكون خاتمة لرواية لا أستطيع أن أتنبأ لكم الآن بحجمها الحقيقي، ولا بمتى  ستكتمل، ولا بعدد الحلقات التي سأحتاج لكتابتها حتى أكملها.
وهذه الرواية التي سأعيد للمرة الثانية كتابتها، ابتداءً من اليوم، كانت قد اكتملت بصياغة قديمة، في النصف الأول من التسعينيات من القرن الماضي، وهي توجد منذ ذلك الوقت مكتملة، وبخط اليد على صفحات أوراق بالية، وغير متجانسة. ولم يحصل أني عدت إلى تلك الأوراق منذ أن اكتملت كتابتها قبل خمسة عشر عاما.
وهذه الأوراق محفوظة منذ مدة، وبطريقة بدائية، في أرشيفي الشخصي، المكدس في حقيبة متهالكة، لم أعد قادرا حتى على تذكر الرقمي السري الذي يُمَكن من فتحها.
لقد اخترت للنسخة الأولى من الرواية عنوانا بعيدا كل البعد عن العنوان الحالي، فقد كان عنوانها "أعقاب سجائر رخيصة"، وكانت بمثابة رواية حقيقية، حاولت أن أسرد من خلالها حياة شخص عادي جدا، عاش حياة بسيطة، خالية من الإثارة، ولكني أضفتُ لتلك الحياة البسيطة والعادية أحداثا خيالية لكي أشد القارئ إلى رواية أردت لها أن تحقق شهرة كبيرة، مثل العديد من الروايات العالمية التي استطاعت أن تصعد، بأشخاص كانوا مغمورين، إلى قمة الشهرة.
في تلك الفترة كنت على يقين كامل بأنه لا يحول بيني وبين الشهرة، إلا أن أكمل رواية "أعقاب سجائر رخيصة"، وأن أنشرها. وكان ذلك الشعور يمنحني طاقة غير عادية، وحماسا لا يفتر، حتى في تلك الأوقات التي كنت أعاني فيها من نضوب في الأفكار، فكانت تمر الساعات الطوال، وأنا ممسك بقلمي، دون أن أتمكن من كتابة فقرة واحدة، ودون أن يصيبني ـ رغم ذلك ـ ملل من الانتظار، انتظار قدوم لحظة حبلى بالأفكار والخواطر، قد لا تأتي في ذلك اليوم.
كنت واثقا بأن المذكرات أو الرواية، وكلا التسميتين جائزة، ستحقق شهرة عالمية. وكنت في تلك الفترة كلما أنهيت قراءة رواية عالمية شهيرة، أقول في نفسي : ألا أستطيع أن أكتب رواية مثل هذه؟ وكانت قراءاتي لتجارب بعض المشاهير من الكتاب تغريني أكثر بطرح ذلك السؤال.
كنت أردد مع "إدغار رايس بوروس" مؤلف رواية "طرزان"، جملته الشهيرة التي قالها عندما اطلع على مجموعة قصصية منشورة في إحدى الجرائد: "إذا كان الكتاب يقبضون ثمنا لكتابة مثل هذه الخزعبلات، فإن بإمكاني كتابة خزعبلات أحسن من هذه". ولقد كان هذا الكاتب، وحسب سيرة حياته، أقل تعليما مني، وأكثر فشلا في حياته الخاصة، ومع ذلك فقد قرر أن يكتب رواية، فلِم لا أكتب أنا رواية ؟ ذلك سؤال طرحته على نفسي عشرات المرات.
وكثيرا ما كان يشجعني على الكتابة أني عندما أقارن نفسي ببعض الكتاب الكبار، وأقول البعض، أجدني دائما أحسن حالا منهم. وذلك من حيث مستوى التعليم، ومن حيث تحديات الحياة، التي كانت تواجههم، أثناء كتاباتهم الأولى التي اشتهروا بها، لذلك فقد كنت واثقا من أن كتابة رواية أشتهر بها كما اشتهروا، لن تكون مهمة صعبة، ولا قرارا عابثا.
كان ذلك هو إحساسي وشعوري في ذلك الوقت، وربما يكون ذلك نتيجة لغرور زائد، أو نتيجة لسبب آخر، لا أدري. المهم أن الثقة في النفس التي كنت أكتب بها في ذلك الوقت، والحلم الكبير الذي كنت أسعى إلى تحقيقه، لم يكونا ليجتمعا في شخص واحد، إلا وأغرياه بما أغرياني به، حتى ولو لم تكن له أي صلة سابقة بالكتابة.
كانت فصول الرواية تتقدم بسرعة مرضية، ولكني كنت أشعر في الساعات الطويلة التي أخلو فيها مع بطل روايتي، بأن هناك شيئا ما في حياته قد بدأ يتغير. لم أستطع أن أحدد ملامح ذلك الشيء، ولا طبيعته، ولكني مع ذلك كنت أحس بذلك التغيير الهادئ، والذي كان يزداد وضوحا كلما اقتربت من خاتمة الرواية.
وفي اليوم الذي أكملت فيه كتابة الرواية، حدثت مفاجأة لم أكن أتوقعها، وهي مفاجأة جعلتني أوقن بأن التغيير الذي عرفه بطل الرواية، لم يكن تغييرا هادئا، بل كان تغييرا عنيفا، حتى وإن لم يشعر به أقرب المحيطين به.
كان أول ما تلفظ لي به، بعد اكتمال الرواية :
ـ يستحيل أن أقبل نشر هذه الرواية السخيفة، والمليئة بالهراء، وبالكلام التافه.
لم أجبه بأي كلمة، فلم يكن لديَّ ما أقوله، بل إني لم أكن قادرا على الكلام فقد أخرستني المفاجأة.
ولم يرحم هو حيرتي، بل أردف قائلا:
ـ عليك أن تحرق كل الأوراق التي كتبت فيها سيرة حياتي المزيفة.
والغريب أن بطل الرواية، وقبل ذلك بأيام معدودة، كان سعيدا بالتزييف الذي كنت أقوم به، وكان يفرح كثيرا كلما أضفت لسيرة حياته بطولات ومواقف وهمية، من نسج خيالي. وكان الشيء الوحيد الذي يغضبه في تلك الأيام، هو أن تمر ساعة لا أخلو فيها به، لكي نشتغل فيها معا بكتابة سيرة حياته الرتيبة والمملة.
فما الذي جعل بطل الرواية يتخذ قراره المفاجئ بعدم نشر الرواية، بل ويطالب بحرقها رغم أنه كان أكثر تحمسا مني لنشرها؟
يمكنكم أن تتوقعوا مني كل شيء، إلا أن أجيبكم على ذلك السؤال.
وما أستطيع أن أقوله لكم الآن، بأني كنت مجبرا لأن أستجيب لأوامر بطل الرواية بعدم نشرها. ولم يكن لدي أي خيار آخر، فالقرار الأخير كان له، إلا أني مع ذلك لم أقم بحرق الأوراق كما طلب هو مني، وذلك لأني كنت أعلم بأنه لم يكن جادا عندما طالب بحرق تلك الأوراق.
وفي تلك الفترة التي أعقبت ذلك الحادث المثير، كنا نتفادى الحديث عن الرواية، فهو كان يعلم يقينا بأني لن أنشرها، وأني لن أطلع عليها أي شخص آخر، مهما كان، ولكنه أيضا، كان يعلم في المقابل بأني لم أحرق مسودتها كما طلب مني، ولكنه تجاهل ذلك، ربما لأنه كان يعلم بأن حرق جهد خمس سنين من العمل المرهق، لن يكون عملا سهلا.
مرت سنوات بعد ذلك لا أدري كم عددها، وأرجو أن تعذروني لأن هناك أحداثا هامة في هذه الرواية لن أستطيع أن أضبط لكم تواريخها، بل إن هناك أحداثا لن يكون بإمكاني أن أرتبها لكم زمنيا، وذلك بسبب أن علاقتي بمادة التاريخ لم تكن في أي يوم من الأيام بالعلاقة الجيدة، وذلك لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ بأن علاقتي مع الجغرافيا كانت على ما يرام.
المهم أنه في يوما ما، وبعد سنوات لا أعرف كم عددها، اقترح عليَّ بطل الرواية، أن أعيد كتابة سيرة حياته للمرة الثانية، ولكن بشرط أن أكتبها كما هي، بلا إضافات وبلا أحداث مختلقة للتشويق وللإثارة.
في البداية سخرت من الاقتراح، وكانت حجتي بأنه ليس في حياة البطل أحداث حقيقية مثيرة يمكن أن تشد القارئ، فهو ليس من الشخصيات المشهورة الذين تعود الناس على قراءة سيرهم. فهو لم يكن زعيما، ولا قائدا، ولا مفكرا، ولا شاعرا، ولا فنانا، ولا إعلاميا، ولا موظفا كبيرا، وإنما هو واحد من الناس العاديين، ومن بسطائهم الذين يكافحون من أجل لقمة العيش، ويتزاحمون يوميا مع غيرهم من البسطاء في حافلات النقل العام، ويتسكعون أمام المكاتب بشكل دائم، بحثا عن فرصة عمل قد لا تأتي أبدا.
وكان رد بطل الرواية، بأن كل هذه الحجج هي لصالحه، وبأن فكرة كتابة سيرة حياة شخص عادي جدا، هي فكرة إبداعية في حد ذاتها، لأنها ليست مألوفة، وهي قد تشكل نقطة قوة في هذا العمل، وقد تصبح هي السبب الأبرز في نجاحه. وإذا كان الكُتَّاب قد تعودوا على تقديم تجارب ناجحة، فلِمَ لا تكون أنت أول من يقدم تجربة حياة فاشلة؟
لم يتوقف النقاش بيننا، بل واستمر لفترة ليست بالقصيرة، وكان نقاشنا في بعض الأحيان يتسم بالعصبية والحدة وبتبادل الاتهامات.
فبطل الرواية كان يتهمني دائما بأني مجرد كاتب فاشل، وأني لست أهلا لكتابة سيرة حياته، وأن عدم أهليتي لكتابة سيرة حياته هو ما جعلني أرفض اقتراحه، وكان يتهمني أيضا بالجبن. ولقد طلب مني أكثر من مرة أن أكون شجاعا، وأن أعترف له بأن سبب رفضي لكتابة سيرة حياته، لم يكن بسبب خلوها من الأحداث الجسام، وإنما كان بسبب عدم ثقتي في قدرتي على كتابة شيء مفيد.
وأنا بدوري كنت أتهمه هو بالفشل، لأنه لم يستطع أن يصبح شخصا مهما، ولم يستطع أن يجعل من نفسه زعيما، أو قائدا، أو عالما، أو مفكرا، أو حتى إرهابيا أو مجرما عاتيا تثير حياته  فضول الناس، ولذلك فهو يقترح عليَّ أن أكتب له سيرة حياته لكي أجعل منه شيئا مذكورا، بعد أن فشل هو في ذلك.
لقد كانت العلاقة بيننا في غاية التعقيد، فهو رغم اتهاماته القاسية لي،إلا أنه لم يفكر يوما في أن يلجأ إلى غيري من الكتاب الناجحين لكي يكتب له سيرة حياته. لقد كان يثق بي ثقة كاملة، حتى وإن وصفني بالفشل والجبن في أكثر من موقف.
وأنا أيضا لم يحدث أن فكرت في أن أترك من وصفته أكثر من مرة بالفاشل، وأن أبحث عن شخص ناجح غيره لأكتب له سيرة حياته.
كان يعلم بأنه لن يجد أفضل مني لكتابة سيرة حياته، وكنت أنا بدوري أعلم بأني لن أجد تجربة حياة ألِمُّ بالكثير من تفاصيلها كما هو الحال بالنسبة لتجربة حياته، ولن أجد تجربة حياة غنية بالأحداث كتجربته هو، حتى وإن بدت في ظاهرها خالية من أي حدث مثير.
ولقد قال لي، في آخر مرة نناقش فيها مشروع الرواية، قبل الوصول إلى اتفاق:
 ـ لنفترض جدلا بأن حياتي مجرد صحراء قاحلة، ولنفترض جدلا بأنك أنت كاتب مبدع، ألا يستطيع الكاتب المبدع، أن يصور الصحراء القاحلة، بطريقة أنيقة وجذابة، تجعلها تنافس الساحات الخضراء في جذب واستقطاب الناس؟
وإذا كنت حقا كاتبا مبدعا، كما تزعم، فلِمَ لا تحاول أن تجعل من الصحراء الجرداء جنة غناء؟
ـ سأحاول ذلك، ولكن بشرط.
ـ وما هو؟
ـ إن نجحت الرواية فسأحسب النجاح لي وحدي، وإن فشلت فسنقسم الفشل مناصفة بيننا، بحيث تعترف أنت بأن حياتك لم يكن فيها ما يستحق أن يقدم للناس، وأعترف أنا بأني لست بالكاتب المبدع.
ـ أوافق.
تظاهرت بأني أصدقه، رغم أني كنت أعلم يقينا بأنه في حالة نجاح الرواية فإنه سيحتكر نجاحها لنفسه، وفي حالة فشلها ـ لا قدر الله ـ فإنه سيحملني لوحدي ذلك الفشل.
كنت أعلم ذلك، ولكن لم يكن بإمكاني إلا أن أبدأ في كتابة يومياته، فهو في النهاية يملك أوراق ضغط كثيرة، وهو قادر على أن يجبرني على أن أبدأ الكتابة، في أي وقت شاء، وبأي طريقة شاء، وبدون أي شرط، إلا إذا كان شرطا فارغا وبلا دلالة، كما هو الحال بالنسبة لشرطي المتقدم.
ثم إن قوله : " وإذا كنت حقا كاتبا مبدعا، كما تزعم." كان بمثابة تحديا لي، وكان لابد لي من الرد على ذلك التحدي بشكل مناسب، أي برواية ناجحة، أثبت من خلالها بأني كاتب مبدع حقا، وبأني لست أنا وحدي من يزعم ذلك.
والحقيقة أنه لم يكن أمامي أي خيار، فبطل الرواية لم يعد قادرا على الانتظار، ولم يعد يطيق العيش في الخفاء، بعيدا عن عالم الأضواء، وأصبح في شوق شديد لأن تتعرف عليه الناس.
فتعالوا بنا نمط اللثام عن شخص عادي جدا، يُخَيل إليه أنه غير عادي، وإن كان في حقيقته مجرد شخص عادي لا يلفت الانتباه، مثله مثل أي شخص آخر قد يمر بكم صدفة، دون أن يترك في ذاكرتكم أية لقطة مهما كانت طبيعتها لتتذكروه بها، إن صادفتموه مرة أخرى.
تعالوا بنا نستمع لسيرة حياته كما رواها لي هو.
وتعالوا بنا نبدأ سيرته من البداية.

الحلقة (1)

تتعدد الروايات وتختلف كثيرا حول تحديد تاريخ ميلادي، وإن كانت تتفق في مجملها بأني ولدت قطعا في النصف الثاني من عقد الستينات، دون الاتفاق على عام محدد. وتقول الوثائق الرسمية ـ وكثيرا ما تكذب تلك الوثائق ـ  بأني ولدت في عام 1968، وتحديدا في اليوم الذي وُلِد فيه أغلب سكان هذا البلد، أي في يوم 31 من شهر ديسمبر، ولا شك أن هناك من الموريتانيين من ولد فعلا في هذا اليوم، ولكن مشكلة هؤلاء بأنهم سيصنفون مع أغلبية هذا الشعب التي تجهل تاريخ ميلادها، وهي الأغلبية التي منحتها الجهات الرسمية يوم 31 ديسمبر كيوم ميلاد عمومي لكل من لا يعرف يوم ميلاده الحقيقي، وما أكثر من لا يعرف يوم ميلاده الحقيقي من أبناء هذا الشعب، خاصة من جيلنا، ومن الأجيال التي تكبرنا.
لم أنزعج بسبب عدم تحديد تاريخ ميلادي، إلا مرة واحدة، وكنت ساعتها طفلا صغيرا، وذلك عندما دعاني صديق، وهو ابن والي الولاية حينها، لحضور حفل أعده بمناسبة ذكرى يوم ميلاده. حينها فكرت في أن أُزَوِّر أنا يوم عيد ميلاد خاص بي، أحتفل بذكراه كل عام، وأدعو له ابن الوالي، ولكن سرعان ما عدلت عن تلك الفكرة السخيفة، ولم أحاول بعد ذلك أن أزَوِّر يوم ميلاد خاص بي غير يوم 31 ديسمبر الذي ولدت فيه غالبية الشعب الموريتاني، حسب ما تقول الوثائق الرسمية.
والحقيقة أن تحديد تاريخ للميلاد لم يعد بالنسبة لي يعني الشيء الكثير، فمادام لا يمكنني أن أحدد ما تبقى من عمري، فما أهمية أن أحدد ما مضى من هذا العمر؟
وبعد أن كبرت، وجدت أن اختلاف الأهل حول تاريخ ميلادي، قد ربطني أكثر ببلدي، وعزز من انتمائي له، فالبلد حاله كحالي قد اختلف مواطنوه على تحديد تاريخ موحد لميلاده، اختلافا كبيرا، وتفرقوا في ذلك طرائق قددا.
فمنهم من يقول بأن موريتانيا ولدت في يوم استقلالها، أي في يوم 28 من نوفمبر 1960، ومنهم من يدعي بأنها ولدت مع أول انقلاب عسكري، أي في 10 يوليو 1978، في حين يؤكد البعض أنها قد تم اغتيالها في ذلك اليوم، عن عمر يناهز 18 سنة. وهناك من يعتبر بأن تاريخ الميلاد الحقيقي هو يوم 12ـ 12 ـ 84، وهناك من يجزم  بأنه كان يوم 3 أغسطس 2005، في حين ترى طائفة أخرى بأن ميلاد موريتانيا، كان في صبيحة يوم الأربعاء، الموافق 6 أغسطس 2008. أما شباب "الفيس بوك" فيفندون كل تلك الروايات والمزاعم، ويقولون بأن موريتانيا لم تولد بعد، وبأنهم يبذلون قصارى جهدهم، على الانترنت طبعا، لتهيئة الظروف المناسبة التي يجب أن تسبق عملية ميلادها المنتظرة منذ أمد بعيد.
وإذا كان البعض يعتبر بأن موريتانيا لم تولد بعد، نظرا لغياب الانجازات، فأنا أيضا، ومن هذه الزاوية، يمكنني القول بأنني أتشابه مع بلدي، وبأني لم أولد بعد، لأني لم أنجز حتى الآن شيئا مذكورا، رغم أني حي أرزق منذ أواخر عقد الستينيات.
وغياب الانجاز في حياتي، هو الذي دفعني لأن أتعاقد للمرة الثانية مع كاتب مغمور، ليكتب لي سيرة حياتي هذه، والتي  سأحاول أن أثبت لكم من خلالها، وعلى صفحات أوراقها، بأني ولدتُ منذ نهاية الستينات، بعد أن فشلت في إثبات ذلك على صفحات الواقع الشاحب والبائس دائما وأبدا.
ويؤسفني أن أقول لكم في بداية هذه السيرة، بأن فكرة كتابتها إنما كانت نتيجة لمؤامرة ولخدعة كبرى، دبرتها أنا وكاتبها، من أجل أن نعلن عن ميلادنا بهذه الطريقة العجيبة، بعد أن فشلنا في إعلان ميلادنا بأي طريقة أخرى.
فنحن نعتقد بأن نشر هذه اليوميات، سيمنحنا الفرصة لأن نولد من جديد، وسيكون بإمكاني بعد نشرها، أن أدعي زورا بأني رجل عظيم، فالعظماء وحدهم هم الذين تُكتب سيرهم. وسيكون بإمكان كاتبها أن يدعي كذلك بأنه رجل عظيم، فمؤلفو الكتب هم عادة رجال عظام، رغم أن هذا الكاتب، عاش ما مضى من حياته، متنقلا بين هوامش المكان وفواصل الزمن، وقد يعيش ما تبقى من عمره وهو كذلك.
ولأنه لا يزال في قلوبنا بقية أخلاق، فقد اتفقتُ أنا والكاتب، أن نشعركم في بداية هذه اليوميات بما نحيك من مؤامرات بحثا عن شهرة شاردة، تفلتت من أمامنا كثيرا، وذلك حتى تكونوا على بينة من أمركم، والخيار في النهاية لكم، فإما أن تتوقفوا من الآن عن قراءة حلقات هذه الرواية، ولن تخسروا شيئا، إذا ما توقفتم، وإما أن تواصلوا قراءتها، وقد لا تكسبوا شيئا كثيرا، إذا ما واصلتم قراءتها.
وإذا ما قررتم مواصلة قراءة هذه اليوميات، وهذا ما نتمناه حقا، فسيكون من اللازم أن أحدثكم في بدايتها، عن نشوب خلاف حاد، بيني وبين الكاتب، كاد أن يؤجل هذه الحلقة عن موعدها. لقد دار بيننا نقاش ساخن حول البداية المناسبة لهذه الرواية، فالكاتب ولأنه من طينة قديمة، ولا يملك الجرأة للخروج من القوالب البالية، كان يريد لهذه اليوميات بداية تقليدية. وكان يحتج بأن الشعراء يبدؤون سيرهم، بالكشف عن مواهبهم  الشعرية، والتي يقولون دائما بأنها كانت قد ظهرت في وقت مبكر من طفولتهم، والممثلون يبدؤونها بالادعاء بأنهم كانوا يقلدون الكبار، ويحاكونهم، وأنهم كانوا يمثلون وهم صغار، والرسامون يقولون في بداية سيرهم بأنهم كانوا يرسمون من قبل أن يتعلموا النطق، والقادة يقولون في مطلعها بأنهم كانوا يقودون أطفال الحي، ولذلك فإنه على الأشخاص العاديين جدا، من أمثالي، أن يقولوا في بداية سيرهم بأنهم كانوا عاديين في طفولتهم، وأن بوادر "الشخصية العادية" قد ظهرت ملامحها، وبشكل مبكر، في المراحل الأولى من طفولتهم العادية.
وكان من الواجب عليَّ ـ حسب النظرية البائسة لكاتب هذه السيرة ـ أن أفتش عن كل الأشياء العادية في طفولتي، وأن أسردها في الحلقة الأولى من هذه السيرة، وذلك لكي يكون بإمكان كل من يقرأ ذكريات طفولتي، أن يستنتج ـ وبلا مشقة ـ بأني سأصبح شخصا عاديا جدا.
أما أنا فكنتُ على العكس من الكاتب، وكنتُ أرى بأنه من الأفضل لنا، أن نصدم القارئ، وأن نتعامل معه بشكل عنيف، وأن نقدم له في بداية هذه الرواية طفولة غير عادية، ثم نختمها له، بشخصية عادية جدا. وكنت اعتقد ـ ولا زلت ـ بأنه كل ما كانت صدمة القارئ أكبر، وخيبته أفظع،  فإن ذلك إما أن يؤدي إلى نجاح هذا العمل نجاحا باهرا، أو إلى فشله فشلا ذريعا، وكلا الأمرين بالنسبة لي يعتبر إنجازا عظيما.
فأنا من الذين يخافون أن تضيع أعمارهم، كل أعمارهم، وهم يتنقلون بشكل عبثي من نجاح صغير إلى فشل صغير، ثم نجاح صغير، ثم فشل صغير، وهكذا...فلا النجاحات الصغيرة ستكون قادرة على أن تخرجني من زحام القاع، وأن تصعد بي إلى القمة، ولا الانتكاسات الصغيرة ستكون كافية لأن تجعلني أتذمر من العيش وسط زحام الفاشلين الذين تحجب عنهم نجاحاتهم الصغيرة رؤية القاع الذي يهوون إليه، ولذلك فأنا أميل دائما إلى المخاطرة التي لابد أن يعقبها نجاح كبير، أو فشل ذريع. أما الكاتب فهو أقل طموحا مني، وأقل مخاطرة، وهو يريد أن يكتب هذه الرواية بطريقة هادئة جدا، وتقليدية جدا، تجعلها إن فشلت تفشل فشلا عاديا، وإن نجحت تنجح نجاحا عاديا. إنه يحلم بقليل من النجاح، مخافة أن يقع في فشل كبير.   
ولحسم الخلاف، حول البداية المناسبة لهذه السيرة، طلبت من الكاتب ـ وبطريقة مفاجئة ـ أن يحدد لي ما هي الأشياء العادية، التي إذا ظهرت بشكل مبكر في حياة طفل ما، كان بالإمكان القول بأن ذلك الطفل سيصبح في المستقبل شخصا عاديا، وقلت له بأنه إن لم يستطع أن يحدد لي تلك الأشياء العادية، فإني لن أكون ملزما بالتقيد بنظريته البالية في كتابة السير.
وإذا ما كان الكاتب أمينا معكم في نقل ما يدور بيننا من نقاشات، فسيقول لكم بأنه لم يتمكن من تحديد الأشياء العادية، التي يمكن من خلالها التنبؤ بأن الطفل الذي يتصف بها سيصبح شخصا عاديا.
ولأنه فشل في ذلك، كما فشل من قبل في أشياء كثيرة أخرى، فقد وجدت أن ذلك يعطيني الحق الكامل في أن أسرد ذكريات طفولتي بالطريقة التي أشاء، مع التركيز على الذكريات الأكثر غرابة، والتي لا توحي بأن صاحبها سينتهي به المطاف، لأن يصبح شخصية عادية جدا، كما حدث معي.
ولعل من أغرب ذكرياتي، هواية عجيبة، كان يشاركني فيها طفل آخر، وكانت تلك الهواية تدفعنا لأن ننقب عن العقارب بجنب أو بداخل جذوع الشجر الساقط، أو تحت ما جف من فضلات البقر. وكنا نجمع عددا منها، ونضعه على رؤوسنا وصدورنا العارية، ثم نتركه يتجول بحرية على أجسادنا، وكنا ندخل على بعض الأسر، ونحن في تلك الحالة، فنخيف الجميع: الأطفال، والنساء، وحتى الرجال الكبار.
وظلت علاقتي بالعقارب طيبة جدا، ولسنوات عديدة، إلى أن أخل عقرب طائش بالاتفاق غير المعلن بيننا، فلسعني لسعة قوية تألمت منها كثيرا، وأصبحت منذ ذلك الوقت أكره العقارب كرها شديدا.
أما علاقتي بالأفاعي والحيات، فلم تكن في أي يوم من الأيام علاقة حسنة، وكنت أفرح كثيرا عندما أتمكن من قتل حية أو أفعى، خاصة عندما يتقاعس بعض الرجال الكبار، ممن يخافون خوفا شديدا من الأفاعي، ويتركون لي دور البطولة في عملية قتل الأفعى.
وأتذكر بعدما أصبحت شابا، أني كنت في ليلة مظلمة، أتوسط مجلسا من مجالس شباب الحي، وكان يحيط بي عدد كبير من شباب الحي، وكان من بينهم صديق لي، كثيرا ما كنت أخيفه ببعض الحيل والمكائد. كان صديقي ذلك، يحاول في تلك الليلة، أن يخيفني من خلال حبل قصير أدخله خلسة تحت ثيابي، وأراد بذلك التصرف أن يجعلني أتوهم بأن الحبل القصير لم يكن حبلا، وإنما كان أفعى تزحف فوق جسدي.
والغريب حقا، أن حية حقيقية جاءت تسعى في ذلك الوقت بالذات، لمؤازرة صديقي، وتجاوزت كل المحيطين بي من شباب الحي، واتجهت رأسا إلى قدمي الأيسر فجعلت منه  نقطة انطلاق في رحلة صعودها على رجلي اليسرى. في البداية تجاهلتُ الأمر كله لاعتقادي بأن الأفعى لم تكن إلا مجرد حبل يحركه صديقي، وأن أفضل طريقة للتعامل مع صديقي ومع حبله السخيف، هي أن أستمر في تجاهل ما يدور فوق رجلي اليسرى من تحركات مشبوهة.
عندما وصلت الأفعى إلى أعلى الرجل، بدأت أشعر بأن ما يتحرك على رجلي، قد لا يكون حبلا يحركه صديق، فلا يوجد حبل بتلك البرودة، ولا بذلك السطح الأملس الناعم الذي كنت أحس به.
وما كان مني، بعد أن تأكدت بأن الحبل قد تحول إلى أفعى حقيقية، إلا أن أدخلت يدي اليمنى بسرعة داخل رجل سروالي الواسعة، وقبضت على الأفعى، ورميتها من فوق رؤوس المحيطين بي، ثم أخذت شمعة وعصا، واتجهت إلى حيث سقطت الأفعى، فوجهت لها ضربات قوية بالعصا حتى قتلتها.
بعد ذلك أخبرت الجميع بأن الأفعى المقتولة، كانت تزحف منذ لحظات قليلة على رجلي اليسرى.
صفقوا من فضلكم، فهذه لحظة مناسبة للتصفيق.
صدقني البعض، وكذبني البعض الآخر. ولقد اضطر الفريق المكذب، أن يصدقني  في صباح اليوم التالي، بعد أن انتفخ  خط مسار الأفعى انتفاخا شديدا، محددا بذلك، وبدقة متناهية، الطريق الذي سلكته الأفعى على رجلي اليسرى.
ومن هواياتي الغريبة أيضا، أذكر أني كنت أذهب وحيدا إلى مقبرة المدينة، في أوقات الذروة المحتملة لظهور عفاريت الجن، وذلك لكي أحظي برؤية عفريت جن، من العفاريت الذين كانوا يظهرون هناك، في مثل تلك الأوقات، حسب روايات الأهالي.
ولقد دفعتني للبحث عن الجان، قصص غريبة، كانت تتكرر على مسمعي كثيرا، أبطالها رجال وشباب، بعضهم أعرفه بشكل مباشر، والبعض الآخر لا أعرفه.
كانت القصص تتشابه كثيرا، إلا أنها كانت مع ذلك مثيرة كلها، وكان أغلبها يتحدث عن رجل ضل طريقه، في ليلة مقمرة، فسمع نباح كلب، أو نهيق حمار، أو صياح ديك، أو أبصر نارا، عن بعد،  فاتجه إليها، فوجدا خياما مضروبة، أمامها قطعان حيوان: إبل وأبقار وأغنام، وحمير وكلاب، وتتوسطها خيمة تحلقت أمامها فتيات كن يضربن دُفاً بمهارة عجيبة، ويغنين بصوت ساحر.
وهذه المقدمة توجد تقريبا في كل تلك القصص، التي كانت تُحكَى كثيرا في فترة طفولتي، وإذا كان راوي القصة شابا، ادعي بأنه اتجه إلى الخيمة التي تتحلق أمامها فتيات الحي، وإذا كان رجلا كبيرا اتجه إلى إحدى الخيام الأخرى.
ويتفق الرواة، في نهاية كل هذه القصص، على أن الخيام وقطعان الحيوان والنيران والدف والفتيات وكل مظاهر الحياة الجميلة المحيطة بالخيام، من خضرة تكسو الأرض، ومن وديان تتخلل تلك الخضرة، أن كل ذلك تحول في لحظة، وبشكل مفاجئ، إلى أرض قاحلة جرداء، لا  يرضى بها ضب الكدى، ولا توجد فيها إلا مغارات وجحور، حفرتها بعض الحيوانات المفترسة.
كنت أندهش كثيرا من ذلك التحول الهائل، الذي يحدث في طرفة عين، وكان يبهرني الرواة وهم يتحدثون عن عملية التحول تلك، والتي كانت تحدث دائما، وفي كل تلك القصص، في لحظتين اثنتين: فإذا كان الراوي حاذقا فطنا، فإنه يفطن في وقت مبكر إلى أن أصابع أيادي سكان الحي، لا يتجاوز عددها أربعة أصابع،  فيعلم بأنه في حي من أحياء الجن، فيسمي، فتختفي كل مظاهر الحياة من حوله، وتتحول إلى مغارات وجحور. أما إذا كان غير فطن، فإن عملية التحول تتأخر قليلا، في انتظار اللحظة التي سيفتح فيها الراوي إحدى عينيه، بعد نوم طويل أعقب ليلة رائعة، في حي من أحياء الجن.
أحد أصدقائي، جاءنا في إحدى الليالي، بقصة أكثر غرابة، وتشكل ثورة في أنماط  قصص الجن التي كانت تروى لنا في ذلك الوقت. صديقي أقسم بأنه شاهد ثلاثة قطط على جبل من جبال مدينة لعيون، وكان أحد القطط الثلاثة، يعزف على قيثارة، والثاني يغني، أما الثالث فكان يرقص. صديقي هذا، وحتى بعد أن كبرنا، لا يزال يصر على أن قصة القطط الثلاثة، ليست من نسج خياله، وإنما هي قصة حقيقية، وأنه لن يقبل من أي كان أن يشكك في صحتها.
أما أنا فلم يحدث أن قابلت جنيا واحدا في حياتي، وذلك رغم بحثي الدؤوب عن الجان في كل الأمكنة المحتملة، وكنتُ في بعض الأحيان أشاهد خلال عملية البحث أشجارا عن بعد، وكان يخيل إليَّ أنها ربما تكون جنيا ينتصب في ذلك المكان، فأفرح لذلك بقرب تحقق أمنيتي بمقابلة جني، ولكني كنتُ أصدم كلما اقتربت من الجني المحتمل، والذي لم يكن في حقيقته سوى شجرة صغيرة اتخذت أغصانها شكلا معينا. والمؤكد أني لو لم اقترب من تلك الأشجار، لكان بإمكاني أن ادعي بأني شاهدت ـ وفي أكثر من مرة ـ  بعض الجان، ينتصبون في أمكنة متفرقة من ضواحي مدينة لعيون.

الحلقة (2)

لا زلت أتذكر ذلك اليوم الذي رافقت فيه جدتي، رحمها الله تعالى، متوجها إلى معلم اللوح الجديد، والذي تقرر أن أتعلم عليه، بدلا من مواصلة الدراسة عند معلمة عجوز كانت لها طريقة رائعة في التدريس، إلا أن مشكلتها عند الآباء، أنها كانت لا تضرب الأطفال إلا قليلا، واعتقد بأن ذلك كان هو السبب الوحيد لتحويلي إلى المحظرة الجديدة.
كان منزل معلمنا الجديد يتكون من عريش واحد، يقع في أقصى جنوب المدينة، وكان من عادة تلاميذ المحظرة أن يستيقظوا في الثلث الأخير من الليل، ويتوجهوا بعد ذلك فرادى، ومثنى، وفي بعض الأحيان في جماعات صغيرة، إلى مكان الدرس.
في الثلث الأخير من كل ليلة، كانت تحدث منافسة شديدة بين التلاميذ، فكان كل تلميذ يسعى لأن يكون هو القادم الأول إلى المحظرة، لأن من يأتي أولا، كان يكتب أولا، وبالتالي فقد كان يغادر مكان الدرس أولا.
ولأن التلاميذ كانوا يأتون للمحظرة من قبل استيقاظ شيخها، فقد ابتدعوا طريقة ذكية يضبطون بها تسلسل وترتيب قدومهم، فكان أول القادمين من التلاميذ يتجه مباشرة إلى حيث ينام الشيخ، ليتمدد بجواره، دون أن يترك فراغا بينه مع الشيخ، مخافة أن يستغله أحد التلاميذ المتحايلين، وعندما يأتي تلميذ ثان فإنه يتمدد بجنب التلميذ الأول، ودون أن يترك هو بدوره أي فراغ، وهكذا. وعند استيقاظ الشيخ لصلاة الفجر، فإنه يقوم بإيقاظ التلاميذ، معلنا بذلك بداية يوم دراسي جديد، وأثناء عملية الإيقاظ تلك، يقوم الشيخ بضبط ترتيب قدوم التلاميذ، حسب ترتيبهم في الصف الذي يبدأ بالتلميذ الأقرب إلى فراش نوم الشيخ، أي بأول تلميذ وصل إلى المحظرة، وينتهي بآخر تلميذ يصل إليها، والذي يكون هو الأبعد من مكان نوم الشيخ.
هذا ما سمعته من التلاميذ الذين كانوا يشاركون في تلك المنافسة، أما أنا فلم أكن استيقظ إلا متأخرا، وكنت أجد صعوبة شديدة في الذهاب إلى اللوح من قبل تناول الفطور، ولذلك فلم أكن أصل إلى المحظرة، إلا بعد طلوع الشمس، وبعد أن يكون أغلب التلاميذ قد أوشك على أن ينهي درسه، وبدأ يفكر في العودة إلى المنزل.
وبسبب وصولي المتأخر للمحظرة، فقد تعودت أن يستقبلني شيخها مع طلوع شمس كل يوم دراسي، بعقوبة ثابتة، لا تتغير أبدا، فيها توبيخ، وضرب، وحبس. ولم يستطع المعلم رغم تكرار عقوبته تلك، أن يفرض عليَّ المجيء إلى المحظرة قبل طلوع الشمس، ولو ليوم واحد.
وبمرور الأيام، تحولت العقوبة الصباحية التي كان يستقبلني بها المعلم، إلى شيء عادي في حياتي. وكان أول شيء أقوم به بعد وصولي إلى المحظرة، هو أن أمد ذراعي الأيمن للمعلم ليقوم بقرصه ثلاث مرات بطريقة مؤلمة ومزعجة جدا، وكان قرص الذراع، يمثل الجزء الأول من العقوبة، في حين كانت تمثل عملية الحبس، الجزء الأخير منها.
ولقد تعود معلمنا أن يذهب في ضحى كل يوم، بعد نهاية الدرس، إلى سوق المدينة، وكان يتركني في العريش مقيدا بسلاسل من حديد، رفقة تلميذ آخر، لم يكن سجنه بسبب التأخر في الحضور، وإنما كان بسبب صعوبة في النطق، كان يعاني منها في صغره.
لم أفكر أنا ورفيقي، في أن نستغل فرصة غياب الشيخ، وأن نفك عنا القيود أثناء غيابه، وأن نعيدها قبل عودته بدقائق، وقد كان توقيت عودته معلوم لدينا.
لم نفكر في ذلك، إلا بعد أن زارنا في محبسنا طفل أكبر منا سنا، معروف بالشغب والطيش، وكانت له مشاكل سابقة مع شيخ المحظرة، انتهت بطرده من المحظرة.
حثنا الطفل الزائر على الثورة ضد معلمنا، وأبدى لنا استعداده الكامل للوقوف معنا، ودعمنا بكل ما يملك، حتى تنجح ثورتنا، وتُكلل بطردنا من المحظرة كما طُرد هو. ولقد نجح الطفل الزائر ـ وبسرعة كبيرة ـ في إقناعنا بضرورة الثورة على شيخ المحظرة، وعلى سلاسله الحديدية التي كان يقيدنا بها.
في البداية كانت مطالب وشعارات ثورتنا متواضعة جدا، ولكنها سرعان ما أخذت تتطور وتتصاعد بشكل مثير، كما هو حال الثورات العربية.
لم نكن نريد ـ وقت إعلاننا للثورة ـ إلا أن نتحرر من السلاسل الحديدية، لفترة مؤقتة، قبل أن نعود إليها عندما يقترب موعد رجوع الشيخ من سوق المدينة.
ولكن، وبعد تحررنا من القيود، قررنا أن نرفع شعار "يوم بلا تدريس"، وكانت وسيلتنا لفرض ذلك، هي أن نأخذ كل ما في صندوق شيخنا من مادة الصمغ، التي لابد منها لتهيئة مداد الدواة، هذا فضلا عن أخذ الموجود من السكر، والذي يستخدم كبديل، في حالة عدم توفر مادة الصمغ العربي.
فتحنا الصندوق، بطرقنا الخاصة، وأخذنا الموجود من المادتين، وكنا نفكر في رمي ما نهبنا من سكر وصمغ، بعيدا عن مكان المحظرة، إلا أن رؤية قطع السكر المغرية لنا كأطفال، جعلتنا نعدل الخطة قليلا. أخذنا نضع قطع السكر الكبيرة في الماء، لفترة وجيزة، ثم نبدأ بعد ذلك في مصها حتى تذوب تماما. وكانت تلك هي أسهل وأسرع طريقة لابتلاع أكبر كمية من السكر، في أقل وقت، ولكنها لم تكن تسلم من المخاطر، فهي كانت تسبب دائما لممارسيها انتفاخا شديدا في البطن، وهو ما حصل معنا، أنا ورفيقي، في ذلك اليوم العصيب، من أيام طفولتنا.
بعد ذلك تطورت المطالب وأصبح المطلب الجديد: "التلميذان يريدان تسميم الشيخ وقتله".
في الأيام التي سبقت ثورتنا الحمقاء، تم قتل أفعى في المحظرة، وتم رميها ميتة فوق شجرة مجاورة. ذهبنا لتلك الشجرة بحثا عن الأفعى الميتة، وكنا نريد أن نضعها في القربة التي يشرب منها الشيخ، لتسميم مائها.
ومن لطف الله بنا وبالشيخ، أننا لم نعثر على الأفعى المقتولة، لذلك فقد قررنا ـ كبديل عن السم ـ أن نتبول في القربة، وأن نجمع بعض الأوساخ والقاذورات، وأن نخلطها بماء القربة، وبعد أن أنهينا عملية الخلط، عدنا لتقييد أرجلنا بالسلاسل الحديدية، وفقا لما جاء في بنود الخطة التي حددها لنا الطفل الزائر. كانت الخطة تقول بأنه علينا أن ننتظر عودة الشيخ ليفك قيودنا، وليأذن لنا بالانصراف، فذلك سيبعد عنا أي شبهة، وسيكون بإمكاننا أن نقول بأن ما حدث، قد حدث بعد مغادرتنا للمحظرة.
عاد المعلم، واتجه كعادته إلى القربة، وصب منها ماءً باردا، كان يريد أن يطفئ به ظمأه في يوم صيفي قائظ، من أيام مدينة لعيون المعروفة بحرارتها الفظيعة في فترة الصيف.
وما كاد المعلم أن يبتلع جرعة من الماء، حتى قال له شريكي في الثورة بأن ماء القربة غير صالح للشرب، وبأني أنا المسؤول عن ذلك. لقد وقعنا في ذلك اليوم في ورطة كبيرة، وكان سبب وقوعنا فيها هو أن شريكي قد خُيِّل إليه، وهو المعروف في شلتنا بجبنه، بأن الشيخ قد فطن إلى أن الماء غير طبيعي.
فما كان مني، بعد اعتراف شريكي، إلا أن حدثت الشيخ بتفاصيل ما حدث بعده، بما في ذلك عملية البحث عن السم، وقلت له بأن كل ذلك قد قام به رفيقي، وأنه كان بعون من التلميذ المطرود، وبأني كنتُ قد نهيتهما عن فعل ذلك، ولكنهما لم يستجيبا لي، بل إنهما ضرباني ضربا مبرحا، ثم أخذتُ أبكي بكاءً شديدا، ولا أدري إن كان ذلك البكاء كان من أجل إقناع الشيخ بحجتي، أم أنه كان بكاءً استباقيا لعقوبة قادمة لا محالة، كنت على ثقة كاملة بأنها لن تكون عقوبة عادية.
لم يصدقني الشيخ، الذي غضب في ذلك اليوم غضبا شديدا، ولم ينتظرني حتى أكمل، بل انهال عليَّ وعلى رفيقي، وأخذ يضربنا ضربا مبرحا، قاسيا، مؤلما، ولقد استخدم في ذلك اليوم كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، فكان يستخدم  في عملية الضرب كل ما تصل إليه يداه من عصي وسياط ومن أواني منزلية.
منذ تلك الحادثة، بدأت أفكر في ترك الدراسة في المحظرة، وإبدالها بالدراسة في المدرسة، والتي لابد وأن التعذيب فيها سيكون أخف من التعذيب في المحظرة.
ومع الافتتاح في ذلك العام، قرر الأهل تسجيلي في السنة الأولى من الابتدائية، وكان ذلك في شهر أكتوبر من العام 1973 ميلادي. ولكن المفاجأة التي صدمتني كثيرا، هي أني تعرضت في المدرسة، ابتداءً من سنتي الثانية، إلى أنماط وأساليب من الضرب والتعذيب، جعلتني أحن كثيرا إلى معلم اللوح، وإلى أساليبه البدائية في التعذيب.
تمكنتُ في سنتي الأولى بالمدرسة، ورغم صغر سني، من الحصول على الرقم الأول في امتحانات الفصول الثلاثة، وفي هذه السنة فإني لم أضرب إلا قليلا، وكان معلمنا في ذلك العام  يمدحني ويفتخر بي كثيرا، وكان كثيرا ما يطلب من التلاميذ، أن يصفقوا لي كلما أجبت إجابة صحيحة، وكثيرا ما كنتُ أتقدم بإجابات صحيحة، وذلك رغم أن أول يوم لي في المدرسة لم يكن مشجعا، ففي ذلك اليوم تقدمتُ بإجابة جعلتني محل سخرية واستهزاء تلاميذ القسم لفترة من الزمن.
لقد كان الكل فرحا بالافتتاح الدراسي، وقد كنتُ كغيري فرحا بالذهاب إلى المدرسة، ففي يوم الافتتاح، استيقظتُ مبكرا على غير عادتي، وأكملتُ كل الترتيبات اللازمة للذهاب إلى المدرسة، ومن قبل ذلك كنتُ أول من سُجِل اسمه في لائحة سنة أولى ابتدائي في مدرستنا في ذلك العام، ولم تسبقني في اللائحة إلا تلميذة واحدة كانت هي الراسبة الوحيدة من القسم الذي سبقنا.
لم أعد أتذكر تفاصيل اللحظات الأولى لدخولي في حجرة الدرس، وربما يكون ذلك بسبب ما أصابني من انبهار واندهاش في ذلك اليوم، ولكني في المقابل لازلت أتذكر جيدا تلك اللحظة التي بدأ فيها المعلم ينادي بأسمائنا.
ـ تاتا جالو ..
وقفت تاتا جالو ثم أجابت: حاضرةٌ يا سيدي
ثم نادى المعلم باسمي، فما كان مني إلا أن وقفتُ بنفس الطريقة التي وقفت بها تاتا جالو، وأجبتُ كما أجابت:
ـ حاضرةٌ يا سيدي
ولا أدري إن كانت الفضيحة التي أوقعتني فيها تلك الإجابة في أول يوم لي بالمدرسة هي التي ستجعلني فيما بعد أرفض أن أقلد الآخرين بشكل أعمى، ومهما كانت درجة ثقتي بتصرفاتهم وبأفعالهم. المهم أن جوابي في ذلك اليوم قد حول مسار الحصة، وقد فرض على  المعلم أن يخصص أول درس له ليشرح لنا كيف نجيب إن نودي بأسمائنا، ومتى نقول حاضرٌ ومتى نقول حاضرةٌ، ومتى نقول عن تلميذ أو تلميذة ما بأنه غائب أو أنها غائبة.
وفي الساعة العاشرة من أول يوم دق الجرس معلنا عن بدء الاستراحة الصباحية، فخرجت مع من خرج، ولكني لم أعد إلى الفصل مع الذين عادوا، بعد نهاية الاستراحة.
وفي منتصف النهار، وبعد نهاية الفترة الصباحية زارني بعض تلاميذ الفصل وأخبروني بأن المعلم قد سأل عني بعد الاستراحة، وأنهم قد قالوا له بأني غائب وبدون تاء مربوطة، مما يعني بأن زملائي في الصف الأول ابتدائي قد استوعبوا ـ وبشكل جيد ـ درسهم الأول في المدرسة.
وأخبرني زملائي، وربما يكون هذا هو ما جعلهم يزورنني في ذلك اليوم، بأن المعلم قد قال لهم بأنه سيعاقبني عقابا شديدا على غيابي، الشيء الذي جعل يومي الذي بدأ بفرحة عارمة ينتهي بحزن كئيب.
وباستثناء تلك الحادثة فقد خلت سنتي الأولى في المدرسة من أي مشاكل تذكر. أما في السنة الثانية فقد كان الأمر مختلفا، فبعد مرور شهر من الدراسة، حُوِّل إلينا مدير جديد لمدرستنا الابتدائية. ولقد استطاع المدير الجديد، وفي أيامه الأولى، أن يفرض نظاما صارما في المدرسة، فلم يكن بإمكان أي معلم أن يتأخر ولو لدقيقة واحدة، ولم يكن بإمكان أي تلميذ أن يأتي للمدرسة من قبل أن ينظف وجهه، ويرتب شعره، ويعطر ثوبه، وكان استخدام الماء والصابون، في أيام الشتاء عملا شاقا لم يتعود عليه التلاميذ، ولكن مع المدير الجديد، فلم يكن هناك مفر من القيام بذلك العام الشاق، صباح كل يوم دراسي، ومن قبل الذهاب إلى المدرسة.
كان المدير الجديد فظا، قاسيا، وخبيرا في أساليب التعذيب، وكان يبتكر في كل يوم تقنيات تعذيب جديدة، وأنماط لم تكن معروفة لدينا من قبل. ولسوء حظنا نحن تلاميذ السنة الثانية، فقد قرر المدير الجديد أن يتفرغ لتدريسنا دون غيرنا.
دخل علينا المعلم الجديد ذات صباح مشهود، ليخبرنا بأنه سيدرسنا بدلا من معلمنا القديم، وقد جاءنا في ذلك اليوم وهو يحمل معه سوطا مخيفا، وعصا غليظة، وسلاسل من حديد، وأشياء أخرى سيكشف عنها في وقت لاحق.
وضع المعلم الجديد السوط والعصا وسلاسل الحديد فوق الطاولة الخاصة به، ثم أشار إلينا بالجلوس بعد أن وقفنا للحظات احتراما وتقديرا له.
خيم على الفصل صمت رهيب بعد جلوسنا، مرت لحظات بدت وكأنها دهر، لحظات ظل فيها المعلم الجديد واقفا أمام مكتبه دون أن ينطق ببنت شفة.
كان أول شيء نطق به معلمنا الجديد، هو أنه طرح علينا سؤالا فرحنا كثيرا بطرحه، لأنه من جهة كان قد قطع ذلك الصمت الرهيب الذي كان يخيم على القاعة، ولأنه من جهة أخرى كان سؤالا سهلا يمكن لكل واحد منا أن يجيب عليه.
ـ أيكم يعرف اسمي؟
رفعنا جميعا أيادينا، وكان كل واحد منا يتمنى أن يختاره المعلم الجديد للإجابة على هذا السؤال البسيط.
لم يفلح التلاميذ، الذين تم اختيارهم، في تقديم الإجابة التي كان يريدها معلمنا الجديد، وقد تبين من خلال إجابات التلاميذ المتنوعة بأن المدير، والمعلم، وسيدي، وحتى الاسم الشخصي لمعلمنا الجديد لم تكن هي الإجابة المطلوبة.
فما هو اسم معلمنا الجديد؟
ظل السؤال مطروحا، ولم يعد هناك من يرفع يده، طلبا للإجابة، ولأنه لم يعد هناك من يرفع يده، فقد قررت أنا أن أرفع يدي من جديد، فكم هو رائع أن أجيب على سؤال فشل كل التلاميذ في الإجابة عليه، خصوصا إذا كان صاحب السؤال معلما صارما وقاسيا يسعى المعلمون من قبل التلاميذ لكسب وده. ومن يدري فربما تكون إجابتي سببا لأن يرضى عني معلمنا الجديد رضا لا يغضب بعده أبدا؟
أذن لي المعلم بالجواب.
كان من سوء حظي، أني كنت قد سمعت قبل ذلك بأيام، ومن قبل أن يحول المدير الجديد لمدرستنا، من ينادي معلمنا الجديد باسمه مصغرا، فاعتقدت بأن ذلك الاسم ربما يكون هو الاسم الذي يسأل عنه معلمنا الجديد.
ـ سيدي، اسمك أَعْبَيدْ اللهِ.
لم يطلب المعلم الجديد من التلاميذ أن يصفقوا لي، كما كان معلمنا السابق يطلب منهم ذلك، ورغم ذلك فإني لم أشك في صحة إجابتي، فربما تكون لمعلمنا الجديد طريقته الخاصة في تشجيع أصحاب الإجابات الصحيحة.
اكتفى المعلم بأن طلب مني أن أقترب منه، وعندما أصبحت بجنبه، وضع يده على منكبي، بحنان مريب، ثم قال لي بصوت هادئ ووقور:
ـ يا شقي، أنا اسمي المشكلة، وستعرف الآن أنت وزملاؤك في الفصل، بأني مشكلة حقيقية، ابتليتم بها في عامكم هذا.
وما كاد معلمنا المشكلة ينهي كلمته الأخيرة، حتى أدخل يده في جيب دراعته، وأخرج حزمة من الإبر الغليظة، اختار واحدة منها ووضعها على الطاولة، بجنب العصا والسوط والسلسلة، ثم أعاد بقية الإبر إلى جيبه.
بدأت أحس بأن معلمنا الجديد يفكر في شيء آخر غير تشجيعي.
ـ يا بني اطمئن فلن نستخدم معك سلسلة الحديد في هذا اليوم.
صمت قليلا، ثم واصل بصوته الذي لم يعد هادئا ولا وقورا:
ـ سنخز لسانك الطويل ثلاث مرات بهذه الإبرة، وسنضربك على كعب كل قدم وعلى عرقوبه ثلاث مرات بهذه العصا، وسنلسعك على الظهر بهذا السوط ثلاث مرات أيضا، أما السلسلة، وكما قلت لك سابقا، فلن نستخدمها إطلاقا في هذا اليوم.
لم يلتزم معلمنا المشكلة بنص العقوبة، فقد كان أول شيء فعله هو أنه صفعني على الوجه صفعة قوية، لم أعرف لها مثيلا، لا من قبل ولا من بعد، رغم أني استقبلت في طفولتي عددا لا بأس به من الصفعات. وبعد تلك الصفعة، بدأ معلمنا الجديد بتنفيذ ثلاثياته المنصوص عليها في العقوبة، وهنا أيضا لم يلتزم حرفيا بنص العقوبة، فقد تحولت لسعات السوط إلى أربع بدلا من ثلاث.
وبعد مرور فترة من الزمن على تنفيذ تلك العقوبة، حدث في يوم من الأيام أن وصلت إلى المدرسة متأخرا بدقيقة واحدة عن الثامنة صباحا، وكانت تلك واحدة من الجرائم الكبرى عند معلمنا المشكلة. وفي ذلك اليوم، ولأول مرة في حياتي، كنت ألف معصمي الأيسر بساعة جديدة، حصلت عليها، بعد جهد جهيد، وكان من المفترض أن يلتف حولي تلاميذ الفصل، في وقت الاستراحة، كما تلتف الساعة على معصمي، ليسألونني عن ساعتي الجديدة، وعن سعرها، وعن كيفية معرفة وقتها، وعن أسئلة أخرى كنت في شوق لسماعها من زملائي في الفصل، ولكن المعلم المشكلة ضيع عليَّ تلك الفرصة النادرة التي قد لا تتكرر أبدا.
توجهت إلى باب الفصل، وطلبت من المعلم أن يأذن لي بالدخول.
لم يكتف المعلم بأن أذن لي بالدخول، بل طلب من التلاميذ أن يقفوا احتراما لي، وكان ذلك يعني، في قاموس معلمنا المشكلة، بأن العقوبة هذه المرة ستكون مميزة، وأنها ستتناسب مع الاحترام المميز، الذي استقبلني به التلاميذ، وفقا لأوامر معلمنا المشكلة.
أخذت أبكي بكاءً شديدا، ثم قلت بصوت متقطع:
ـ سيدي سامحني هذه المرة، وأعدك بأني لن أتأخر بعد اليوم ثانية واحدة. إن ساعتي كانت هي السبب، فقد كنت أعتقد بأن وقتها دقيق، ولكن يبدو أنه ليس كذلك، فهي لا زالت تشير، حتى الآن، إلى الساعة الثامنة إلا ثلاث دقائق، وكنت قبل ذلك، قد أخرت الساعة بدقائق ثلاث لتبرير تأخري.
نزع المعلم الساعة من معصمي بعنف، وبدأ ينفذ عقوبته الثانية ضدي، والتي وعد بأنها ستكون في هذه المرة، عقوبة مخففة. ولم أعرف أنا، وإلى غاية الآن، ما هو الفرق بين عقوبة مخففة، وعقوبة كاملة، في قاموس معلمنا المشكلة.
ولم أفهم أيضا، وإلى غاية الآن، لماذا كنت أصر على أن أرتكب حماقات في عهد المعلم المشكلة، لم أفكر في ارتكابها في عهد أي معلم آخر؟ لقد كنت أخاف من المعلم المشكلة خوفا شديدا، لا جدال في ذلك، ولم يحدث أن عرفت مثل ذلك الخوف مع أي معلم آخر، ورغم ذلك فقد تجرأت في الأشهر التي كان يدرسنا فيها، على ارتكاب حماقات، لم أتجرأ على ارتكابها في عهد أي معلم آخر.
لقد كنت أتسلل في بعض الليالي، صحبة تلميذ آخر، إلى المدرسة، وكان التلميذ المرافق يساعدني على التسلق حتى أصل إلى فتحة، على شكل نافذة مستطيلة، في أعلى مكتب المدير، وكنت أستخدم تلك الفتحة للدخول إلى داخل مكتب المدير.
وفي داخل المكتب، كنت أصحح الواجبات، فأعطي لأصدقائي نقاطا جيدة، ولخصومي نتائج سيئة، وكنت أنزع بعض الأغلفة البلاستيكية الجديدة، من دفاتر بعض خصومي في الفصل، لأغلف بها دفاتر أصدقائي في الفصل، ممن لم تكن أغلفتهم جيدة.
ومن حسن حظي، أن تلك الجريمة البشعة، التي شغلت التلاميذ والمعلمين على حد سواء، لم يكتشف مرتكبها إلا بعد أيام معدودة من تحويل المعلم المشكلة، إلى مدرسة أخرى، وإبداله بمعلمنا ومديرنا السابق.
ولم تتوقف مصائب المعلم المشكلة حتى من بعد تحويله، فلقد اتصل المعلم المشكلة بوالدي رحمه الله تعالى، وطلب منه أن يسمح له بتحويلي إلى المدرسة التي حُوِّل هو إليها، وذلك لكي يشرف ـ وبشكل مباشر ـ على تربيتي وتعليمي، وكانت حجة المعلم المشكلة، هي أني أستحق رعاية خاصة، تتناسب مع ذكائي الخارق، وأنه هو وحده القادر على توفير تلك الرعاية.


الحلقة (3)

غمرتني سعادة عارمة، عندما علمت أن والدي رحمه الله تعالى، قد اعتذر للمعلم المشكلة، ولم يسمح له بتحويلي معه إلى مدرسته الجديدة. وبالتأكيد فإني لم أكن أنا هو الوحيد الذي غمرته السعادة، قبيل نهاية ذلك العام الدراسي، بل إن كل تلاميذ مدرستنا ومعلميها قد غمرتهم سعادة عارمة لما علموا بتحويل المدير المشكلة، ولم تكن المشاكل الصغيرة، التي كانت تواجهنا كتلاميذ من حين لآخر، قادرة على أن تسلبنا، ولو شيئا قليلا، من تلك السعادة العارمة، التي غمرت مدرستنا، بعد أن تأكد لنا خبر تحويل المعلم المشكلة إلى مدرسة أخرى.
وفي ذلك العام الدراسي، حافظت ـ كالعادة ـ على الرقم الأول في امتحانات الفصول الثلاثة. ولقد استطعت أن احتكر ذلك الرقم، في كل امتحانات المرحلة الابتدائية، إلا في حالات نادرة جدا، كنت أهبط فيها إلى الرقم الثاني. وفي تلك الحالات النادرة جدا، كنت أدعي دائما بأن المعلم قد أخذ من نتائجي نقاطا، وبأنه قد أعطاها للتلميذ الذي احتل الرتبة الأولى في ذلك الامتحان.
وفي بداية الصف الثالث، واجهتُ أصنافا جديدة من التعذيب، على يد معلم جديد، توترت العلاقة بيني وبينه، منذ الأيام الأولى التي أعقبت افتتاح السنة الدراسية 1975ـ 1976.
كان من عادة المعلم الذي تم اختياره لتدريسنا في الصف الثالث، أن ينتقل بنا من واجب في تحسين الخط، إلى واجب آخر في تحسين الخط، وهذا الاهتمام الزائد من طرف معلمنا الجديد بتحسين الخط، هو الذي دفعني ذات مرة، لأن أقول له :
ـ سيدي، إننا نريد أن نتعلم شيئا آخر، غير تحسين الخط.
لم تكن لديَّ مشكلة شخصية مع تحسين الخط، بل على العكس، فقد كنت من أحسن تلاميذ مدرستنا خطا، ومن أروعهم رسوما، ولكن في تلك الفترة من أعمارنا، كنا نعتقد بأن التلميذ الفاشل هو الذي يكون خطه حسنا، وتكون رسومه رائعة، ولا أدري من أين جئنا بتلك الخرافة. المهم أن تلك الخرافة، كانت من بين أمور أخرى، أدت إلى ندرة امتهان الخط والرسم لدى جيلنا، وبطبيعة الحال فلم أكن أنا الموهوب الوحيد في الخط والرسم، الذي أضاع موهبته تلك، مخافة أن يعد من التلاميذ الفاشلين.
بعد تلك الملاحظة، بدأت أشعر بأن معلم تحسين الخط، أصبح يوليني عناية خاصة، كلما كانت هناك عقوبة جماعية للفصل، وأنه كان يخصني بتمييز إيجابي عند توزيع تلك العقوبة على تلاميذ الفصل. كما لاحظت أيضا بأنه كان يختارني دائما كمشتبه وكمذنب دائم، عندما تسجل في فصلنا عملية تشويش ضد مجهول. كان يتم اختياري بشكل تلقائي، كلما تعذر ـ لسبب أو لآخر ـ تحديد مصدر أي عملية تشويش، تحدث في الفصل. والحقيقة أن معلم تحسين الخط لم يكن هو المعلم الوحيد الذي يعتبرني مجرما دائما، أستحق العقوبة على أي جريمة تحدث في الفصل، ولم يتم تحديد مرتكبها. فهناك معلمون آخرون كانوا يعتبرونني كذلك، رغم أني كنت أنتمي إلى قلة مشاغبة لم تكن تبذل جهدا كبيرا لإخفاء شغبها، أو للتستر على ما ترتكب من حماقات.
وكان من أفظع عقوبات معلم تحسين الخط أنه كان لديه سطل من حديد، يملأه بالتراب المبلل، ويضعه على رأس التلميذ المعاقب، والذي يجب عليه ـ حسب نص العقوبة ـ أن يستمر في الانتقال السريع، من الجثو على الركبتين، إلى الوقوف على القدمين.
وكانت عملية الانتقال تلك تسبب عناءً ومشقة لا يمكن وصفهما، وكان أقوى التلاميذ بنية جسدية، وأقدرهم على التحمل، لا يستطيع أن يواصل عملية الوقوف والجثو عشر مرات متواصلة. وفي العادة، فقد كان العرق يسيل من جسد التلميذ المعاقب، ابتداءً من الوقفة الرابعة، أو الخامسة، في حين أن الانهيار والسقوط الكامل يبدأ مع الوقفة الثامنة أو التاسعة، حسب البنية الجسدية للتلميذ المعاقب، وحسب قدرته على التحمل.
لقد حملت السطل في ذلك العام، عدة مرات، وكنت من أكثر تلاميذ الفصل حملا له، لدرجة أن ركبتيَّ بدأت تنتشر فيهما القروح من كثرة الجثو عليهما على أرضية الفصل التي لم تكن مبلطة، وكانت عبارة عن خليط من التراب والحجارة الصغيرة، لذلك فقد كان الجثو عليها عملية مؤلمة جدا، خاصة إذا ما كان الرأس يحمل سطلا مملوءا بالتراب المبلل.
ولم يكن من عادتي، أن أتحدث في المنزل عما أتعرض له في الفصل من عقوبات، لأن ذلك لم يكن من شيم "الرجولة"، كما أني أيضا كنت أخاف من أن يتسبب الحديث عن تلك العقوبات، في عقوبة إضافية في المنزل، انتصارا للمعلم في المدرسة. لم أحدث الأهل عن السطل، ولاعن معاناتي معه، إلا بعد أن اكتشفوا هم القروح على رُكَبي، وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة، التي ينتصر لي فيها والدي رحمه الله، ويذهب معي إلى المدرسة ليطلب من المعلم أن يتوقف عن عقابي بهذا الشكل البشع والفظيع.
وتوقفت عقوبة حمل السطل عني في ذلك العام، وفرحت لذلك فرحا شديدا، حتى وإن كان لا يصل إلى مستوى فرحي بتحويل المعلم المشكلة. وفي ذلك العام كان يدرسنا معلم للفرنسية، كان رحيما بي، وكان يدللني كثيرا، ولم يحدث أن ضربني إلا مرة واحدة، وكان ذلك خلال آخر مرة أحمل فيها سطلا، من قبل تدخل والدي رحمه الله تعالى.
فقد حدث أن زارنا في الفصل، معلم الفرنسية، أثناء حصة لمعلم العربية، وكان يبحث عن  طباشير فيما أعتقد، فوجدني في حالة يرثى لها. كنت أقف وأجثو بصعوبة كبيرة، وكان العرق قد بدأ يسيل من كل جسدي، مؤذنا بأن لحظة حدوث الانهيار الجسدي والنفسي قد أصبحت وشيكة جدا.
في تلك اللحظة العصيبة، والتي تمثل ذروة الألم والمعاناة، بالنسبة لحاملي السطل، فوجئت بمعلم الفرنسية يركلني ركلة قوية على الظهر.
وقد شكلت ركلة معلم الفرنسية ـ والذي كان يلقبه التلاميذ باستثنائي بالمعلم المسحورـ مفاجأة كبيرة لي، ولكل تلاميذ الفصل، فهو كان يُعرف بأنه كان يدللني كثيرا، وكان يلقبني ب: "Le petit Mohamed"، وكان يخصني بما يفضل عنه من أي شراب، يأتيه أثناء الحصة، من إحدى الأسر المجاورة للمدرسة، بل إنه كان يزورنا في المنزل، وكان يُحدث الأهل عن ذكائي، وعن خلقي، وعن احترامي المميز للمعلمين!!!
بعد تلك الركلة المفاجئة، التفت معلم الفرنسية إلى معلم تحسين الخط، وطلب منه أن يسمح له بأن يأخذني معه، لكي يعاقبني عقابا شديدا، حتى لا أشوش مرة أخرى، أثناء حصة العربية في الفصل.
وسمح لي معلم تحسين الخط بمرافقة معلم الفرنسية.
خارج الفصل، أبدى معلم الفرنسية تعاطفا كبيرا معي، وطلب مني أن أعود إلى الفصل وأنا أبكي، وأن أعود إلى مقعدي وأنا أتظاهر بالهروب منه لأتجنب المزيد من ركلاته ولكماته التمثيلية، وقد أسر لي معلم الفرنسية بأن تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن له استخدامها لإنقاذي من حمل السطل، في ذلك اليوم الذي حملت فيه ولآخر مرة، سطل معلم تحسين الخط.
ونجحت الخطة، وتمنيت بعد ذلك أن أقابل السيد لامين جوب معلمنا للفرنسية، الذي اختفى عنا منذ ذلك العام الدراسي، ولا زلت حتى يومنا هذا أتمنى لقاءه، إن كان لا يزال حيا، حتى أشكره على ذلك الموقف الإنساني العظيم، وعلى غيره من المواقف الكثيرة التي وقفها معي، في عام السطل.
وفي الصف الرابع، تعرفت على معلم جديد، لقبناه بالمعلم الملاكم، وكان ذلك المعلم يتصرف مع التلاميذ وكأنه ملاكم حقيقي، فكان يوجه لكمات قوية، خاصة إلى الوجه، في كل عقوبة نفذها، وما أكثر العقوبات التي نفذها في ذلك العام، والذي سيعرف فيما بعد بعام اللكمات.
وفي ذلك العام، كثرت عمليات التشويش والفوضى التي كان ينفذها تلاميذ مجهولون لا يتمكن المعلم من تحديدهم، وبفضل وجودي في الفصل، فلم يكن ليغلق ملف أي عملية تشويش، ويسجل ضد مجهول، وهو الشيء الذي جعلني أتعرض في ذلك العام، لكثير من العقوبات، على جرائم لم أرتكبها، ولا أعرف من ذا الذي ارتكبها.
ومن بين تلك العقوبات، أتذكر أني أتيت يوما إلى الفصل متأخرا بدقائق، بعد بدء الحصة المسائية، فاستقبلني المعلم الملاكم بلكمات قوية على الوجه، تسببت في إراقة دم كثير، سال من فمي وأنفي. وقد قال المعلم الملاكم في ذلك اليوم، بأنه لن يقبل بأن أخدعه بتأخري، والذي أحاول من خلاله أن أغطي على جريمتي النكراء، والتي تمثلت في رسم مشين وغير لائق، رسمته على السبورة، حسب المعلم الملاكم، بعد انتهاء الحصة الصباحية، ومغادرة التلاميذ للفصل، وكتبت تحت الرسم، هذه صورة معلمنا.
والحقيقة أني لم أرسم تلك الصورة، بل إني ـ وحتى الآن ـ لا أعرف أي التلاميذ رسمها، ولقد حدث أن قابلت أحد زملائي في الفصل، بعد فراق دام عقودا طويلة، وهذا الزميل كنت أعتقد آنذاك بأنه هو الذي رسم تلك الصورة، فالخط المستخدم في الكتابة كان يشبه خطه. سألت زميلي في ذلك اللقاء، إن كان هو الذي رسم تلك الصورة المشؤومة؟ فإذا به يفاجئني بالقول بأنه قد نسي تماما تلك الحادثة الكبرى، ولم يعد يذكرها، ولا يذكر الآن إن كان هو الذي رسم تلك الصورة أم لا!؟
وفي ذلك اليوم، قررت أن أشكو للإدارة الجهوية للتعليم من المعلم الملاكم الذي عاقبني عقابا شديدا، على صورة لم أرسمها، ورفضت في ذلك اليوم، والذي سيكون له ما بعده، أن أزيل عن وجهي الدماء التي كانت تغطيه، من قبل أن يراها المدير الجهوي، وكنا في ذلك الوقت قد بدأنا نسمع، من هنا ومن هناك، بأن الضرب المبرح للتلاميذ قد أصبح  جريمة يعاقب عليها القانون.
وفي طريقي إلى الإدارة الجهوية، والتي كانت تبعد عن مدرستنا، أربعة كيلومترات تنقص أو تزيد قليلا، صادفت بعض نساء الحي، اللاتي أجبرنني على العودة معهن إلى المنزل، من قبل أن أوصل مظلمتي إلى الإدارة الجهوية.
وبعد ذلك بمدة، شعرت ذات مساء بحمى شديدة، أثناء حصة دراسية مع معلمنا الملاكم، فما كان مني إلا أن تقدمت بأدب جم إلى المعلم الملاكم، وطلبت منه أن يأذن لي بالذهاب إلى المنزل، لأني بحاجة عاجلة للعلاج من الحمى الشديدة، التي كنت أعاني منها في ذلك المساء.
لم يكلف المعلم الملاكم نفسه بأن يتأكد من حقيقة مرضي، وبخل عليَّ بلمس جسدي، ولو لمرة واحدة، بيد غير مقبوضة، وغير مصحوبة بلكمة قوية. واكتفى بأن قال لي:
ـ عد إلى مكانك، فأنا أعرف حيلك.
عدت إلى مكاني، وبدأت أشعر برغبة شديدة في الغثيان، ولم تكد تمر دقائق على عودتي إلى مكاني، حتى بدأت أشعر بأني سأتقيأ في الفصل، إن لم أخرج وبشكل سريع إلى ساحة المدرسة.
في تلك اللحظات الحرجة، خطرت ببالي فكرة عظيمة، هكذا دائما تأتي الأفكار العظيمة، إنها تأتي دائما في أوقات غير مألوفة، وغير طبيعية.
لقد عزمت بعد حادثة الصورة المشؤومة، وبعد فشلي في إيصال شكوايَ إلى الإدارة الجهوية، على أن أنتقم من المعلم الملاكم، انتقام "رجل" من رجل، حيث تتم عملية الانتقام، وجها لوجه، وأمام تلاميذ الفصل، وفي وضح النهار.
ولقد انتظرت كثيرا أن تأتي الفرصة المناسبة للانتقام، وها هي قد أتت.
إن أعظم لحظات الانتصار، هي تلك التي نسجل فيها انتصارا ثمينا ضد خصمنا، وفي وقت نكون فيه نحن نعيش لحظة ضعف وانهيار، بينما يكون خصمنا يعيش لحظة قوة واعتزاز.
ففي ذلك المساء، كنت أشعر بضعف شديد، فقد كنت أعاني من حمى فظيعة، وقد رفض المعلم الملاكم أن يسمح لي بالذهاب إلى أهلي للعلاج، وذلك في الوقت الذي كان فيه المعلم الملاكم يشعر بالقوة، فالفصل كان كله تحت السيطرة، ولم يكن هناك أي تلميذ يتجرأ على أن يقطع ذلك الصمت الرهيب، الذي خيم على فصلنا، في تلك اللحظات، التي كان فيها معلمنا الملاكم يتصفح دفاتر الواجبات، دفترا بعد دفتر.
كنت أشعر بأن الفرصة المتاحة أمامي الآن، قد لا تتكرر أبدا، وأنه عليَّ أن أستغل هذه اللحظة الحرجة، وأوجه للمعلم الملاكم الضربة القاضية، انتقاما من عقوبته الظالمة التي عاقبني بها على صورة لم أرسمها، ولا أعرف من رسمها.
كان عليَّ في تلك اللحظات أن أكون رجلا، حتى ولو كانت حقيقتي تقول بأني مجرد تلميذ بائس، يعاني من حمى شديدة، ويكاد يتقيأ في الفصل، مما يعني بأني سأتعرض للسخرية من تلاميذ الفصل في الأيام القادمة.
في تلك اللحظات الحرجة، كان بإمكاني أن أتحول إلى رجل يحترمه التلاميذ، وكان بإمكاني أيضا أن أتحول إلى مصدر سخرية للتلاميذ، وكان عليَّ أن اختار وبسرعة، أي الحالتين أريد أن أكون. فكان عليَّ أن أحدد أين سأتقيأ، لأن تحديد ذلك المكان، هو الذي سيرفعني إلى رتبة الرجال، أو يهبط بي إلى زمرة التلاميذ المنبوذين، الذين يسخر منهم زملاؤهم، في كل حين.
أقنعت نفسي بأنه بإمكاني أن أكون رجلا، وبإمكاني أن أجعل من ضعفي قوة عاتية، وأن أحوله إلى سلاح فتاك، وأقنعتها بأني لو استخدمت ضعفي بشكل ذكي، فإني لا محالة سأكسب المعركة، التي كنت أخطط لها في ذلك المساء المثير.
وما أروع أن ينتصر تلميذ بائس، يعاني من حمى شديدة، يكاد يتقيأ في الفصل، بالضربة القاضية على معلمه الملاكم.
صحيح أن السلاح الذي سأستخدمه لتوجيه الضربة القاضية، لن يكون سلاحا نظيفا، ولكن لا مشكلة، فالأسلحة المستخدمة في الحروب كلها، ليس فيها أي سلاح نظيف، حتى ولو كانت في ظاهرها أسلحة نظيفة، ثم إنه ليس من العدل أن يُطلب من تلميذ يعاني من حمى شديدة، أن لا يستخدم إلا الأسلحة النظيفة، في مواجهة معلم ملاكم، يملك من العتاد والأسلحة الشيء الكثير.
تركت طاولتي، واتجهت إلى المعلم الملاكم لتوجيه الضربة القاضية، ولقد حاولت أن أتحرك بهدوء، حتى لا اقطع الصمت الرهيب الذي كان يخيم على الفصل، كنت أريد أن أباغت المعلم الملاكم حتى تكون الضربة قاضية فعلا.
وعندما أصبحت بجوار طاولة المعلم الملاكم، أخذت أتقيأ، ولم أتمكن ـ بفعل الحمى ـ من الاحتفاظ بما في بطني، حتى أقف قرب رأس المعلم الملاكم، لأفرغ على رأسه كل ما كان في بطني من طعام، كما كان مرسوما في الخطة الانتقامية، ولكن ورغم ذلك فقد تمكنت من أن أتقيأ على بعض دفاتر الواجبات، وعلى كم دراعة معلمنا الملاكم، وعلى جزء كبير من سطح طاولته، التي كان يجلس خلفها.
أخذ المعلم الملاكم يسب ويشتم ويصرخ، ولكنه في النهاية لم يستطع أن يوجه لي، هذه المرة، لكمات على الوجه، عقابا على جريمة ارتكبتها مع سبق الإصرار والترصد، وذلك رغم أنه كان كثيرا ما يوجه لي لكمات على جرائم لم أقترفها. لم يكن معلمنا الملاكم قاسي القلب لدرجة تمكنه من أن يوجه لكمات لتلميذ مريض، أصبح واضحا للجميع بأنه يعاني من حمى شديدة. ولم يكن كذلك رحيما لدرجة تجعله يتغافل عن جريمة ارتكبها تلميذ يعاني من حمى فظيعة، ويكاد ـ لولا العناد ـ أن يسقط مغشيا عليه من شدة الحمى.
وكان ذلك الارتباك الذي بدا على المعلم الملاكم في تلك اللحظات الرائعة، هو أكبر دليل على أن عملية الانتقام لم تفشل تماما.
كانت الحمى قد وصلت إلى درجة لا تطاق، وكنت في تلك اللحظات أكاد أسقط مغشيا عليَّ من شدتها، ولكن كان عليَّ أن أقاوم، وأن أظل واقفا. كان عليَّ أن أكون رجلا في تلك اللحظات، والرجال لا يغشى عليهم عندما يكونون وجها لوجه مع خصومهم.
لم يكن من المناسب أن أضيع تلك اللحظة، ولا أن لا أتلذذ بلحظة انتصار انتظرتها طويلا، وكان عليَّ أن لا أسمح للحمى ـ مهما كانت قسوتها ـ بأن تحرمني من أن أتمتع برؤية المعلم الملاكم وهو مرتبك، حائر، لا يعرف كيف يتصرف داخل الفصل.
إنه حقا لمشهد رائع، يستحق مني أن أقاوم الحمى بقوة، وأن لا استسلم لها، حتى أسجل كل تفاصيله الصغيرة،  من قبل الكبيرة.
بعد تلك العملية الانتقامية، شعرت بأني لم أعد طفلا، فالأطفال لا يمكنهم أن يجمعوا بين نشوة الانتصار وآلام الحمى في وقت واحد، وفي ذلك المساء استطعت أن أجمع بين النشوة والألم، ولم أسمح للحمى أن تسلبني مثقال ذرة من نشوة الانتصار على المعلم الملاكم.
ـ سيدي هل أعود إلى مكاني أم أذهب إلى المنزل للعلاج؟
نطقت بتلك الكلمات، ليست استجداءً، ولا طلبا للإذن من المعلم الملاكم، والذي كان واضحا أنه قد فقد زمام المبادرة في تلك اللحظات الرائعة، وإنما نطقت بها لأزيد من ارتباكه، ولأظهره مرتبكا أمام تلاميذ الفصل.
وإلى غاية اليوم فإن المعلم الملاكم لم يجبني على ذلك السؤال، فهو لم يطلب مني أن أعود إلى مكاني في الفصل، ولم يأذن لي بالذهاب إلى المنزل.

الحلقة (4)

مع اختتام عام اللكمات، وتشجيعا لي على تفوقي، فقد اختارتني إدارة المدرسة لأمثلها في المخيم الصيفي الذي تم تنظيمه في نهاية ذلك العام الدراسي، وكانت تلك هي أول مرة يتم فيها اختيار أحد تلاميذ مدرسة العرقوب ليشارك في مخيم صيفي، وربما كانت ـ كذلك ـ هي آخر مرة. فلم يحدث أن بلغني بعد ذلك، أن أي تلميذ آخر من مدرستنا شارك في أي مخيم صيفي، تم تنظيمه بعد المخيم الذي كان لي الشرف في أن أمثل فيه مدرستنا.
ولقد خيرتني إدارة المدرسة، بين الذهاب إلى العاصمة نواكشوط، أو الذهاب إلى المملكة المغربية، ولقد اخترت العاصمة نواكشوط، لأن والدي رحمه الله تعالى، طلب مني ذلك، واشترط عليَّ مقابل السماح لي بالمشاركة في المخيم الصيفي، أن أكتفي بالسفر إلى العاصمة نواكشوط.
كنتُ في تلك المرحلة من عمري أسمع قصصا كثيرة عن العاصمة نواكشوط، وكان أغلبها  يرتبط بالأفلام وبالسينما، ولذلك فقد تخيلتُ العاصمة نواكشوط وكأنها مجرد صالة كبيرة لعرض الأفلام السينمائية. وسيأتي زمن من بعد ذلك سأسمع فيه عن شاب شرس، كان يعرف ب: " Sans pitiè"، ليس في قلبه مثقال ذرة من شفقة، وكان يقف يوميا أمام صالات عرض الأفلام، وكان يفرض على كل زائر لتلك الصالات غرامة مالية، ولم يكن بإمكان أي زائر أن يرفض دفع تلك الغرامة.
ولي زميل ثان كان يتخيلها ـ أي العاصمة نواكشوط ـ مجرد مستشفى كبير، تحيط به بيوت مخصصة لمرافقي المرضى، ولقد تكونت لديه هذه الصورة، لأنه ـ وكما قال لي لاحقاـ كان لا يسمع عن العاصمة نواكشوط، إلا إذا ما اضطرت أسرة من جيران أهله في الحي لأن تسافر بمريضها لعلاجه في مستشفى العاصمة.
ولي زميل ثالث كان يتخيلها بحرا  تسقط فيه الشمس كل مساء، وكان ذلك البحر يغلي غليانا شديدا، ويرتفع منه، بخار كثيف، يملأ ما بين السماء والأرض، لحظة سقوط الشمس. وهذه القصة، أي قصة سقوط الشمس في بحر العاصمة، كانت شائعة عندنا نحن أطفال ذلك الزمن الجميل، وبالنسبة لزميلي فقد سمعها من جارة لوالدته، ذهبت إلى نواكشوط، وعادت لتؤكد له، ولأطفال الحي، بأن الشمس تسقط في كل مساء في بحر نواكشوط. وكانت تقول لهم بأنها رأت الشمس بعينيها الاثنتين ـ اللتين لابد أن يأكلهما الدود ـ وهي تسقط من السماء، في بحر نواكشوط، وأنها رأت بعد سقوطها غيوما كثيفة من البخار تتصاعد من البحر.
لم تكن العاصمة نواكشوط بالنسبة لي، ولا لزملائي في ذلك الوقت، مجرد مدينة عادية بملامح عادية، وبمواصفات ثابتة لا تتغير، بل كانت مدينة شبح، بعشرات الصور والملامح. وكان لكل طفل منا شبحه، أو صورته التي يختزل فيها عاصمة البلاد،  ولذلك فقد كان من اللازم أن أعود إلى زملائي في المدرسة، بحقيقة نواكشوط، وكانت تلك هي مهمتي الأساسية في المخيم الصيفي، حتى وإن كانت مهمة غير معلنة. ولقد أديت تلك المهمة غير المعلنة على أحسن وجه، والدليل على ذلك، أني كنت عندما أتحدث عن نواكشوط، خاصة في الأيام الأولى بعد العودة، يصغي لي الجميع بانبهار، وبتركيز شديد.
لقد عدت إلى زملائي بحقيقة نواكشوط. فقلت لهم بأن فيها مصنعا عجيبا للأشربة، وأني تجولت ـ مع زملائي في المخيم ـ داخل ذلك المصنع العجيب، وأني رأيت القوارير تتحرك لوحدها بانتظام عجيب، نحو آلة تملأ تلك القوارير من مشروب الكوكا كولا، ثم تتحرك إلى آلة ثانية تغلقها، ثم إلى ثالثة تضعها في الأكياس، وهكذا.
وقلت لهم بأن أهل نواكشوط لا يجوعون أبدا، فهم يأكلون ست وجبات في اليوم الواحد، ولقد كان ذلك هو عدد الوجبات التي كانت تقدم لنا يوميا في المخيم، وذلك باعتبار أن قطعة الخبز مع الزبدة، أو مع الجبن يمكن عدها وجبة متكاملة، وكانت قطعة الخبز بالزبدة تقدم لنا في المخيم ثلاث مرات في اليوم، مما رفع الوجبات المقدمة لنا يوميا إلى ست وجبات.
ولم أقل لزملائي بأني شاهدت الشمس تسقط في البحر، كما كانت تقسم على ذلك جارة والدة زميلي، ولكني في المقابل، قلت لهم ما لا يقل غرابة عن ذلك، في زمننا ذاك. فحدثتهم عن المرأة الموريتانية التي رأيتها، بعيني الاثنتين على شاطئ البحر، وهي تدخن سيجارة! ولم أقل لهم بأني ذهبت إلى دور السينما لمشاهدة الأفلام، وإنما قلت لهم بأن أهل نواكشوط لا يذهبون إلا دور السينما، وإنما تأتيهم السينما في ديارهم. ولقد حدثتهم عن كل الأفلام التي شاهدتها في ثانوية البنات، حيث كان مقر مخيمنا الصيفي.
وقلت لهم ـ ولم أصدقهم في ذلك ـ بأني مللت من ركوب الحافلات والسيارات في العاصمة نواكشوط، وأني أصبحت أنزعج عندما يدعوننا المشرفون على المخيم إلى جولة في العاصمة نضطر خلالها لركوب حافلة أو سيارة.
والحقيقة أنه لم يكن من الممكن لطفل مثلي، قادم من مدينة لعيون، في تلك الفترة من الزمن، أن يمل من التنقل في السيارات. لقد كانت أمنيتي في المراحل الأولى من طفولتي، وهي أمنية الكثير من زملائي، أن أكبر بسرعة، وأن أصبح سائقا لأحدى سيارات "Land Rover" التي كنا نشاهدها، من حين لآخر، تجوب شوارع المدينة، في السبعينات.
ولقد كان سائقو السيارات، بالنسبة لنا نحن أطفال السبعينات، هم نجوم المدينة الذين لا يمكن لأي كان أن ينافسهم على تلك النجومية، وكان من أشهر أولئك النجوم، سائقان نُسِج حولهما الكثير من القصص المثيرة. أحدهما كنا نلاحقه بنظراتنا، كلما مر بسيارته من أحد الشوارع. فمن يدري، فربما يتصادف معه أحدنا، وهو يطير بسيارته؟ لقد كان من المؤكد لدينا، بأن ذلك السائق الشهير، قد طار بسيارته مرة  واحدة على الأقل، وكان ذلك على الحدود المالية الموريتانية، والسبب أنه في أحدى رحلات عودته من مالي، وجد واديا في طريقه قد امتلأ بالماء، بفعل الأمطار التي تهاطلت أثناء رحلة العودة، فما كان من السائق الشهير، إلا أن قرر أن يطير بسيارته، حتى يجتاز الوادي، ثم يعود بها إلى الأرض ليواصل طريقه، وكأن شيئا لم يكن. أما النجم الثاني، فقد كان يقال بأن سيارته تعطلت به ذات مرة، في أرض قاحلة، فانزعج الركاب كثيرا، وخافوا أن يهلكهم العطش في تلك الأرض القاحلة. ولكن السائق الشهير لم ينزعج كالركاب، وإنما ذهب إلى شجرة، وقطع جزءا من جذعها، وصمم منه قطعة على شكل القطعة المتعطلة في ماكينة السيارة، ثم وضع القطعة الخشبية مكان القطعة المتعطلة، ليواصل من بعد ذلك طريقه إلى المدينة.
ولقد كان شائعا عندنا بأن ذلك السائق، هو الذي ساعد في إصلاح جناح طائرة"DC-4 الذي سقط ذات مرة في أحد المطارات، وكان يقال بأنه هو الذي ثَبَّت ذلك الجناح من جديد بالطائرة، وأنه ربطه بالحبال، ولقد عادت الطائرة إلى الطيران، وظلت تطير وأحد أجنحتها مربوط بالحبال.
ولقد بحثت كثيرا عن ذلك الحبل، عندما شاهدت، ولأول مرة، طائرة"DC-4" عن قرب، وهي جاثمة في مطار لعيون، وكان ذلك عند ذهابي إلى العاصمة، في رحلة المخيم. وبحثت عن الحبل مرة ثانية أثناء عودتي من المخيم، في نفس الطائرة، ولكني لم أشاهد الحبل المذكور، ومع ذلك فإني لم أحدث زملائي بذلك، مخافة أن أقلل من شأن أحد أشهر سائقين، أو على الأصح، أشهر نجمين بمدينة لعيون في ذلك الزمن.
وفي ذلك العام كان كل شيء في مدينتنا الرائعة، رائعا بحق، وكان الصف الخامس، بالنسبة لي، من أروع سنواتي في المرحلة الابتدائية. فقد كنت أنا التلميذ الوحيد في المدرسة الذي كان بإمكانه أن يقول لزملائه في ذلك العام الرائع، بأنه قد مر به شهر كامل، ظل يأكل فيه ست وجبات في اليوم الواحد، ويشاهد فيه الأفلام قبل النوم، ويتنقل يوميا في السيارات والحافلات، حتى أصبح منزعجا من ذلك.
وفي ذلك العام الرائع، وهذا من أسرار روعته، لم أتعرض للضرب إلا قليلا، فقد كان معلمنا في الصف الخامس، هو مدير المدرسة المعروف بتسامحه وبحلمه، ولقد قابلت تسامح المدير وحلمه بأدب جم، ولم أشوش إلا قليلا.
ورغم ذلك فلم يخل العام الرائع من بعض المنغصات التي حدثت خارج المدرسة، وكان بعضها مروعا، ففي ذلك العام انفجرت قنينة غاز داخل منزلنا، وتسببت في حروق متفاوتة الخطورة لكل أفراد عائلتنا، وكانت حروقي متوسطة. لقد شوهدت ألسنة نيران الانفجار من أماكن متفرقة في المدينة، وسُمِع صوت الانفجار في أمكنة بعيدة، ولقد اعتقد الكثيرون من سكان المدينة، بأن صحراويين كانوا قد تسللوا إلى المدينة، وبأنهم هم من يقف وراء ذلك الانفجار القوي. وكان للناس الحق في أن يعتقدوا ذلك، فحرب الصحراء لم تكن حينها قد توقفت، واستخدام الغاز المنزلي لم يكن معهودا في ذلك الزمن.
وقبل انفجار قنينة الغاز، كنت قد فوجئت في يوم من الأيام بسيارات عسكرية، مدججة بالسلاح، تتوقف وبشكل عنيف أمام باب منزلنا، ويهبط منها عدد من العسكريين. اعتقدت في البداية بأن تلك السيارات يقودها ابن خال والدتي، والذي تخرج في تلك الفترة ضابطا، والذي ربما يكون قد زار المدينة في مهمة عسكرية، وقرر بالتالي أن يمر بمنزلنا للسلام، وكان من المؤكد بأن ذلك المرور كان سيرفع من  مكانتي بين الأطفال، فأن يوقف ضابط عسكري في ذلك الزمن سيارة عسكرية أمام منزل ما في المدينة، فإن مثل ذلك الحدث لن يكون بحدث عابر، خاصة عند أطفال المدينة.
خرجت إلى باب المنزل مسرعا، لاستقبال الضابط الخال، ولكنني صُدِمت عندما لم أشاهده بين العسكريين الذين كانوا يتصرفون بغطرسة فاجأتني كثيرا. لقد نزلوا من سياراتهم بخشونة، ومروا من أمامي بخشونة، ودخلوا في المنزل بخشونة، وأخذوا يهددون النساء والأطفال بخشونة.
صوب قائد الجند، وبالوحشية المعهودة للقادة، سلاحه نحونا، وهدد بنسف المنزل وبمن فيه، من نساء وأطفال، إن لم نُخرج لهم، وعلى الفور، الصحراوييْن الاثنين اللذين نخبئهما في مكان ما من المنزل.
كان في تلك الفترة يسكن عندنا صديق لوالدي رحمه الله تعالى، وكان برفقته عامل يستأجره، وكان صديق الوالد يقيم معنا مدة من الزمن، يشتري خلالها عددا من رؤوس الإبل، يسوقه في وقت لاحق، إلى مدينة أطار لبيعه هناك، وكان صديق الوالد رجلا من أهل الساحل، وكان شكله وبشرته يختلفان كثيرا عن الأشكال المعهودة في المدينة، خصوصا في فصل الصيف، حينما تصبغنا حرارة المدينة بصبغتها المميزة، وكان بالإضافة إلى ذلك يملك بندقية يحملها معه كلما سافر خارج المدينة.
ولقد حدث أن لمح حطابٌ يسوق حمارا محملا بالحطب، صديق والدي مع عامله، وهما داخل كهف من كهوف الجبال المحيطة بالمدينة، من الناحية الجنوبية، وكانا وقتها ينتظران إبلا سمعا بأنها قادمة إلى المدينة، وعندما رآهما الحطاب هناك، اتجه فورا إلى السلطات، وأخبرهم بأنه شاهد صحراوييْن مسلحين في كهف من كهوف الجبال الواقعة جنوب المدينة، وأن المسلحيْن يستعدان للإغارة على المدينة.
ـ دعك من تهديد وترويع النساء والأطفال، أنت جئت إلى هنا من أجلي، وها أنذا بين يديك فأفعل بي ما تشاء، ودع عنك تهديد النساء والأطفال.
هكذا خاطب صديق والدي رحمه الله تعالى، القائد المتوحش. لم يكن صديق الوالد في تلك اللحظات بعيدا عن المنزل، وعندما شاهد السيارات العسكرية، وسمع بالخبر عاد مسرعا تسبقه كلماته تلك، والتي لم تترك للقائد المتغطرس أي حجة للاستمرار في ترويعنا وتهديدنا بتلك الطريقة المتوحشة، ولا بتنفيذ تهديداته، والتي يبدو أنه كان يفكر بشكل جاد في تنفيذها.
لم تستمر التحقيقات طويلا مع صديق والدي رحمه الله، فقد كانت لديه أدلة كثيرة تثبت بأنه لم يفكر يوما في الإغارة على مدينة لعيون، ولكن، ورغم ذلك، فلم يُطلق سراحه إلا بعد أن تدخل بعض وجهاء المدينة، وتعهدوا بتحمل المسؤولية الكاملة، عن أي جريمة يرتكبها صديق والدي رحمه الله، خلال فترة إقامته بالمدينة.
وعندما أُطْلِق سراح صديق والدي رحمه الله، هجم عليه بعض سكان المدينة، ممن صدق بأنه صحراوي مسلح، ورشقوه بالحجارة، ونددوا بإطلاق سراحه، فما كان منه إلا أن أعاد إلى مكان الاعتقال، وطلب من السلطات أن تؤمنه في طريق عودته إلى منزلنا الذي يقع في الحي الجنوبي من مدينة لعيون، المدينة المتميزة في كل شيء، حتى في إشاعاتها، وفي قدرة أهلها على تخيل القصص، وعلى مزج ما تخيلوا من قصص بتفاصيل حياتهم اليومية.
وكعادتهن، فقد أبدعت بائعات الخضروات في سوق المدينة، هن وزبوناتهن، في ذلك اليوم المتوحش، فألفن في دقائق معدودة قصصا مثيرة وعجيبة، ونسجن خلال تلك الدقائق روايات عديدة للمعركة الشرسة، التي حدثت في ذلك اليوم، داخل منزلنا بين أهلي، ومن معهم من الصحراويين، ومن ناصرهم من الأقارب، وعساكر المدينة.
وتحدثت بائعات الخضروات،عن العديد من الجرحى والقتلى الذين سقطوا من الجانبين، في ساحة المعركة الشرسة التي دارت في ذلك اليوم، داخل حدود منزلنا.
ولقد ذُهِلت كثيرا عندما قابلت زملائي في مساء ذلك اليوم المتوحش، ووجدت أن لديهم روايات وتفاصيل لما حدث من معارك شرسة داخل منزلنا، قللت كثيرا من أهمية روايتي للحدث، رغم أني أضفت لروايتي كشاهد عيان، إضافات عديدة لمزيد من الإثارة. ولقد اكتشفتُ في ذلك المساء، بأن روايتي للحدث الذي كنت شاهدا عليه، كانت هي أسخف رواية بمكن أن أرويها للأطفال في مساء ذلك اليوم، فروايتي لما جرى لم تكن لتتحدث عن سقوط جرحى ولا قتلى، ولم تكن لتتحدث عن مخزون كبير من السلاح (بنادق، وقنابل) تم العثور عليه في ذلك اليوم في منزلنا، وبالمناسبة فإن منزلنا لم يكن يتكون إلا من غرفتين اثنتين وعريش، ومن النادر جدا أن تغلق أي من الغرفتين، بل ومن النادر جدا أن تخلو أي واحدة منهما من بعض الضيوف أو من بعض الزوار.
وفي الصف السادس، لا أذكر أني ضُربت ولو لمرة واحدة، وقد درسنا في ذلك العام معلم للفرنسية، أحبني كثيرا، وتوطدت علاقتي به منذ الأيام الأولى التي أعقبت الافتتاح، ولم تتوتر علاقتي به، إلا عند البدء في إيداع ملفات الترشح لمسابقة دخول السنة الأولى من الإعدادية، فلم يكن معلمي يرضى لي بأن أدرس باللغة العربية التي كانت منبوذة ومهمشة في ذلك الوقت، والتي لا تزال مهمشة، وإلى يوم الناس هذا.
كان معلم الفرنسية يثق بي ثقة عالية، وكان يكلفني بمهام كثيرة داخل الفصل، في إطار ما يمكن تسميته بالتحفيز من خلال التكليف بالمزيد من المهام والصلاحيات.
ومن شدة ثقته بي، أذكر بأنه لما زارنا تلميذان من خارج الفصل، خلال حصة حصصه، وكانا يريدان منه أن يحل لهما أصعب مشكل على الإطلاق، في كتاب الحساب الشهير، والمعروف باسم أحد مؤلفيه:J.Auriol"" . وكان من عادة التلاميذ أن يختبروا مستوى المعلمين في الحساب من خلال مطالبتهم بحل المشكل المذكور.
أذكر بأن التلميذين الزائرين لما طلبا من معلمنا حل المشكل، ما كان منه إلا أن  فاجأهما بأن أجابهما بشكل مباشر، وقال لهما بأن وزن خنشة الأرز المطلوب تحديد وزنه في المشكل المذكور هو 63.5 كلغ، إن لم تخني الذاكرة. وبالمناسبة فأنا أعتمد في سرد هذه المذكرات، على ما أتذكره الآن، وهناك بعض الأحداث التي كان يمكن لي أن أقدم عنها تفاصيل أكثر، لو أني استعنت بآخرين ممن عايشوها مثلي، ولكني لم ولن أستعين بهم، فهذه اليوميات ستقتصر أحداثها على ما ستجود به ذاكرتي البخيلة من ذكريات.
وفاجأ المعلم التلميذين مرة ثانية، عندما قال لهما بأن أصغر تلميذ في فصله، يمكنه أن يحل لهما المشكل المذكور. وعندها طلب مني معلم التحفيز بالمهام الصعبة أن أتقدم لحل المشكل المذكور.
وكانت تلك واحدة من أصعب المهام التي كُلفت بها في ما مضى حياتي، وكانت تلك هي المهمة الوحيدة التي يستحيل أن أفشل فيها.
تقدمت إلى السبورة، وبدأت في حل المشكل، وكنت أثناء الحل أحس بنظرات المعلم الواثقة تخترق جسمي، وتزودني بطاقة هائلة. لم أكن بحاجة لأن أسترق النظر إلى وجهه، فقد كنت واثقا بأنه ينظر إليَّ في تلك اللحظات بنظرات واثقة، نظرات تخيفني وتطمئنني في آن واحد. لقد كنت خائفا من أن يهلكني معلم التحفيز بالمهام الصعبة بثقته المفرطة، وبمهامه الصعبة، وبتحفيزه الذي كان في بعض الأحيان، يزعجني ويخيفني أكثر من إبر المعلم المشكلة، ومن سطل معلم تحسين الخط، ومن لكمات المعلم الملاكم.
وقد لا تصدقون بأني تمنيت وأنا أحاول حل المشكل المعقد، أن يكون المعلم المشكلة، أو معلم تحسين الخط، أو المعلم الملاكم، أن يكون أحدهم هو الذي يقف في تلك اللحظات  خلفي، بدلا من معلم التحفيز بالمهام الصعبة.
وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني المعلم المشكلة بحل ذلك المشكل، لما أتعبت نفسي، ولبحثت عن أغرب إجابة، وربما كتبت له على السبورة بأن وزن الخنشة هو صفر كلغ، حتى وإن كنت أعلم بأن تلك الإجابة المشاكسة ستترتب عليها مائة وخزة بالإبر على اللسان.
وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني المعلم الملاكم بحل ذلك المشكل، لربما فكرت في أن أكتب له بأن وزن الخنشة يزيد على ثلاثين ألف طن، حتى وإن كنت أعلم بأن تلك الإجابة المستفزة ستتسبب لي في مائة لكمة على الوجه.
وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني معلم تحسين الخط بحل ذلك المشكل، لربما امتنعت عن حله، مدعيا بأن لا أفهم إلا في تحسين الخط، حتى وإن كنت أعلم بأن ذلك التصرف الأحمق قد يترتب عليه أن أقف وأجثو مائة مرة، وأنا أحمل سطلا مملوءا بالتراب المبلل.
مشكلتي في ذلك اليوم، أن المعلم الواقف خلفي، هو معلم التحفيز بالمهام الصعبة، الذي لم يغضب عليَّ يوما، ولم يعاقبني يوما، والذي فوق ذلك، يحبني كثيرا، ويحترمني كثيرا، ويثق بي ثقة عمياء.
ومشكلتي في ذلك اليوم، أنه إذا كان يجوز لي أن أفشل في أي شيء، كُلفت به في حياتي، حتى ولو كان أمرا بسيطا، فإنه لا يجوز لي إطلاقا أن أفشل في أصعب مهمة كُلفت بها في حياتي، لأن من كلفني بتلك المهمة الصعبة، لم يكن سوى معلم التحفيز بالمهام الصعبة، ولأنه بعد ما كلفني بها، وقف خلفي، وهو على ثقة كاملة بأني سأنجزها، وعلى أحسن وجه.
ولعل مشكلتي الكبرى في هذه اللحظات، هي أن الكاتب الذي تعاقدت معه على كتابة هذه السيرة، لن يتمكن من أن يصف لكم بدقة ما جرى في ذلك اليوم، حتى ولو تفرغ لهذه الحلقة أسبوعا كاملا. لن يستطيع أن يفهمكم بأن التحفيز قد يهلك تلميذا في الصف السادس، أكثر مما تهلكه اللكمات في الصف الرابع، أو حمل السطل في الصف الثالث، أو الوخز بالإبر الحادة في الصف الثاني ابتدائي. لن يستطيع كاتب هذه اليوميات أن ينقل لكم بلغته العادية جدا، مشاعر غير عادية، في لحظة غير عادية، من حياة شخص عادي جدا. كلما يمكن للكاتب أن يفعله، وأنا أتحداه الآن أن يفعل أي شيئا آخر، هو أنه سيهرب من تلك اللحظة الاستثنائية، وسيقول لكم، وبسذاجة سخيفة جدا، بأني تنفست الصعداء عندما توصلت خلال حلي للمشكل، لرقم يتطابق تماما مع الرقم الذي ذكره معلم التحفيز بالمهام الصعبة منذ دقائق، على أنه وزن الخنشة المطلوب تحديده في المشكل.
ومن الغريب حقا، أني بعد ذلك بسنوات عدة، وبعد أن تحسنت معلوماتي في الرياضيات، حاولت أن أحل نفس المشكل، بنفس الطريقة التي استخدمتها لحله سابقا، ولكني فشلت في ذلك، ولم أتمكن من حله إلا بعد أن استخدمت نظاما من معادلتين ذات مجهولين، مما جعل من حله مسألة في غاية البساطة. ولقد تمنيت في هذه اللحظات التي كنت أسرد فيها لكاتب يومياتي تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم، أن أذهب إلى وراقات سوق العاصمة، واشتري كتاب الحساب المذكور، فقد رأيته مرة هناك، وذلك لكي أجرب حل المشكل مرة أخرى، بالطرق الحسابية التي كنا نستخدمها في الابتدائية، ولم يمنعني من المحاولة في هذا الوقت، إلا أن ذلك قد يعين الذاكرة، ويساعدها في تدقيق الرقم الذي ذكرته سابقا، على أنه وزن خنشة الأرز، وأنا لا يحق لي حسب الشروط التي اشترطتها على نفسي، عند البدء في سرد هذه اليوميات، أن أعين ذاكرتي بأي عنصر خارجي، من قبل الانتهاء الكامل من سرد هذه اليوميات.
وفي ختام تلك السنة، وجدت نفسي في موقف حرج جدا. فقد أصر معلم التحفيز بالمهام الصعبة على أن أترشح لمسابقة دخول السنة الأولى إعدادية بالفرنسية، وكان يتوقع لي مستقبلا زاهرا في الأدب الفرنسي. أما مدير المدرسة، والذي كنت أحترمه أيضا، فقد أصر على ترشحي بالعربية، بحجة أن قسمنا لابد له من أن يتبرع بتلميذ للشعبة العربية، وكنت أنا بالنسبة للمدير هو التلميذ الوحيد في القسم المؤهل لذلك، فقد كانت العربية حينها لغة ثانوية، ولم ندرس بها الحساب الذي يعتبر مادة أساسية في تلك المسابقة.
ولقد نجح المدير في فرض رأيه، وذلك بعد أن اتصل بوالدي رحمه الله، وأقنعه بضرورة ترشحي للمسابقة العربية. كما أن قيادات في التنظيم الناصري الذي بدأت أدعي الانتساب له، في تلك الآونة، كانت في صف المدير أيضا.
ولقد اتخذت بعد نجاحي في المسابقة قرارا سخيفا، نتجت عنه قطيعة كاملة مع اللغة الفرنسية، فكنت أبخل على هذه اللغة، بتسجيلها في جدول توزيع الزمن، لسنوات أربع في ثانوية لعيون. ولم أتوقف عن القطيعة الكاملة مع اللغة الفرنسية، إلا عندما حُوِّل إلينا في القسم الخامس رياضي، أستاذ مبدع، كان يكتب على السبورة بطريقة عجيبة، وكانت طريقته في الكتابة هي أول ما شدني إلى حصصه، والتي لم أتخلف عنها في ذلك العام الدراسي، ولو ليوم واحد.

الحلقة (5)


لم يكن كاتب هذه اليوميات راضيا عن الحلقات الأولى منها، وكان يُظهر من حين لآخر عدم رضاه ذاك، كلما انزويت أنا وهو في خلوة من خلواتنا الأسبوعية التي كنا نواظب عليها، مع نهاية كل أسبوع، تمهيدا لكتابة ونشر حلقة جديدة، من حلقات الرواية.
والحقيقة أني لم أهتم في بادئ الأمر بعدم رضا الكاتب عن تلك الحلقات، لأنه كان يعبر عن عدم رضاه ذاك، بخجل شديد، مما جعلني أعتقد بأن الأمر مجرد انزعاج عابر، سيختفي مع الوقت، ولن يؤثر على مشروع كتابة الرواية، ولكن في الجلسة التي سبقت هذه الحلقة من الرواية، فوجئت بأن الكاتب قد قرر ـ في هذه المرة ـ أن يعبر عن انزعاجه بلغة صريحة وفصيحة، وغير لبقة في بعض الأحيان، وهو ما استفزني به كثيرا.
ولقد اتهمني الكاتب في الجلسة التي كان من المفترض أن أروي له فيها أحداث الحلقة الخامسة، بأني تعمدت في الحلقات الأربع الماضية، أن أخدع القراء، وأن أقدم لهم نفسي على أني كنت طفلا ذكيا، شجاعا، ومشاغبا، رغم أني كنت أعلم بأني لم أكن ذكيا دائما، ولم أكن مشاغبا دائما، ولم أكن شجاعا دائما، بل إنه كانت تمر بي أوقات أكون فيها غبيا، جبانا وخجولا.
ولقد اعتبر الكاتب بأني استخدمت حيلة ذكية جدا لخداع القراء، فهو يرى بأني حاولت أن أخدع القراء من خلال السيرة الصادمة، والتي تقتضي بأن أقدم لهم طفولة خارقة في بداية هذه السيرة، وذلك من قبل أن أختمها لهم بشخصية عادية جدا، لإحداث صدمة كبيرة، وخيبة فظيعة لكل من سيكمل منهم قراءة هذه الرواية. وهذه الصدمة أو الخيبة ـ وكما قلتُ سابقا ـ ستجعل الرواية تنجح نجاحا باهرا، أو تفشل فشلا ذريعا، وكلا الأمرين بالنسبة لي يعتبر إنجازا عظيما.
ولقد قال لي الكاتب في تلك الجلسة، وبكلمات صريحة وحازمة:
ـ لن أقبل منك بعد اليوم أن تستمر في خداع القراء.
ـ لماذا تقول بأني أخدع القراء، وأنت تعلم بأني لم أتحدث في الحلقات الماضية إلا عن أحداث حقيقية، رويتها لك كما حدثت، دون زيادة أو نقصان؟
ـ المشكلة ليست في الأحداث التي رويت لي، بل المشكلة هي في تلك الأحداث التي لم تروها لي.
ـ لم أفهم بالضبط ماذا تريد أن تقول.
ـ بل إنك تفهمه جيدا، وأرجو أن لا تتعامل معي كما تتعامل مع القراء، وأرجو كذلك أن لا يغرنك عدم ردي عليك في الحلقات السابقة، حينما قلت بأني كثير الفشل، متواضع الطموح، وقليل الإبداع، في الوقت الذي جعلت فيه من شخصك الكريم، شخصا مبدعا وطموحا وذكيا، ذكاء خارقا.
سكت الكاتب برهة، ثم واصل حديثه بعد أن رسم على شفتيه ابتسامة ساخرة، وقال بصوت ساخر لا يقل سخرية عن ابتسامته.
ـ إن أسخف موقف يمكن أن يواجهه أي كاتب، هو أن يتهمه بطل روايته بأنه كثير الفشل، وقليل الطموح والإبداع، ألا يكفيني إبداعا و طموحا بأني أحاول أن أجعل من شخص عادي مثلك شيئا مذكورا؟
كان عليَّ أن أجيب على الكاتب، ولم يكن بإمكاني أن أظل صامتا دون أن أرد عليه. في بداية حديثه فكرت في أن أتركه يتحدث كما يشاء، ودون أن أقاطعه، وذلك لأنه لم يتحدث في كل الحلقات السابقة، وكان كل ما يهمني هو أن لا ينقل حديثه إلى القراء بضمير المتكلم، ولقد اشترطت عليه ذلك عند البدء في كتابة هذه السيرة، فأنا هو من يحق له ـ حسب بنود الاتفاق ـ أن يتحدث بضمير المتكلم في حلقات هذه اليوميات.
لم أكن أرغب إطلاقا في أن أقاطع الكاتب، ولكن حديثه الجريء في بداية هذا الحلقة أجبرني على مقاطعته، حتى لا يتجاوز الخطوط الحمراء، ويتحدث للقراء عن أسرار اتفقت أنا وهو أن تظل محجوبة عنهم، إلى أن تكتمل الرواية.
فكرت في أن أقول له بأن ما يعتبره هو سخيفا، كان هو أروع ما في الحلقات الماضية، وكان قمة في الإبداع. فاتهام بطل الرواية لكاتبها بالفشل وبقلة الإبداع، كان فكرة إبداعية في حد ذاتها، ولا أعتقد بأن هذه الفكرة ظهرت في أي عمل آخر من قبل هذه الرواية. ووددت لو قلت له بأن أكبر دليل على قلة الإبداع لدى "كاتبنا المبدع"، هو قوله بأن اتهام بطل الرواية لكاتبها بالفشل وبقلة الطموح كان فغلا سخيفا.
ولكن في تلك اللحظات لم يكن بإمكاني أن أحدثه بذلك، فقد بدأت أشعر بأن مشروع كتابة سيرتي كان في خطر، وكان عليَّ أن أتحدث معه بطريقة أخرى، فيها شيء من التهديد، وشيء من الحزم، حتى لا يتجاوز الخطوط الحمراء، والتي يبدو أنه قد أراد في هذه الحلقة بالذات أن يسير على حافتها، تماما كما يسير أبطال السيرك على حبل رقيق معلق على مكان مرتفع جدا.
كان عليَّ في تلك اللحظات أن أذكِّر كاتب الرواية بأن العلاقة التي تربطني به، ليست مجرد علاقة بين كاتب رواية وبطلها، بل هي أكثر تعقيدا من ذلك، وكان عليَّ أن أذكره بأنه ليس من مصلحتنا نحن الاثنين ( أنا وهو) أن نتخاصم، بعد أن قررنا أن نتعاون معا لإكمال مشروع رواية "يوميات شخص عادي جدا".
كان عليَّ أن أقول له وبنبرة صارمة جدا:
ـ عليك أن تتذكر دائما بأنه إذا تخاصم الذئبان نجت الفريسة، وإذا تخاصمت أنا وأنت فسينجو القارئ من حبائلنا، ولن يخسر حينها إلا نحن.
أجابني الكاتب وكأنه لا يريد أن يستفيد من الحكمة التي ذكَّرته بها.
ـ وعليك أن تعلم أنت بأنك ستكون الخاسر الأكبر، فأنت منذ ولدت في النصف الثاني من الستينات، وحتى يومنا هذا، لم تستطع أن تقدم نفسك للناس، ولولا فكرة هذه الرواية لعشت مغمورا، وإني أتحداك الآن أن تقدم لهم "شخصك الكريم" دون الاستعانة بي، وبلوحة مفاتيح جهازي المتهالك هذا.
لم أكن أتصور قبل ذلك الوقت، أن الكاتب بإمكانه أن يحدثني بهذه الطريقة المستفزة، لذلك فقد فوجئت كثيرا بكلماته الأخيرة، وأحسست بأنه قد قرر أن يخاطر بكل شيء، وهو ما سيؤدي حتما إلى إعادة تنظيم العلاقة بيننا، أو إلى التوقف النهائي لمشروع كتابة يومياتي.
ترك الكاتب القرار النهائي بيدي، وذلك بعد أن حشرني في زاوية ضيقة جدا، ووضعني أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما، فإما أن نراجع بنود الاتفاق بيننا، وستكون تلك المراجعة لصالحه، لأنها ستسلب مني الكثير من الامتيازات التي كنت أتمتع بها، وإما أن نعلن توقف مشروع كتابة الرواية، ولم يكن أمامي من خيار ثالث.
كنت أعلم بأنه كان عليَّ أن أختار بين خيارين سيئين جدا، ولكني مع ذلك قررت أن أراوغ قليلا، حتى استجمع كل قدراتي التفاوضية لكي أقلل من حجم الخسارة، وحديثا قيل بأنه بإمكان الكل أن يربح في المفاوضات الناجحة، ولكن كيف أجعل من المفاوضات بيني وبينه، مفاوضات ناجحة لا يخسر فيها أي واحد منا؟
كان عليَّ أن أقول شيئا يخفف من حدة التوتر، ويخرجني ـ ولو قليلا ـ من الزاوية الضيقة التي حشرني فيها.
ـ ألم تقل لي بأن العديد من القراء قد اتصل بك للتعبير عن إعجابه بما نُشر من حلقات الرواية حتى الآن؟ أو ليس القارئ هو الحكم الفصل الذي علينا أن نلجأ إليه إذا ما اختلفنا في تقييم أي حلقة من حلقات هذه الرواية؟
ـ بلى، ولكن علينا أن لا نغالط الحكم، وأن لا نخدعه.
ـ وبِمَ خدعنا القراء؟ أرجوك أن تحدثني بصراحة.
ـ خدعناهم أولا بعنوان هذه الرواية، وخدعناهم ثانيا لأننا لم نحدثهم عن بعض الأحداث التي عشتها في طفولتك، والتي قد تعطيهم صورة أخرى، مغايرة تماما للصورة التي رسمنا في أذهانهم، من خلال الحلقات الأربع الماضية.
أعطتني الكلمات الأخيرة للكاتب فرصة رائعة لأن أخرج من الزاوية الضيقة التي حشرني فيها، فهو وإن كان محقا عندما قال بأن هناك مواقف في طفولتي، أخفيتها عن القراء، حتى لا أشوه الصورة التي كنت أريد أن أثبتها في أذهانهم عن تلك الطفولة، فهو وإن كان محقا في ذلك، إلا أنه لم يكن محقا في ادعائه بأني خدعت القراء بعنوان الرواية، لذلك فقد قررت أن أركز على الخدعة بالعنوان، وأن أجعلها محورا للنقاش بيننا، فالتركيز عليها سيكون في مصلحتي، وسيعزز من قدراتي التفاوضية، والتي بدت في ذلك الوقت ضعيفة جدا.
فعنوان الرواية الحالي كان من اقتراحي أنا، وكان لذلك سبب، فقد كان من المفترض أن يكون عنوانها "واحد من الناس"، ولكن هذا العنوان الذي كان من اختيار الكاتب، لقي معارضة شديدة من طرف صديق لي وله. ولقد انتقد الصديق المذكور وبشدة، اختيار عنوان "واحد من الناس" لهذه الرواية، وكان لرأي ذلك الصديق، قيمة كبيرة عند الكاتب، فقد كان هو الشخص الوحيد الذي يطلعه الكاتب على بعض كتاباته من قبل نشرها.
بعد معارضة صديقنا المشترك للعنوان القديم للرواية، اقترحت أنا العنوان الحالي، وهو العنوان الذي لم يتحمس له الكاتب في بادئ الأمر، رغم التحمس الشديد الذي أبداه صديقنا له.
ـ يبدو أنه لا زالت لديك عقدة من عنواني الذي اقترحت، والذي لقي ترحيبا كبيرا من صديقنا، عكس عنوانك الذي وجد معارضة شديدة منه.
ـ أنت تعلم بأن السبب الذي جعلني لا أتحمس لعنوانك الذي اخترت، والذي أصبح في النهاية عنوانا لهذه اليوميات، هو أن هذا العنوان يقدم للقراء صورة محددة سلفا عن مستقبل البطل الذي سيجبره عنوان الرواية لأن يصبح شخصية عادية، بعد أن عاش في بداية حياته ـ وحسب ما رويتَ أنت ـ  طفولة غير عادية. أما عنوان "واحد من الناس" فكان سيترك للبطل نهاية مفتوحة، كما أنه كان سيترك للقراء حرية تخيل مصائر مفتوحة، لواحد من الناس، اتفقنا على أن نكتب سيرته، وأن نجعله بطلا لهذه الرواية.
وفي اعتقادي فإن نقطة ضعف الرواية ستكون نهايتها المحددة سلفا، وبدايتها المغلقة، فلم يكن من المناسب أن نقوم بتنقية طفولتك من كل الأحداث والمواقف التي كانت تثبت بأنك لم تكن شجاعا دائما، ولم تكن ذكيا دائما، ولم تكن مشاغبا دائما. كان علينا أن ننقل للقراء حقيقة طفولتك، وكما هي، وكان علينا أيضا أن نترك لهم نهاية الرواية مفتوحة، حتى يكونوا أحرارا في تخيل النهايات التي تعجبهم، وهذا مما لا يسمح به عنوانك الذي اخترت.
إن ما يعجبني في طفولتك الحقيقية، لا طفولتك المنتقاة التي قدمت للقراء في هذه اليوميات، أنها كانت طفولة مفتوحة في كل الاتجاهات. إن من يعرف حقيقة طفولتك، كما هو الحال بالنسبة لي، لم يكن ليفاجأ لو عَلِم بأنك بعد أن كبرت وتخرجت أصبحت من كبار علماء وكالة الفضاء الأمريكية. لن يفاجأ إطلاقا بذلك، لأنك  كنتَ قد أظهرت في طفولتك ذكاءً خارقا، كان بإمكانه مع شيء من الحظ، وكثير من الاجتهاد والمثابرة، أن يؤهلك لتلك المكانة. وإن من يعرف حقيقة طفولتك، كما هو الحال بالنسبة لي، لم يكن ليصدم لو عَلِم، في المقابل، بأنك قد أصبحت شخصا فاشلا عندما تقدم بك السن، ففي طفولتك كانت هناك أحداث ليست بالقليلة، لم تذكرها في يومياتك هذه، كان بإمكانها لو مُزجت بشيء من سوء الحظ، أن تجعل منك شخصا فاشلا، بل ومن كبار الفاشلين.
وإن في طفولتك من المواقف الشجاعة، والتي أسهبت في ذكرها، في الحلقات الماضية، ما كان يؤكد بأنك لا محالة ستُظهر عندما تكبر شجاعة لافتة، سيتغنى بها الكثير من الناس. ولكن، وفي المقابل، فإن في طفولتك مواقف عديدة، لم تتحدث عنها في يومياتك، كنت فيها جبانا، وكانت تكفي لأن تجعل من عرفك في طفولتك لا يفاجأ إن علم بأن الناس قد لقبوك بعدما كبرت، بأجبن القوم.
وأيضا فإن في طفولتك من الشغب والمشاكسة ما كان ينذر بأنك ستصبح رجلا مشاكسا مؤذيا لا يسلم منه أحدا، كما كان فيها من الهدوء والخمول ـ وهو ما لم تذكره في اليوميات ـ ما كان يبشر بأنك ستصبح رجلا هادئا، خاملا، ورزينا.
لقد كانت في طفولتك ـ وهذا ما يميزها حقا ـ بذور أو جينات لكل أصناف الرجال. كانت فيها جينات الرجل الناجح، وكان فيها أيضا جين لرجل فاشل. كانت فيها جينات الرجل الشجاع، وكان فيها أيضا جين لرجل جبان. كانت فيها جينات الرجل المشاكس، وكان فيها أيضا جين لرجل خامل.
لقد كانت طفولتك ـ وهذا هو أروع ما فيها ـ طفولة مفتوحة على كل الاحتمالات، وعلى كل أصناف الرجال، فقد كانت بذور وجينات كل أصناف الرجال موجودة في طفولتك، وإن كان الفرق يكمن فقط في الكمية الموجودة من كل صنف.
هذه هي طفولتك الحقيقية، التي كان عليك أن تقدمها للقراء، بدلا من خداعهم بانتقاء أحداث ومواقف تصب في اتجاه واحد.
لم أجد ردا مناسبا، أرد به على الكاتب، سوى أن أقول له وبكلمات مهزوزة:
ـ يبدو أنك تعرف عن طفولتي أكثر مما أعرف أنا عنها.
إني أعرف عن طفولتك الشيء الكثير، ليس أقل مما تعرف أنت عنها. فأنا أعرف مثلا بأنك في كثير من الأحيان، كنت هادئا خجولا لحد البلاهة ولدرجة جعلت كل عجائز الحي يبرئونك حتى من تلك الجرائم التي كنت ترتكبها لوحدك، ودون شريك. ولأنك كنتَ قد قلت للقراء بأنك كنت مشاغبا في المدرسة، لدرجة أنك أصبحت محل شبهة دائما، وأنه كانت تلصق بك كل الجرائم التي لم يكشف مرتكبها، فإنه عليَّ، في المقابل، أن أقول لهم، وحتى تكتمل لهم الصورة، بأنك كنت بريئا وبشكل دائم خارج المدرسة، وكانت عجائز الحي يلصقن كل جريمة ترتكبها أنتَ، بطفل بريء آخر، وذلك لأنهن كن قد عرفنك طفلا هادئا مطيعا خجولا. ولأنك قلت للقراء بأنك انتقمت مرة من المعلم الملاكم، كما ينتقم الرجل من الرجل، فإنه من الواجب عليَّ أن أقول لهم بأنك كنت تفشل في بعض الأحيان من الانتقام من بعض الأطفال، كما ينتقم الطفل من الطفل، وكنت تؤجر أطفالا أكبر منك سنا لتولي عملية الانتقام تلك. ولأنك قلت للقراء بأنك كنت شجاعا لدرجة كنت تتعامل فيها مع الأفاعي بشجاعة تستحق تصفيقهم، لأنك قلت لهم ذلك، فكان عليَّ أن أذكر لهم مواقف أخرى كنتَ فيها جبانا. فأنت ربما تكون هو الطفل الوحيد في الشلة الذي كان يخاف من تسلق بعض جبال لعيون، والتي كان يتسلقها أطفال أصغر منك سنا. وكنت أنت الوحيد، من بين أطفال الحي، الذي يخاف ركوب الجمال. كما أنك وبعد أن أصبحت طالبا في الثانوية، كنت تتجنب دائما أن تكون في الصفوف الأمامية كلما حدثت مواجهة بين الطلاب وقوات الأمن. ولأنك أيضا قلت للقراء بأنك كنت خارق الذكاء، وأنك تمكنت  ـ وفي دقائق معدودة ـ من حل أصعب مشكل حسابي كان يُمتحن به المعلمون، فإنه عليَّ أن أقول لهم في المقابل، بأنك في بعض الأحيان، كنت غبيا لدرجة جعلتك تعتقد، ولمدة من الزمن، بأن الصحراء الغربية كانت امرأة، وبأنها كانت زوجة الرئيس الراحل المختار ولد داداه. كما أنك كنتَ هو الطفل الوحيد الذي لا يستطيع أن يميز بين العجول، وكان ذلك دليلا قويا على الغباء بالنسبة لطفل مثلك، تقاسمت البادية والمدينة سنوات طفولته. وأعتقد أنك لا زلت تذكر إلى الآن ذلك اليوم الذي ذهبت فيه لتأتي بعجولكم، من قبل قدوم البقر، فعدت وأنت تسوق عجول أسرة أخرى، كان عدد عجولها مساويا لعدد لعجولكم، وهو ما شكل في تلك الفترة فضيحة كبرى، ونكتة عُمِّرت طويلا، خاصة لدى أطفال الحي.
لم أقاطع الكاتب، وتركته يتحدث حتى توقف بمحض إرادته عن الكلام، فلم يكن لديَّ ما أرد به، فكل ما قاله كان صحيحا ودقيقا، إلا أنه بالنسبة لفضيحة العجول فأعتقد بأن أهل الحي قد بالغوا كثيرا في تلك الحادثة التافهة. وعموما فتلك الحادثة التافهة لم تكن دليلا على غبائي، كما أنها لم تكن ـ بالتأكيد ـ دليلا على ذكائي. إنها مجرد حادثة تافهة، لا يمكن أن يُجعل منها مقياس للذكاء أو للغباء، فكل ما في الأمر هو أني لم أكن أهتم بكثير من اهتمامات أطفال البادية في ذلك الزمن. لم يكن تعلم حلب البقر، أو إتقان ركوب الجمال، أو التدرب على ذبح الغنم أو على سلخ جلودها يعني لي شيئا. لم تكن تلك المهام التي تعلمها وتدرب عليها كل أطفال الحي تعني لي أي شيء، ولم يكن يهمني أن أعرف ـ عكس غيري من أطفال الحي ـ أسماء أو ألوان أو أعمار بقراتنا القليلة، والتي لم أكن أميز بينها وبين بقية أبقار الحي، إلا من خلال العلامة التي كنا نَسِم بها بقراتنا.
ولم يكن ذلك بسبب الغباء، كما كان يعتقد الكثيرون، فكل ما في الأمر، وبباسطة شديدة، هو أن تلك الأشياء لم تكن من اهتماماتي في تلك الفترة. لقد كنت في ذلك الوقت أهتم كثيرا بالقراءة، وكانت لديَّ مكتبة رائعة، ولقد قرأت كثيرا عن الأطباق الطائرة، والتي لم أكن أشك في وجودها، في تلك المرحلة من حياتي. ولقد كنت أتوقع من حين لآخر أن يهبط بجنبي طبق طائر، ليأخذني إلى عالم متطور جدا، ومعقد جدا، ويختلف كثيرا عن العالم الذي عشت فيه طفولتي. عالم لا توجد فيه عجول ولا أبقار ولا جمال ولا جبال.
ولقد كنت على يقين بأن سكان تلك العوالم المتطورة جدا، والتي تأتي منها الأطباق الطائرة، لن يشترطوا للحصول على تأشيرة لدخول عوالمهم، أن يكون المتقدم للتأشيرة قادرا على أن يميز بين عجول أسر الحي، أو أن تكون له خبرة في ركوب الجمال، أو أن يكون في سيرة حياته عدد كبير من الخرفان كان قد ذبحها وسلخ جلودها لوحده.
وحتى بعد أن كبرت وأصبحت رجلا، لا زالت اهتماماتي تختلف كثيرا عن اهتمامات جيلي، وإن قيس ذكائي الآن، بمدى معرفتي بتلك الأمور التي يهتم بها جيلي في هذا الوقت، لاكتشفتم بأني في منتهى الغباء.
صحيح أني لم أعد اليوم أنتظر هبوط طبق طائر لينقلني إلى عوالم أخرى، ولكن الصحيح أيضا هو أني لازلت غير قادر على التأقلم والاندماج بشكل كامل مع الواقع الذي أعيشه. ولعل عدم قدرتي على التأقلم مع هذا الواقع، هي التي جعلتني أحلم بعالم آخر، أصبحت الآن على يقين بأنه لن يحملني إليه طبق طائر، وإنما ستحملني إليه أفكار طائرة، ما تزال ترفض، أن تهبط على هذه الأرض المتعطشة لها. إنها أفكار تتزاحم في رأسي، ومنذ مدة، ولا زلت عاجزا ـ حتى الآن ـ عن إنزال أي واحدة منها على أرض الميدان.
وإذا كان انتظاري في طفولتي لهبوط طبق طائر ينقلني لعوالم أخرى، قد شغلني عن الاهتمام بالكثير من اهتمامات أطفال الأمس، فإن انتظاري الآن لهبوط بعض الأفكار على أرض الواقع، قد شغلني هو أيضا عن الاهتمام بالكثير من اهتمامات رجال اليوم.
وإذا كان انتظاري للأطباق الطائرة في مرحلة الطفولة، قد جعلني أبدو غبيا لكثير من أطفال ذلك الزمن، فإن انتظاري في مرحلة الرجولة لهبوط الأفكار الطائرة، قد جعلني أبدو غبيا لكثير من رجال اليوم، بمن فيهم كاتب هذه الرواية.


الحلقة (6)


كنت سعيدا جدا بانتقالي إلى المرحلة الإعدادية، وكان دخولي لتلك المرحلة يعني بالنسبة لي أشياءً كثيرة. فهو من جهة سيضع حدا نهائيا لعمليات الضرب والتعذيب التي كنت أتعرض لها في المرحلة الابتدائية. كما أنه سيمكنني من أستمع وأتحدث بشكل مباشر مع الأساتذة "العرب" الذين يُدرسون في الثانوية، والذين كنت أحلم دائما بالتحدث معهم، بل وكنت أتتبعهم في سوق المدينة، لأسترق السمع إليهم، وهم يُحدثون خبازا هنا أو جزارا أو بائعة خضروات هناك. وهو فوق ذلك كله، أي الانتقال إلى المرحلة الإعدادية، سيمكنني من أن أمتلك وأكتب دروسي في دفاتر من فئة مائتي صفحة. لقد كنتٌ أعتقد، ولقد كان هذا الاعتقاد سائدا عند تلاميذ الابتدائية في تلك المرحلة، بأنه لا يجوز لنا أن نملك أو نكتب إلا في دفاتر 32 صفحة، ما دمنا لم نتجاوز المرحلة الابتدائية.
وفي يوم الافتتاح من العام الدراسي 1979 ـ 1980 وليت وجهي شطر ثانوية لعيون، والتي دخلتها أول مرة، وأنا حافي القدمين، والسبب في ذلك أني وجدت عند المدخل الرئيسي بعض طلاب الثانوية الأقدم، وقد طلبوا مني أن أخلع نعلي، لأنه لا يجوز دخول الثانوية لغير الحفاة. رفضت في البداية أن أخلع نعلي، ولكني لما رأيتهم خلعوا نعالهم قبل الدخول، خلعت نعلي، وأخذت أسير معهم إلى مباني الإدارة، وأنا حافي القدمين.
قطعت عدة أمتار وأنا أسير حافي القدمين، ولم أتوقف عن السير حافيا، إلا بعد أن انفجر أحدهم ضاحكا، وبعد أن انتقلت عدوى الضحك إلى الآخرين.
كان مثل تلك القصص يتكرر مع مطلع كل عام دراسي، ولم أكن بالتأكيد أنا هو الضحية الوحيد في ذلك العام الدراسي. ولقد حاولت أنا بدوري، في العام الموالي، أن أسخر من بعض طلاب الثانوية الجدد، كما سَخِرَ مني بعض طلابها الأقدمين، ولكني لم أوفق في ذلك. والحقيقة أني كثيرا ما كنتُ أخطط للأمور بشكل جيد، ولكني كنتُ أفشل دائما عند التنفيذ، ورغم أني الآن قد أصبحت أعرف السبب في ذلك، إلا أني في ذلك الوقت كنتُ أعتقد بأن ما يُفشل خططي، هو أني كنت أتعرض لمؤامرة كونية كبرى، تقودها الامبريالية العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وتشارك فيها جهات عديدة أخرى، بما فيها معزاتنا الحمقاء، والتي لعبت أدوارا كثيرة في تنفيذ المخطط الجهنمي الذي يحاك ضد "شخصي الكريم".
وفي ذلك العام تم تخصيص مخزن كبير في الثانوية، لكي يستقبل طلاب الشعبة العربية. ولقد تم تقسيم المخزن عن طريق صفائح الخشب، إلى فصلين اثنين، استقبلا كل الناجحين في المسابقة العربية لدخول سنة أولى إعدادية من ثانوية لعيون. وكنا نحن طلاب الفصول العربية نشعر في ذلك الوقت، بالكثير من الإهانة، وسنعلم لا حقا بأن ذلك كان هو الحال بالنسبة لكل المؤسسات التعليمية في البلاد. كما سنعلم بعد عقد من الزمن، وعندما نتخرج، ونبدأ بالبحث عن وظائف، بأننا سُنعامل من طرف الإدارة، بنفس الإهانة والاحتقار التي عاملتنا بها ثانوية لعيون في ذلك العام الدراسي.
لم أعد أتذكر الآن أول حصة أحضرها في الفصل المخزن، ولكني لازلت أتذكر كل أساتذتي في ذلك العام، باستثناء أستاذ مادة الفرنسية. وكان من بين أساتذتي أربعة أساتذة تونسيين، وهو ما يعني بأنني في ذلك العام الدراسي وجدت فرصة كبيرة للتحدث مع الأساتذة العرب.
وكان من بين أساتذتنا التونسيين، أستاذ التاريخ والجغرافيا، ويسمى على بالحاج. ولقد أحبني هذا الأستاذ كثيرا، وكان يدعوني إلى منزله من حين لآخر، وقد أهداني بعض كتب محمود المسعدي، والتي لم أفهم منها شيئا، في ذلك الوقت، ولا أعتقد بأني سأفهم منها شيئا إن أعدت قراءتها الآن. والغريب أن نتائجي في التاريخ، كانت سيئة جدا، رغم صداقتي القوية بأستاذه. وكان أستاذ التاريخ يكتب لي ملاحظة بجنب النتيجة السيئة التي كنت أحصل عليها في اختباراته، وكانت الملاحظة تقول بأن خطي لا يمكن فك طلاسمه إلا في العقود القادمة، نظرا للطريقة الغريبة التي كنت أرسم بها الحروف.
وفي نهاية العام، قرر أستاذ التاريخ أن يصحح الدفاتر. ولقد حاولت أن أستغل تلك الفرصة، لأحصل ـ ولو لمرة واحدة ـ على نتيجة متميزة، تنال إعجاب أحب الأساتذة إليَّ، في أول عام لي في الثانوية. اشتريت دفترا جديدا، ونسخت فيه كل دروس التاريخ والجغرافيا في ذلك العام، واستخدمت القلم الأحمر لكتابة العناوين، وأقلام الرصاص الملونة لرسم الخرائط. وبعد جهد شاق، أصبحت أملك أروع دفتر للتاريخ والجغرافيا في كل الفصل، بل وفي كل ثانوية لعيون، إن لم أقل على عموم التراب الوطني . ونظرا لإعجابي بدفتر التاريخ، لم أكن أتركه ليفارقني، وفي الليلة التي سبقت تصحيح الدفاتر، نمت بشكل مفاجئ، ودفتر التاريخ قرب وسادتي، فجاءت معزاتنا الحمقاء، والتهمت الدفتر، ولم تترك منه إلا بعض الأوراق الممزقة.
ولم تكن تلك هي الحماقة الوحيدة التي ترتكبها معزاتنا الحمقاء، ولم تكن تلك هي المشاركة الوحيدة لمعزاتنا الحمقاء في المؤامرة الكبرى التي تحاك ضد "شخصي الكريم".
فنفس المعزاة ستلتهم بعد ذلك سلسلة من قصص المغامرين الثلاثة، أو الخمسة، لم أعد أتذكر الآن عددهم بالضبط. والسلسلة جمعتها أنا وصديقي الذي تعرفت عليه في ذلك العام الدراسي، وهو نفس الصديق الذي سيساعدني ـ بعد ذلك بخمس وثلاثين سنة ـ في إقناع الكاتب بتغيير عنوان هذه الرواية.
كنت أنا وصديقي هذا، ندخر كلما نحصل عليه من نقود، وذلك لنتمكن من شراء أعداد تلك السلسلة، والتي كانت تباع أعدادها أو أجزاؤها، بأسعار مجحفة بميزانيتنا المشتركة.
ولقد كنت أعُد معزاتنا الحمقاء، بأنها مرجع من مراجع التاريخ في المدينة، وبأنها أول معزاة تتخصص قي تاريخ الفراعنة في مصر، نظرا لما التهمت من تاريخهم المسطر في دفتري الرائع. أما بعد أن التهمت سلسلة المغامرين الثلاثة أو الخمسة، فأصبحت أعتبرها، أنا وصديقي، بأنها أذكى معزاة في مدينة لعيون وضواحيها.
ومن بين أساتذتنا التونسيين في ذلك العام، أستاذ الرياضيات السيد أزكولي حمادي، هكذا كان يسمى، على ما أذكر. ولقد كان هذا الأستاذ ضعيفا في مادة الرياضيات، وكان يقول لنا كلما واجهته مشكلة أثناء الدرس، بأن مشكلته ليست في الرياضيات، وإنما في اللغة العربية التي يدرس بها مادته. وكان نفس الأستاذ يدرس سنة أولى فرنسية، وكان يقول لهم أيضا بأن مشكلته ليست في الرياضيات، وإنما في اللغة الفرنسية. ولقد غاب عن أستاذ الرياضيات بأننا نحن وطلاب الأقسام الفرنسية، كنا نتقابل كثيرا، وكنا نسخر من حجته تلك.
كانت نتائجي في الرياضيات جيدة، وهكذا ستظل دائما، خلال كل دراستي، ولكن لم تكن علاقاتي جيدة بأستاذ الرياضيات، ولا بزوجته السيدة ازكولي، والتي كانت تدرسنا مادة العلوم الطبيعية.
أتذكر أنه في يوم من الأيام، جاء صديقي، يحمل بندقية من نوع البنادق التي يتكسب عليها البعض أمام الثانويات والأسواق، في أيامنا هذه. وأتذكر أنه في ذلك اليوم كان لدينا اختبار في الرياضيات على تمام الساعة العاشرة. ذهبت أنا وصديقي إلي أحد الجبال المحيطة بالثانوية، لتجريب البندقية، وللتنافس في الرماية، ولم نشعر بمرور الوقت، حتى مر على موعد الاختبار ما يقارب نصف الساعة.
عدنا إلى الفصل، وطلبنا من الأستاذ أن يسمح لنا بالدخول، ولكنه رفض.
أخرج صديقي بندقيته، وصوبها نحو الأستاذ، وهدد بإطلاق الرصاص إذا لم يسمح لنا الأستاذ بالدخول، وبالمشاركة في الاختبار.
قلت لصديقي بصوت مرتفع أردت أن يسمعه الأستاذ:
ـ لا تطلق الرصاص، فأن نجد صفرا في اختبار الرياضيات خير لنا من أن نقتل أستاذا تونسيا في ثانوية لعيون.
أخذ الأستاذ يتوسل لنا، ويطلب منا أن نتوقف عن تصويب البندقية نحوه، ووعدنا بأنه سيسمح لنا بالمشاركة في الاختبار، ولقد فات الأستاذ بأن البندقية التي لدينا، لا تقتل إلا العصافير، إن كانت تقتلهم أصلا.
أما السيدة ازكولي أستاذة العلوم الطبيعية، وزوجة أستاذ الرياضيات، فقد رفضتُ أنا وصديقي أن ندخل عليها الفصل، بحجة أنها امرأة.
كنا قبل حصة العلوم الطبيعية، نسحب طاولة من الفصل، ونضعها مقابل النافذة، حتى نتابع دروس السيدة ازكولي، ونحن خارج الفصل، لأننا كنا ندعي بأننا رجالا، والرجال لا يقبلون أن تدرسهم امرأة، هكذا كنا نبرر عدم حضورنا لحصص العلوم الطبيعية في ذلك العام.
وفي أول اختبار في مادة العلوم، رفضت السيدة ازكولي، أن تستقبل أوراق الإجابة التي أعددتها أنا وصديقي، ونحن خارج الفصل. وبعد ذلك بأيام، قمنا بتهديد أستاذة العلوم، وعملنا لها مقلبا، فرضخت لنا، وقبلت أن تستقبل إجاباتنا التي كنا نُعِدُّها من خارج الفصل، وكانت تعطينا نتائج جيدة، ولكن في نهاية العام اكتشفنا بأن الأستاذة التونسية التي عادت إلى بلدها في ذلك العام، قد خدعتنا، فقد كانت معدلاتنا النهائية، في مادة العلوم الطبيعية، هي أسوأ المعدلات في القسم كله.
وكان أيضا من بين أساتذتنا التونسيين، أستاذ مادة التكنولوجيا التي ألغيت من المناهج، في ذلك العام. ومن الغريب أن مادة التكنولوجيا، والتي كانت تدرس من قبل الثمانينات، لا تدرس لطلاب الثانوية في العقد الثاني من الألفية الثالثة!!
أما أساتذتنا الموريتانيين، فكان أشهرهم على الإطلاق، أستاذ التربية الإسلامية، و الذي درس أجيالا عديدة في ثانوية لعيون، كان من بينهم أستاذي الذي سيدرسني الاقتصاد القياسي، في جامعة نواكشوط، بعد ذلك بعقد من الزمن .
وكانت تُروى عن هذا الأستاذ قصص عجيبة، من بينها أنه قال لبعض التلاميذ، بأن الطائرة التي عادت به إلى أرض الوطن، لم تستطع أن تحمله هو وشهاداته في نفس الوقت، لذلك فقد اضطر الرئيس الراحل المختار ولد داداه، لأن يؤجر طائرة خاصة لحمل شهادات أستاذنا للتربية الإسلامية. وما أستطيع أن أؤكده لكم هنا، هو أن الرئيس الراحل لم يذكر في مذكراته قصة تلك الطائرة التي تم تأجيرها لحمل شهادات أستاذ التربية الإسلامية في ثانوية لعيون.
وكان يُروى أيضا عن هذا الأستاذ، بأنه قد قال لبعض تلاميذه، بأنه كان يتمشى في يوم من الأيام في القاهرة، ومر قرب ملعب لكرة القدم، أثناء مباراة رياضية، وكانت الجماهير تُصفق للاعب مشهور كان نجم تلك المباراة. يقول أستاذ التربية بأنه دخل وسط الملعب، وركل الكرة إلى أعلى حتى غابت عن أنظار الجماهير، ليبدأ تصفيق حاد تشجيعا له. ويقول الأستاذ بأنه ترك الملعب، وذهب إلى بيته وأخذ حماما، ثم عاد إلى الملعب، فوجد الجماهير لازالت تصفق، والكرة تقترب من السقوط على أرضية الملعب، فما كان منه إلا أن ركلها مرة ثانية، ركلة أقوى، لم تسقط بعدها على الأرض، وحتى يومنا هذا، ويومنا هذا تعني يوما ما من عقد السبعينيات، لا يمكنني تحديده.
ويُجمع طلاب الثانوية بأن هذا الأستاذ لا يصحح أوراق الاختبارات والامتحانات، وإنما يوزع النتائج وفق مزاجه. ومن طرائفه في هذا المجال، أنه كان يعطي لبنات والي المدينة حينها نتائج جيدة، رغم أنهن، لم تكن من بينهن من تستطيع أن تكتب اسمها بالعربية. ولم تكن تهمهن الدراسة أصلا، بل كن يقضين معظم وقتهن في لعب كرة السلة، وكان مظهرهن وهن يلبسن قمصانا وبنطلونات رياضية، ويلعبن كرة السلة، أمام دار الشباب، مثيرا لاستغراب واشمئزاز سكان المدينة.
وفي الاختبارات الشفهية، كان أستاذ التربية يطلب من كل الطلاب الخروج من الفصل، عندما يبدأ في طرح أسئلته على إحدى بنات والي المدينة.
وكانت الأسئلة من نوع : ما هذا؟
فتجيب ابنة الوالي: هازا كلمن، يعني هذا قلم.
فيقول الأستاذ : رائع، رائع ، رائع، ويرفع بها صوته حتى يسمعه الطلاب خارج الفصل، ثم يشير الأستاذ إلى الطلاب بالعودة إلى الفصل. وعند عودتهم يخبرهم بأن ابنة الوالي قدمت أجوبة رائعة، وأن من سوء حظهم أنهم كانوا خارج الفصل، ولم يتمكنوا من سماع الأجوبة الرائعة لابنة الوالي، والتي تعكس ـ حسب الأستاذ ـ مستوى متميزا في مادة التربية الإسلامية!!!
ولقد كنت أنا من ضحايا مزاج أستاذ التربية، وكانت نتيجتي ثابتة في كل اختباراته وامتحاناته في ذلك العام، وكنت أحصل دائما على 4/20. ولقد تمنيت أن أحصل ولو لمرة واحدة، على ثلاثة أو اثنين أو حتى على صفر، بدلا من الأربعة التي بدأت تزعجني كثيرا، في ذلك العام. ولقد كان الأستاذ يناديني باسمي الكامل مع كل اختبار ليقول لي، وبأعلى صوته : لقد حصلت على كَطْ، هكذا كان ينطق رقم أربعة بالفرنسية.
ورغم ذلك كله، فكنا نعد أستاذ التربية رجلا صالحا، وكنا نروي عنه حكايات غريبة، ولعل من أشهرها حكايته مع أستاذة فرنسية تدعى"SUIZANE".كانت تلك الأستاذة نحيفة الجسم، وكانت تحلق شعر رأسها بانتظام، وكانت تلبس دائما بنطلونا مع قميص. ويقال أن أستاذ التربية كان يعتقد بأنها رجل، وكان يصافحها كلما قابلها في قاعة الأساتذة. وفي يوم من الأيام، أخبره أحد الأساتذة، عندما رآه وهو يصافح أستاذة الفرنسية، بأن "SUIZANE" امرأة وليست رجلا.
فما كان من أستاذ التربية إلا أن سحب يده بسرعة، وقال: اللهم احرقها بالنار، كما حرقتنا بالنار. ويؤكد البعض بأن ذلك اليوم الذي دعا فيه أستاذ التربية بالنار للأستاذة الفرنسية، كان هو نفس اليوم الذي اشتعلت فيه ثلاجة في منزل الأستاذة، مما تسبب في إصابتها بحروق خطيرة، نقلت بعدها في طائرة إلى نواكشوط، لتنقل بعد ذلك إلى فرنسا، قبل أن تنقطع عنا أخبارها بشكل كامل.
وكان من بين أساتذتنا في ذلك العام أستاذ اللغة العربية محمد عثمان، وكان أستاذا رائعا بحق، وكانت حصصه من أروع الحصص. ولقد حصلت في العربية على معدل متميز، رغم أني كنت أتظاهر أمام الطلاب باحتقار المواد الأدبية، إلا أني خارج الثانوية كنت من المهتمين باللغة والأدب، وكنت أقرأ الكثير من كتب الأدب. وكان والد صديقي رحمه الله، عالما وشاعرا وأديبا، وهو الذي أعطاه الصحفي والناقد د.الشيخ سيدي عبد الله شيئا من حقه، عندما عده بأنه رائد النقد الحديث في موريتانيا. وكانت لرائد النقد الحديث في موريتانيا، رحمه الله، مكتبة متميزة، كنت أنا وابنه نقضي فيها الكثير من أوقاتنا، كما كنا نتعلم منه، وبشكل مباشر. كنا نهتم كثيرا بالمطالعة التي لا صلة لها بالمناهج المقررة، عندما نكون خارج الثانوية. أما عندما نكون داخل الثانوية، فقد كنا نتفرغ للشغب والفوضى، ونبتعد عن كل أشكال المطالعة والدراسة، كان حالنا مع الدراسة عجيبا ومثيرا.
كنا من أصغر طلاب الثانوية، وكنا من أشد الطلاب ذكاءً، ومن أكثرهم فوضى وشغبا و إزعاجا للإدارة وللأساتذة. ولم ينافسنا في الشغب في ذلك العام، إلا طالبان، ولكنهما لم يكونا متميزين دراسيا. أحدهما وجد ذات اختبار صفرا، فأخبر والدته بذلك، فأخذت الوالدة تزغرد فاجتمع عليها الجيران، وسألوها عن سبب زغردتها، فأخبرتهم بأن ابنها قد بشرها بأنه حصل على صفر في الامتحان. كانت الأم المسكينة تعتقد بأن الحاصل على الصفر يستحق كل تلك الزغاريد التي أطلقتها في ذلك اليوم.
وفي سنتي الثانية في الثانوية، لم تكن لي مشاكل تذكر مع الأساتذة، بل أني كنت أتجنب الاصطدام بهم، منذ أن تآمرت عليَّ طبشورة في الفصل، وسببت لي موقفا محرجا مع أستاذ التاريخ في ذلك العام.
ففي أول اختباراته، طرح علينا أستاذ التاريخ سؤالا يقول: ما هي الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني أمية؟ ولأني لم أكتب شيئا في دفتري عن دولة بني أمية، ولأني لم أكن واثقا بأن التفلسف في الإجابة على هذا السؤال سيأتي بنتيجة، لذلك رفعت يدي، وطلبت من الأستاذ أن يسمح لي بطرح سؤال. أذن لي الأستاذ، فقلت:
ـ يا أستاذ، هل تريدنا أن نذكر كل الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني أمية، أم أنه يكفي أن نذكر الأسباب الرئيسية دون أي ذكر للأسباب الثانوية؟
قد يُخَيَّل لمن سمع ذلك السؤال، بأنه ليست لدي مشكلة في الإجابة، والحقيقة أنه لدي مشاكل عديدة في الإجابة، وتلك المشاكل هي التي جعلتني أطرح ذلك السؤال.
أشار عليَّ الأستاذ بالجلوس، وطلب مني أن أتوقف عن طرح الأسئلة، وإلا فإنه سيضطر لإخراجي من الفصل.
التزمت بأوامر الأستاذ وقتا قصيرا، ثم تذكرت بأنه قد يكون من الأفضل لي أن أحصل على صفر بسبب عدم المشاركة في الاختبار، بدلا من الانصياع لتهديد الأستاذ، والمشاركة في اختبار، لن أحصل فيه ـ حسب المتوقع ـ إلا على خمسة نقاط أو ستة.
وقفت من جديد، وقلت:
ـ يا أستاذ، هل تريدنا أن نذكر كل الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني أمية، أم أنه يكفي أن نذكر الأسباب الرئيسية دون أي ذكر للأسباب الثانوية؟
ـ أخرج من الفصل، هكذا رد الأستاذ.
أشار لي أحد الطلاب بالخروج، وكان في إشارته الكثير من السخرية.
وقبل أن أخرج، أخذت قطعة من طبشور، كانت على طاولتي، ويبدو أنها كانت قطعة عميلة لأمريكا، ورميتها بقوة في اتجاه الطالب المستهزئ بي، ولكن قطعة الطبشور غيرت مسارها في اتجاه جبهة الأستاذ.
التفت إليَّ الأستاذ، ثم قال بكلمات، كانت أشد إيلاما من وخزات إبر المعلم المشكلة:
ـ أتضربني هكذا. ولم يقل غير ذلك، وليته قال أكثر من ذلك.
ليته لم ينطق بتلك الكلمتين، وليته لم ينطقهما بصوته الهادئ، وليته صرخ في وجهي، وليته صفعني، وليته شتمني، وليته فعل أي شيء غير النطق بتلك الجملة الهادئة التي عذبني بها زمنا طويلا.
فكرت في أن أعتذر له، وأن أقول له بأني لم أكن أقصد رميه بقطعة الطباشير، وإنما كنت أقصد أحد الطلاب، ولكني لم أستطع النطق، حتى وإن نطقت فإني كنت واثقا بأنه لن يصدقني، ولن يصدق بأني أتعرض لمؤامرة كبرى، وبأن قطعة الطباشير التي سقطت على جبهته كانت عميلة لأمريكا.
تصبب جسدي عرقا، وشعرت برغبة جامحة في البكاء، ولولا رجولة كاذبة كنت أتمثلها، لبكيت واسترحت.
ففي كل حياتي الدراسية، لم أشعر بالارتباك مثلما كنت أشعر به في تلك اللحظات.
ورغم أني كنت من أكثر الطلاب شغبا وفوضى، إلا أنه كانت لدي خطوط حمراء، لم أكن لأتجاوزها، وكان من بين تلك الخطوط الحمراء أن لا أرفع يدي في وجه من هو أكبر مني سنا، خاصة إذا كان أستاذا، وفي سن والدي رحمه الله، هكذا تربيت، وهكذا كنت دائما. فأنا لم أكن سيء الخلق، حتى وإن كنت من أكثر الطلاب شغبا وفوضى.
كان رفع اليد في وجه من هو أكبر مني سنا جريمة نكراء لا يجوز ارتكابها، ولو كان ذلك مما يجوز، لصفعت شرطيا بائسا أهانني أمام الجميع، أو على الأقل لرميته بحجارة وهربت.
ففي احد الأيام ذهبت لأتابع إحدى المحاكمات المفتوحة أمام الجماهير، وكنا في ذلك الوقت نهتم كثيرا بالمحاكمات، وبمتابعة مرافعات المحامين، وخصوماتهم في قاعات المحاكم. ذهبت في ذلك اليوم، رفقة أصدقاء لي، كانوا أكبر مني سنا، ولكنهم كانوا لا يزالون يحلمون بالنجاح في مسابقة دخول الإعدادية، والالتحاق بي في الثانوية.
عند الباب استقبلنا شرطي بائس، وسمح لكل أصدقائي بالدخول، أما أنا فقد رفض أن يسمح لي بالدخول، ونصحني بأن أذهب للشارع لألعب مع زملائي الأطفال هناك.
فلو كان ضرب الكبار يجوز لي، لرميت ذلك الشرطي البائس بحجارة على الوجه، ثم أطلقت ساقي للريح.
كان هناك خيط رفيع بين إزعاج الكبار والإساءة إليهم، ولم أكن لأسمح لنفسي بتجاوز ذلك الخيط الرفيع. كانت الفوضى والشغب من الأشياء الجائزة لنا نحن الصغار لإزعاج الكبار، ولكن الإساءة إليهم بكلمات جارحة، أو بالضرب فذلك كان مما لا يجوز في أي ظرف من الظروف.
كانت هناك تصرفات يسمح لنا الكبار بممارستها، حتى ولو كانت تزعجهم كثيرا، ولكن كانت هناك تصرفات أخرى لا يجوز لنا الإقدام عليها.
ولقد ارتكبت في يوم اختبار التاريخ، واحدة من أبشع تلك التصرفات التي لا يجوز الإقدام عليها. ومما زاد من بشاعة ما قمت به، هو ردة فعل الأستاذ الهادئة، على تصرفي الطائش.
ومنذ ذلك اليوم لم أرفع بصري في وجه أستاذ التاريخ، وكنت أتجنب دائما أن أقوم بأي حركة، أو أن أحدث أي صوت أثناء حصصه.
وفي كل حصة كنت أحاول أن أعتذر لأستاذ التاريخ، بسلوكي الجديد، والذي استغربه زملائي في الفصل كثيرا. ولقد شعر الأستاذ بذلك التغير الذي طرأ على سلوكي، منذ حادثة الطبشور، وهو ما جعله يتقبل اعتذاري دون أن يخبرني بذلك، وإن كانت نتائجي في كل اختبارات وامتحانات التاريخ، التي تم إجراؤها بعد حادثة الطبشور، لتؤكد بأن أستاذ التاريخ قد تقبل اعتذاراتي.


الحلقة (7)

تعرفت في الصف الثالث إعدادي على أساتذة جدد، كان من بينهم أستاذ التاريخ والجغرافيا والذي أعتقد بأنه كان يدعى "محمد سالم" أو "أحمد سالم".
كان هذا الأستاذ شديد الإزعاج باختباراته الشفهية التي كان يفتتح بها حصص مادته التي كانت هي المادة الأكثر إزعاجا لي من بين كل المواد المقررة. ولقد نجحت في التحايل على هذا الأستاذ مدة من الزمن، فكنت أصر دائما على أن آخذ مكانا متقدما أثناء حصصه، وكان كلما طرح سؤالا رفعت يدي وقربتها منه حتى تكاد تلامس وجهه، ثم أبدأ أصرخ بأعلى صوتي:
ـ أستاذ أنا.. أستاذ أنا .. أستاذ أنا.
ونجحت تلك الحيلة، لفترة من الزمن، إلى أن فاجأني الأستاذ ذات مرة، وطلب مني أن أجيب على سؤال سخيف في الجغرافيا، بعد أن أزعجه صراخي المتواصل طلبا للسماح لي بالإجابة، وبعد أن كادت سبابتي أن تلامس خده.
ويومها اكتشف أستاذ التاريخ والجغرافيا بأني كنت أخدعه بجلوسي على الطاولة الأمامية، وبإلحاحي على طلب السماح بالإجابة، ولم يكن منه بعد أن اكتشف ذلك،  إلا أن قرر أن يحرجني مع بداية كل حصة من حصصه، وأن يطلب مني أن أجيب على السؤال الشفهي الذي كان يفتتح به الحصة.
ودرَّسنا في نفس العام أستاذ للغة العربية عُرف بتسامحه مع الطلاب. وقد وبخني يوما المراقب العام في الثانوية، وقال لي  بأني أنا هو أول طالب يشكو منه أستاذ اللغة العربية لمجلس التأديب خلال كل تاريخه في الثانوية، مما يعني أنني كنت الأكثر تشويشا من بين طلاب كل الدفعات التي درسها هذا الأستاذ، وأن شغبي أجبر هذا الأستاذ على معاملتي بما لم يعامل به طالبا من قبلي.
ولقد كان أستاذنا للغة العربية "باب ولد أمبارك" رحمه الله تعالى، يحب التدريس كثيرا، وقد قيل لي بأنه لما تقاعد قرر أن يتطوع بالتدريس في الثانوية لأنه لا يستطيع أن يتخيل حياة بلا تدريس.
ومن بين من درسنا في ذلك العام أستاذ عراقي، كان يدرس مادة العلوم الطبيعية، وكان اسمه يبدأ ب"مؤيد"، وذلك هو ما أتذكره الآن من اسمه، وكان لهذا الأستاذ دور كبير في انتشار الفكر البعثي في ثانوية لعيون.
ولأنه كان أستاذا، ولأنه كان بعثيا فقد حدثت بيني وبينه خلافات كبيرة، ولقد كنت أتعمد التشويش أثناء حصته، وكنت أبالغ في التشويش باعتبار أن ذلك يعتبر عملا نضاليا، ويعد خدمة للتنظيم الناصري الذي لم أخدمه إلا بالشغب والتشويش، أو بعدم تسجيل مادة اللغة الفرنسية في جدولي الزمني، أو بالخروج المبكر من الفصل كلما كانت هناك دعوة لإضراب.
ودرَّسنا أيضا في ذلك العام أستاذ سوري، وكان هو السوري الوحيد الذي درسني في ثانوية لعيون. وقد كان يدرسنا مادة الرياضيات، والتي كنت أحصل فيها على نتائج جيدة جدا، ولكن مع ذلك فقد كان أستاذنا السوري غير راض عني، لكثرة شغبي. وقد تعهد لي، أكثر من مرة، بأنه لن يقبل بأن يتم توجيهي إلى شعبة الرياضيات، وذلك رغم أن معدلي في هذه المادة كان يؤهلني لذلك.
وفي نهاية العام الدراسي، ومن قبل إعلان التوجيهات، تم استدعاء هذا الأستاذ الذي قيل لنا بأنه كان ضابطا احتياطيا في الجيش السوري، للعودة إلى سوريا، وكان ذلك بمناسبة الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
ولقد سمح لي استدعاء الأستاذ الضابط بالتوجيه إلى شعبة الرياضيات، وهناك تعرفت على أستاذ تونسي يدعى ولي عبد الرؤوف  كان يدرسنا مادة الرياضيات، وكانت اختباراته صعبة جدا. وكان هذا الأستاذ التونسي يغضب غضبا شديدا، ويتوعدني بنتيجة سيئة في الرياضيات كلما قابلني ليلا في دار السينما بالمدينة، وكان كثيرا ما يقابلني هناك.
ولقد كانت نتائج طلاب الفصل في الرياضيات سيئة بشكل عام، نظرا لصعوبة اختبارات وامتحانات أستاذنا التونسي، وكان يستوي في ذلك الطلاب الذين يقضون ليلهم وهم يراجعون الرياضيات، وأنا الذي كنت أذهب إلى السينما في ليالي الاختبارات،  أو أنشغل في الأوقات التي أخصصها للمطالعة بقراءة رواية، أو مجلة، أو كتاب في الفكر الناصري.
هذا الأستاذ درسنا أيضا في السنة الخامسة، وفي تلك السنة درسنا أيضا أستاذ للفرنسية استطاع أن يشدني إلى مادته التي كنت أبخل عليها ـ لأسباب إيديولوجية ـ بتسجيل مواعيد حصصها في الجدول الزمني.
كان أستاذنا للفرنسية في ذلك العام يختلف عن كل أساتذتنا الآخرين، كان مرحا، و مبدعا، ومنفتحا على كل الطلاب.
كان أول شيء شدني لهذا الأستاذ هو طريقته الغريبة في رسم الحروف على السبورة، كان يرسمها كما ترسمها آلة طابعة، وكان يمد بعضها مدا طويلا خاصة منها حرف (L) عندما يكون في بداية  الكلمة.
لم يكن أستاذنا للفرنسية في ذلك العام يهتم بتلك الطقوس التي كان يتبعها الأستاذة، وكانوا يهتمون بها أكثر من اهتمامهم بالدرس نفسه، وربما يكون ذلك هو ما شدني إليه أكثر. لم يكن أستاذنا للغة الفرنسية يكتب ملاحظات عن درسه في دفتر الدروس، كما كان يفعل بقية الأساتذة، بل إنه كان يكتب خواطر لا علاقة لها بالدرس، وكان في بعض الأحيان يكتفي بوضع أشكال ورسوم في دفتر الدروس. ولقد حدث ذات مرة أن رسم في الخانة المخصصة لأستاذ الرياضيات، وهو ما تسبب في خلاف شديد بين الأستاذين، والغريب أننا نحن طلاب القسم الخامس رياضي وقفنا مع أستاذ الفرنسية، على حساب أستاذ الرياضيات، والذي تعد مادته هي المادة الأهم لدينا.
كان أستاذنا لمادة اللغة الفرنسية في ذلك العام رائعا ومبدعا، ولكنه أيضا كان ثائرا على الأنماط التقليدية في تقديم الدروس، ولم يحدث أن اختبرنا هذا الأستاذ أو قدم لنا امتحانا في الفرنسية طيلة العام الدراسي. كان هم أستاذنا للفرنسية هو أن يشدنا لمادته التي كنا نرفض الحضور إليها، بل كنا نرفض حتى تسجيل أوقاتها في جدول توزيع الزمن، ولقد وفق في ذلك.
وفي نهاية ذلك العام اكتشفنا نحن طلاب القسم الخامس رياضي في ثانوية لعيون، بأن معدلاتنا في الفرنسية كانت تتطابق تماما مع معدلاتنا في الرياضة البدنية التي كانت الخانة المخصصة لها في كشوف الدرجات تجاور تماما الخانة المخصصة لمادة الفرنسية. ولا نعرف إلى الآن إن كان الأستاذ هو الذي غالط الإدارة وقام بتسجيل نتائج مطابقة لنتائج مادة الرياضة البدنية، أم أن الإدارة هي التي فعلت ذلك للخروج من المأزق الذي وضعها فيه أستاذ الفرنسية الذي لم يسلمها أي نتائج في مادته حتى تضعها في كشوف درجات طلاب سنة خامسة رياضيات للعام الدراسي 1983ـ 1984.
الشيء المؤكد هو أن ما تعلمته من  الفرنسية في ذلك العام قد فاق كل ما تعلمت منها خلال كل سنوات دراستي في الثانوية، مع العلم بأن كل ما تعلمت من الفرنسية في مجموعه لا يستحق أن يذكر. ومن الغريب حقا أنني كنت أنزعج في ذلك العام كلما تغيب أستاذنا للفرنسية عن حصة من حصص مادته، أنا الذي كنت ـ قبل ذلك العام الدراسي ـ  أبخل على مادة الفرنسية بأن أسجلها في جدولي الزمني. ولم يكن أستاذنا لمادة اللغة الفرنسية في ذلك العام سوى الأستاذ حبيب محفوظ رحمه الله، أو بداح كما كنا ندعوه، وهذا الأستاذ سيكتسب شهرة كبيرة  في عقد التسعينيات، وسيصبح الكاتب الصحفي الأبرز في موريتانيا كلها. لقد كان من حسن حظنا أننا كنا هم أول من درسهم هذا الأستاذ بعد تخرجه من المدرسة العليا للتعليم أستاذا لمادة اللغة الفرنسية.

ودرَّسنا أيضا في ذلك العام أستاذ مصري يدعى سراج الدين طه سلامة. ولقد أحبني هذا الأستاذ كثيرا كما أحبني أستاذ التاريخ في سنتي الأولى في ثانوية لعيون.
ولقد فاجأت أستاذي المصري الذي كان يدرسنا مادة الفيزياء والكيمياء بما أحفظ من أغاني أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة، وأسمهان وغيرهم من مطربي ذلك الزمن.
كان أستاذ الفيزياء يدعوني إلى منزله ليسمعني بعض الأغاني التي كان يعتقد بأنها من الأغاني النادرة جدا، فإذا به يفاجأ بأني أحفظ  كلمات تلك الأغاني،  وأعرف من لحنها، ومن هو صاحب كلماتها، ومن غناها، ومتى تم تسجيلها.
ومن المؤكد بأني سأفاجئ  أستاذ الفيزياء مرة أخرى إذا ما قابلني في أيامنا هذه، واكتشف بأني لم أعد أستمع إطلاقا  للغناء، ولم أعد أحفظ عشرين بيتا من الشعر حتى ولو جمعت كل ما أحفظ من الشعر، سواء ما قيل قديما أو حديثا، وسواء ما كان منه فصيحا أو عاميا.
يبدو أني قد تغيرت كثيرا، فهل  حقا  أني تغيرت؟
يصعب أن أجيبكم على هذا السؤال بنعم، ويصعب كذلك أن أجيبكم عليه بلا.
وعموما فإني لن أضيع وقتي لأجيبكم على هذا السؤال، لأن هناك سؤالا أكبر من هذا السؤال قد شغلني كثيرا أثناء سردي لهذه اليوميات.
فهل الشخص الذي أحدثكم عنه في هذه السيرة هو فعلا أنا؟ أم أنه شخص آخر؟
لقد اكتشفت خلال سردي لهذه اليوميات، بأني لا أعرف عن نفسي إلا الشيء القليل والقليل جدا. ولقد اكتشفت بأنه من السهل جدا أن أتحدث عن الآخرين، ولكنه من الصعب جدا أن أتحدث عن نفسي، وأن أقدمها وكما هي، لذلك فعليكم أن تنتظروا مني كل شيء، إلا أن أقدم لكم نفسي على حقيقتها في هذه الرواية، ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال بأني سأحدثكم عن شخص آخر في هذه الرواية، فكل الأحداث التي سأروي لكم هنا، هي فعلا أحداث قد وقعت في حياتي، لكن ترتيبها وتتابعها في هذه اليوميات لن يعطيكم صورة كاملة ومكتملة عن حقيقتي. فهناك أحداث أخرى حدثت في طفولتي وفي شبابي أثرت كثيرا في حياتي، لن أذكرها لكم في الجزء الأول من هذه الرواية، لن أذكرها إلا في الجزء الثاني، والذي سأعود فيه بشكل أكثر تفصيلا لوجه آخر من طفولتي، ولأحداث أخرى في حياتي، لم أحدثكم عنها، رغم أنها أثرت في مسار حياتي تأثيرا كبيرا، وهي أحداث لم أشعر بأهميتها إلا منذ وقت قريب جدا، وذلك عندما بدأت أحاول أن أتعرف على "شخصي الكريم".
ويمكنني أن أقول لكم، وأنا مرتاح البال، بأني لا أدري إن كان الذي حدثتكم عنه فيما مضى من هذه اليوميات هو أنا؟ أو أن  الذي سأحدثكم عنه مستقبلا في الجزء الثاني هو أيضا أنا؟ وإذا كان كلا الشخصين هو أنا  فكيف تغيرت كل هذا التغير دون أن أشعر بذلك؟  لن يكون ذلك هو السؤال الوحيد الذي لن تجيبكم عليه هذه اليوميات.
وما أستطيع أن أقوله لكم الآن بأنه ستمر بكم لحظات أثناء قراءة هذه الرواية ستتوقعون خلالها بأنكم قد اقتربتم كثيرا من التعرف على حقيقة بطل هذه اليوميات، ولكن ستمر أيضا بكم لحظات أخرى ستكتشفون فيها بأن توقعكم ذاك لم يكن في محله.
وساعتها قد يندم الكثير منكم لأنه أضاع وقته في قراءة حلقات هذه اليوميات، وربما يُحَمِّل بعضكم مسؤولية ذلك الوقت الضائع لي ولكاتب هذه الرواية، لذلك فقد يكون من الضروري جدا أن نعيد عليكم الآن ما كنا قد قلناه لكم سابقا، في أولى حلقات هذه الرواية. لقد قلنا لكم بأن فكرة كتابتها إنما هي مؤامرة وخدعة كبرى، دبرتها أنا والكاتب بحثا عن شهرة شاردة تفلتت من أمامنا كثيرا. ولقد قلنا لكم أيضا، وفي نفس الحلقة  بأن الخيار في النهاية يعود إليكم، فإما أن تتوقفوا من الآن عن قراءة الرواية، ولن تخسروا شيئا، إذا ما توقفتم. وإما أن تواصلوا قراءتها، وقد لا تكسبون شيئا كثيرا، إذا ما واصلتم قراءتها، لذلك فعلى من صُدِم منكم بعد إكمال قراءة هذه الرواية، أن لا يلومن إلا نفسه.
وإذا ما اتخذتم القرار الخاطئ، وقررتم أن تواصلوا قراءة هذه اليوميات، وهذا ما أتمناه فعلا، وإن كنت لا أنصحكم به، فسيكون من اللازم أن أقول لكم الآن، بأنه  لم يكن بإمكاني في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، أن أكون شخصا آخر غير الذي كنته.
لقد قدر لي أن أعيش في مدينة فاتنة ساحرة لم تكن بالتأكيد مدينة متصوفة في ذلك الوقت، ولم يكن هناك من كان بإمكانه أن يضبط سلوكها، كما هو الحال بالنسبة لكل المدن الموريتانية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات.
لم يكن بإمكاني أن أكون غير الذي كنت، أنا الذي وجدت نفسي بين عشرات الشباب، كان فيهم المشاكس، والتائه، والبائس،  والطائش، والمتعلم، والجاهل، والضائع، والسارق، والذكي، والغبي، والتافه، والغسال، والخباز، والمناضل، والعابث، والمتشرد.
كنا نسهر معاً، وندخن معاً، ونزعج الآخرين معاً، ونرتكب المخالفات معاً، حتى وإن اختلف دور كل واحد منا عن الآخر فيما كنا نرتكب من مخالفات.
كنا نتناول الغداء في أغلب الأوقات معاً، وكنا نتعشى معاً، وكان ذلك يطرح مشكلة كبيرة للأسر التي كانت تستضيفنا من حين لآخر.
كانت الأسرة المستضيفة تفاجأ بدقائق قبيل العشاء أو الغداء بقدوم ضيوف ثقلاء، ليس فيهم على الإطلاق من يعاني من نقص في الشهية، وهو ما يجعلها تضطر لأن تقدم جل غدائها أو عشائها لضيوفها الثقلاء، فتكون النتيجة أن يبيت أو يظل الكل جائعا: الضيوف الثقلاء، والأسرة سيئة الحظ التي قررت الشلة أن تتوجه إليها في ذلك اليوم، ودون إشعار مسبق.
كانت وجبة الغداء في تلك الفترة ثابتة، وكانت عبارة عن وجبة من الأرز الأبيض تتناثر على سطحها قطع صغيرة من اللحم، وستتلون تلك الوجبة فيما بعد بلون أحمر فاتن، مع ظهور الطماطم المعلبة في سوق المدينة، وقد شكل ظهور الطماطم المعلبة ثورة غذائية عظيمة، على الأقل، في لون وجبة الغداء. أما العشاء فكان في الأغلب وجبة من كسكس القمح مع قليل من اللحم، أو بدون لحم بالنسبة للأسر الفقيرة.
ويضاف للوجبات الثابتة ما كنا نلتهمه من خبز الدفعة الثانية، أو خبز الضحى، والذي كنا نلتهمه حافيا في أغلب الأوقات، ومع قليل من اللحم، وكثير من المرق في الأيام الاستثنائية. ولقد اشتهرت بعض مخابز المدينة بدفعتها الثانية من الخبز، وكانت مخبزة بَرْكَه والتي لا زالت موجودة حتى الآن، هي المخبزة الأكثر شهرة في حَيِّنا.
ومع ذلك فقد عرفت المدينة عاما غريبا، لا أستطيع أن أحدد لكم الآن إن كان في نهاية السبعينيات، أو في بداية الثمانينيات، تطور فيه النمط الغذائي للمدينة تطورا هائلا ولافتا.
أتذكر أن النمط الغذائي للمدينة ـ ولأسباب لا زلت عاجزا عن تحديدها ـ قد تغير تغيرا عجيبا، في ذلك العام الذي لم يسبقه عام مثله، ولم يعقبه كذلك عام مثله. ففي ذلك العام خصص الكثير من الأسر في المدينة مساحات في منازلهم لزراعة  الخضروات ( الطماطم ـ الجزر ـ البصل ـ البطاطس ـ النعناع....).
وفي ذلك العام كان العديد من الأسر ـ وبما في ذلك  أسر ذات دخل محدود جدا ـ  يقدم طبق سلاطة بعد كل وجبة عشاء!!!!! وشاع  استخدام القهوة مع الفطور في ذلك العام، وظهر مع خبز الصباح  عسل مستورد من بريطانيا عليه صورة أسد، وانتشر استهلاك  NESTELE) )، والتي أتمنى أن أحصل الآن على علبة منها، فطعمها اللذيذ جدا لا يزال عالقا بلساني، وكأني حديث عهد بتذوقه.
إنه عام غريب حقا،  شبعنا فيه كثيرا من الوجبات اللذيذة، ولكننا عدنا بعده إلى وجباتنا المعهودة ( أرز أبيض أو أحمر في الزوال، وكسكس بالليل، وقطعة من الخبز في الصباح قد لا تتكرر في الضحى).
وهناك عام آخر، جاء بعد عام الأكل اللذيذ، كان عام تدخين بامتياز. في ذلك العام كثرت سجائر بغداد في مدينة لعيون، وكانت سجائر بغداد تأتي كهدية من العراق إلى الشعب الموريتاني الشقيق، وكنا نحن في الشلة جزء لا يتجزأ من الشعب الموريتاني الشقيق.
لذلك فكان من السهل جدا علينا في ذلك العام، أن نحصل على نصيبنا من سجائر بغداد مجانا، أو بسعر زهيد جدا، في أسوأ الأحوال.
لم تكن النقود متوفرة لدينا في ذلك الوقت، وكنا نصرف ما يقع في أيادينا من نقود قليلة على تذاكر السينما، أو على خبز الضحى، أو على السجائر الرخيصة، لذلك فقد كان لهدية العراق من سجائر بغداد قيمة كبيرة في حياتنا، وقد ساعدت تلك الهدية في انتشار التدخين، بشكل واسع،  بين شباب المدينة ومراهقيها.
كانت أعمدة  دخان سجائر بغداد تتصاعد من الأمكنة التي كنا نجتمع فيها، ولم يكن غريبا أن تشاهد غمامة من  الدخان تظلنا أينما حللنا. كنا ندخن بشراهة، وكنا نتصارع في كثير من الأوقات على عقب سيجارة كلما قل مخزوننا من السجائر.
وفي تلك الفترة أدمنا على لعب الورق، خاصة لعبة (POKER)، ونظرا لندرة النقود في تلك الفترة فكانت عيدان الثقاب هي التي تتم المقامرة بها.
كنا في بعض الأحيان نسهر على تلك اللعبة، حتى الصباح، وكنا نتنافس كثيرا على جمع عيدان الثقاب، رغم أن تلك العيدان لم تكن لها أي أهمية. كانت مشكلتنا في ذلك الزمن خصوصا عندما بدأت سجائر بغداد تختفي، هي توفير السجائر نفسها، لا توفير عيدان الثقاب لإشعال تلك السجائر. ومن المؤكد بأننا لم نكن  لنعدم ما نشعل به أي سيجارة نتمكن من الحصول عليها بطريقة أو بأخرى. ورغم ذلك فقد كان يخاصم بعضنا البعض على عود ثقاب واحد،  إذا ما حصل خلاف على ملكيته، وإذا ما ادعى أكثر من طرف ملكية لعود الثقاب المتنازع عليه.
فهل كنت حقا، في النصف الأول من الثمانينيات، بائسا للحد الذي يمكن لي فيه أن أدخل في معركة شرسة من أجل عود ثقاب؟ لا أستطيع الآن أن أقول لكم بأني كنت بائسا إلى ذلك الحد. وفي المقابل، فهل يمكنني أن أدعي بأني كنت ذلك الشاب المثقف الذي يندر أن تراه إلا وهو يحمل في يده مجلة، أو رواية، أو كتابا في الفكر الناصري؟ يمكنني أن أدعيَّ ذلك. ولكن لا يمكنني أن أدعيَّ بأني كنتُ في ذلك الزمن، ولا حتى في أيامنا هذه، أحمل هم أمة بكاملها، حتى وإن كنتُ قد حاولتُ في عقد الثمانينيات أن أمثل دور الشاب المهموم بقضايا أمته.
إني  لم أكن هذا، ولم أكن ذاك. لم أكن بائسا إلى الحد الذي أدخل فيه في معارك شرسة من أجل تحرير عود ثقاب استولى عليه صديق بطرق غير شرعية، ولم أكن كذلك ذلك الشاب المثقف الذي يحمل هم أمة بكاملها. لقد كنتُ خليطا بين هذا وذاك، مع اختلاف في المقادير والجرعات، كان بكل تأكيد لصالح الشاب المثقف المشغول بهم أمته العربية.



الحلقة (8)


 لقد كانت مدينة لعيون، في النصف الأول من الثمانينيات، مدينة حزينة، ولكنها أيضا كانت مدينة رائعة بحق، وهذا لا يعني ـ بأي حال من الأحول ـ بأنها لم تكن رائعة في السبعينيات، أو أنها لن تكون رائعة فيما بعد النصف الأول من الثمانينيات.
كل ما في الأمر هو أن النصف الأول من الثمانينيات، كان له طعمه المثير، وكانت له نكهته الخاصة، وهي نكهة امتزجت فيها الدموع بالفرح، واختلط فيها البكاء بالضحك، خاصة في العام الدراسي 1983 ـ 1984. وقد خُيِّل إليَّ في ذلك العام، أن جبال المدينة الراسيات الشامخات قد تنازلت عن شيء من كبريائها، وأنها اضطرت لأن تنحنيَّ شيئا قليلا في وجه العاصفة. حتى المدينة نفسها فقد اضطرت، في ذلك العام، لأن تغطي شيئا من فتنتها بثوب شاحب حزين، وكلما أجبرت المدينة الفاتنة على ارتداء ثوبها الشاحب الحزين، كان ذلك بمثابة نذير شؤم على من يحكم البلاد. ولقد أجبرها الرئيس  محمد خونا ولد هيداله، في النصف الأول من الثمانينيات، على أن ترتديَّ ثوبها الشاحب، فكان انقلاب 12ـ 12ـ 1984.
وبعد ذلك بعقدين من الزمن، سيجبرها الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع، على أن ترتديَّ ثوبها الشاحب، وكان ذلك بعد فشل محاولة 8 يونيو2003، تلك المحاولة الانقلابية، التي جعلها ولد الطايع، مبررا لإهانة قبيلة، بل ومدينة بكاملها، فارتدت المدينة ثوبها الشاحب الحزين، منذرة بأحداث جسام، فكان انقلاب 3أغسطس 2005.
ومن المفارقات اللافتة أن قائد المحاولة الانقلابية الفاشلة، التي ساهمت في إسقاط الرئيس معاوية، والذي حكم البلاد أطول فترة رئاسية، كان هو وبعض صحبه من بين القادة الميدانيين لإضرابات النصف الأول من الثمانينيات في ثانوية لعيون، والتي ساهمت ـ بشكل أو بآخر ـ في نهاية حكم الرئيس هيدالة، والذي كان يعتبر الرئيس الأكثر دكتاتورية في تاريخ البلاد.
لم تكن مدينة لعيون، في النصف الأول من الثمانينيات، مجرد مدينة فاتنة، كما هو حالها دائما في كل الأزمنة، وفي كل الفصول. ولم تكن المدينة هي فقط تلك المدينة المدللة التي تلتف بحنان، على شطري بطحائها الجميلة، ولا تلك المدينة التي تضطجع بدلال وبغنج في أحضان سلاسلها الجبلية التي تحيط بها من ثلاث جهات، وتضغط عليها بقسوة من الجهتين الشمالية والغربية، ربما خوفا عليها من أعين الحساد، وربما غيرة عليها، وحُق لتلك الجبال أن تغار، فهي تحتضن مدينة فاتنة كَثُر عشاقها وتعدد المغرمون بها.
لقد كانت مدينة لعيون في تلك السنوات مدينة ساخنة وملتهبة، ليس فقط بسبب درجات الحرارة العالية التي تعود عليها أهلها مع كل فصل صيف، وإنما بسبب الإضرابات التي عرفتها ثانويتها في تلك السنوات.
ورغم مرور ما يزيد على ربع قرن، فلا زالت تلك السنوات، تحتفظ بطعمها المثير،  وبنكهتها الخاصة، كلما عادت بي الذاكرة إليها، وكثيرا ما تعود بي الذاكرة إليها، ومن دون استئذان.
ولقد كنت من الذين شاركوا في تلك الإضرابات والمظاهرات، حتى وإن كانت مشاركتي قد اقتصرت على الصفوف الخلفية، مع الاستعداد الدائم للفرار، عندما يشتد إطلاق مسيلات الدموع.
ولا زلت أذكر أول مظاهرة أشارك فيها، وكانت تلك هي المظاهرة الوحيدة، خلال كل "تاريخي النضالي"، التي تمكنتُ فيها من الظهور في الصفوف الأمامية، والقريبة جدا من قوات الأمن.
لقد تقدمت في ذلك اليوم، بعد أن علمت بأن هناك مفاوضات تدور بين الطلاب والسلطات الأمنية، ولذلك فكنت اعتقد بأن مسيلات الدموع لن يتم استخدامها من طرف قوات الأمن، إلا بعد أن يتم الإعلان عن فشل المفاوضات.
ولكن رجال الأمن، لم يهتموا ـ كعادتهم ـ بتوقعاتي، فأمطرونا، وبشكل مفاجئ، بوابل من مسيلات الدموع، مما جعلني أطلق ساقي للريح، ولا أتوقف إلا بعد الوصول إلى وسط المدينة، وفي وقت قياسي، يصلح فيما أعتقد لأن يسجل في كتاب جينيس للأرقام القياسية.
حدث ذلك في الفصل الأول، من عامي الأول في الثانوية، وبعد تلك الحادثة، لم أعد أعتمد على التوقعات، وأصبحت أتجنب دائما الصفوف الأمامية، دون أن يعني ذلك بأني قد تخلفت ـ ولو لمرة واحدة ـ عن أي إضراب ينظمه الناصريون، خلال كل سنواتي الست التي قضيتها في ثانوية لعيون.
وكان الناصريون يشكلون الأغلبية في الثانوية في ذلك العهد، ويليهم ـ من حيث العدد ـ الشيوعيون كما كنا نسميهم، ثم يأتي بعد ذلك البعثيون، وكان من اللافت وجود عدد هام من الطالبات في هذا التنظيم من بينهن قياديات. أما الإخوان فلم يكن لهم حضور يذكر في الثانوية في تلك السنوات، ولا أدري إن كان ذلك يعود لقلة عددهم، أو نتيجة لتحالفهم مع نظام ولد هيداله مما جعلهم لا يبرزون على الساحة الاحتجاجية في ذلك العهد.
لم أستطع أن أبرز في مظاهرات النصف الأول من الثمانينيات، لأني، وببساطة شديدة، لم أكن شجاعا، عندما يتعلق الأمر بالمواجهة مع العسكر، وهو ما همس لكم به كاتب هذه الرواية، في إحدى حلقاتها السابقة، وذلك كان حال الكاتب أيضا. فالكاتب، والذي بدأت أتعرف عليه في تلك السنوات، في ثانوية لعيون، لم يكن معروفا في الثانوية بشجاعته، وإنما كان يُعرف، إن عُرِف بشيء، بأنه الناصري الأكثر فشلا في الثانوية، إن لم يكن الناصري الأكثر فشلا في تاريخ التنظيم الناصري كله.
لقد انتسب الكاتب للتنظيم الناصري، وهولا يزال في صفه السادس ابتدائي، وكان الفضل في انتسابه المبكر، يعود إلى صلاته ببعض مؤسسي هذا التنظيم في المدينة، كما يعود كذلك إلى أنه كان طفلا هادئا وخجولا ومؤتمنا لدى الكبار، لذلك فقد كان قادة التنظيم في المدينة يستخدمونه في بعض الأحيان للحراسة، وكانوا يطلبون منه أن يظل يراقب الشارع، وما يحدث فيه، خلال اجتماعاتهم السرية.
وفي كل عام، كان هذا الناصري الفاشل، ينتسب لخلية جديدة، مع منتسبين جدد، ليتلقى شروحا وافية عن الحرية والاشتراكية والوحدة، ولِيُذكَّر بأهمية الانضباط والسرية والالتزام للمنتسبين لهذا التنظيم.
وكان زملاؤه في الخلية يترقون في سلم التنظيم الناصري، ويصعدون في كل عام درجة، بينما يظل هو قابعا في القاع، في انتظار منتسبين جدد للتنظيم، ليبدأ معهم من جديد، تعلم مبادئ الحرية والاشتراكية والوحدة، وليوصى من جديد بأهمية الانضباط والسرية والالتزام.
ست سنوات قضاها الكاتب، في ثانوية لعيون لم يستطع خلالها أن يصعد درجة واحدة في سلم التنظيم، ولا أن يتجاوز عضو خلية. وهو في فشله ذلك، يذكرني بصديق لي في الطفولة، قضى عدة سنوات من عمره، وهو في السنة الأولى ابتدائية. وكان صديقي ذلك كلما فشل في تجاوز السنة الأولى من الابتدائية، عاد إلى معلم اللوح ليقضي معه سنة، ثم يعود مرة أخرى، إلى السنة أولى ابتدائية، ليجرب حظه من جديد، وليفشل من جديد في امتحان التجاوز.
وكان صديق طفولتي ذاك، وبعد كل عملية توزيع للنتائج النهائية، يذهب إلى والدته، ليبشرها بأنه سيأتي اليوم الذي سيصبح فيه ضابطا كبيرا، رغم رسوبه المتكرر في سنة أولى.
كان الكاتب كصديق طفولتي الفاشل دراسيا، فلم يكن هو أيضا يتأثر من فشله المتكرر في سنة أولى من التنظيم الناصري، رغم أنه كان يُعرف في جيلنا، بأنه كان من أكثر المنتسبين للتنظيم قراءة لكتب وأدبيات الفكر الناصري.
لم يستطع الكاتب أن يكون ناصريا شجاعا، كما هو حالي طبعا، كما أنه لم يستطع إضافة لذلك، أن يكون من منظري التنظيم في الثانوية، فهو لم يتجاوز خلال كل فترة انتسابه للتنظيم، عضو خلية، وهو أيضا لم يكن خطيبا، ولم يصعد يوما على المنابر. وكانت تلك هي المجالات الثلاثة التي يمكن الصعود من خلالها في سلم التنظيم، ولقد فشل الكاتب فيها جميعا، مما أهله لأن يكون أكبر فاشل في هذا التنظيم.
في العام الدراسي 1983ـ 1984 كان أنين السجناء يسمع ليلا في بعض المنازل المجاورة لأماكن التعذيب. ولقد مورست ضد السجناء من الطلاب والمعلمين والأساتذة المعتقلين أصنافا وحشية من التعذيب، ليس أقلها وحشية، أن يُذهب بالسجين ليلا إلى مطار المدينة، ليسحب هناك على بطنه فوق أرضية المطار الصلبة. وكانوا في بعض الأحيان، عندما يذهبون بسجين إلى المطار، يرسلون قبله فرقة لحفر قبر، يَدَّعون بأنه قبر لسجين آخر، مات بفعل التعذيب. وكانوا يفعلون ذلك لكي يخيفوا الضيف الجديد للمطار، حتى ينهار، ويدلي لهم ببعض الاعترافات التي كانوا يبحثون عنها. ورغم تلك القسوة والوحشية التي كانوا يستخدمونها ضد المعتقلين، إلا أن حجم الاعترافات، وأعداد المعترفين، لم يكن يتناسب مع ما استخدم من قسوة ووحشية ضد المعتقلين.
وكثُر في ذلك العام عدد الجواسيس والمخبرين، حتى أصبح الأخ يخاف أخاه، والابن لا يثق في والده، والصديق يتردد كثيرا من قبل أن يهمس في أذن صديقه.
ومن غرائب ذلك العام، أن الضابط الذي كان يقود فرقة الحرس التي كانت تتجول وسط الثانوية، لإفشال المظاهرات، كان من أبرز قادة التنظيم الناصري في الثانوية،عام دخولي لها، وكان من الذين يقودون الإضرابات في تلك الفترة، وسيصبح هذا الضابط فيما بعد أول جنرال في قطاعه العسكري.
ولعل الحدث الأبرز، في ذلك العام الساخن، هو ما حدث في ضحى يوم مثير، عندما تمكنت مجموعة من الطلاب، في حدود خمسين طالبا، من قطع الاتصالات عن الثانوية، والاستيلاء على الوثائق والملفات وتمزيق جزء منها، وضرب مدير الثانوية، وبعض رجال الشرطة، وعلى رأسهم قائد الشرطة، ضربا مبرحا.
وبالتأكيد، فلم أكن لا أنا ولا الكاتب، من بين الخمسين طالبا التي نفذت تلك العملية النوعية، والتي قادها طالب جريء، سيصبح فيما بعد ضابطا. وأعتقد أن ذلك الطالب الجريء الذي قاد تلك العملية، هو الذي سلم نفسه فيما بعد، للسلطات الأمنية، بعدما فشلت في العثور عليه، وذلك لكي تتوقف السلطات عن ابتزاز وتهديد بعض أفراد أسرته.
ومن الغريب حقا، أن المدير الذي ضربه الطلاب الناصريون في ذلك العام، ضربا مبرحا، سيتم تسريحه من وظيفته بعد ذلك، بعقد من الزمن باعتباره ناصريا!!!
وفي الأيام التي سبقت عملية ضرب المدير، تمت الدعوة لإضراب لم تتم الاستجابة له بشكل واسع، و كنت من بين قلة استجابت لتلك الدعوة، لذلك فقد تم طردي، وطلب مني المدير أن لا أحضر للثانوية إلا برفقة وكيلي، هو ما قمت به في اليوم الذي سيتم فيه الاعتداء على المدير، وعلى بعض رجال الشرطة.
في صبيحة ذلك اليوم، رافقت وكيلي الذي أخبرته بأن مدير الثانوية طلب حضوره، وكان وكيلي في ذلك العام، قريب لي، وكان يعمل مديرا لمدرسة ابتدائية، وكان من أشد المعارضين للإضراب.
وفي الطريق إلى الثانوية، ظل وكيلي يحدثني عن خطورة المشاركة في التظاهرات، وقال لي بأن النظام قد اكتشف بأن هناك دولة ثانية داخل الدولة، وهو يقصد بذلك التنظيم الناصري. وقال لي، بأن النظام لن يقبل بوجود دولتين في دولة واحدة، وكان وكيلي يتحدث كما يتحدث أي منتسب لهياكل تهذيب الجماهير.
وطلب مني وكيلي، أن أنسحب من الإضرابات، وأن أتفرغ لدراستي، فالمظاهرات ـ حسب وكيلي ـ ليست إلا محاولة من طرف بعض الطلاب الفاشلين للتغطية على فشلهم الدراسي.
هكذا كان يحدثني وكيلي، قبل ساعة من الاعتداء على المدير ورجال الشرطة، في ذلك اليوم المثير.
ولم يكن وكيلي يتوقع أنه سيتم إلقاء القبض عليه، بعد تنفيذ عملية ضرب المدير. ولم يكن يتوقع إطلاقا، بأنه سيأتي اليوم الذي سيتهم فيه بأنه ناصري، فيسجن مع الناصريين، ولا يطلق سراحه إلا في إطار العفو عن المساجين، والذي تم بعد انقلاب 12ـ 12 ـ 1984.
لقد كان نظام ولد هيداله نظاما ظالما وباطشا ومتعجرفا، والدليل على ذلك، هو ما تعرض له وكيلي، والذي لم يشفع له بأنه كان يدافع ـ وبشكل مستميت ـ عن نظام ولد هيداله، وظل يدافع عن ذلك النظام الظالم، حتى ألقي عليه القبض، وأدخل في سجن لم يخرج منه إلا بعد دخول ولد هيداله نفسه للسجن.
والحقيقة أني لم أكن راضيا عما كان يقوم به الناصريون في تلك الفترة، رغم أني كنت ناصريا منضبطا، إلا أني لم أكن مقتنعا بكل المطالب التي كانوا يطالبون بها، ولا بكل الشعارات التي كانوا يرفعونها، ولا بالمبررات التي كانوا يبررون بها تحركاتهم واحتجاجاتهم في تلك السنوات، والتي كان من بينها أنهم كانوا يريدون أن يختبروا قدرتهم على تحريك الساحة، وأن يختبروا كذلك مدى قناعة والتزام المنتسبين للتنظيم، وهي القناعة التي لا يمكن اختبارها، بشكل دقيق، إلا في ظل المواجهة الشرسة مع النظام الحاكم.
لم أكن راضيا عن كل ذلك، ولكن المزاج العام للمدينة في تلك الفترة، كان يفرض عليَّ أن أكون ناصريا، وأنا كنت ابن المدينة، وكان مزاجي من مزاجها.
ومع أني لا أستطيع أن أنكر اليوم بأني كنت في تلك الفترة من أشد المنبهرين بالقائد جمال عبد الناصر، لكني مع ذلك، كنت أحس بأن في فكر الرجل، وفي أسلوبه للحكم بعض المآخذ التي لم أكن في تلك الفترة قادرا على تحديدها، و لا أن أعبر عنها، رغم إحساسي وشعوري بوجودها.
واليوم أستطيع أن أقول بأن جمال عبد الناصر كان رئيسا دكتاتوريا ومستبدا، لذلك فقد كان من المستحيل أن تخلو فترة حكمه من أخطاء فادحة، لأنه لا يوجد مستبد عادل.
إن الاستبداد والعدل صفتان متناقضتان لا يمكن أن تجتمعا في شخص واحد، واجتماعهما مجرد خدعة كبيرة. فالمستبد العادل لا وجود له إلا في مخيلة البعض. والمستبدل العادل كالشيطان الرشيد، فإذا كان بالإمكان أن نتوقع الرشد من الشيطان، فسيكون حينها بإمكاننا أن ننتظر العدل من حاكم مستبد.
ورغم ذلك فلا يمكنني أن أنكر بأن المستبدين يختلفون كثيرا، ويتمايزون كثيرا. ولقد كان جمال عبد الناصر، ولا يزال، بالنسبة لي هو أعلاهم درجة، وأفضلهم مكانة، وأقربهم إلى نفسي.
ولأني لم أكن مقتنعا بكل ما يقوم به الناصريون في تلك الفترة، فلم أكن قادرا على أن أحمل نظام ولد هيداله كل الأخطاء التي كانت تحدث في تلك الفترة، أثناء مواجهته مع الناصريين.
ولكن بعد أن تم سجن وكيلي، ظلما وعدوانا، لم أعد أبحث لنظام ولد هيداله عن أعذار، بل أصبحت أصنفه، بأنه نظام ظالم ومتوحش، خاصة أنه لم تكن هناك وسيلة واحدة، يمكن أن نلجأ إليها في ذلك الوقت لرفع الظلم عن وكيلي، فهيداله كان يمنح فرصا كثيرة لممارسة الظلم، ولتصفية الحسابات، ودون أن يفتح قناة واحدة تمكن المظلومين من رفع الظلم عنهم.
وقبل رئاسة ولد هيداله، لم أكن أهتم إطلاقا بمن يحكم البلاد، وأتذكر أنه عندما أخبرتنا الخادمة التي كانت تشتغل عندنا في المنزل، يوم العاشر من يوليو من العام 1978، بأنها سمعت في سوق المدينة بأن المختار القديم قد أخذ منه الرئاسة مختار جديد، لم أهتم بذلك، رغم الحيرة التي بدت على الكبار، عند سماعهم لذلك الخبر العظيم الذي التقطته خادمتنا من سوق المدينة، وبثته في الحي، وهو لا يزال طازجا. وكانت خادمتنا في المنزل، من أهم مصادر الأخبار في الحي، وكانت تصر في كل يوم، وبعد عودتها من سوق المدينة، على تقديم نشرة إخبارية موجزة في بعض الأحيان، ومفصلة في أحايين أخرى.
لم يكن يهمني من يحكم البلاد، إلى أن اتسع بطش ولد هيداله، وامتد، حتى وصل إلى وكيلي الذي لم يعارض أي نظام، لا من قبل حكم ولد هيداله، ولا من بعده.
ومنذ إلقاء القبض على وكيلي، بدأت أكره نظام ولد هيداله كرها شديدا، وقد زاد من كرهي له، أن المزاج العام للمدينة كان أيضا يكره ولد هيداله كرها شديدا.
ومن مفارقات مدينة لعيون، أنها وبعد ذلك بعقدين من الزمن، وتحديدا أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية 2003، سيتغير مزاجها، تغيرا كبيرا، وسيصبح ولد هيداله بالنسبة للكثيرين من أبنائها، يشكل أملا، وربما مخلصا من نظام ولد الطايع، والذي أصبح المزاج العام للمدينة يبغضه، بغضا شديدا، بعد أن أحبه حبا شديدا، ذات يوم من أيام ديسمبر من العام 1984.
وفي انتخابات العام 2003 كان مزاجي متأثرا ـ كعادته ـ بمزاج المدينة العام، ولقد كان ولد هيداله بالنسبة لي، في تلك الانتخابات، هو المرشح الوحيد القادر على أن يخلص البلاد من نظام ولد الطايع الغارق ـ وحتى التراقي ـ في الفساد.
ولقد تم اختياري من طرف إدارة الحملة الرئاسية في ولاية الحوض الغربي، أثناء زيارة ولد هيداله لمدينة لعيون، لأن أرابط في دار الضيافة المعدة لاستقباله، خلال فترة إقامته بالمدينة.
ولقد بقيت في دار الضيافة، رفقة عدد قليل من الشباب، في انتظار قدوم ولد هيداله، بينما توجه مدير الحملة، وبكل طاقم حملته، لاستقبال ولد هيداله، عند مدخل المدينة الغربي، أو في مطارها، فلم أعد أذكر الآن إن كان المرشح ولد هيدالة قد وصل إلى مدينة لعيون في طائرة، أم أنه وصل إليها في سيارة.
المهم أنه بعد طول انتظار، تم إشعاري بأن ولد هيداله قد وصل إلى باب دار الاستقبال، ففتحت له الباب، هو الوفد المرافق له، لأجدني، ولأول مرة  في حياتي، أقف وجها لوجه مع ولد هيداله.
لم يكن اللقاء عاديا، ولم يكن مثل تلك اللقاءات العابرة، التي تحدث يوميا، دون أن تترك أي انطباع، ولا أن تثير أية مشاعر.
كان الرجل الذي يقف أمامي، هو الرئيس السابق محمد خونا ولد هيداله الذي كرهته كرها شديدا يوم ألقى القبض على وكيلي، منذ عقدين من الزمن. وكان الرجل الذي يقف أمامي هو أيضا المرشح محمد خونا ولد هيداله، الذي كان يشكل، بالنسبة لي، في تلك اللحظات المرشح الوحيد القادر على إصلاح أوضاع البلاد، والتي انهارت كثيرا.
مددت يدي اليمنى لأصافح مرشحنا للرئاسة ، بينما وضعت يدي اليسرى على منكبه، وأخذت أقوده إلى المكان المعد لاستقباله، وكان الرئيس في تلك اللحظات طيعا، لينا، بسيطا، متواضعا، أي أنه كان بعيدا كل البعد عن صورته المحفورة في مخيلتي، منذ عقدين من الزمن.
وبينما كنت أرافق الرئيس إلى الصالة المعدة له، أعادتني الذاكرة إلى النصف الأول من الثمانينيات، وتساءلت في نفسي، ماذا لو كان هذا اللقاء قد تم في ذلك العهد البغيض؟ وماذا كان سيحدث لو أني  فتحت نفس الباب في يوم من أيام العام 1983، فإذا بالذي يقف خلف الباب هو الرئيس محمد خونا ولد هيداله؟
أعتقد أني ساعتها كنت سأطلق ساقي للريح، ولكني ومن قبل أن أطلق ساقي للريح، فربما كنتُ سأفكر في أن أغرز أظافري في وجه الرجل، أو أرميه بحجر على الرأس.
والحقيقة أني لا أدري بالضبط ما ذا كنت سأفعل حينها، وإن كان من المؤكد بأني لو قابلته في العام 1983، فلم أكن لأصافحه بيدي اليمنى، ولم أكن لأضع اليسرى على منكبه، ولم أكن لأقوده إلى صالة للاستقبال، كما أفعل الآن.
لقد أحسست بأن ولد هيداله الذي يسير بجنبي في تلك اللحظات، يختلف كثيرا عن ولد هيداله الذي كان يقود البلاد في النصف الأول من الثمانينات. كما أحسست أيضا بأني أنا في تلك اللحظات، كنتُ أختلف كثيرا، عما كنت عليه في النصف الأول من الثمانينيات، حتى المدينة نفسها، قد تغيرت، وتبدل الكثير من أهلها، ولم تعد تلك المدينة التي عرفتها في عقدي السبعينيات والثمانينيات، حتى وإن كانت هذه المدينة لا تزال تحتفظ بروعتها الأخاذة، وبفتنتها المتجددة، وبمزاجها المتقلب والمشاكس.


الحلقة (9)


في فصل الصيف كانت ترتفع أسهمي الشخصية ارتفاعا ملحوظا، ويزداد الطلب على "شخصي الكريم"، وتتنافس أسر عديدة في حَيِّنا لتكتسبني وتستقطبني إليها. أما في الخريف فكانت أسهمي الشخصية تنخفض انخفاضا حادا، في حين أنها كانت تحتفظ بقيمتها العادية جدا في فصل الشتاء.

لقد عرفتْ أسهمي الشخصية في عقد الثمانينيات تذبذبا حادا في بورصة الحي، وظلت تتذبذب بين مستويات ثلاثة تبعا لتغير فصول السنة، أما بعد الثمانينيات، فقد شهدت هذه الأسهم ركودا في كل الفصول، أعقبه هبوط حاد، استمر لسنوات، ولم يتخلله أي ارتفاع يذكر. وهذا الهبوط المستمر، هو الذي جعلني ـ مع أسباب أخرى ـ أفرض على الكاتب تسمية هذه الرواية، بيوميات شخص عادي جدا، رغم اعتراضه الشديد على هذه التسمية.
وفي ليلة من ليالي صيف العام 1985، وفي ذروة ارتفاع أسهمي الشخصية، وصلتني  دعوات من عدة أسر، وكان عليَّ أن أختار واحدة من تلك الدعوات، على أساس مدى قدرتها على الاستجابة للشرط الجديد الذي كنت قد وضعته في تلك الليلة، والذي كان يختلف تماما عن كل الشروط التي كنت أضعها سابقا لتلبية الدعوات التي كانت تصلني بالجملة في ذلك الصيف الذي ارتفعت فيه أسهمي الشخصية ارتفاعا لافتا، لا يعادله إلا ارتفاع درجات الحرارة، والتي وصلت في صيف ذلك العام، كما هو حالها في كل صيف، إلى مستويات لا تطاق.
في تلك الليلة كان شرطي الوحيد هو أن توفر لي الأسرة التي سألبي دعوتها مذياعا جيدا، يكون قادرا على التقاط حصة تلك الليلة من البلاغات والاتصالات الشعبية، بشكل جيد، ودون أن تكون هناك أصوات جانبية قد تؤثر سلبا على الاستماع الجيد للحلقة، أي أن تكون الأسرة التي سألبي دعوتها بلا أطفال مشاغبين.
كان ذلك هو شرطي الوحيد في تلك الليلة، ولقد كان شرطا غريبا بحق، فأنا كنت في تلك الفترة أنتقد كثيرا  برنامج  البلاغات والاتصالات الشعبية، وأعتبره من أبرز مظاهر التخلف في البلاد.
كنت أنزعج جدا من برنامج البلاغات و الاتصالات الشعبية، ولم أكن أطيق سماعه، رغم الخدمات الجليلة التي كان يقدمها للناس في ذلك العهد الذي كان خاليا من أغلب وسائل الاتصال المتاحة لنا اليوم. وبطبيعة الحال، فإنه لم يكن بإمكان أي أحد منا، في ذلك العهد، أن يتخيل أن الانترنت قادم، أو أن الهاتف المحمول، سينتشر بين الناس، وسيتيح لكل واحد منهم، أن يتصل بمن شاء، في أي وقت شاْء، إذا ما كان الرصيد يسمح بذلك.
كانت الأسر التي تملك مذياعا تصر في كل ليلة على سماع حصة البلاغات، لتعلم من توفى في تلك الليلة، وتم نعيه ببلاغ، وكذلك من وُلِد من الجواري والغلمان، هذا فضلا عن تتبع أسفار أولئك المسافرين الذين لا تتوقف أسفارهم أبدا، والذين هم دائما بحاجة لمن يستقبلهم بجمال في أمكنة محددة، لا أريد تسميتها هنا. ولقد كان إصرار القائمين على البلاغات على استخدام مصطلح الغلام والجارية، هو أشد ما كان يغيظني عند سماع حصص البلاغات والاتصالات الشعبية، فهذه المصطلحات كانت بالنسبة لي تمثل زمنا آخر، غير ذلك الزمن الذي كنا نعيشه في عقد الثمانينيات.  
وكانت البلاغات تسبب ـ من حين لآخر ـ مشاكل لمستمعيها، فقد يحدث أن تعتقد بعض الأسرـ نظرا لتشابه الأسماء ـ بأن أحد أفرادها قد تُوفي، لأن هناك اسما يطابق اسمه قد تم نعيه في حصة من حصص البلاغات والاتصالات الشعبية، وهو ما يجعل البعض ممن يحمل اسما يطابق اسما تم نعيه في البلاغات، يضطر لأن يرسل هو بدوره  بلاغا لأهله لكي يطمئنهم ويبشرهم بأنه لم يمت بعد، وبأنه ليس ذلك الميت الذي تم نعيه في حصة سابقة من البلاغات والاتصالات الشعبية.
ولقد حدث نفس الشيء مع أسرتنا، فقد اعتقدنا بأن جدي رحمه الله، قد توفي قبل وفاته الفعلية بسنوات، وذلك بسبب أن هناك اسما يطابق اسمه تماما تم نعيه في حصة من البلاغات، وفي فترة كان فيها جدي رحمه الله في سفر إلى العاصمة نواكشوط.
لقد كنت أنزعج تماما من سماع البلاغات والاتصالات الشعبية، إلا أن أهم شيء بالنسبة لي في تلك الليلة كان هو أن أستمع لحصتها من البلاغات، في جو هادئ تماما، لا صوت فيه ولا ضوضاء.
ولقد ظلت علاقتي بالمذياع علاقة جيدة، باستثناء تلك الأوقات التي كانت تبث فيها البلاغات والاتصالات الشعبية. وكانت هذه العلاقة في بدايتها، تقتصر على سماع الأغاني، ومراسلة البرامج التي يتم فيها إهداء الأغاني.
ولقد كنا في الشلة نواظب في كل مساء على الاستماع للإذاعة الهندية، وكنا في تلك الفترة نرسل بعض الرسائل البريدية لطلب بعض الأغاني الهندية، وكنا نهديها مع ذكر الألقاب التي كان يلقب بها بعضنا البعض، والتي كانت في مجملها عبارة عن أسماء مختارة لبعض مشاهير السينما الهندية.
وبعد تلك المرحلة انتقلنا من الاستماع إلى الإذاعة الهندية إلى الاستماع إلى الإذاعات الناطقة بالعربية، وبدأنا نهتم بالأغاني العربية، وكذلك بالمسلسلات الإذاعية، تماما كما يهتم الكثير من شباب اليوم بالمسلسلات التلفزيونية المدبلجة، مكسيكية كانت أو تركية.
وأتذكر أن أول مسلسل إذاعي تابعناه بشكل جماعي، كان مسلسل الزير سالم، والذي كانت تقدمه الإذاعة البريطانية في تلك الفترة، وكنت أنا هو أول من اكتشفه من بين أفراد الشلة، وقد أقنعت جميع أفراد شلتنا بضرورة متابعة حلقاته بانتظام.
وبعد تلك الفترة بدأت أهتم بالبرامج الثقافية، وابتعد عن الأغاني والمسلسلات، ولقد كانت البداية مع البرامج الثقافية التي كانت تبثها الإذاعة الموريتانية، والتي لا زلت أذكر من بينها، برنامجا ثقافيا خفيفا، كان يسمى من كل واحة ثمرة، كنت أتابعه بانتظام، وأعتقد بأنه كان يبث كل يوم خميس.
لم أكن في الماضي، ولا في الحاضر، من المهتمين بالنشرات الإخبارية، ولا بالبرامج السياسية التي كان يهتم بها أهل المدينة، بمن فيهم أولئك الرجال الذين لم تكن تسمح لهم قدراتهم اللغوية بأن يفهموا ما يقال في النشرات الإخبارية، ومع ذلك فقد كانوا يصرون على متابعتها بانتظام في إذاعة (B.B.C  )، وكان من أشهر أولئك الذين يصرون على متابعة الأخبار دون أن يفهموها، رجل معروف في المدينة، لا تفته نشرة للأخبار، وكان كلما سئل عما قالته الإذاعة، أجاب بكلمتين لا يغيرهما أبدا: العالم ضاع.
كانت الـ (B.B.C  ) هي أشهر إذاعة على الإطلاق. وكان يكفيها شهرة بأنها كانت تنقل لمستمعيها دقات ساعة "بيكبن" الشهيرة، تلك الساعة التي كان أهل المدينة يضبطون عليها ساعاتهم اليدوية، وكانوا يعتبرونها حكما بينهم إذا ما اختلف توقيت ساعاتهم اليدوية. ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا رجل واحد في المدينة، كانت ثقته في ساعته اليدوية بلا حدود، وكان يعتبرها هي المقياس، ولذلك فقد كان يمتدح ساعة "بيكبن" ويعتبر توقيتها دقيقا إذا ما تطابق مع توقيت ساعته هو، وكان ينتقدها، ويعتبر توقيتها غير دقيق إذا ما خالفت توقيت ساعته، ولو بثواني معدودة.
في الثمانينيات كان يكفيني من أخبار العالم أن أستمع إلى نشرة واحدة في كل يوم، وكنتُ أستغرب من أولئك الذين يصرون على تكرار سماع الأخبار عند كل ساعة. نفس الشيء سيتكرر مع ظهور قناة الجزيرة، والتي كنتٌ أكتفي بنشرة واحدة من نشراتها في حين أنه كان يغيظني أولئك الذين يصرون على متابعة كل نشراتها المكررة. وسيأتي عليَّ زمن بعد ذلك سأتخلى فيه حتى عن متابعة نشرة في كل يوم، مع الاكتفاء بقراءة الشريط الإخباري لقناة الجزيرة، هذا إذا ما استثنينا الفترات التي شهدت أحداثا عظيمة، فقد كنتُ في تلك الفترات الاستثنائية أرابط أمام قناة الجزيرة ولما يقترب من ثلثي اليوم، وقد أزيد ـ في بعض الحالات ـ على الثلثين كما حدث في بداية ثورات الربيع العربي.
لقد كنت في الثمانينيات، كما هو حالي الآن، أكثر ميلا لمتابعة البرامج الثقافية دون غيرها، ولعل التغير الوحيد الذي حصل في هذا المجال، هو أني كنت أبحث في الثمانينيات عن الثقافة في الإذاعات، وفي الجرائد والكتب، أما اليوم فقد أصبحت أبحث عنها في القنوات الفضائية والانترنت.
في تلك الليلة المظلمة من ليالي صيف العام 1985، ابتلعت طريقي بسرعة كبيرة، في اتجاه المنزل الذي قررت المبيت فيه. والحقيقة أن الظلام بالنسبة لي لم يكن ليشكل عائقا، فقد كنت أحفظ  تضاريس الكثير من طرق المدينة، لذلك فقد تساوى لدي السير في الليالي المظلمة والليالي المقمرة، هذا إن لم يكن السير في الليالي المظلمة، كان أفضل، لأنه كان يعفيني من بذل أي جهد للنظر إلى أسفل حتى أتبين المكان الذي أضع فيه قدمي.
في الطريق، كانت الأصوات تصلني متقطعة ومتداخلة، ولكنها كانت أصواتا مألوفة تماما بالنسبة لي، وكان بإمكاني أن أحدد مصدر كل صوت منها، سواء منها تلك التي كان يطلقها إنسان، أو تلك التي كانت تأتي من حيوانات أليفة.
وكان من أكثر تلك الأصوات إزعاجا،  صوت نباح  كلاب أسعيدة. وكانت أسعيدة تملك كوخا قبالة منزلنا،  تسكن فيه لوحدها مع كلابها، وكان الجميع يتجنب الاحتكاك بها، فهي كانت جاهزة دائما لأن تجعل من كل كلمة شاردة، أو أي إشارة عابرة من جار، أو من عابر سبيل، مقدمة لخصومة قد تستخدم فيها كل الأسلحة، بما فيها تلك المحرمة محليا.
والغريب أن أسعيدة العجوز الأمية، والتي كانت تسكن لوحدها مع كلابها، والتي لم أكن أعتقد بأنها تفهم أي شيء مما يدور حولها، كشفت لي في يوم من الأيام ـ ذات لحظة صفاء عابرة ـ  بأنها تنتمي لحركة الكادحين كما كانوا يسمون هم أنفسهم، أو الشيوعيين كما كنا نحن نسميهم، ونحن عندما أقولها في الثمانينيات، فأعني بها الناصريين، أما في التسعينات فإنها تعني اللاشيء، في حين أنها فيما بعد العام ألفين ستعرف تذبذبا سيكون من أهم محطاته الاقتراب من جماعة الدعوة والتبليغ، وهي الجماعة لا تزال إلى اليوم الأقرب إلى قلبي.
وما أفادتني به العجوز أسعيدة هو أن كلابها قد دربوني على أفضل الأساليب، وأحدث التقنيات للتعامل مع الكلاب الشرسة. في البداية كانت علاقتي بالكلاب علاقة سيئة تماما، وكنت أدخل معهم في صراع شديد، كلما خرجت من منزلنا ليلا، أي أنني كنت في كل ليلة، أدخل في معركة مع كلاب أسعيدة.
وبعد سنوات لا أدري كم عددها، شهدت علاقتي بكلاب أسعيدة تحولا كبيرا، كان حصيلة لاتفاقية غير معلنة بيني وبين الكلاب، توقفت بموجبها عن رميهم بالحجارة، وتوقفوا هم عن نبحي، حتى ولو وتجاوزت ـ عن طريق الخطأ ـ الحدود الفاصلة بين منزلنا وكوخ أسعيدة، ووطئت إحدى قدميَّ على تراب تدخل في الحوزة الترابية لجارتنا الشيوعية، أو الكادحة، إذا شئتم.
لقد كنت ـ ولا فخر ـ  أنا الشاب الوحيد في مدينة لعيون كلها، الذي كان بإمكانه أن يطأ بقدمه، ليلا، على أرض تقع داخل حدود أراضي جارتنا دون أن تهجم عليه كلابها، ولم تكن تلك هي ميزتي الوحيدة، فقد كانت لي ميزات عديدة من هذا القبيل، لن أذكر لكم منها إلا هذه.
لقد علمتني كلاب أسعيدة بأن أكبر غلطة  يمكن أن أرتكبها خلال أي مواجهة مع كلب شرس، هي أن أترك ذلك الكلب يشعر ـ ولو للحظة ـ  بأن في قلبي مثقال ذرة خوف منه، أما أكبر حماقة يمكن أن أرتكبها فهي أن أهرب من أمامه.
ولقد نفعني هذا الدرس كثيرا، عندما أصبحت ـ فيما بعد ـ مساعد مؤذن مسجد العباس بمقاطعة عرفات. لقد كنت أتكفل في تلك الفترة بأذان السدس، لأن المؤذن الرئيسي، كان شيخا ضريرا، وكان يجد صعوبة كبيرة في الذهاب إلى المسجد في وقت متأخر من الليل لأداء الأذان.
كنت في كل ليلة أذهب إلى مسجد العباس في حدود الساعة الرابعة، تزيد قليلا، أو تنقص قليلا، حسب فصول السنة، وكنت حينها أسكن في مكان بعيد نسبيا عن المسجد. وما زلت أذكر إحدى الليالي التي اعترضت طريقي فيها مجموعة من الكلاب الطائشة كان عددها يزيد على العشرة.
كنت أنا الوحيد الذي أسير في الشارع، في ذلك الوقت المتأخر من الليل، لذلك فقد اتجهت نحوي الكلاب بسرعة مخيفة، يسبقها نباحها الذي كان يخيف أكثر، لتشكل حولي ـ وبسرعة لافتة ـ  دائرة مغلقة جعلتني في مركزها بالضبط، وكأنها اعتمدت في تشكيل تلك الدائرة على حسابات رياضية دقيقة.
لم يكن مني إلا أن جلست في مكاني، وأخذت أراقب الكلاب وهي تنبح بشراسة، وكأني لست معنيا بنباحها.
أخذت الكلاب تقترب مني شيئا فشيئا، وتزيد من حدة نباحها، في الوقت الذي كانت تعمل فيه على تضييق الدائرة،  في حرب نفسية أدرتها ببراعة لابد وأنها قد أذهلت مجموعة الكلاب التي هاجمتني في تلك الليلة.
كنت كلما حاولت أن أقف وأتقدم قليلا، كانت الكلاب تزيد من حدة نباحها، وتعمل على تضييق الدائرة أكثر، أما إذا عدت إلى الجلوس، فكانت تخفف من حدة نباحها، وتتراخى ـ قليلا ـ في إحكام الدائرة.
ولقد تمكنت من الخروج من دائرة الرعب، بعد دقائق بدت وكأنها دهرا، وبعد عمليات جلوس ووقوف كثيرة، ومراوغات عديدة، كنت أتقدم خلالها قليلا.
وأعتقد بأنه لو قدر لواحد من مجموعة الكلاب تلك، أن يكتب عن ذكرياته في مقاطعة عرفات،  لذكرني في تلك الذكريات بوصفي الآدمي الأكثر شجاعة في مقاطعة عرفات كلها.
لم يكن نباح كلاب أسعيدة هو الصوت الوحيد الذي كان يمكن سماعه في تلك الليلة المظلمة، والتي قررت أن أستمع فيها إلى كامل حصة البلاغات والاتصالات الشعبية.
كانت هناك أصوات  أخرى، ولكنها كانت أقل بكثير من الأصوات المعهودة التي كان يمكن سماعها في الليالي العادية، وكان السبب في ذلك هو أن بعض الأسر، وجل شباب الحي ترك المدينة بعد إغلاق المدارس، وتوجه إلى البادية.
كان الكثير من الشباب يجد سعادة كبيرة في الذهاب إلى البادية من قبل تساقط الأمطار، ليشارك في عمليات إغاثة قطعان الأبقار والأغنام، والتي تكون في أمس الحاجة لمن يعتني بها في ذلك الوقت الحرج الذي يسبق هطول الأمطار من كل سنة.
لم أكن مثل غيري من الشباب في هذه الجزئية، ولم أكن أفهم لماذا يتحمسون دائما للذهاب إلى البادية في تلك الأوقات التي تكون فيها التغذية في البادية سيئة جدا، والأعمال الشاقة كثيرة جدا، بما فيها عمليات إيقاف البقر الذي يعجز عدد منه عن الوقوف لوحده بسبب الهزال والأمراض.
لقد كنت أمتلك في صيف ذالك العام حجة قوية للبقاء في المدينة، مع النساء والأطفال، عكس السنوات الأخرى، والتي كنت أفرض فيها البقاء دون أن تكون لي حجة، تبرر ذلك. ولهذا السبب كانت أسهمي الشخصية ترتفع في بورصة الأهالي كل صيف، وكانت تأتيني في كل ليلة دعوات عديدة من الأقارب والجيران للمبيت عندهم بعد أن يكون أبناؤهم قد سافروا إلى البادية، وكانت الأسر التي تسكن في أطراف الحي هي الأكثر إلحاحا في دعواتها.
أما في موسم الخريف، فلم أكن أجد من يهتم بي إطلاقا، أو يدعوني لأي مهمة مهما كانت بساطتها، فقد كان من المعروف للجميع بأني لا أصلح لإنجاز أي مهمة، مهما كانت بساطتها،  لذلك لم يكن يُتصل بشخصي الكريم، كما يحدث مع باقي الشباب، إذا ما كانت هناك حاجة لسلخ شاة، أو لحلب بقرة، أو للبحث عن ضالة من البقر أو الإبل.
وصلت إلى المنزل الذي كان يقع في أقصى الجنوب، على حدود المنازل المهجورة، وكانت تسكن فيه أرملة أحد أصدقاء والدي رحمه الله، كان قد توفي منذ سنوات، وكانت تسكن معها بناتها الصغيرات.
 استقبلتني والدة الأسرة، بحفاوة معهودة، وإن كانت لا تخلو في هذه المرة، من مبالغة زائدة، فرضها الظلام الحالك، وفرضتها أيضا تلك الأصوات التي كانت تبعثها الريح في تلك الليلة المظلمة والعاصفة، من داخل أطلال المنازل المجاورة، وهي المنازل التي كان قد حل بها الخراب بعد أن تركها أهلها منذ سنوات، عندما  قرروا الرحيل إلى حي الداخلة، وهو ما انعكس سلبا على حينا، والذي كان من قبل تلك الهجرات الجماعية قد عرف ازدهارا كبيرا.
 توجهت مباشرة إلى الفراش المعد لي، والذي تم وضعه ـ وبعناية فائقة ـ في جانب العريش المقابل للمنازل المهجورة، وبعد أن أخذت مكاني على الفراش طلبت من إحدى البنات بأن تأتيني بجهاز الراديو. وكانت الأسرة تملك جهاز (SHARP) من أحدث الأجهزة الموجودة في الحي في ذلك الوقت، وكان قادرا على أن يلتقط الإذاعة الموريتانية بشكل جيد.
ولكن في تلك الليلة العاصفة، والتي كان يلمع فيها برق بعيد، بين الفينة والأخرى، فلم يكن بالإمكان التقاط البث بجودة عالية، حتى ولو تم ربط هوائي المذياع بسلك من الحديد، وتم تثبيت طرف السلك في أعلى العريش، تماما كما فعلت في تلك الليلة.
يبدو أني لم أنجح في الباكالوريا، كان ذلك هو ما استنتجته بعد سماع آخر بلاغ من حصة تلك الليلة من البلاغات والاتصالات الشعبية، والتي كانت هي ثاني ليلة ترسل فيها بلاغات للناجحين في الباكالوريا العلمية في ذلك العام، وكذلك لمن نجحوا إلى الدورة التكميلية.
لقد كانت تلك هي الليلة الثانية التي كنت أنتظر فيها من يرسل لي بلاغا ليخبرني بأني نجحت متفوقا في الباكالوريا شعبة العلوم الطبيعية، والحقيقة أن كل الناجحين في الباكالوريا كانوا ينجحون بتفوق في حصص البلاغات والاتصالات الشعبية، حتى ولو جاءت أسماؤهم في أسفل لائحة الناجحين، ويعود سبب ذلك، إلى أن مرسلي البلاغات قد تعودوا على أن يضيفوا ـ وبشكل تلقائي ـ كلمة متفوق، بعد كلمة ناجح، حتى ولو كان الناجح الذي يريدون أن يبشروه بالنجاح، قد حصل بالكاد على معدل عشرة.
لم أسمع باسمي في تلك الليلة، ولذلك فقد زاد كرهي لبرنامج البلاغات والاتصالات الشعبية.
لقد كنت موقنا بأني سأنجح متفوقا في الباكالوريا، رغم أني في ذلك العام كنت قد أضعت ثلاثة أشهر كاملة لم أحضر  فيها لأي درس. كما أني اضطررت في ذلك العام، لأن أتحول إلى شعبة العلوم الطبيعية، لتصبح مادة العلوم الطبيعية  بالنسبة لي هي المادة الأعلى ضاربا، وهي المادة التي كنتُ لا أطيقها، وكانت تأتي بالنسبة لي من حيث مستوى الازدراء في الدرجة الثانية بعد مادة الجغرافيا.
لقد اضطررت ـ بعد الفصل الأول من ذلك العام الدراسي ـ  لأن أتحول إلى مادة العلوم الطبيعية، انتصارا لكبرياء مدينة لعيون، والتي أهانتها وزارة التعليم في ذلك العام، أو على الأصح هكذا خُيل إليْ في تلك المرحلة المشاكسة من عمري.
ففي مطلع العام الدراسي 1984 ـ 1985 أخبرتنا إدارة ثانوية لعيون بأننا نحن طلاب سنة نهائية رياضيات (الشعبة العربية) قد تم تحويلنا إلى ثانوية كيفة، وذلك بحجة أن عددنا المتحصل من ولايتين ( الحوض الشرقي، والحوض الغربي) لم يبلغ النصاب اللازم لافتتاح فصل دراسي، لذلك فقد سافرنا إلى مدينة كيفة، واتصلنا بإدارة  ثانويتها. وبعد أسابيع من الانتظار والتردد على إدارة الثانوية، أخبرونا هناك بأن النصاب لم يكتمل أيضا، بعد إضافة طلاب ولاية لعصابة، وأعتقد بأن العدد المتحصل من ثلاث ولايات لم يتجاوز 11طالبا، وهو ما جعل إدارة ثانوية كيفة تطلب منا الذهاب إلى العاصمة للدراسة هناك.
وفي العاصمة أخبرونا بأنه قد تم تحويلنا إلى ثانوية بوتلميت، وهناك لم نتمكن  كمجموعة واحدة من أن نتخذ قرارا موحدا، فتركنا لكل واحد منا الحرية في اتخاذ القرار الذي يراه مناسبا له.
بعضنا قرر البقاء في ثانوية بوتلميت، والبعض الآخر تقدم بطلب لكي يحول إلى إحدى ثانوية العاصمة، أما أنا وأحد زملائي فقد قررنا أن نعود إلى ثانوية لعيون، وأن نتحول إلى شعبة العلوم الطبيعية.
لقد اعتبرت في ذلك الوقت، بأن تحويل طلاب من ثانوية لعيون، وهي عاصمة ولاية، إلى ثانوية بوتلميت وهي مجرد عاصمة مقاطعة، كان بمثابة إهانة خطيرة  لكبرياء مدينة أحببتها كثيرا، ولا زلت أحبها حتى اليوم، رغم أني أصبحت أشعر بالغربة كلما زرتها، وأشعر أيضا بالإهانة كلما مررت بأحد شوارعها، وكلما نظر إليَّ سكانها الجدد بنظرات مستكشفة، وكأني غريب عن هذه المدينة، أو كأني ما مرت بي أيام كنت أعرف فيها عن هذه المدينة ما لا يعرفون، عن أهلها، عن أسرارها، عن شوارعها، عن جبالها، عن أزقتها، عن خصومات أهلها، عن تحالفاتهم، عن أسرار بيوتها، عن مجانينها، عن الطائش والرزين فيها، عن قصصها التي تروى، وتلك التي لا تروى، عن حرها، عن عصبية أهلها، عن طيبتهم، عن كرمهم، عن خرافاتهم، عن مشعوذيهم، وعن كبريائهم التي وُلدت معهم يوم وُلدوا على أرض مدينة  من كبرياء.
لقد انتصرت في ذلك العام  لكبرياء مدينة من كبرياء، كانت ـ وستبقى ـ تسكن قلبي، حتى وإن لم يعد جسدي يسكنها. عدت إلى ثانويتها، في ذلك العام، شامخا، مرفوع الرأس، كأي جبل من الجبال المحيطة بها. عدت لأن المدينة التي أصبحت أشعر بغربة فظيعة كلما زرتها، كانت بالأمس القريب، قد استودعتني شيئا غير يسير من كبريائها، ومن حماقاتها، ومن عصبيتها كان يكفي لاتخاذ قرار طائش، كقرار العودة إلى ثانوية لعيون، والتسجيل في شعبة العلوم الطبيعية التي كنت أبغضها.
مرت عليَّ ساعات طويلة من تلك الليلة المظلمة والعاصفة، وأنا أتقلب في الفراش،  دون أن أستطيع النوم، ولكن في صباح اليوم التالي وجدت من أخبرني بأنه سمع  في نفس الليلة بلاغا يؤكد نجاحي للدورة الثانية.
لقد مر البلاغ الخاص بنجاحي إلى الدورة الثانية دون أن أسمعه، وكان في ذلك خير كثير، فلو أني سمعتُ البلاغ في نفس الليلة لما فرحتُ إطلاقا بذلك النجاح البائس والهزيل. إن الذي جعلني أفرح بالنجاح إلى الدورة الثانية، هو أني لم أعلم بهذا النجاح إلا بعد أن أيقنت من رسوبي في مسابقة الباكالوريا في ذلك العام، وهو الرسوب الذي تأكد لي بعد أن استمعتُ لحلقتين كاملتين من حصة البلاغات والاتصالات الشعبية دون أن أسمع اسمي.
ولقد تمكنت من النجاح في الدورة الثانية، والتي كان النجاح فيها يعني بأن واحدا من أهم أحلامي في تلك المرحلة المشاكسة من عمري لن يتحقق. كان النجاح في الدورة الثانية، يعني بأنه لن يكون بإمكاني أن أحصل على منحة للخارج للتخصص في الرياضيات، وهو ما كان يعني أيضا بأني لن أكون كبير علماء وكالة (NASA) الأمريكية، كما كنت أحلم بأن أكون. 


الحلقة (10)



كان الركاب يتمايلون  بتناغم عجيب مع تمايل سيارة 504، ذات الركاب التسعة (سبعة رجال وامرأتين). وكانت السيارة تبتلع طريق الأمل بسرعة فائقة، لا تعادلها إلا السرعة العجيبة التي سيبتلع فيها عقد التسعينيات آمال وأحلام جيل بكامله، قُدِّر لي أن أكون واحدا منه.
جيل كان يعتقد بأن الباكالوريا هي بداية لتحقيق الأحلام، فإذا به يكتشف لاحقا بأنها كانت بداية للخيبة الكبرى التي ستلتهم كل الآمال والأحلام.

لقد قدر الله لي، ولحكمة بالغة لا يعلمها إلا هو، بأن أكون واحدا من ذلك الجيل، وأن أكون أيضا واحدا من ركاب تلك السيارة، والتي اختزنت رحلتها من مدينة لعيون إلى العاصمة نواكشوط ذات يوم من أيام أكتوبر 1985، الكثير من أسرار رحلة أخرى، ستكون أكثر اختصارا، حتى وإن بدت أطول زمنيا. إنها رحلتي التي بدأت  يوم ولدت، وستنتهي حتما يوم أموت، في مكان ما، وفي لحظة ما، من يوم قادم لا محالة.
هكذا نحن مجبرون دائما على السفر عبر طريق سريع، يبدأ بالولادة، وينتهي حتما بالموت. إننا دائما في سفر، يمتد بمسافة أعمارنا، ويتسع بحجم أحلامنا، سنتساقط خلاله واحدا بعد واحد على أرصفة شارع العمر، الطويل والفسيح بأحلامنا، الضيق والقصير بمقياس ما تحقق، وما سيتحقق.
هكذا نحن دائما، سنسافر جميعا عبر ذلك الطريق، ولن يتخلف عن السفر إلا من لم يولد أصلا، أما من وُلِدَ فسيظل يلهث ويسرع الخطى إلى موت لا يعرف في أي مكان سيقابله، ولا في أي وقت سيلاقيه. ولأننا لا نعرف مكان أو زمان نهاية رحلتنا تلك، فَلِم نتعب أنفسنا بتحديد الأزمنة والأمكنة في التفاصيل الأخرى من تلك الرحلة العابرة، إذا ما أردنا أن نسردها بتفاصيلها العابرة، كما أفعل الآن أنا والكاتب، في يوميات عابرة، لقراء عابرين، يعيشون زمنا عابرا؟
ذلك سؤال كبير أثار جدلا حادا مع الكاتب، وكان أكثر حدة من الجدل الذي أثاره الخلاف بيننا حول البداية المناسبة لهذه الرواية، والذي أعتقد بأنكم لا زلتم تتذكرونه، ولا زلتم تتذكرون كيف حسمته لصالحي.
إن أكبر مشكلة واجهتني خلال تقديم هذه اليوميات، هي أني ابتليت بكاتب من صلصال قديم، لا يملك من الجرأة ما يكفي لكي يتحرر من الأنماط التقليدية والضوابط البالية في كتابة السير.
وكم من مرة أغاظني هذا الكاتب بجملة بلهاء، ظل يكررها دائما في نقاشنا الذي أثارته هذه الحلقة.
ـ إنه لابد من احترام فواصل الزمن وهوامش المكان عند كتابة سيرتك الشخصية، أي أنه لا بد من احترام التاريخ والجغرافيا في سيرتك.
ولأن الكاتب كان يجد متعة كبيرة في أن يغيظني، فقد أضاف الجملة الأخيرة، والتي لا تضيف أي معنى لما قال، وإنما  أضافها فقط حتى يلفظ  كلمة جغرافيا التي أبغضها، بنبرة عالية، وبصوت حاد، يختلف تماما عن أسلوبه الهادئ والمعهود في الكلام.
ـ ومن قال بأنه لا بد من احترام خط الزمن عند كتابة السير؟ هكذا كنت أسأل الكاتب دائما، كلما كرر جملته البلهاء تلك.
وكان الكاتب يرد بالقول:
ـ إنه المنطق، إنها كل تجارب كتابات السير التي اطلعت عليها حتى الآن.
وكان ذلك الرد كافيا لأن يشعرني بأنه لا فائدة من مواصلة الحوار، لأنه لن يكون من الممكن أن تقنع شخصا تقليديا ككاتب هذه السيرة بأفكار غير تقليدية.
فالكاتب لا يزال غير قادر على أن يقتنع بأن سيرتي هي سيرة غير تقليدية، وأنها تختلف عن كل السير التي قرأها، فهي سيرة شخص عادي جدا، وليست سيرة لأحد المشاهير، لذلك فكان من الأنسب ـ حسب وجهة نظري ـ أن تروى بطريقة غير تقليدية، لأن ذلك وحده هو الذي كان بإمكانه أن يخفف من رتابة حياتي، ومن إيقاعها البطيء والرتيب.
كنت أشفق كثيرا على القراء، كلما طالعت حلقة منشورة من حلقات يومياتي، لأني كنت اكتشف مع كل حلقة أطالعها بأن الكاتب قد فشل في أن يضيف شيئا قليلا من التوابل والبهارات ليفتح به شهية القراء لابتلاع حلقات رتيبة، من يوميات سيرة رتيبة، كتبت بأحرف وبكلمات في منتهى الرتابة والكآبة.
 ولعل أعظم مصيبة واجهتني أنا والقراء،على حد سواء، هي أن الكاتب لا يزال يتمسك ـ ورغم كل نقدي ـ  بأسلوبه البائس في كتابة حلقات هذه اليوميات، والمعتمد على احترام الخط الزمني للرواية، رافضا أن يتجاوز أي سنة من سنوات عمري، حتى ولو لم يكن في تلك السنة أي حدث يستحق أن يذكر.
لم أستطع أن أقنع الكاتب بأن في حياتي ـ كما هو الحال بالنسبة لغالبية البشر ـ  لحظات تختزن من المشاعر والأحداث ما يكفي لأن يملأ مجلدات لو وجدت كاتبا مبدعا يبسطها وينثرها نثرا في صفحات هذه اليوميات، وبطريقة إبداعية تختلف عن الطريقة البائسة التي يعتمدها كاتب هذه اليوميات. وإن في حياتي سنوات أخرى قاحلة، لو وجمع كل ما فيها من أحداث لما ملأت صفحة واحدة من هذه اليوميات.
تلك حقيقة لم أستطع أن أجبر الكاتب على احترامها أثناء كتابة هذه اليوميات، وذلك بسبب أن العقد المبرم بيننا كان يسمح له بكتابة حلقات هذه الرواية  بالطريقة التي يراها هو مناسبة، ويسمح لي أنا بسرد الأحداث بالطريقة التي أرى أنا بأنها هي الأنسب.
ولم يكن أمامي ـ أنا المكبل بعقد جائر في هذه الجزئية بالذات ـ  إلا أن أتوسل للكاتب، على غير عادتي،  حتى يغير طريقته في سرد سيرتي الشخصية، ولذلك فقد قلت له في بداية هذه الجلسة المخصصة لأحداث الحلقة العاشرة من يوميات سيرتي.
ـ ما رأيك لو خصصنا هذه الحلقة للقطة واحدة من سفري إلى العاصمة، وهي اللقطة التي لازالت تحتفظ بها ذاكرتي حتى الآن؟
أجاب الكاتب على سؤالي الذي طرحته بنبرة متسولة، بسؤال ارتأى أن يطرحه بنبرة ساخرة.
ـ وما هي تلك اللقطة التي لازالت تحتفظ بها ذاكرتك الكسولة، حتى الآن؟
ـ قد لا تصدقني إذا قلت لك  بأني نسيت كل تفاصيل ذلك السفر الذي جرى منذ ما يزيد على ربع قرن، نسيت لحظة الانطلاق، ونسيت لحظة الوصول، ونسيت كل الذي حدث بين لحظة الانطلاق ولحظة الوصول، باستثناء لقطة واحدة لا زالت محفورة في ذاكرتي، لقطة لا طعم لها ولا لون، لا فرح فيها ولا حزن، لا خوف فيها ولا أمان يميزها عن غيرها، ومع ذلك فقد ظلت ـ ولحكمة ما ـ عالقة في ذاكرتي، دون غيرها.
لقطة غريبة، وأغرب ما فيها، أنها خالية من أي شيء غريب.
لم يكن من الكاتب إلا أن كرر سؤاله مع زيادة مستوى السخرية في نبرته.
ـ وما هي تلك اللقطة التي لازالت تحتفظ بها ذاكرتك الكسولة، حتى الآن؟
ـ أتذكر بأني خلال ذلك السفر، وفي مكان ما على طريق الأمل التفت عن يميني وعن شمالي ومن أمامي ومن خلفي، فوجدت أن ثمانية من الركاب كانوا يتمايلون بتناغم عجيب مع تمايل السيارة، وذلك بعد أن غلبهم النعاس، فناموا.
 وكان كلما استيقظ أحدهم للحظة بفعل ارتطام أو هزة ما، عاد من جديد إلى النوم، في الوقت الذي بقيت فيه أنا مستيقظا طوال الرحلة، وكنت كلما وصلتني عدوى النعاس، وأغمضت عينيَّ للحظة قصيرة جدا، أعود لفتحهما من جديد.
رد الكاتب بسؤال يقطر سخرية، وكأنه قد امتص كل ما تبقى في حنجرته من سخرية.
ـ أتريد حقا أن نخصص حلقة كاملة من الرواية للقطة تافهة كهذه؟
ـ بلى، هكذا أجبت، ولا أدري إن كنت أنا الذي لفظت كلمة بلى، أم أن الكلمة كانت في عجلة من أمرها، فلفظت نفسها بنفسها.
ـ أنا على استعداد لتنفيذ طلبك الغريب هذا، ولكن بشرط.
ـ وما هو؟ هكذا سألت.
ـ أن توافق على تغيير اسم هذه الرواية، ليصبح: يوميات مجنون تافه جدا.
ـ ولكنك تعلم بأني لست مجنونا، أما التفاهة فتلك حكاية أخرى.
ـ لست متأكدا تماما من صحتك النفسية، لذلك فإن كانت لديك شهادة صحة نفسية فأرجو أن تريها لي، فربما يطلب مني القراء مستقبلا أن أصورها وأنشرها في الرواية حتى يتأكدوا من أن بطل روايتي ليس بالمجنون.
لم أجب الكاتب، وإنما اخترت أن ألوذ بالصمت، فقد كان من العبث بالنسبة لي، أن أحاول أن أثبت عدم جنوني لكاتب غبي. يقال بأن عالم الرياضيات بيرتراند راسل كان قد احتاج  لأكثر من 350 صفحة ليثبت أن: 1+1 = 2 .

خيمت لحظات من الصمت الثقيل، قطعها الكاتب بالإعلان عن استنتاج سخيف، كان قد توصل إليه للتو.
ـ لقد أيقنت الآن بأن أفكارك الغريبة هي التي كانت وراء فشلك في الحياة.
ـ وما الذي كان وراء فشلك أنت في الحياة، يا صاحب الأفكار النيرة؟
لم يجبني الكاتب، ولم يكن لديه ما يجيب به، ولذلك فقد واصلت الحديث، مع محاولة لتغيير مساره قليلا، وذلك بطرح بالسؤال التالي:
ـ هل ترغب في أن أكشف لك سبب فشلي في الحياة؟
ـ بالتأكيد، أرغب في ذلك.
ـ إن سبب فشلي في الحياة يعود أساسا إلى أني بقيت مستيقظا في السيارة خلال رحلتي تلك التي حدثتك عنها، والتي لم أعد أتذكر منه سوى تلك اللقطة العنيدة العالقة بذاكراتي.
رد الكاتب بكلمات ساخرة، لم يستطع ـ هذه المرة ـ أن يلفظها بنبرة ساخرة، بعد أن كان قد استهلك في بداية هذا الحوار، كل ما اختزنته حنجرته من سخرية.
ـ ما رأيك في أن تؤجل قليلا شرح سبب فشلك في الحياة، حتى نذهب إلى مستشفى المجانين، بمقاطعة السبخة، فربما تجد هناك من يفهم حديثك أكثر مني؟
ـ هذا اقتراح جيد، ولعل الجيد فيه هو أن توفق إدارة المستشفى في استغلال فرصة زيارتك لها، وتقرر أن تحتجزك في أحد عنابرها، تطبيقا لمبدأ الإنسان المناسب في المكان المناسب، فتكون بذلك هي أول مؤسسة موريتانية تطبق هذا المبدأ.
سكتُّ للحظة، عدلت خلالها من جلستي، ثم واصلت حديثي بكلمات واثقة، وكأني معلم يحدث أحد تلاميذه الأغبياء في سنة أولى ابتدائي.
ـ يا أيها "الكاتب العبقري"، إني أعلم بأن عقلك المتواضع لن يستوعب ما سأقوله لك الآن، ولكن أرجوك أن تنقل هذا الكلام ـ وبأمانة تامة ـ إلى القراء، فربما يكون من بينهم "مجنون" قادر على فهم ما سأقوله لك الآن، ورب سامع أوعى من مبلغ.
إن تلك اللقطة التي حدثتك عنها منذ لحظات، والتي لا زالت محفورة في ذاكرتي، رغم مرور ما يزيد على ربع قرن من الزمن، لم تكن لقطة عادية، حتى وإن بدت في ظاهرها مجرد لقطة عادية لا تثير أي فضول.
إن تلك اللقطة  تفسرـ يا "كاتبنا العبقري" ـ الكثير من أسرار حياتي، إنها تفسر ـ وكما قلت لك سابقا ـ سبب فشلي في الحياة، أو ما قد تعتبره أنت والقراء، على أنه فشل، وإن كنت أنا أعتبره أعظم نجاح حققته حتى الآن.
فأي نجاح أعظم من أن تظل مستيقظا لعقد كامل من الزمن، ودون أن تغمض عينا، في الوقت الذين يكون فيه كل من حولك في سبات عميق لا يستيقظون منه أبدا؟
أرجو أن لا تحاول الإجابة على هذا السؤال، فالسؤال ليس موجها إليك، يا "كاتبنا العبقري"، فأنا أعرف بأنك لا تتقن الإجابة إلا على الأسئلة الهامشية، أما الأسئلة الكبرى، كما هو الحال بالنسبة لهذا السؤال، فلن يكون بإمكانك الإجابة عليها.
وأعلم ـ يا "كاتبنا العبقري" ـ  بأني عانيت مشقة السفر في رحلتي تلك، لأني لم استطع النوم كما فعل بقية الركاب، وهو ما جعلني أعيش الرحلة لحظة لحظة، وأتجرع أتعابها كاملة، عكس بقية الركاب الذين ساعدهم النوم في قطع مسافات طويلة من الرحلة دون أي معاناة.
ونفس الشيء تكرر في رحلتي الأخرى، خاصة في عقد التسعينيات، والذي تعتبره أنت، كما قد يعتبره القراء، عقد فشل بامتياز بالنسبة لي، وإن كنت أنا أعتبره عقد نجاح بامتياز.
لم أستطع أن أغمض عيون الضمير، وأنا أبذل جهدا كبيرا لعبور المقطع الخاص بعقد التسعينيات من رحلة عمري، وكان عبور ذلك المقطع، هو من أصعب مقاطع عمري التي عبرتها حتى الآن.
لقد كان بإمكاني أن أغمض عينيَّ في رحلتي إلى العاصمة، كما فعل بقية الركاب، وكان ذلك سيخفف ـ لا محالة ـ من وغثاء السفر، ولكني لم أفعل. وكان بإمكاني أيضا ـ يا "كاتبنا العبقري" ـ أن أغمض عيون ضميري في التسعينيات، كما كان يفعل أغلب الناس، وكان ذلك سيخفف حتما من شقاء التسعينيات، ولكني لم أفعل، بل تركت عيون ضميري مفتوحة، لأصل إلى قمة الفشل في ظرف قياسي.
كان سائق سيارة 504 يتعمد أن يسوق سيارته بطريقة لا توقظ الركاب، ربما خوفا من طلباتهم المزعجة، وكان الركاب يجدون متعة في مواصلة نومهم، وكان الكل مرتاحا، باستثنائي أنا الذي لم أغمض جفنا في تلك الرحلة الشاقة.
كان سائق السيارة سعيدا بنوم الركاب، تماما كما كان سائق البلاد، والذي استولى على زمرة قيادتها منذ يوم 12 ـ 12 ـ 1984، سعيدا بنوم شعب بكامله.
ولقد كان العام الدراسي 1984 ـ 1985 عام أحلام بالنسبة لي. ففي مطلع ذلك العام حلمت ببلد ينعم بالديمقراطية والعدل، وذلك بعد أن صدقت وعود قائد انقلاب 12ـ 12. وفي نهاية ذلك العام الدراسي حصلت على الباكالوريا (الدورة الثانية)، والتي كنت أعتبرها بمثابة تأشيرة  لتحقيق أحلامي الشخصية، ولم يكن تزامن حصولي على الباكالوريا مع انقلاب معاوية مجرد صدفة عابرة على رصيف شارع عمري. .
حلمان كبيران رسمتهما في ذلك العام الدراسي، حلم شخصي، وحلم للوطن، ولكن عقد التسعينيات لم يكن عقدا لتحقيق الأحلام، لا الشخصية منها، ولا تلك التي تتعلق بالوطن، وإنما كان عقدا لاغتيال كل الأحلام، وبشتى أصنافها، كبرى أو صغرى، شخصية كانت أو وطنية.
ففي عقد التسعينيات تبخرت أحلامي الشخصية لأني رفضت أن أغمض عيون الضمير، في ذلك العقد الذي أغمض فيه الجميع عيون ضمائرهم، فناموا وارتاحوا.
أغمض العلماء عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..
وأغمض المثقفون عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..
وأغمض الوجهاء عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..
وأغمض الشيوخ والصغار والنساء والرجال والبسطاء وكبار القوم عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..
لقد عبر الشعب كله عقد التسعينيات، وهو نائم مرتاح مغمض العيون، تماما كما فعل ركاب سيارة 504 في تلك اللقطة العالقة بعناد عجيب على حافة  ذاكرتي.
وكان الشعب يهذي وهو نائم..
ووصل الهذيان  بعجوز أن طلبت من الرئيس معاوية أن يحجز لها مقعدا في الجنة، وذلك بعد أن حقق لها كل أحلامها الدنيوية..
ووصل الهذيان بشخصية سياسية وإعلامية بأن قدمت ـ وهي نائمة ـ  المصحف الكريم للرئيس معاوية على أساس أنه هدية متواضعة.
ووصل الهذيان بشيخ كبير إلى أن أقسم بأن البركة نزلت من السماء ليلة 12 ـ 12، وأن أفراد عائلته شبعوا في تلك الليلة حتى من قبل أن يأكلوا..
لقد تعرضت الأخلاق والقيم في عقد التسعينيات إلى زلزال عظيم، جعل عاليها سافلها، و سافلها عاليها، ولعل المصيبة الكبرى أن الزلزال حدث والناس في سكرة نومهم يعمهون، ولم يشعر به أحد، إلا من رحم ربك.
إن أخطر الزلازل تلك التي تحدث والناس نيام.
وفي عقد التسعينيات، وبعد الزلزال الكبير الذي دمر أخلاق الناس، لم يكن غريبا أن نشاهد ـ ونحن نيام ـ  الشيخ الطاعن في السن، يظهر على الشاشة، وهو يرتعش، مصحوبا بدفتر أحد أحفاده، ويدعي بأنه دفتره هو، وبأن ما كُتِب في الدفتر كتبه هو بيمينه، أو بشماله، في فصل محو الأمية الذي لم يزره إلا مع زيارة التلفزيون له.
وفي عقد التسعينيات كان بإمكاننا أن نشاهد ـ ونحن نيام ـ الطبيب، وهو يفتخر بكثرة القمامة في البلاد، ويعتبرها بشارة خير، لأنها جاءت نتيجة لطفرة استهلاكية لم يكن بالإمكان تنظيف مخلفاتها، حتى ولو جيء بكل عمال النظافة في العالم.
وفي عقد التسعينيات كان بإمكاننا أن نسمع ـ ونحن نيام ـ  صاحب منظمة غير حكومية، وهو يهذي على شاشة التلفزة، ويقول بكل وقاحة، بأن منظمته ستقضي ـ نهائيا ـ على الأمية في موريتانيا، بل وفي كل الدول المجاورة، خلال الأشهر الستة القادمة.
لم يبق فحش من القول إلا وسمعناه في عقد التسعينيات، في ذلك العقد الضائع من عمري، والضائع من عمر وطن بكامله، ولا يعني ذلك ـ بأي حال من الأحوال ـ بأن هناك عقودا أخرى من عمري، أو من عمر الوطن، لم تكن عقودا ضائعة.
لم يكن أمامنا في عقد التسعينيات إلا واحد من خيارين اثنين: إما أن ننام فنُريح ونستريح، وإما أن نستيقظ فنَشقى ونُشقي.
وكانت من حين لآخر تحدث هزة، أو ارتطام ما، يجبر الجميع على أن يفتح عيونه، ولكن الكارثة أن الجميع لم يكن يفتح عيونه إلا بقدر مسافة الهزة، وعمر الارتطام، ثم يعود إلى نوم عميق، تماما كما كان يحدث لركاب سيارة 504 خلال عبورها  لطريق الأمل، فكان الركاب يستيقظون مسافة الهزة التي قد تتعرض لها السيارة، ثم يعودون إلى نومهم، وكأن شيئا لم يحدث.
وكانت أعظم هزة حدثت خلال فترة حكم معاوية هي تلك الهزة التي أيقظت الناس جميعا خلال يومي الثامن والتاسع من يونيو من العام 2003.
ثم عاد الناس لنومهم، بعد فترات من اليقظة، متفاوتة طبعا، كانت تختلف من شخص لآخر، كل حسب تأثيرات الهزة العظيمة عليه. ولكن المفارقة، أن قلة من أولئك الذين ناموا أكثر من غيرهم، في فترة حكم معاوية، هم الذي رفضوا أن يناموا نوما عميقا هذه المرة، وهم الذين أيقظوا الناس على هزة عظيمة أخرى، صادفت فجر الثالث من أغسطس من العام 2005.
وبالتأكيد فإني لم أسلم من نعاس عقد التسعينات، ولقد مرت بي أوقات كدت أن أغمض فيها عيون ضميري، تماما كما مرت بي لحظات في رحلة 504 كدت أن أغمض فيها عيون بصري، ولكني كنت دائما أتمكن من أفتحهما من جديد.
لم أكن أنبل خُلقا من نيام عقد التسعينيات، ولم أكن أشرف منهم، ولا أكثر وطنية، ولا أقوى صلابة، حتى أفسر يقظتي بشيء من ذلك.
لقد كنت من نفس العجينة، وأتذكر أني في مرة من المرات، وبعد أن أرهقتني البطالة، وأتعبني السهر، قررت صحبة بعض أصدقائي أن أطلق مبادرة، كانت ستشكل لو أنها رأت النور حديث الناس في تلك الفترة.
ومن المعروف مما تم تسجيله من هذيان النائمين، بأن أولئك الذين يُظهرون في البداية قدرة عجيبة على تحمل السهر لسنوات، هم الذين عندما يغلبهم النعاس، ويناموا في وقت متأخر، يصدمون الجميع بهذيان فاضح، لم يتجرأ عليه غيرهم ممن نام في وقت مبكر.
وكدت أن أنضم إلى أولئك، لأقول لنيام التسعينيات بأنه بإمكاني ـ أنا أيضا ـ أن أغفو، وأن أهذي، وأن أبتدع مبادرة أختصر بها المسافات التي قطعوها هم خلال سنوات من النوم العميق. كنت أريد أن أقول لهم بأن بإمكاني أن أقفز مباشرة إلى أعلى السلم، لأضع منكبي بمنكب أولئك الذين ناموا منذ عقد من الزمن.
كانت مبادرتي  ستعزف على وتر حساس جدا، لأنها كانت ستطالب بمملكة دستورية في موريتانيا، على أساس أن ذلك سيجنب البلاد أي هزات في المستقبل، وسيوقف مطامع الجميع لتظل السلطة حكرا لآل الطايع الكرام.
وتم إعداد خطة مثيرة لإخراج تلك المبادرة بطريقة في منتهى الإثارة، قادرة على أن تجعلها تبرز من بين مئات المبادرات، في ذلك العقد الذي لم ننتج فيه سوى مبادرات التصفيق والتطبيل للحاكم. وكانت المبادرة ـ بكل تأكيد ـ ستبهر كل النيام، وكانت ستلفت انتباه الرئيس.
وفجأة صحوت، كما كنت أصحو دائما كلما حاولتُ أن أغمض عينيَّ في تلك اللقطة العالقة بعناد عجيب في ذاكرتي، منذ ما يزيد على ربع قرن، خلال سفر على طريق الأمل، كنت مثقلا خلاله بحمولة كبيرة من الأحلام، لي، ولوطني،  سينتزعها مني عقد التسعينيات بعجرفة وبخشونة لم أكن أتوقعها.
صحوت لأغتال مبادرتي في مهدها، وذلك من قبل أن يتلقفها النيام فتصبح عملية اغتيالها عملية مستحيلة.
صحوت في الوقت المناسب، ليس لخصوصية تميزني عن بقية النيام، وإنما لأن رحمة من ربي قد تداركتني، كما كانت تتداركني دائما رحمته في كل تلك الأوقات التي كنت أضع فيها نفسي في مواضع الهلاك.


الحلقة (11)



لم أكن في منتصف الثمانينات لأتخيل نفسي أستاذا، فقد كنت أكره تلك المهنة كرها شديدا. وربما يكون ذلك بسبب أني كنت من أكثر الطلاب شغبا، وكنت أخاف أن يبعث الله لي طالبا مشاغبا ومزعجا مثلما كنت، عندما أصبح أستاذا، ولكن ورغم ذلك، فقد بذلت في مطلع العام الدراسي 1985ـ 1986 جهدا كبيرا لكي يُسْمَح لي بالترشح في مسابقة اكتتاب الأساتذة التي نظمت في ذلك العام.

 لقد اضطررت لأن أترشح لتلك المسابقة لأن الخيارات كانت بالنسبة لي محدودة جدا. فإما أن أكون أستاذا، وإما أن أسجل في جامعة نواكشوط الفتية حينها، والتي لا زالت حتى يومنا هذا توصف بأنها فتية رغم أنها دخلت في عقدها الرابع، ورغم أنها لفظت عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل إلى آلاف الأسر المنهكة أصلا، وأجبرت تلك الأسر المنهكة على أن تواصل الإنفاق على من توقعت ذات يوم بأنه سيصبح هو معيلها.
والحقيقة أن جامعة نواكشوط لم تكن فتية في أي يوم من الأيام. فقد ولدت هذه الجامعة بوجه طاعن في السن، مليء بالتجاعيد، وربما يعود ذلك إلى تسميتها بجامعة نواكشوط، فنواكشوط نفسها، والتي يقال عنها بأنها عاصمة فتية، قد شاخت في وقت مبكر من عمرها، بعد أن طغت عليها ملامح الشيخوخة، وهي لا تزال تعيش طفولتها الصغرى. 
ترشحت في ذلك العام لمسابقة دخول المدرسة العليا للتعليم، ولكن السيدة با، السيدة القوية في ذلك الزمن، والتي كانت مديرة المدرسة حينها، رفضت السماح لي بالمشاركة في تلك المسابقة، بحجة أني لم أبلغ بعد سن الرشد، حسب ما تقول وثائقي الرسمية.
قالت السيدة با بأنها لن تفتح أبواب مدرستها لمراهق مثلي، لم يبلغ بعد عامه الثامن عشر، وقالت بأنها لن تسمح لي ولا لغيري من المراهقين بأن يتخرجوا أساتذة من المدرسة التي تتولى هي إدارتها.
 قالت السيدة با كلمتها، ولم تكن هناك كلمة يمكن قولها في المدرسة العليا للتعليم بعد كلمة السيدة با، ذلك ما قاله لي العارفون بأمور الوزارة، وأكده لي  كذلك كل من التقيت بهم من الطلاب القدامى في هذه المدرسة.
ورغم ذلك فقد اجتمعنا نحن الذين حرمتهم السيدة با ـ لسبب أو لآخر ـ من المشاركة في مسابقة الأساتذة، واتصلنا بوزير التعليم حينها، الوزير الذي أطال المقام بالوزارة ليفسدها أكثر، وأحدثنا أمام مكتبه ضجة كبيرة، اضطر بعدها لأن يطلب من أحد مستشاريه أن يرافقنا إلى السيدة با، ويطلب منها أن تسمح لنا بالمشاركة في المسابقة.
بعد تلك الضغوط، وبعد الكثير من الإجراءات الشكلية، سمحت لنا السيدة با بالمشاركة الشكلية في المسابقة، لأنها كانت قد قررت ـ فيما يبدو ـ أن لا تسمح لأي واحد منا بالنجاح في المسابقة، وهو ما كان.
لم يشفع لي لدى السيدة با بأني كنت سأقضي أربع سنوات (مدة التكوين في المدرسة)، من قبل التخرج، وسيصبح عمري بعد التخرج إحدى وعشرين سنة، أي أني لن أتخرج إلا بعد بلوغ سن سيكون بإمكان صاحبها أن يتحمل كامل المسؤولية. لم تقبل السيدة با بأن تحسب لي سنوات التكوين التي سأقضيها في المدرسة لأن حسابها  كان لصالحي. ومن المفارقات الغريبة أنني بعد ذلك بأعوام ستحسب لي سنوات التكوين لأن حسابها لم يعد لصالحي، بعدما اقترب عمري من سن الأربعين، وأنا لازلت أبحث عن وظيفة. فكنت أمنع من المشاركة في بعض المسابقات عندما وصل عمري لست وثلاثين سنة بحجة أني سأقضي أربع سنوات في التكوين، ولن أتخرج إلا وعمري أربعين سنة، وهي السن التي  كانت الوظيفة العمومية لا تقبل باكتتاب من وصل إليها.
 هكذا دائما هي الإدارة الموريتانية، تطبق نص القانون، دون تأويل، عندما يكون ضد المواطن، وتأوله إذا ما كان في تأويله ما يمكن أن يتضرر منه مواطن عادي مثلي.
كان تصرف السيدة با بالنسبة لي تصرفا استفزازيا بامتياز، مثلها مثل ذلك الشرطي البائس في مدينة لعيون، والذي سمح لبعض أصدقائي ممن هم أكبر مني سنا، وأقل تعليما، بمتابعة جلسات المحاكمة بينما نصحني أنا بأن أذهب لألعب مع أصدقائي الأطفال على قارعة الطريق.
لقد سمحت السيدة با لطلاب كانوا أقل مني مستوى بأن يكونوا أساتذة، بينما رفضت أن تسمح لي أنا بأن أكون أستاذا لمادة الفيزياء، أنا الذي كنت أتوقع بأن أقل وظيفة تليق بشخصي الكريم هي أن أكون خبيرا أو عالما في أشهر وكالة عالمية للفضاء.
لقد أهانتني السيدة با في ذلك العام، ولم يكن أمامي إلا أن أبتلع تلك الإهانة، وأن أسجل في قسم الاقتصاد بجامعة نواكشوط الفتية.
كان تخصص الاقتصاد بالنسبة لي مجرد تخصص بلا معنى، ولم أستطع أن أحب مادة الاقتصاد كما كنت أحب مادة الرياضيات، ولكنني في المقابل لم أكن أكرهها كما كنت أكره مادتي الجغرافيا والعلوم الطبيعية.
سجلت في قسم الاقتصاد ذات خميس صادف الواحد والثلاثين من أكتوبر من العام 1985م. وكان لذلك اليوم شأن كبير في المسودة الأولى من هذه الرواية عندما كانت تحمل عنوان: "أعقاب سجائر رخيصة". وقد خُصِصَتْ لذلك الخميس في المسودة الأولى من هذه الرواية عدة صفحات تمت صياغتها مرات عديدة، وهو ما أزعج الكاتب كثيرا، ولكن في هذه النسخة من الرواية فإنه لن يكون لذلك الخميس أي شأن يذكر. وأرجو أن لا تسألونني عن سبب تغير حال هذا اليوم في نسختيْ الرواية، لأن ذلك أحد أسرار هذه اليوميات التي لن أبوح لكم بها إطلاقا، ولن يكشفها لكم الكاتب، حتى ولو طلبتم منه ذلك، ففي عقد الاتفاق الذي وقع عليه الكاتب كان هناك شرط واضح وصريح جدا يمنع أي حديث عن تفاصيل ما جرى في ذلك الخميس.
في قسم الاقتصاد تعرفت على الكثير من الزملاء والأصدقاء الجدد، كما تعرفت أيضا على العديد من الأساتذة بعضهم كان يعاملني باحترام شديد، وكأني لست طالبا لديه، والبعض الآخر كان يتعامل معي بوصفي طالبا مزعجا، كان القسم سيكون رائعا، لو لم يكن أحد طلابه.
والحقيقة أني كنت دائما هكذا خلال كل مراحل دراستي، ولم يحصل أن تغير سلوكي في أي مرحلة من مراحل دراستي.
كنت في كل مرحلة دراسية، وفي كل عام دراسي، أتعرف على معلمين أو أساتذة جدد، وكانت علاقتي بهم تتحدد في الأيام الأولى من كل سنة.
كان بعضهم يعاملني، ومنذ أول يوم، باحترام كبير، ولم يحدث أن خيبت ظن أي واحد من أولئك المعلمين أو الأساتذة الذين كانوا يعاملونني باحترام في أول لقاء.
وكان بإمكاني دائما، أن أجعلهم يشعرون بأنهم لم يخطئوا عندما احترموني منذ لحظات التعارف الأولى. وكان بإمكاني أن أظهر لهم أدبا جما كلما قابلتهم، وأن أفاجئهم في كل حين بحركة أو بتصرف ما يعزز من ذلك الاحترام.
وفي المقابل فإني أيضا لم أخيب ظن أولئك الأساتذة الذين أظهروا، ومنذ اللحظات الأولى، انزعاجا شديدا من وجودي في الفصل.
فقد كان بإمكاني أيضا، وفي كل حصة، أن أقوم بحركة ما، أو بتصرف ما، يؤكد لأولئك الأساتذة الذين أساؤوا الظن بي، منذ اللحظات الأولى،  بأنهم لم يخطئوا عندما أساؤوا الظن بي، بل إنهم  قد أصابوا، عندما توقعوا بأني سأزعجهم كثيرا.
لقد كنت شخصا غريبا في سلوكي، على الأقل في هذه الجزئية، فكان بإمكاني أن أكون دائما عند حسن ظن من أحسن الظن بي من الأساتذة والمعلمين، وأن أكون ـ وفي نفس الوقت ـ عند سوء ظن من أساء بي الظنون منهم.
وكان بإمكاني دائما، وفي كل سنة دراسية، أن أترك انطباعين متناقضين جدا لدى أساتذتي في كل عام دراسي. فمنهم ـ وهذه هي الغالبية ـ من كان يعتبرني أسوأ طالب صادفه في كل حياته المهنية، وفيهم من كان لا يجد أي حرج في أن يقول لطلابه ولزملائه من الأساتذة بأنه لم يصادف في حياته المهنية  طالبا أحسن خلقا مني، ولا أكثر اجتهادا ومثابرة.
ولقد كان أستاذ الإحصاء في جامعة نواكشوط محمد الصغير ولد محمد تقي الله رحمه الله تعالى، واحدا من أولئك الأساتذة الذين كانوا يعتبرونني من أحسن الطلاب خلقا.
وأتذكر أنه في يوم من الأيام، قال لطلاب الفصل بأنه كان يتمنى لو كانوا جميعا مثلي : خلقا، واجتهادا، وذكاء، ومثابرة، وهي الأمنية التي استغربها الطلاب كثيرا، لأنهم عرفوني فوضويا ومشاغبا، لا أصل إلى الفصل إلا متأخرا، وأخرج منه ـ في الغالب ـ مبكرا، ولا أستمع للمحاضرات في ذلك الجزء القصير من الحصة الذي أقضيه داخل الفصل، ولا أملك دفاتر، وقليلا ما أكتب المحاضرات كما كان يفعل غيري من الطلاب.
لقد كان أستاذ الإحصاء رحمه الله تعالى يعتقد بأني كنت أدون كل محاضراته، وبأني كنت أراجع ـ وبانتظام ـ تلك المحاضرات.
وربما يكون أستاذ الإحصاء، رحمه الله تعالى، قد اعتقد ذلك نتيجة لمشاركتي الجيدة أثناء حصته، أو نتيجة للعلامات المتميزة التي كنت أسجلها في اختباراته، والتي كانت تشكل دائما أفضل نتيجة في مادتي الإحصاء والرياضيات المالية اللتين كان يدرسهما لنا في الجامعة.
والحقيقة أني لم أكن بحاجة لمراجعة المواد ذات الطبيعة الرياضية، أو الاهتمام بها أصلا، حتى أسجل فيها نتائج مميزة، ذلك أن خلفيتي الرياضية ونبوغي المبكر في هذه المادة، كانا كافيين لتسجيل نتائج مميزة، بل كانا كافيين ـ مع قليل من الجهد ـ لتدريس المقررات التي كانت تدرس لنا في ذلك الوقت، لو أنه تم تكليفي بتدريسها.
ومن بين الأساتذة الذين كانت علاقتي بهم جيدة يمكن أن أذكر الرئيس الحالي لحزب "عادل"، الأستاذ يحيى ولد الوقف، والذي درسنا مادة التخطيط في السنة الرابعة في أول عام يدرس فيه بالجامعة. ولقد سجلت في امتحان مادته أعلى نتيجة في ذلك العام نظرا لأنها كانت من المواد التي تعتمد شيئا ما على الرياضيات.
وبالمناسبة فقد درسني أيضا، في السنة نفسها، الرئيس الحالي لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية، الأستاذ محمد محمود ولد محمد الأمين مادة المالية العامة. وكان هذا الأستاذ من الأساتذة الذين كانت علاقتي بهم سيئة. ولقد سجلت في مادته نتائج متدنية جدا، تعكس طبيعة العلاقة المتوترة التي كانت تربطني به.
ودرسني كذلك محافظ البنك المركزي المساعد، الأستاذ محمد عمارو، والذي سيتم اتهامه، وبعد عقدين من تدريسه لنا، في ملف فساد مع ثلاثة من كبار رجال الأعمال في البلاد. ولقد كان هذا الأستاذ من الأساتذة الذين ربطتني بهم علاقة جيدة، وكانت نتيجتي في مادة الاقتصاد القياسي التي كان  يدرسها لنا في السنة الرابعة هي أعلى نتيجة تم تسجيلها في مادته في ذلك العام.
لم أكن أهتم كثيرا، لا في داخل الجامعة ولا في خارجها، بالمحاضرات ولا بالمناهج المقررة، ومع ذلك فقد كنت أميل كثيرا للقراءة، وكان المهم بالنسبة لي أن يكون ما أقرؤه غير ذي صلة بالمقررات الدراسية.
كان بإمكاني أن أقضي الساعات الطوال وأنا أقرأ أي كتاب أو مجلة أو جريدة أو أي مكتوب آخر يصادفني، مهما كانت طبيعة ذلك المكتوب، المهم أن لا تكون له صلة بما أدرس. لقد قرأت خلال دراستي، ومن الغلاف إلى الغلاف، مئات الكتب التي لا صلة لها بتخصصي، فقرأت الكثير من الروايات والقصص، وقرأت عددا لا بأس به من كتب السياسة، ومن كتب الأدب، ومن كتب أخرى متنوعة، وقرأت كذلك كتب التاريخ في مرحلة لاحقة، بعد تجاوزي للمرحلة الثانوية، وبعد أن انفصلت هذه المادة الوديعة عن مادة الجغرافيا الكئيبة. ولكني مع ذلك لا أذكر بأني قرأت عشر صفحات متتالية من أي كتاب في الاقتصاد، ليس بسبب كره هذه المادة، وإنما لكونها كانت من المواد المقررة، حتى  كتب القانون فقد هجرتها كما هجرت كتب الاقتصاد، لا لشيء إلا لأن القانون  كانت تجمعه مع علم الاقتصاد كلية واحدة.
لقد كان عقلي مشاكسا، ولذلك فقد كنت أرفض دائما أن يلقنني الآخرون أفكارا جاهزة، مهما كانت طبيعة تلك الأفكار، كما كنت أكره المقررات الجاهزة كرها شديدا، وأعتقد بأن ذلك كان من بين الأسباب التي جعلتني أفشل في أن أكون ناصريا متميزا. كما أنه أيضا كان من أهم الأسباب التي جعلتني أفشل في أن أكون مناضلا حزبيا في أي حزب سياسي من الأحزاب السياسية التي تزخر بها الساحة الوطنية.
لقد كانت مقررات الجامعة في ذلك الوقت، وأعتقد بأنها لا زالت كذلك حتى الآن،  مجرد مقررات تلقينية، ولذلك فقد كرهتها كرها شديدا.
كانت جامعة نواكشوط بالنسبة لي مجرد محطة عابرة، في رحلتي العلمية، والتي لم تعد لها بوصلة، منذ أن فشلت في الحصول على منحة، لأتخصص في مادة الرياضيات، تلك المادة التي أحببتها، والتي كنت أعتقد بأني لو تخصصت فيها لكنت شيئا مذكورا، يختلف تماما عن حالي الآن: شخص عادي جدا، يعيش متنقلا بين هوامش المكان وفواصل الزمن، ويثير الشفقة أكثر مما يثير الحسد.
لم تكن الجامعة بالنسبة لي محفلا للتحصيل العلمي، ولكنها كانت مجرد مكان للتعرف على زملاء وأصدقاء جدد، أو لتعميق صداقات أخرى، بدأت بالمرحلة الثانوية ولم تنته بالمرحلة الجامعية.
وكان من بين من تعرفت عليهم في الجامعة، وفي السنة الأولى من قسم الاقتصاد، الرئيس الحالي لجامعة لعيون الإسلامية، والوزير السابق للتعليم في وزارة ولد الوقف التي تم الانقلاب عليها.
كان الطالب محمد أعمر واحدا من أصدقائي الذين تعرفت عليهم في الجامعة، ولقد شكلت أنا وهو مع أصدقاء آخرين مجموعة موحدة للمراجعة. وكان هذا الصديق يختلف معي في أشياء كثيرة، فهو كان طالب منظم جاد، وإن كانت جديته لا تخلو من هزل في بعض الأحيان، بينما كنت أنا فوضويا ساخرا، وإن كان هزلي لا يخلو من جدية في بعض الأحيان. كان  تخصصه أدبيا، وكان ضعيفا في الرياضيات، ولكنه كان جيدا في المواد الأدبية، وكان ثرثارا رائعا، بينما كنت أنا جيدا في مادة الرياضيات وملحقاتها، ضعيفا أو على الأصح، مهملا للمواد ذات الطبيعة الأدبية، وكنت أجد صعوبة كبيرة في مواصلة الحديث عن أي موضوع لخمس دقائق كاملة.
كان محمد أعمر منظما لدرجة يستحيل فيها أن تعرف متى سحب ثوبه من عند الغسال، ولا متى حلق شعر رأسه عند الحلاق، إن كان أصلا يحلق عند الحلاق. لقد كان طول شعر رأسه ـ منذ أن عرفته ـ  ثابتا لا يتغير بسنتيمتر واحد، وهو ما جعلني أتهمه بأنه كان يحلق شعر رأسه بنفسه، وأنه كان يقوم بذلك خفية، وبشكل أسبوعي، مما جعل طول شعر رأسه ثابتا لا يتغير أبدا. أما أنا فكنت على العكس تماما، فكان بإمكان الجميع أن يعرف متى سحبت ثوبي من عند الغسال، وكان بإمكانهم كذلك أن يعرفوا متى مررت بالحلاق.
ولقد تمكن محمد أعمر من تسجيل الرقم الأول في دفعتنا، ولقد استفاد كثيرا من ثرثرته في الامتحانات الشفهية.
كان الطالب محمد أعمر منظما جدا، ولكنه كان يتحول إلى شخص فوضوي جدا، إذا ما قورن بطالب آخر كان من بين مجموعتنا، إنه  الطالب محمد الخطاط، والذي لا يمكن أن تراه في تلك المرحلة إلا وهو يرفل في ثوب شديد النظافة.
 كان هذا الطالب في معظم أحواله لا يأتي إلى الجامعة، إلا وهو يخفي عينيه بنظارات فاخرة، ويلف معصمه الأيسر بساعة فاخرة، ويتعلق بجيب دراعته قلم فاخر، هذا فضلا عن الحقيبة الفاخرة التي كان يحملها دوما، والتي تكون في العادة مليئة بالدفاتر وبالأوراق الفاخرة.
وكان هذا الطالب كثيرا ما يشاهد وهو يُخْرج مناديل ورقية لتنظيف الكرسي الذي سيجلس عليه، وكذلك للجزء الذي يقابله من الطاولة، والذي سيضع عليه  حقيبته وأوراقه.
كانت أوراق ودفاتر محمد خطاط الرائعة  تغريني كثيرا في أوقات المراجعة، ولذلك فقد كنت أبذل جهدا كبيرا لإعارتها منه خلال الساعات المخصصة المراجعة. كانت أوراقه ودفاتره  تفتح شهية أكثر الطلاب كسلا للمراجعة، وكنت دائما بحاجة لما يفتح شهيتي للمراجعة في الليالي التي تسبق الامتحانات، أما في غير تلك الليالي فلم أكن لأتعب نفسي بالمراجعة.
وكنت أجد دائما صعوبة في أن أعيد لمحمد خطاط دفاتره وأوراقه على حالها الأصلي، وهو ما كان يتسبب في غضبه وسخطه. كان محمد الخطاط منظما في كل شيء، حتى في عدد السجائر التي يدخنها سنويا. فكان يدخن ـ حسب بعض الإحصائيات في الفصل ـ سبعين سيجارة في العام، ففي كل يوم كان يدخن سيجارة واحدة، لا يزيد عليها، إلا في أيام الشتاء الباردة جدا، أو في الأيام الاستثنائية في حياته، والتي كان يدخن فيها سيجارة إضافية زيادة على السيجارة المعهودة.
وللأسف الشديد فإن هذا الزميل هو الوحيد من بين المجموعة الذي لم أقابله من بعد التخرج، ولا أدري إن كان لا يزال صامدا ـ حتى الآن ـ على منهجه الدقيق في الحياة، وعلى أناقته، أم أن المجتمع وظروف الحياة قد شغلاه عن ذلك.
كان أيضا من بين الطلاب الذين درسوا معي في الجامعة، والذين تمكنوا من الحصول على وظائف سامية، الوزيرة السابقة فاطمة بنت خطري، والتي عُرفت بالنضال في التيار الناصري، وهي لا تزال طالبة في الثانوية. وأظن بأنها اعتقلت مرة، فكانت بذلك هي أول طالبة أسمع عن اعتقالها. وهذا ليس إلا مجرد ظن، ولا يمكنني أن أتأكد منه الآن، رغم وجود رصيد بهاتفي، ونادرا ما يكون به رصيد، يكفي للاتصال بالوزيرة السابقة، للاطمئنان على حالها، وللتأكد من صحة هذه  المعلومة. .
لا أستطيع أن أتصل بالوزيرة الآن، لأن ذلك سيخل بشرط أساسي اشترطته على نفسي، عند البدء في سرد هذه اليوميات، وهذا الشرط يفرض عليَّ أن لا أعتمد إلا على ذاكرتي في سرد أحداث هذه اليوميات.
وما أستطيع أن أجزم لكم به هنا هو أن هذه الوزيرة المنحدرة من أسرة لها ثقلها الاجتماعي والسياسي في الحوض الشرقي، كانت ممن ناضل بقوة في الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية، وكانت من أبرز المناضلات اللواتي قررن أن يلبسن جلابيب النضال بعد انقلاب السادس من أغسطس 2008.
وقبل ذلك بثلاث سنوات كانت فاطمة بنت خطري تشغل وظيفة مديرة مساعدة في شركة "سونمكس". تلك الوظيفة التي جرت العادة أن تتنقل صاحبتها مباشرة إلى وزيرة للمرأة، هذا هو ما حدث مع أغلب الوزيرات اللواتي تم تعيينهن في عهد الرئيس معاوية على رأس وزارة المرأة، لذلك فقد جاء انقلاب 3 أغسطس 2005 صادما ـ على الأقل في ظاهره ـ لفاطمة بنت خطري، ولمسارها الوظيفي.
ولكن مع ذلك فسيتم تعيينها وزيرة للمرأة، في أول حكومة يعينها الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، وستظل تلك هي وظيفتها حتى فجر السادس من أغسطس 2008.
كان أيضا من بين زملائي في الجامعة، والذين تمكنوا من الوصول إلى وظائف سامية، الطالب أحمدو ولد محمد الراظي، وهو الطالب الذي سيصبح فيما بعد موظفا في هيئة البريد والمواصلات، ثم موظفا في شركة "موريتل"،  ثم أمينا عاما في وزارة الوظيفة العمومية، ثم وزيرا للتعليم الأساسي، فوزيرا للدفاع الوطني، وهي الوظيفة التي يشغلها حاليا.
وأحمد ولد محمد الراظي معروف ببساطته وبتواضعه الجم، وقد استطاع أن يحافظ على ذلك التواضع، حتى من بعد أن أصبح وزيرا. فهو لا يزال يسكن في منزله في مقاطعة عرفات،  ذلك المنزل الذي ظل خاليا من أي حارس، في فترة توليه وزارة التعليم الأساسي، وبعد أن أصبح وزيرا للدفاع، واضطر لأن يأتي بحرس، جاء بحرس، ولكن ظل وجودهم شكليا أمام المنزل. ولقد شهدت النائب لمات منت مكي المعروفة بنقدها القاسي لوزراء الحكومة على تواضعه وبساطته، وذلك عندما شكرته في إحدى مداخلاتها لأنه لا يزال يصر على أن يدرس أبناءه في ثانوية عمومية كثانوية عرفات.
وكان من بين زملائي كذلك الطالب عبد الله ولد محمد محمود، والذي ـ حسب علمي ـ  كان هو الطالب الوحيد من بين دفعتنا الذي التحق بالإدارة الإقليمية. ولقد بدأ مساره الوظيفي برئيس مركز أطويل الإداري من قبل أن يعين حاكما لمقاطعة أمبود، تلك المقاطعة التي مكث فيها زمنا طويلا، وكان قبل الانقلاب الأخير، واليا لاترارزة، وهو الآن يعمل مستشارا لوزير الداخلية.
كذلك كان من بين زملائي في الجامعة الطالب أحمدو سالك ولد بياه والذي سيصبح فيما بعد، هو الطالب من بين دفعتنا الأكثر شهرة على موقع تقدمي، حيث سيرتبط اسمه ببعض ملفات الفساد وببعض الفضائح التي كان ينشرها الموقع عن كمال ابن عم الرئيس.
ولقد سألت مرة أحمدو سالك، عما كان ينشر عنه في موقع تقدمي، فقال لي بأن ذلك مجرد افتراءات تستهدفه شخصيا، ولا يعرف لماذا يستهدفوه دائما في هذا الموقع؟
كان أحمدو سالك طالبا متميزا، ولقد تمكن من أن يأتي الأول في شعبة التخطيط في عام التخرج. ولقد بدأ حياته المهنية في البنك الموريتاني للتجارة الدولية، وأعتقد بأنه كان ممن ناضل فترة من الزمن في المعارضة، وذلك من قبل أن يلتحق بالأغلبية الحاكمة، وهو الآن يشغل نائب المفتشة العامة للدولة.
وكانت من بين زملائي كذلك، الطالبة أمعيزيزة بنت محفوظ ولد كوربالي، والتي تشغل حاليا منصب الأمينة العامة لوزارة المالية، تلك الوظيفة التي وصلت لها من بعد أن تقلدت عدة وظائف في وزارة التنمية الريفية.
هؤلاء هم  بعض زملائي في الجامعة ممن احتل وظائف سامية، أما بالنسبة للأغلبية من زملائي فلم تكن طريقهم سالكة بالمرة. ولكني مع ذلك فلن أحدثكم عنهم في هذه اليوميات، وذلك لأن هذه اليوميات كان قد تم تخصيصها لسيرة واحد من أولئك الذين لم تكن طريقه سالكة، ولعل من خُصِصت له هذه اليوميات، كان أكثر من في الطائفة الثانية تعثرا في رحلته، وذلك بعد أن اختار أو أجبر ـ وكلاهما صحيحة ـ على أن يسلك الطريق الأكثر وعورة، ليشبع بذلك روح التحدي لديه،  تلك الروح التي ظلت تزداد عنفوانا، كلما زاد عدد عثراته.
ولا يمكنني أن أكمل الحديث عن دفعتي في الجامعة، دون أن أترحم على روح الطالبة الفاضلة لميمة بنت الهاشم، والتي اختطفها الموت وهي لا تزال في عز شبابها.
كانت لميمة رحمها الله تعالى، تتميز عنا جميعا، بخلقها، وبجديتها، وبانشغالها بدراستها، وبتركيزها على طلب العلم، ولم يكن انحدارها من أسرة ميسورة ليؤثر سلبا على جديتها في الدراسة، لذلك فقد ظلت دائما من المتفوقات المتميزات في الفصل حتى تخرجت لتعمل في وزارة التخطيط، وتحديدا في خلية إعادة الاعتبار للقطاع العمومي.
وأتذكر أنه في يوم من الأيام، جاءتنا الطالبة لميمة رحمها الله تعالى، وأعتقد بأن ذلك كان في صفنا الثالث في الجامعة، لتخبرنا بأنها كادت أن تموت بسبب التماس كهربائي، جدث في دار أهلها بتفرق زينة نتيجة لأمطار كانت قد تهاطلت في ذلك الوقت.
وأتذكر أن لميمة رحمها الله تعالى، قالت لنا بعد تلك الحادثة التي كادت أن تتسبب في وفاتها، بأن ما أزعجها حقا هو أنها كانت تعلم بأنها لو توفيت فعلا، بسبب تلك الحادثة، فإن الجميع كان سيكتفي بأن يتحدث عنها قليلا، ويحزن قليلا، من قبل أن ينساها الجميع، وكأنها ما عاشت يوما على هذه الأرض.
رحم الله لميمة بنت الهاشم رحمة واسعة، وأدخلها فسيح جناته، لقد حدثتنا في نهاية الثمانينيات عما كان سيحدث بعد ذلك، وكأنها كانت تراه. ولقد استطاعت بكلماتها البسيطة العميقة تلك أن تتحدث عن مصيرنا جميعا.
فكل واحد منا سيترك في يوم قادم لا محالة، هذه الحياة الخداعة، وسيتحدث عنه وقت رحيله، قليل أو كثير من الناس، وسيحزن له قليل أو كثير من الناس، ولكن في النهاية لن يكون باستطاعته أن يشغل أولئك الذين تحدثوا عنه، وحزنوا له، إلا وقتا قليلا، من قبل أن يتناسوه، وكأنه ما عاش يوما على هذه الأرض.
أقول هذا الكلام لأني أعلم ـ يقينا ـ بأن هذا الشخص العادي جدا الذي يحكي لكم سيرته، سيترككم حتما في يوم قادم، وهو عندما يترككم، فلن تتحدثوا عنه إلا قليلا، ولن تحزنوا لرحيله إلا قليلا، وستنسونه جميعا، وكأنه ما عاش يوما على هذه الأرض.
ولقد كاد شيء من ذلك أن يحدث في ليلة مخيفة من ليالي العام 2000 على ما أعتقد، واعذروني فهناك أحداث في حياتي لا أستطيع أن أحدد لكم بشكل يقيني وقطعي السنة التي جرت فيها تلك الأحداث.
أذكر أني قبل تلك الليلة المفزعة، كنت أصف دائما زوجة أحد أصدقائي بوسع الخيال، كلما حدثتني عن قصة وفاتها في ليبيا، والتي حدثت في إحدى المستشفيات الليبية، عندما كانت تستشفي هناك، من مرض شديد ألم بها أثناء إقامتها في ليبيا.
كانت زوجة صديقي تؤكد لي دائما بأنها ماتت فعلا، وأنها سمعت الأطباء هناك وهم ينعونها، وأن كل تفاصيل حياتها مرت عليها، في لحظة قصيرة جدا، من قبل موتها.
كانت تتحدث عن وفاتها وكأنها حدثت فعلا، وكنت أنا أسخر من حديثها عن قصة وفاتها، والتي لم أكن أعتبرها إلا مجرد خيال في خيال، نتيجة لشدة المرض، أو نتيجة لخوف زوجة صديقي من الموت، مما جعلها تتوهم بأنها ماتت فعلا.
ولكن الذي حدث معي بعد ذلك، قد جعلني آخذ قصة وفاة زوجة صديقي، على محمل الجد، وهذا لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ بأني صدقت وفاتها، فهي بالتأكيد لم تمت، ودليلي على ذلك هو أنها لازالت على قيد الحياة، أطال الله في عمرها.
وبالتأكيد فإني أنا أيضا لم أمت في تلك الليلة المخيفة التي خُيِّل إليَّ أني مت فيها، والدليل على ذلك هو أني ـ ولله الحمد ـ لازلت حيا أرزق، أسرد حلقات يوميات حياتي، بما فيها أحداث تلك الليلة المرعبة، ولكن مع ذلك لا أستطيع أن أصف لكم ما حدث في تلك الليلة المخيفة، إلا أنه كان بمثابة تجربة موت حقيقي، كتب الله لي من بعدها عمرا إضافيا، وله الحمد والشكر على ذلك.
 لم أكن مرتاحا، في أول تلك الليلة التي سأموت في ثلثها الأخير، ولكني مع ذلك لم يكن بإمكاني أن أحدد بالضبط الشيء الذي كنت أشكو منه. ولقد اعتقدت في البداية بأن الأمر مجرد إرهاق يحصل دائما في أول أيام عيد الفطر، خاصة وأني قبل ذلك العيد، كنت قد اعتكفت في العشر الأواخر في المسجد الذي كنت نائبا لمؤذنه، وكانت تلك هي أول مرة في حياتي أعتكف فيها لعشرة أيام.
في تلك الليلة المرعبة، ذهبت إلى فراش النوم، وأنا لازلت أشكو من شيء ما، لم أتمكن من تحديده، وبعد مرور وقت لا أعتقد بأنه كان طويلا، حدثت أشياء مخيفة ومرعبة، يستحيل أن أصفها لكم كما حدثت في تلك الليلة، ولكني مع ذلك سأحاول أن أصف لكم بعض اللقطات السريعة التي لا تزال عالقة بالذاكرة.
صحيح أني تألمت في تلك الليلة، ولكن المشكلة لم تكن في آلامي، فهي لم تكن فظيعة جدا، كما أنه لم يكن بالإمكان تحديد مصدرها، أو طبيعتها.
عندما بدأت الحالة تزداد سوءا، أخذت أقرأ سورة الكهف، ولا أدري إن كنت قد تمكنت من مواصلة قراءتها أم لا؟ الشيء الذي لا يزال عالقا بذاكرتي، هو أني استعدت إدراكي لحظة ما، فوجدتني أتلو الآيات المتعلقة بحوار موسى عليه الصلاة والسلام مع العبد الصالح، ثم بعد ذلك لم أعد قادرا على التلاوة، حتى ولو كانت تلاوة بالقلب.
تمثل لي البحر وكان مظلما مرعبا، ولكن كان بإمكاني دائما، رغم ظلامه أن أشاهد السفينة وهي تتقاذفها الأمواج. ولقد أحسست بأن هناك علاقة ما، بيني وبين تلك السفينة التي تتقاذفها الأمواج المتلاطمة، وبدأت أحس شيئا فشيئا ـ عكس ما تخيلت أول الأمر ـ بأن هذه السفينة التي أشاهدها الآن ليست هي السفينة المذكورة في سورة الكهف.
ثم بعد ذلك بدأت الأمور تزداد تعقيدا، وبدأت الأحداث المفزعة تتسارع، وبدأت روحي تخرج من جسدي. كان جسدي يتصصب عرقا، وكنت أحس بذلك، ولكني لم أكن قادرا على التصرف في هذا الجسد الذي بدأت أشعر بأنه بدأ ينفصل عني، وأصبح ينتمي إلى عالم آخر، لقد فقدت وبشكل كامل القدرة على التواصل مع جسدي.
حتى أولئك الذين كانوا ينامون بجنبي في الغرفة، كنت أحس بوجودهم، ولكني لم أكن قادرا على الاتصال بهم، بل وكنت أشعر في تلك اللحظات بأني لن أقابلهم إلا في عالم آخر، غير هذا العالم الذي سأغادره بعد لحظات معدودة.
تمثلت لي حياتي، وما جرى فيها من أحداث، في لحظة قصيرة كأنها ثانية واحدة، إن لم تكن أقل، تماما كما حدث مع زوجة صديقي عند موتها، ولا تسألونني كيف تم اختزال حياة تزيد على ثلاثة عقود في ثانية واحدة!!
بدأت أشعر براحة غريبة، وبشيء من سعادة لا يخلو من قلق، وبشيء من هدوء لا يخلو من فزع.
كان بإمكاني أن أتابع ذلك الحدث الجلل الذي كان يحدث في تلك اللحظات. كان جسدي يبتعد عني، بنفس المسافة التي كان يبتعد بها عني النائمون من حولي. كان كل شيء عرفته في دنياكم هذه يبتعد عني إلى ماض سحيق سحيق، وكانت روحي ترحل شيئا فشيئا إلى عالم آخر، كنت أتابع ذلك المشهد الفظيع بهدوء مثير.
واصلت روحي رحيلها إلى العالم الآخر، وواصل جسدي رحيله إلى ماض سحيق، كانا يرحلان في اتجاهين متعاكسين، وكنت "أنا" أتابع رحيلهما بهدوئي المثير.
واصل الموت وبخطواته الحاسمة والواثقة اقترابه مني، وبدأ يغطيني بردائه الثقيل، وكان كلما لف عضوا من جسدي، أيقنت بقرب النهاية، وبقيت أتابع المشهد الفظيع إلى أن لف الموت كامل جسدي، فعلمت حينها بأني قد متُّ.


الحلقة (12)


بعد تخرجي من قسم الاقتصاد شعبة التخطيط في العام 1989، كان أول شيء عملته هو أني وليت وجهي شطر الوكالة الأمريكية للتنمية طلبا لمنحة دراسية من أجل إكمال دراستي العليا في أمريكا. وكانت تلك هي المرة الثانية التي أحاول فيها أن أذهب إلى أمريكا لغرض الدراسة، وكانت أيضا تلك هي المرة الثانية التي تخذلني فيها أمريكا.
في البداية اعتقدت بأن الوكالة الأمريكية للتنمية ستوفر لي منحة، خاصة بعد أن طلبت مني أن أرفق بملفي عددا من التزكيات الموقعة من طرف بعض أساتذتي، وهو ما قمت به، ولكن في نهاية المطاف تم رفض الملف.


ولقد حزنت لذلك الرفض حزنا عظيما، ولكني بعد ذلك بسنوات سأكتشف بأنه قد كان في ذلك الرفض الكثير من المنح التي خبأها الله لي في ما بدا لي حينها بأنه كان محنة عظيمة.
والحقيقة أن اكتشاف المنح فيما قد يُخَيَّل إليَّ في ظاهره بأنه محن، لم يقتصر فقط على تلك الحالة، بل بالعكس، فقد أصبح التنقيب عن المنح في كل مصيبة أو أزمة  أو مشكلة تواجهني في حياتي أمرا عاديا بالنسبة لي. ولولا تلك العادة التي اكتسبتها بفضل ما واجهت من محن لما استطعت أن أواجه هذه الحياة، خاصة في العقدين الأخيرين حينما أماطت لي اللثام ـ وفي أكثر من مرة ـ عن وجهها العبوس، وكشرت لي عن أنيابها الحادة، وعاركتني عراكا خشنا، وكأنها بذلك أرادت أن تقول لي بأنه ما عاد في قلبها مثقال ذرة من شفقة.
ولقد طورت هذا الأسلوب، أي أسلوب التنقيب عن المنح في طيات المحن، حتى أصبح أول سؤال يتبادر إلى ذهني كلما واجهتني مشكلة طارئة : ما المنحة التي تخبئها لي هذه المحنة؟ وكنت في بعض الأحيان أجد جوابا سريعا على ذلك السؤال، ولكني كنت أفشل في أحيان أخرى في الحصول على جواب.
كنت وسأظل مقتنعا بأن عقلي القاصر جدا لن يستطيع أن يكتشف كل المنح التي تختبئ في المشاكل والأزمات التي تواجهني من حين لآخر. ولكن إيماني بأن الله لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا وفيه خير، هو الذي يجعلني أومن يقينا بوجود تلك المنح، حتى وإن فشلت في اكتشافها، وفي تحديد طبيعتها.
ولا يعني ذلك الإيمان بأني كنت أتعامل دائما مع الأزمات والمشاكل التي تواجهني بشكل مثالي، فما أنا في النهاية إلا كصاحب القصة الشهيرة الذي تحطمت به السفينة التي كان يركبها، فمات جميع الركاب، ونجا هو بعد إن اعتلى لوحا خشبيا من صفائح السفينة المحطمة، فأوصله ذلك اللوح إلى جزيرة نائية لم يستوطنها بشر.
ظل الراكب الناجي مع طلوع شمس كل يوم جديد يذهب إلى جبل في الجزيرة ليتسلقه، وكان كلما وصل إلى قمة الجبل أخذ يقلب بصره إلى كل الجهات بحثا عن سفينة قد تلوح في الأفق، وكان في بعض الأحيان يصرخ بأعلى صوته عسى أن يُسمع صراخه.
وبعد مرور أيام بدأ اليأس يتسلل إلى نفس الراكب الناجي فقرر أن يستسلم للأمر الواقع، وما كان منه إلا أن أخذ يقطع الأشجار ليبني بجذوعها وأوراقها كوخا يقيه  البرد القارس، ويحميه من حرارة شمس تلك الجزيرة النائية.
أكمل الراكب بناء كوخه، وفي يوم من الأيام وبعد أن أوقد نارا أمام الكوخ، ذهب إلى الجبل، وبينما هو يلتفت إلى كل الجهات بحثا عن منقذ شاهد كوخه وقد التهمته النيران، فما كان منه إلا أن صرخ والألم يعتصره : حتى الكوخ لم تبقه لي يا ربي.
في تلك اللحظة، وهذا ما يحدث معي كثيرا، نسيَّ هذا الناجي الوحيد من السفينة الغارقة بأنه يعيش عمرا إضافيا، ونسيَّ أن ربه، والذي يمكن أن يميته في أي وقت شاء، كان بإمكانه أن يميته مع بقية ركاب السفينة، كما كان بإمكانه أن يميتني أنا في تلك الليلة التي "مت" فيها. هكذا نحن دائما، فكلما واجهتنا مشكلة ما نسينا كل النعم التي مرت بنا من قبلها.
إنه لؤم الإنسان، وإنها حقارته، وإن في نفسي من اللؤم والحقارة شيء كثير، ولكن ربي ستر ذلك اللؤم وأخفاه عنكم، بل إنه زيادة على ذلك أمرني ـ وهذه نعمة قل من يستشعرها ـ بأن استره عنكم، وأن لا أجاهر به، وجعل المجاهرة به معصية، لذلك فلا تتوقعوا مني إطلاقا أن أحدثكم في هذه اليوميات عما أختزن بين أضلعي من حقارة ولؤم.
مرت ساعات حزينة بالراكب الناجي بعد اشتعال كوخه، ولكنه في الأخير استسلم للنوم، ولم يستيقظ إلا على قبطان سفينة يوقظه، وكانت تلك مفاجأة كبيرة له، وما كان منه بعد أن فرك عينيه وتأكد بأنه لا يعيش في تلك اللحظة أضغاث أحلام، إلا أن سأل القبطان :
ـ ولكن كيف وصلت إلى هنا؟
أجاب القبطان :
ـ لقد شاهدت ألسنة النيران تصعد إلى السماء، فعلمت بأن هناك من يستغيث، فما كان مني إلا أن غيرت اتجاه السفينة في اتجاه هذه الجزيرة التي ما كنت أعتقد بأنها مأهولة.
لقد كان اشتعال الكوخ بمثابة نداء استغاثة تم إطلاقه بدون علم الراكب الناجي، فهو لم يكن يعلم بأن إشعال النيران وإصدار الدخان يعدان من أهم نداءات الاستغاثة التي يلجأ لها المنكوبون في البحار، ولو كان يعلم ذلك لبادر إلى إشعال كوخه بدلا من الحزن على اشتعاله.
وما حصل مع الراكب الناجي هو ـ بالضبط ـ ما يحصل معنا جميعا، ولكن بصور مختلفة، فبعد كل مشكلة هناك ألسنة نيران ودخان يرتفع، وبعد كل دخان يرتفع تعدل سفينة ما اتجاهها لتنقذنا. قد تظهر لنا تلك السفينة مباشرة بعد ارتفاع الدخان، وقد تتأخر قليلا، قد نبصرها، وقد لا نبصرها، ولكن المؤكد أنها ستتحرك في اتجاه أي دخان يرتفع، والسفينة هنا ترمز لكل خير مختبئ في مشكلة، ومن المهم أن نعلم بقينا بأنه لا توجد مشكلة مهما كانت طبيعتها خالية تماما من أي خير.
بهذه العقلية أحاول دائما أن أتعامل مع المشاكل والأزمات التي تواجهني، ولقد نفعني ذلك كثيرا في إدارة معاركي مع الحياة، وساعدني في ابتداع أساليب دفاعية لمواجهة أسلحة الحياة الباطشة والمتوحشة، والتي كانت كثيرا ما تشهرها في وجهي، وتخصني بها دون غيري، وكأن بيني وبينها ثأر قديم.
لم أتمكن من الحصول على منحة لإكمال دراستي لذلك قررت أن أبحث عن وظيفة، وكانت أول مسابقة أشارك فيها بعد تخرجي هي مسابقة اكتتاب مفوضي الشرطة، وهي المسابقة التي تم إجراؤها في العام 1990.
ولقد تحمست كثيرا لتلك المسابقة، وربما يعود ذلك إلى أنني كنت مدمنا على قراءة القصص البوليسية، وكان يُخَيَّل إليَّ أني عندما أصبح مفوض شرطة فسيكون من السهل بالنسبة لي أن أكتشف كل المجرمين في المدينة أو المقاطعة التي سأكلف بتوفير الأمن فيها تماما كما يكتشف بطل الرواية المجرمين في أي رواية بوليسية.
كنت أعتقد في تلك المرحلة من عمري، بأنه لابد لتوفير الأمن في البلاد من رجال أكفاء مثلي، تتطابق شخصياتهم وأساليبهم مع شخصيات وأساليب أبطال الروايات البوليسية. يشُكون في أي شخص قد يصادفهم بعد حصول أي جريمة، أو حتى من قبل حدوثها، ولهم من الذكاء والشجاعة ما يكفي لإلقاء القبض على عتاة المجرمين. ولقد  كنت أتوهم وجود تلك الصفات في "شخصي الكريم"، لذلك فقد تمنيت فعلا أن أنجح في تلك المسابقة حتى أثبت قدراتي الهائلة في مطاردة عتاة المجرمين. وقد دفعتني تلك الرغبة لدراسة مادة القانون الجنائي، باعتبارها كانت تمثل المادة الرئيسية في المسابقة، وذلك حتى أضمن نجاحي في تلك المسابقة.
كنت واثقا من النجاح، خاصة بعد أن علمت بأن رجلا مسنا من أقرب المقربين لمدير الأمن حينها، كان قد اتصل به ـ ودون أن أطلب منه ذلك ـ وأوصاه بي وباثنين آخرين من المشاركين في المسابقة، وعلمت أيضا بأن مدير الأمن كان قد التزم للوسيط بأنه سيعمل على نجاحنا نحن الثلاثة.
كنا نحن الثلاثة من أقارب مدير الأمن، ومع ذلك فلم ينجح أي واحد منا، وقد كان ذلك غريبا، خاصة بالنسبة لي أنا الذي حضَّرت للمسابقة بشكل جيد، ولم أكن أحتاج من الوساطة إلا للقدر الذي  يكفي لحماية نتائجي في المسابقة من أي تلاعب قد تتعرض له إرضاء لوساطة أخرى.
ولقد حزنت لعدم نجاحي في تلك المسابقة، ولكني بعد ذلك بسنوات أدركت بأن ذلك كان فيه خير كثير، فأن تكون مفوض شرطة في ذلك العهد فذلك يعني بأنك ستظلم حتما الكثير من الأبرياء، خاصة إذا ما كانت حصانتك ومناعتك التي يمكن أن تحميك من ممارسة الظلم ضعيفة جدا، كما كان الحال بالنسبة لي في تلك المرحلة من عمري.
وبالتأكيد فلم تكن تلك المسابقة شفافة، وكدليل على ذلك فإن هناك مرشحا نجح في تلك المسابقة، وأصبح مفوض شرطة فيما بعد، وتقلد مناصب حساسة، لم يكن ملفه الذي ترشح به مستوفيا لشروط المسابقة.
وقد قيل حينها بأن مفوضا كان في ذلك الوقت مديرا لإحدى الإدارات الهامة في إدارة الأمن، هو الذي فرض ذلك الملف الناقص، وهو الذي كان وراء نجاح صاحب ذلك الملف، كما كان وراء نجاح الكثيرين ممن التحقوا بقطاع الشرطة في تلك الحقبة من الزمن.
لم أنجح في تلك المسابقة رغم صلة القرابة التي كانت تربطني بمدير الأمن حينها، والذي سيصبح فيما بعد رئيسا للدولة، ومع أن تلك القرابة كنت ولا زلت أعتز بها اجتماعيا وافتخر، وأعتبرها تاجا أضعه على رأسي، إلا أني مع ذلك لم أحاول في أي يوم من الأيام أن أخرجها من إطارها الاجتماعي، أو أن أستغلها، لا معه، ولا مع القريب الثاني الذي سيصبح رئيسا فيما بعد. بل إني فوق ذلك لم أحاول أن أستخدمها لرفع ما تعرضت له من ظلم في فترتي رئاستهما، الشيء الذي جعل بعض معارفي يلومني كثيرا على ذلك، ويعتبر بأني قسوت على نفسي كثيرا، وظلمتها ظلما كبيرا.
لم أكن ممن يستغل علاقاته الاجتماعية لتحقيق مصالح خاصة، ولو أني كنت من أولئك الذين يستغلون تلك العلاقات لكان حالي يختلف كثيرا عما هو عليه الآن.
شاركت بعد تلك المسابقة في مسابقات أخرى، لم أحضر لأي منها بفعل الإحباط الذي حصل لي بعد مسابقة الشرطة، ولم أبحث عن وساطة لتضمن لي النجاح فيها، لذلك فقد فشلت في النجاح في كل تلك المسابقات. وبعد ذلك الفشل المتلاحق بدأت أجرب حظي في الأعمال الحرة، فتدربت في واحد من أشهر مكاتب الوساطة المعتمدة لدى الجمارك (اترانزيت)، وبعد التدريب، وبمساعدة قريب لي، وهو بمثابة أخ أكبر، فتحت مكتبا معتمدا لدى الجمارك في مدينة روصو.
ولقد حاول قريبي ذلك أن يجعل مني رجل أعمال، ولكنه فشل في ذلك فشلا ذريعا. والحقيقة أني لم أكن أصلح لأكون رجل أعمال، هذا ما اكتشفته بعد ذلك، ولذلك أسباب عديدة، سأترك بسطها لواحدة من صفحات الجزء الثاني من هذه اليوميات.
بدأ المكتب ـ ومنذ أيامه الأولى ـ  يدر دخلا لا بأس به، ولكني مع ذلك لم أكن مرتاحا لتلك المهنة، لأن ممارستها كانت تفرض تقديم رشوة في كل قسم من أقسام مكتب الجمارك التي يمر بها التصريح  الُمعَد لتخليص البضاعة التي ستتم جمركتها.
وكان النجاح في تلك المهنة، يعتمد في الأساس، على قدرة الوسيط على القيام ببعض الحيل والمغالطات في إعداد التصاريح، اعتمادا على الكتاب الموحد للتعرفة الجمركية وعلى قانون المالية، وكان ذلك يتطلب من الوسيط أن يكون قد اكتسب خبرة، ولديه معلومات كافية في المجال، ولم تكن تلك هي مشكلتي، لأني كنت قد تدربت في واحد من أشهر مكاتب الوساطة في البلد، وتحت إشراف واحد من أشهر الوسطاء، ومن أكثرهم خبرة ومهارة في هذا المجال.
كانت مشكلتي تكمن في أني لم أكن مرتاحا لتقديم تلك الرشا، والتي وجدتني بحكم تلك المهنة مجبرا على تقديمها لعناصر الجمارك، ولذلك فإني لم أستطع أن أستمر في تلك المهنة، رغم أن كل عوامل النجاح فيها كانت متوفرة لدي.
ويبقى الفساد في تلك المهنة من أقوى الأدلة على غباء القائمين على أمورنا، والذين يصرون دائما على إصدار قوانين لا فائدة من ورائها سوى أنها تشجع على تفشي الرشوة والفساد. فلو طبقت القوانين المتعلقة بجمركة البضائع، وبنصها، لحصل واحد من أمرين، فإما أن يتوقف التجار نهائيا عن الاستيراد، أو يتوقف المستهلكون عن الاستهلاك إذا ما استمر التجار في الاستيراد، لأن الأسعار حينها ستصل إلى مستويات لا تطاق. ولكي يتواصل الاستيراد فما كان من المستوردين ورجال الجمارك إلا أن تمالؤوا على خزينة الدولة، فخصصوا لها نصيبا قليلا مقابل رشا معتبرة للجمارك، وبذلك تظل عملية الاستيراد مستمرة، ويظل بالإمكان بيع تلك البضائع بأسعار أقل من تلك الأسعار التي كانت ستباع بها، لو أن القانون تم تطبيقه بشكل دقيق.
إن هذه المهنة التي تدر أرباحا  طائلة، وبلا مشقة، والتي تحكمها قوانين غبية كان لا بد لها أن تكون من أكثر المهن فسادا وإفسادا للناس. وكمثال بسيط على ما يحدث من فساد، فسأكتفي بأن أحدثكم عن قصة سياسي في هذا البلد كان معارضا لفترة من الزمن، ولكنه بعد ذلك أعلن توبته من المعارضة، وانضم إلى الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، وكثيرا ما كان الجشع والطمع يؤديان بالمعارضين إلى مثل تلك التوبة.
"تاب" ذلك المعارض من معارضته، فمنحه النظام الحاكم مقابل توبته تلك إعفاءً من الرسوم الجمركية لكل المواد الأولية التي سيحتاجها مصنعه الوهمي لإنتاج العلف الحيواني، ذلك المصنع الذي لم يكن له أي وجود إلا في الملف الذي قدمه لمجلس الوزراء من أجل الحصول على إعفاء من الرسوم الجمركية.
حمل المعارض ملف الإعفاء، وقدِم إلينا في روصو، ثم اتصل بالتجار الذي يستوردون العلف الحيواني من دولة السنغال، وطلب منهم أن لا يستوردوا منذ ذلك الوقت علفا إلا باسمه هو، وذلك لكي يعفيه من الرسوم الجمركية على أساس أنه مواد أولية استوردها المصنع الوهمي للمعارض التائب. وكان ذلك يتم ـ وبطبيعة الحال ـ مقابل مبالغ مالية يتقاسمها هذا المعارض مع الجمركيين العاملين في تلك الفترة في مكتب  جمارك روصو.
 حُرمت خزينة الدولة من الرسوم المفروضة على العلف الحيواني المستورد من السنغال، ولعام كامل، وذهبت كل تلك الأموال إلى جيب سياسي بائس، كان أهل روصو يقولون بأنه هو أيضا لم يستفد من تلك الأموال، بل إنه كان يسلمها كاملة غير منقوصة لزوجته، والتي كانت تنفقها ذات الشمال وذات الشمال، في سهرات باذخة، وفي أسفار بلا أول ولا آخر حسب ما كان يروى الناس في ذلك الوقت.
أغلقتُ مكتبي، وعدت إلى العاصمة، وكنت أحن دائما إلى تلك المهنة كلما وجدتني أتخبط في أزمة مالية خانقة، وكثيرا ما كنت أجد نفسي أتخبط في أزمات مالية خانقة، ولكن رحمة ربي كانت تتداركني دائما فتحول بيني والعودة لتلك المهنة الفاسدة والمفسدة.
 وبعد ذلك بفترة، وتحديدا في العام 1996،  وبتمويل من نفس القريب الأخ  فتحت محلا في سوق لكصر لبيع العجلات المستخدمة، وكان ذلك النوع من التجارة لا يزال واعدا في تلك الفترة من الزمن، فالمحلات المتخصصة في بيع العجلات المستخدمة كانت حينها قليلة جدا.
كان من المفترض أن أذهب إلى بلجيكا لاستيراد البضاعة، ولكن أحد التجار المشتغلين في المجال اتصل بقريبي وأقترح عليه أن أترك السفر إلى بلجيكا، لأن ذلك سيزيد من أعباء المشروع الذي لا يزال في بدايته، وأنه هو سيتكفل بشراء البضاعة وتوصيلها، وسيظهر فيما بعد بأنه كانت لديه مآرب أخرى في اقتراحه ذاك.
عملت أنا وقريبي  بالاقتراح فكانت النتيجة أني وجدت نفسي في محل كبير مليء بالعجلات المستعملة، 70% منها كانت عبارة عن عجلات لسيارات رياضية، ولسيارات سباق، غير مستخدمة في بلدنا، وكان ذلك يعني ـ وبلغة السوق الفصيحة ـ بأني سأكون على موعد، وفي وقت قريب، مع خسارة كبيرة، ولم تتخلف تلك الخسارة عن موعدها.
بعد تلك التجربة الفاشلة تحولت إلى قطاع آخر، كان في ذلك الوقت لا يزال قطاعا بكرا لم يكتشف بعد. ولقد كنت أحب دائما أن أجرب حظي في أنشطة بكر، وربما كان ذلك لإشباع غرور خفي، وربما كان بسبب كرهي الشديد للتقليد وتكرار تجارب الآخرين. قررت أنا وشريك لي كان مجرد خريج مثلي، لا يزال يبحث عن وظيفة لائقة، قررنا أن نفتح محلا لبيع الحلويات، وكان لا يوجد في العاصمة ـ في ذلك الوقت ـ إلا  محلان متخصصان في صناعة الحلويات : حلويات الأمراء، ومحل آخر مملوك لأجانب.
كان في مشروعنا للحلويات الكثير من الإبداع، وخاصة في طريقة تجسيده ميدانيا، ذلك أن الاستثمار في ذلك النوع من المشاريع كان مكلفا، فالأفران والخلاطات الكهربائية، وغير ذلك من الآلات التي يحتاجها أي مصنع للحلويات كانت تكلف لوحدها  الملايين من الأوقية.
أما نحن ففتحنا محلا بكلفة لا تصل إلى مائتي ألف أوقية، واستعضنا عن الفرن الكهربائي الذي يكلف الملايين، بفرن مصنع محليا، يشتغل بالغاز، صنعه لنا سوري كان يقيم حينها بالعاصمة نواكشوط بسعر لا يتجاوز الثمانين ألف أوقية. وكان ذلك الفرن ينتج حلويات لا تختلف من حيث الجودة عن الحلويات التي ينتجها أكبر محل في العاصمة لإنتاج الحلويات، وكان الفرن قادرا على إنتاج كميات تجارية، يمكن أن تتجاوز الألف قطعة في اليوم الواحد.
أجرنا محلا خلف ثانوية البنات، وبدأنا نشتغل، ولكن مادة الزبدة استقبلتنا بفتور شديد، بل إنها كادت أن تختفي نهائيا من السوق أياما قليلة بعد انطلاق مشروعنا الرائد، فأرتفع سعرها من 6000 أوقية للكيس الواحد إلى 11000 أوقية للكيس.
ومن المعروف بأن الزبدة والزيت والسكر هي ثلاث مواد تستهلك بشكل رهيب في أي محل للحلويات.
بدأنا ننتج، وكنا نعتقد بأن أزمة الزبدة ستجد حلا، ولكن ذلك لم يحدث، فكنا نبيع منتجاتنا بخسارة، وأخذت الديون تتراكم (الإيجار، العمال)، ولم نستطع أن نسدد أوقية واحدة من ثمن السيارة التي كنت قد أخذتها بالدين من عند صديق لي لكي نستخدمها في توزيع منتجاتنا على البقالات.
ظلت الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، ولأني كنت هو المسؤول قانونيا وأخلاقيا عن كل الديون، ولأني لا أطيق الدائنين، فقد قررت أن أغلق المحل، وأن أبحث عن نشاط آخر أسدد من خلاله ما تراكم عليَّ من ديون.
وبعد إغلاق المحل، عادت الزبدة إلى سعرها الطبيعي، وكأنها ما اختفت من السوق إلا لتطردني من ذلك النشاط الواعد، وأنا مثقل بديون لا أستطيع سدادها.
بعد ذلك بفترة وجيزة شاركت صديقا آخر لي في إطلاق أول جريدة أسبوعية  متخصصة في الإعلانات في موريتانيا، وكانت تحمل اسم:(Annonces –Journal) .
كانت الجريدة توزع مجانا، وكانت تعتمد على ما يدفعه المعلنون والمروجون، ولم تكن تملك مقرا، وكنا نعتمد على مكتب صديق، وهو أيضا ممن شارك في تأسيسها.
انطلقت الجريدة بلا رأسمال، وكنا قبل صدور أي عدد، نذهب إلى أصحاب المؤسسات والمحلات التجارية، ونخبرهم بقرب صدور العدد، ونعرض عليهم الخدمات التي تقدمها الجريدة.
كان ترخيص الجريدة باسم صديق لي خريج من فرنسا، وكان صديقي ذلك من الذين لا يجدون أي صعوبة في العمل في ظروف بالغة القسوة، وكنت أتقاسم معه تلك الصفة، ولكنه كان يزيد عليَّ بقدرته العجيبة على أن يضحك ملء فيه حتى في الأوقات العصيبة والبالغة التعقيد.
ولا زلت أتذكر حتى الآن أول خمسمائة أوقية حصلت عليها الجريدة، وكانت مقدمة من مطعم المدينة، وهو مطعم كان في العام 2000 يوجد غير بعيد من العيادة المجمعة، وربما يكون مسير المطعم قد أعطاها لنا شفقة بنا لا مقابل إعلان في جريدة يقول أصحابها بأنها ستوزع مجانا، وهو ما كان يثير استغراب أصحاب المؤسسات والمحلات التجارية الذين اتصلنا بهم في ذلك الوقت.
كانت عملية توزيع الجريدة شاقة جدا، وكانت تتم مشيا على الأقدام، وكان يتولاها المؤسسون للجريدة، لأنه لم يكن للجريدة لا سكرتير، ولا بواب،  ولا مقر خاص بها، فكان كل واحد منا يأخذ عشرات النسخ، يوم صدور الجريدة، ويتوجه بها إلى منطقة معينة، ليترك نسخة في كل مؤسسة أو في كل محل تجاري كبير يصادفه في طريقه.
وحسب ما أذكر الآن فقد كانت كلفة طباعة وسحب ألف نسخة من الجريدة في حدود 70.000 أوقية، وكان هذا المبلغ يتحصل تقريبا من الإعلانات والترويج، ولكنه لم يكن يتحصل إلا بعد صدور العدد، وبعد أن تصل نسخة لكل معلن ليرى إعلانه منشورا.
وتمكنا من إصدار خمسة أعداد، ولكننا توقفنا بعد ذلك لأسباب عديدة، لعل من أهمها الفتور الذي أصابنا بعد فشل توقيع الجريدة لاتفاقية مع الشرطة، كان قد وصل الإعداد لها إلى مراحل متقدمة جدا.
وكانت الاتفاقية تقضي بأن تقوم مفوضيات الشرطة بالإعلان في الجريدة عن كل الأوراق والمستندات والوثائق  الرسمية الضائعة على ملاكها والموجودة لدى تلك المفوضيات، مع إمكانية الإعلان ـ في وقت لاحق ـ عن كل المسروقات التي استعادتها الشرطة من اللصوص، وذلك مقابل رسوم مالية تفرض على صاحب الوثيقة أو المسروقات المستعادة، على أن تتقاسم الجريدة  المبالغ المتحصلة من هذه الخدمة مع مفوضيات الشرطة.
توقفت الجريدة وبعد توقفها  بمدة عملت مع نفس الصديق في شركة التاج للحوم المفرومة، والتي لم تكن في حقيقتها شركة، إلا أنها مع ذلك كانت تقدم منتجات من حيث الشكل لا تختلف عن منتجات كبريات شركات اللحوم المفرومة في كبريات العواصم العالمية.
قبل تأسيس الشركة اتصل صديقي بصديق له في فرنسا، ووفر له الآلاف من الأكياس على شكل صناديق بلاستيكية رائعة الشكل، مع ملصقات صغيرة طُبِع عليها اسم الشركة وعنوانها، وكانت كلفة كل كيس بملصقه في حدود الثلاثين أوقية، هذا فضلا عن ماكينة لفرم اللحوم كانت طاقتها  في حدود 80 كيلو للساعة.
انطلقت الشركة في ظروف بالغة الصعوبة، وكنا في كثير من الأحيان نعجز حتى عن توفير المبلغ الكافي لشراء اللحوم من عند الجزارين، ولكن صديقي كان من رجال المهام الصعبة، وكان جريئا على الاقتراض من هنا ومن هناك، وهو ما مكننا دائما من تحصيل بضعة آلاف من الأوقية  كنا نحتاجها في كل يوم لشراء كميات اللحوم التي كنا نوزعها في صناديق أو أكياس بلاستيكية على عدد من البقالات الشهيرة.
كنا نقوم يوميا بتوزيع العشرات من أكياس نصف كيلو من اللحم المفروم على بقالات محددة، ونترك مهمة البيع للبقالة مقابل هامش ربح على كل كيس تبيعه. ولقد انبهر الكثير من أصحاب البقالات بالشكل الفاخر لمنتجاتنا مما جعل البعض منهم  يطلب منا أن نحدد له موقع الشركة، ويلح على ذلك، دون أن يعلم بأن قاعة المطبخ الموجودة في المنزل المتواضع الذي كان يؤجره صديقي للسكن كانت هي المقر الاجتماعي لشركة التاج للحوم المفرومة.
لم تستمر الشركة إلا لفترة قصيرة من الزمن، وتوقفت نهائيا بعدما تعطلت الماكينة الوحيدة التي كانت تستخدم لفرم اللحوم، والتي تزامن تعطلها مع ظهور مجازر عقيد، تلك المجازر التي ستكتسح فيما بعد، وفي وقت قصير، مقاطعات العاصمة التسع.
بعد تلك المحاولات، ومحاولات أخرى لم أذكرها، تركت مجال الأعمال الحرة، وتقدمت بملف ترشح ليسمح لي بأن أكون أستاذا لمحو الأمية، من بين مئات الأساتذة الذين تم اكتتابهم في آخر عهد الرئيس معاوية.
تم قبولي كأستاذ، وقضيت في تلك المهنة ثلاث سنوات من قبل أن تفصلني وزارة التوجيه الإسلامي بحجة أني كنت أتقاضى راتبا لا يجوز لي شرعا أن أتقاضاه، وكان في ذلك الفصل، وفي تلك الحجة استفزازا كبيرا لشخصي الكريم.
بعد ذلك لم أزاول أي مهنة تذكر، إلى أن اتصل بي هاتفيا، ومن قبل عامين  تقريبا، قريب لي، وطلب مني أن أعطيه رقم بطاقة تعريفي، وهو ما قمت به، دون أسأله عن سبب ذلك الطلب المفاجئ، وذلك لثقتي به.
ولقد علمت بعد ذلك بأن قريبي كان يريد رقم بطاقتي ليكتتبني كعامل غير دائم في وزارة المالية، وهو ما نجح فيه، وأنا منذ ذلك الوقت حتى الآن، أعد واحدا من آلاف العمال غير الدائمين، وأتقاضى راتبا أوصلته الزيادة الأخيرة للأجور الدنيا إلى ثلاثين ألف أوقية، بعد أن كان لا يتجاوز عشرين ألف أوقية.
بتلك البساطة مر ربع قرن تقريبا على تخرجي من الجامعة، مر ربع قرن وأنا لا زلت عاملا غير دائم براتب لا يتجاوز الثلاثين ألف أوقية،  ولا أملك في هذه الدنيا غير ذلك الراتب. لا أملك مترا مربعا واحدا من مساحة بلدي الشاسعة، لا أملك سيارة، بل إني لم أملك جهاز كمبيوتر شخصي إلا منذ مطلع هذا العام.
مر ربع قرن من عمري، صعد فيه بعض أصدقائي إلى أعلى سلم الوظيفة، أما أنا فلازلت أحوم حول السلم، وأناضل من أجل الوصول إلى الدرجة الأولى منه، وذلك لكي أبدآ رحلة الصعود إلى درجات أعلى. تلك حقيقة لا أنكرها، ولكني مع ذلك أستطيع أن أقول لكم، وأنا صادق فيما أقول بأني لو استقبلت من حياتي ما استدبرت منها لما أردتها إلا أن تكون كما كانت، وبكل تفاصيلها، هذا إذا ما استثنيتُ طبعا الكثير من الذنوب والمعاصي التي ارتكبتها في ما مضى من عمري، والتي أتمنى ـ كأي مسلم ـ  لو أني لم أكن قد ارتكبتها.
إني سعيد بكل تلك التجارب، وبما فيها من  محطات فشل، وإني راض عن حالي الآن، بل إني أعيش في سعادة لو وُزعت على كل أفراد الدفعة لوسعتهم، وتلك حقيقة لن تصدقوها، ولكم كامل الحق في أن لا تصدقوها.
وقد يقول قائل منكم، إذا ما أحسن الظن بي وصدقني، بأن سر سعادتي هو أني أصبحت زاهدا في هذه الدنيا، و الحقيقة أن ذلك قول غير صحيح، فأنا لست بزاهد في الدنيا.
ولعل المدهش في "شخصي الكريم"، إن كان في "شخصي الكريم" ما يدهش، هو أن ربي قد أنعم عليَّ بأن جعلني قادرا على أن أجمع بين صفتين أو خصلتين، يصعب الجمع بينهما: رضا استثنائي، وطموح استثنائي.
ولعل طموحي الاستثنائي هو الذي أجبر الحياة على أن تخاصمني بشكل استثنائي، وتوجه لي في كثير من الأحيان ضربات موجعة ومؤلمة لم يحن الوقت بعد لأن أكشفها لكم. ولكن ما أستطيع أن أقوله الآن هو أنه لولا تلك الضربات الموجعة التي خصتني بها الحياة لفقدت شيئا من ثقتي في نفسي، ولأيقنت بأنه لن يكون بإمكاني أن أترك بصمة في هذه الحياة من قبل أن أرحل عنها في يوم قادم لا محالة.
كانت ثقتي في نفسي ستهتز لو أن الحياة بدلا من أن تشاكسني قررت أن تبسط لي السجاد الأحمر، وتنثر لي الورود في طريقي، وفي وقت مبكر. كانت ثقتي في نفسي ستهتز، لو تعاملت معي الحياة بلباقة وبلطف، وذلك لأني كنت قد علمت، بحكم قراءتي لسير العظماء، بأن طريقا مفروشا بالسجاد الأحمر،  لن يوصلني قطعا إلى تحقيق أحلامي الكبيرة.
ذلك ما تقوله سير العظماء، وأتحداكم أن تأتوني برجل عظيم واحد ترك خلفه بصمة، دون أن يمر في بداية رحلته بطريق مليء بالأشواك وبالمطبات.
صحيح أني لم أضع حتى الآن أي شيء من تلك البصمة التي قررت أن أتركها خلفي، ولكني مع ذلك لا زلت على ثقة كاملة بأن الحياة ستضطر في يوم قادم ـ إن شاء الله ـ  لأن تتصالح معي، ووفق شروطي أنا لا شروطها هي. وحينها فإن كل أسباب النجاح ستنتظم  أمامي بعدما تبعثرت  كثيرا، خلال ربع القرن الماضي، وعندها فسيكون وضع البصمة قد أصبح في غاية السهولة .
إني لن أقبل، وهذا مما يغيظ الحياة ويغضبها، بأن أكون كالشخص "عادي" الذي يتحدث عنه عادة مدربو التنمية البشرية، والذي يقولون عنه بأنه كان قد ولد بشكل عادي، وتعلم بشكل عادي، وتخرج بشكل عادي، وحصل على وظيفة عادية، وتزوج من امرأة عادية، وأنجب أبناء عاديين، ثم مات بشكل عادي دون أن يترك خلفه أي بصمة.
لقد قررت ـ وأنا الشخص العادي جدا ـ أن لا أكون كالشخص "عادي"، ولذلك فقد كان عليَّ أن أدفع كلفة ذلك القرار الجريء، وكان عليَّ أن أقبل قواعد اللعبة، وأن أتقبل وبروح رياضية أن تصارعني الحياة بقسوة لم تصارع بها غيري ممن قبل أن يعيش وفق منهج وأسلوب الشخص "عادي".
إني لا أريد أن أترك هذه الحياة من قبل أن أسجل مروري حسب لغة زوار المنتديات، ولن يكون بإمكاني أن أسجل مروري دون أن أضع بصمة خاصة بي، ولن يكون بإمكاني أن أضع بصمتي ما لم أتعلم من أكاديمية الحياة، ولن أتعلم من أكاديمية الحياة  من قبل أن أدفع رسوم وتكاليف الدراسة في تلك الأكاديمية.
لقد رمتني الحياة بكثير من سهامها الغادرة حتى تكسرت النصال على النصال، وكان عليَّ أن أتقبل ذلك لأنه يمثل جزءا من أقساط تكاليف الدراسة في أكاديمية الحياة، تلك الأقساط التي كان عليَّ أن أدفعها دون أن أسمح للسهام الغادرة بأن تسلبني شيئا من ثقتي في نفسي، ولا أن تكسر روح التحدي في نفسي.
ولعل من المفارقات العجيبة في سيرتي هو أني كنتُ كثيرا ما اتخذ أقوى القرارات في حياتي، وأكثرها طموحا، في لحظة أعدها من أكثر لحظات حياتي ضعفا، وهناك أمثلة عديدة على ذلك، سأقدمها لكم  ـ إن شاء الله ـ في الجزء الثاني من هذه السيرة. أما الآن فإني سأكتفي فقط بأن أذكركم بذلك اليوم الذي كنتُ قد واجهت فيه المعلم الملاكم، والذي كنت قد حدثاكم عن تفاصيله في حلقة ماضية من حلقات يومياتي.
إن ما أصابني من سهام غادرة، لم يستطع أن يسلبني تلك السعادة وذلك الرضا الذي لم يفارقني منذ أن قررت أن أتحدى الحياة، ولم يستطع أن يجبرني على رفع الراية البيضاء لها، حتى وإن كشفت لي عن وجهها العبوس، وكشرت لي عن أنيابها الحادة.
إن  تأملي في سنن الحياة، وقراءتي لسير العظماء، جعلاني دائما أتراجع عن فكرة رفع الراية البيضاء، كلما خطر ببالي أن ارفعها في لحظات الضعف التي كانت تمر بي من حين لآخر، وإن قناعتي الشخصية لتؤكد لي بأن صبري وإصراري على عدم رفع الراية البيضاء سيجبر الحياة، وفي يوم قادم أراه قريبا وقد ترونه بعيدا، لأن ترفع هي الراية البيضاء في وجهي، وما النصر في النهاية إلا صبر ساعة.
وسيبقى إيماني بربي، وثقتي به، هما سلاحي الوحيد الذي أعتمد عليه حقا، فربي الذي لم يخذلني ولا لمرة واحدة فيما مضى من حياتي، لن يخذلني وأنا أسعى لتحقيق حلم أصبحت أراه وبكل تفاصيله الصغيرة، وكأنه قد تحقق فعلا، وأصبح جزءا من الماضي.


الحلقة (13)


لما كنت طالبا في الثانوية في النصف الأول من عقد الثمانينيات كنت أتخيل أن الزمن سيظل يسير بتكاسله المعهود، وبخطواته المتثاقلة، وأن العام 2000 لن يأتيني على حين غرة، ولكن الذي حدث في عقد التسعينيات كان مخالفا لكل توقعاتي. لقد قرر الزمن، وبشكل مفاجئ، ومن دون أن يعلن عن ذلك رسميا، أن يسرع من خطاه، فعبر عقد التسعينيات مسرعا وكأنه كان في عجلة من أمره، ولم أشعر بعبوره إلا بعد أن وجدتني مرميا على قارعة العام ألفين من قبل أن أحقق شيئا مذكورا.

كنت أعتقد بأن العام 2000 لن يُطِل بأصفاره الثلاثة، إلا بعد أن أكون قد حققت من الإنجازات ما يكفي لأن يشغل الناس لقترة من الزمن، ولكن ذلك العام  أطل بوجهه الشاحب، وأنا لا زلت عاطلا عن العمل أبحث عن وظيفة.
في بداية رحلة البحث عن وظيفة كانت شروطي كثيرة، ولم أكن لأقبل بأي وظيفة، ولكن تلك الشروط ظلت تختفي شرطا بعد شرط حتى اختفت تماما مع إطلالة العام 2000. وما حصل معي هو ما يحصل في العادة مع الفتاة التي تحدد وهي في مقتبل عمرها شروطا كثيرة للقبول بمن يتقدم لخطبتها، ولكن تلك الشروط تبدأ في الاختفاء كلما اقتربت الفتاة من مرحلة العنوسة، إلى أن يأتي الوقت الذي تكتشف فيه بأنه لم يعد لديها من الشروط لقبول الزواج، غير شرط واحد، وهو أن تجد من يطلب يدها للزواج.
هذا هو ما حصل معي بالضبط، فلم يأت العام 2000 إلا بعد أن اختفت كل الشروط، ولم يعد لدي للقبول بأي وظيفة غير شرط واحد، وهو أن أجد وظيفة تقبل بي، ولم أجد في ذلك العام من وظيفة تقبل بي، سوى وظيفة مدرس لنساء أميات في قسم من أقسام محو الأمية بمدينة سيلبابي.
هكذا نقلني عقد الثمانينيات بكل عجرفة من كبير علماء "NASA"، كما كنت أحلم، إلى مدرس لنساء أميات في مدينة سيلبابي في مطلع العام 2000، وبذلك تكون قد طُويت صفحة رتيبة من حياتي، لِتُفتح صفحة أخرى أكثر رتابة، وهي صفحة لم يعد كاتب الرواية يتحمس كثيرا لتقديمها للقراء، وهذا ما جعلني، عند الشروع في سرد أحداث هذه الحلقة أذكره بأن العقد الذي وقعت معه عند البدء في كتابة هذه اليوميات يُلزمه بأن يُكمل كتابة كل حلقات الرواية بنفس الحماس الذي بدأ به كتابة حلقتها الأولى.
فما كان من كاتب الرواية بعدما ذكرته بالعقد المبرم بيننا إلا أن قال بنبرة غاضبة:
ـ كان يوم نحس ذلك اليوم الذي أبرمت فيه عقدا معك لكتابة سيرتك حياتك الرتيبة، ولا أدري ما الذي جعلني أقبل ببنود ذلك العقد، ولا أدري أيضا ما الذي جعلني أقبل أصلا بكتابة سيرة حياتك الرتيبة دون أن يكون لي الحق في أن أضيف لها ما يقلل من رتابتها.
لقد كان عليك ـ يا أيها الشخص العادي جدا ـ أن تقبل بالهزيمة يوم تنازلت عن حلمك الكبير في أن تصبح كبير علماء "NASA". وكان عليك أن تختفي بشكل كامل وسط الزحام بعد أن قبلت بأن تكون أستاذا لمحو الأمية، فلو أنك قبلت بالاختفاء من المشهد لأرحت نفسك ولأرحتني معك، فلماذا لا تريح وتستريح؟ وما الذي تريدني أن أكتبه عنك الآن؟ وبأي كلمات يمكنني أن أخرجك من الزحام؟ لقد ضعت في الزحام يوم قبلت بأن تكون أستاذا لمحو الأمية، وستظل ضائعا فيه إلى أن تغادر دنيانا الفانية.
وبماذا تريدني أن أملأ صفحات هذه الحلقة والحلقات التي ستأتي بعدها؟ فهل تريدني أن أملأها بتكرار عبارات من نوع: كتَب أستاذ محو الأمية حرف الباء على السبورة؟ أو بأكل الأستاذ؟ أو نام الأستاذ؟ أو جاع الأستاذ؟ ثم إنه عليك أن تعلم بأن القراء سيهجرون يومياتك عندما يعلمون بأنها لا تختلف ـ حتى في تفاصيلها الصغيرة ـ عن يوميات أي واحد من ملايين الناس الذين يعيشون معهم وسط الزحام.
وهنا سكت الكاتب قليلا، فما كان مني إلا أن قلت بصوت ساخر:
ـ مشكلتي الحقيقية ـ يا "كاتبنا العظيم" ـ هي أنه ليست لديَّ القدرة الكافية للصعود بك إلى القمة، لذلك فقد قررت ـ وفاءً لصداقتنا ـ أن أبقى معك وسط الزحام.
ـ لا أريد ردا ساخرا.
ـ إذن فما دمت لا تريد ردا ساخرا، فأعلم يا كاتبنا الكريم، وهذا ما أريدك أن تنقله لقرائك الكرام، بأني لن أقبل أبدا بأن أضيع وسط الزحام كما ضعتَ أنتَ، لن أقبل بذلك حتى ولو عشتُ حياتي كلها في القاع، منكبي بمنكبك، وساقي بساقك. وقل لهم أيضا يا كاتبنا الكريم أن كل ما في الأمر هو أن العام 2000 الذي كان شاهدا على موت حلم غير طموح ( كبير علماء "NASA")، قد شهد في المقابل ميلاد حلم جديد أكثر طموحا.
ـ وأي حلم لديك يمكن أن يكون أكثر طموحا من حلمك العابث بأن تصبح كبير علماء "NASA
ـ لن أجيبك على هذا السؤال في هذه الحلقة، وقد لا أجيبك عليه إلا في الجزء الثاني من الرواية، ولكني في المقابل سأسرد عليك وعلى قرائك بعض التفاصيل المتناثرة هنا وهناك، والتي ربما تكون قد ساهمت في رسم وتشكيل حلمي الجديد الذي استبدلت به حلمي العابث.
لقد جئت إلى مدينة سيلبابي وحيدا بلا حلم، جئتها ورأسي فارغ من أي حلم، تلك حقيقة لا أستطيع أن أنكرها، ولكني لم أترك تلك المدينة إلا بعد أن امتطى عقلي وقلبي حلم كبير وعظيم تنوء العصبة من الرجال بحمله.
جئت إلى سيلبابي وأنا عازم على أن لا أدَرس إطلاقا في أي قسم لمحو الأمية، فحملات محو الأمية لم تكن إلا مجرد مسرحيات، والراتب المتواضع الذي كنت أتقاضاه مقابل تدريس الكبار، لم يكن بالنسبة لي إلا مجرد تعويض اجتماعي يجب على الدولة أن توفره لي في انتظار الحصول على وظيفة تليق بشخصي الكريم، لذلك فقد أصدرت فتوى خاصة بي، تبيح لي أن أتقاضى راتب أستاذ لمحو الأمية دون أن أكون ملزما بتعليم الكبار.
لم أكن أفكر في تدريس الكبار، ولكن بعد قدومي لمدينة سيلبابي بدأت الأمور تأخذ منحى مناقضا تماما لما كنت قد عزمت عليه، وربما يكون ما حدث حينها قد شكل الإرهاصات الأولى لميلاد حلم عظيم يكاد حمله الثقيل أن يهلكني حتى من قبل أن أتمكن من تحقيق جزئية واحدة من جزئياته.
لقد تعرفت على نساء أميات طيبات في الحي الذي تم اختياري للتدريس فيه، وكانت من بينهن من لا تحفظ آيتين من أم الكتاب، لذلك فقد وجدتني ملزما لأن أعيد النظر فيما كنت أفكر فيه.
فتحت القسم في حي النزاهة، ولا أدري لماذا يصرون في أغلب مدننا على تسمية أحد أحياء كل مدينة من مدننا بهذا الاسم؟ المؤكد بأن تلك الأحياء التي تحمل تلك التسمية لا تحمل الصفة. بدأت أستقبل بعض النساء الأميات في الحي، وبدأت الدروس تنتظم شيئا فشيئا، والإقبال يزداد شيئا فشيئا. ولكن الغريب الذي سيحصل بعد ذلك هو أن الأستاذ سيتحول إلى تلميذ، أما النساء الأميات فإنهن سيتحولن بقدرة قادر إلى أستاذات يقدمن للتلميذ الأستاذ دروسا قيمة أفضل بكثير مما تعلم في الجامعة.
لقد قررت ومن أول حصة أن لا أكتب لتلميذاتي تلك الجمل البائسة التي كان ينقلها بعض أساتذة محو الأمية من الكتب المقررة في المرحلة الابتدائية، فيكتبون لهم مثلا:"عندما أستيقظ في الصباح أغسل وجهي بالماء والصابون"، "محفظتي جميلة"، "خديجة تلعب في ساحة المدرسة"...
كنت أحترم تلميذاتي احتراما كبيرا، وكنت أحترم عقولهن رغم أميتهن، لذلك فكنت أستخدم معهن طريقة مختلفة عن المنهجية السائدة في ذلك الوقت في تدريس الكبار، هذا إن كان هناك أصلا من يدرس الكبار.
ولقد أجبرتني تلك المنهجية التي ابتدعتها على الإنفاق من راتبي الزهيد لشراء بعض الأشرطة الصوتية لفضيلة الأستاذ محمد ولد سيدي يحي، خاصة منها تلك التي تحوي دروسا مبسطة عن الطهارة والصلاة. وكنت أطلب من تلميذاتي أن يستمعن بتركيز شديد لواحد من تلك الأشرطة خلال جلساتهن المسائية أو الليلية المعهودة، وكنت في الحصة الموالية أطلب منهن أن يحدثنني عما استفدن من الشريط، وليكون حديثهن مقدمة لدرس جديد.
كما أني اشتريت لهن من راتبي الزهيد بعض الكتب المبسطة، وقد أهديت لكل واحدة منهن الجزء الأول من القرآن في طبعته المعروفة والمكتوبة بحروف كبيرة تتناسب مع مستوياتهن التعليمية، بل إني في بعض الحالات كنت أقدم لهن ـ من أجل تحفيزهن ـ جوائز نقدية متواضعة من راتبي المتواضع.
وأذكر أني في إحدى حصص التربية المدنية بدأت الحصة بالحديث عن الصدقة وعن أوجهها المتعددة، فقلت لتلميذاتي، بأن في كل تسبيحة  صدقة، وفي كل ابتسامة في وجه أخ صدقة، وفي الكلمة الطيبة صدقة، وفي إعانة الرجل على ركوب دابته صدقة، وفي إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وكان ذلك هو مدخل تلك الحصة التي تم تخصيصها للنظافة، وخاصة منها نظافة الشارع.
وفي الحصة الموالية، وبعد مراجعة حصة التربية المدنية اكتشفت أن جل طالباتي حاولن أن يطبقن شيئا مما تعلمن، فإحداهن قالت بأنها ظلت تسبح على طول الطريق الرابط بين السوق ومنزلها، وثانية قالت بأنها تصدقت بماء جلبته لمسجد الحي، وثالثة ابتسمت، ورابعة نطقت بكلمة طيبة، وهكذا.. والغريب أني أنا الذي كنت أمثل دور الأستاذ، كنت هو الشخص الوحيد في القسم الذي لم يحاول أن يستفيد من الدرس، ولم يفكر إطلاقا في أن يطبق ما جاء في الدرس، وهذا لا يعني بأني لم أكن ـ في بعض الأحيان ـ أفعل شيئا من تلك الأعمال الصالحة التي جاءت في الدرس، وإنما يعني بأني لم أفكر في ذلك اليوم بالذات بأن أفعل شيئا من تلك الأعمال الصالحة التي أمرتُ تلميذاتي الأميات بفعلها. لقد شكل ذلك درسا هاما بالنسبة لي، وهو بالتأكيد سيظل من أهم الدروس التي تعلمتها في حياتي.
وأذكر أيضا بأني لما تخلفت عن حصص بسبب المرض، فوجئتُ بتلميذاتي العجائز يزرنني بشكل جماعي أثناء مرضي، ولما قلت لهن بأنه لم يكن هناك داع لأن ينتقلن كل هذه المسافة البعيدة لزيارتي، قالت لي إحداهن ألم تقل لنا في القسم بأن من زار أخاه المريض صلى عليه سبعون ألف ملك؟ فَلِم تريد أن تحرمنا من هذا الأجر الكبير؟ وكان ذلك درسا آخر يقدمنه لي تلميذاتي الأميات. ولقد تذكرت في ذلك الوقت بأن بعض طالباتي كنت يتغيبن عن بعض الدروس بسبب المرض، ورغم ذلك فإني لم أفكر في معايدة أية واحدة منهن رغم أني كنت أقدرهن جميعا، وأحترمهن كثيرا، وأسأل دائما عن حالهن.
كانت تلميذاتي يعاملنني وكأني أستاذ مثالي، ولكن حقيقتي لم تكن دائما كذلك، فقد كنت أترك المدينة في بعض الأحيان في الفترة المقررة للتدريس، وبالتالي فقد كانت الدروس تتعطل. أما في الأوقات التي كنت أقيم فيها بمدينة سيلبابي، وهي بالمناسبة ليست بالقصيرة، فقد كنت حريصا على الحضور، بل إنه يمكنني أن أدعي بأني كنت أكثر حرصا على الحضور من الطالبات أنفسهن، وهن المعروفات بحرصهن الشديد على الحضور.
أما الجهات الرسمية المشرفة على العملية ( وزارة وسلطات جهوية) فلم يكن يهمها من الأمر شيئا، ولم تكن تسأل عن حضوري ولا عن حضور أي أستاذ آخر لمحو الأمية إلا في حالات محدودة جدا، وهي تلك الحالات التي تكون هناك زيارة رسمية لوزير أو لأي مسؤول آخر ترافقه وسائل الإعلام الرسمية.
كانت أقسام محو الأمية تفتح من قبل مجيء الوفد الزائر بدقائق، وكانت تغلق بعد ذهاب الوفد بلحظات معدودة، وتظل مغلقة حتى زيارة أخرى. وكان الشيخ الوقور يستجلب لقسم محو الأمية من قبل مجيء الوفد، وذلك لكي يكذب كذبة تنتشر في كل الآفاق التي يصل إليها بث القمر الصناعي العربي (عربسات).
كان الشيخ الوقور يأتي مصحوبا بدفتر حفيده الذي يدرس في سنة ثانية أو ثالثة ابتدائي، ثم يفتح الدفتر أمام كاميرا التلفزيون الرسمي، ويقول:
ـ إنما تشاهدون في هذا الدفتر قد كتبته بيميني هذه، والتي لم أكن أعتقد أن بإمكانها أن تمسك قلما، من قبل مجيء أستاذنا هذا، ومن قبل فتح هذا القسم الذي تعلم فيه الكثير من الأميين الكبار من أمثالي.
حتى شيوخ المحاظر وأئمة المساجد فقد تم تدريبهم ـ وبشكل مكثف ـ من طرف وزارة التوجيه الإسلامي على الكذب والحيل والخداع، رغم أن الوزارة تم إنشاؤها أصلا لبث القيم الفاضلة في المجتمع.
كانت الوزارة لا تسلم الراتب لشيخ المحظرة أو لإمام المسجد المكتتب في حملات محو الأمية، إلا من بعد أن يجمع ـ وبشكل مسرحي ـ خمسين شخصا من الجيران والأصدقاء والمعارف، ويقدمهم يوم توزيع الرواتب على أساس أنهم أميون يدرسون في قسمه الوهمي.
وكان البعض من أولئك ممن تم عرضه على أساس أنه من الخمسين التي لابد من توفيرها، يسبق المسؤول الزائر إلى المدرس المجاور لتكثير سواد الأميين هناك، ثم إلى مدرس ثالث، وحتى إلى رابع، وهكذا. وكانت الوزارة على علم بذلك، وكانت تشجعه وتدعمه، لأنها كانت تعلم بأن الخمسين أميا التي اشترطتها لدفع الراتب كاملا لا يمكن عمليا أن يتم تدريسها في حجرة واحدة، ولا يمكن جمعها في وقت واحد، ومن حي واحد يوجد به العشرات من الشيوخ والأئمة وحملة الشهادات الذين يتنافسون ـ نظريا ـ  على جمع أكبر عدد من الأميين في الحي. ولا تختلف وزارة التوجيه الإسلامي في هذا عن وزارة المالية التي كانت هي أيضا تشجع الوسطاء والجمارك على الرشوة والفساد من خلال ما تصدر من قوانين بائسة.
كنت أتألم كثيرا لذلك الحال، وكان ما يؤلمني أكثر هو أنه لم يكن بوسعي أن أفعل شيئا لأوقف تلك الموجة العارمة من الكذب ومن الحيل والخداع التي كانت تصاحب حملات محو الأمية، والتي دفعت برئيس منظمة غير حكومية بلا مقر وبلا عمال لأن يتجرأ ويقول في التلفزيون الرسمي بأن منظمته وضعت خطة وبدأت في تنفيذها، وأن خطتها التي رسمت ستقضي على الأمية في موريتانيا، كل موريتانيا، خلال ستة أشهر فقط.
كانت هناك فجوة كبيرة تتسع حملة بعد حملة بين الجهود الميدانية المبذولة لمحاربة الأمية، وبين ما يقال في الإعلام الرسمي، ذلك الإعلام الذي كاد أن يقول للناس بأن وزارة التوجيه الإسلامي في موريتانيا قد قضت نهائيا على الأمية ليس في موريتانيا فحسب، بل وفي كل دول غرب إفريقيا المجاورة.
ولأني لم أتعود على السلبية، فلم يكن بإمكاني أن أظل مكتفيا بدور المتفرج، لذلك فقد أعددت دراسة ميدانية سجلت فيها كل ما تمكنت من رصده من أخطاء كانت تمارس في حملات محو الأمية، ولم أكتف برصد الأخطاء بل إني قدمت تصورات ومقترحات لمحاربة الأمية كنتُ قد استلهمتها من عملي الميداني في مجال تعليم الكبار.
وكانت تلك المقترحات تهدف في الأساس، إلى أن تستعيد حملات محو الأمية شيئا من مصداقيتها، فهناك حقيقة قل من يعرفها، وهي أن نسبة القضاء على الأمية كانت أعلى في السبعينيات والثمانينيات من قبل أن تكون هناك إدارة لمحاربة الأمية، من نسبة القضاء عليها، بعد أن تم إنشاء وزارة خاصة بمحاربة الأمية!!
ولقد أرسلت أربع نسخ من تلك الدراسة التي كانت تحت عنوان: "الأمية في موريتانيا: مشاكل وحلول" إلى الرئيس السابق معاوية (النسخة الأولى عن طريق مكتب الاستقبال بالرئاسة، والثانية بالبريد المضمون، والثالثة بالبريد السريع، والرابعة مع والي كيديماغا)، ولم يفتني أن أشيد بأهمية محاربة الأمية في مقدمة تلك الدراسة، وكنت أريد من ذلك أن أفتح شهية الرئيس لمطالعة الدراسة بكاملها، إن هي وصلت إليه. فمن يدري فربما تجعله الدراسة يكتشف البعد المسرحي في حملات محو الأمية التي كانت تنظم في عهده؟
وبعد مرور أشهر قليلة على توزيع ثلاثين نسخة من تلك الدراسة، على كل من له صلة بالموضوع، وجدتني مرة أخرى عاطلا عن العمل، وذلك بعد أن قررت الوزارة فصلي عن التدريس مبررة قرارها البائس ذاك، بكثرة تغيبي.
تقبلت الأمر ولم أقم بفعل أي شيء من أجل استعادة عملي كأستاذ لمحو الأمية، إلا بعد انقلاب الثالث من أغسطس 2005، حيث قررت حينها أن أحمل معي الدراسة المذكورة، وكتاب مسموع تم إعداده في الفترة نفسها، مع رسالة تظلم إلى الوزير الذي تم تعيينه بعد انقلاب الثالث من أغسطس على رأس الوزارة، وكان التظلم الذي سلمت للوزير ـ عن طريق سكرتيرته ـ هو أول بريد يصله من خارج الوزارة بعد تعيينه وزيرا.
طلبت في رسالة التظلم من الوزير يحي ولد سيد المصطف، أن ينصفني وأن يعيدني أستاذا لمحو الأمية، وكنت في ذلك الوقت أمر بظروف مادية صعبة جدا، وهذا لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ بأني لم أمر بنفس تلك الظروف من قبل ذلك الوقت، أو أني لن أمر بها من بعد ذلك، فعلاقتي بالظروف المادية الصعبة كانت ولا تزال علاقة قوية ومتينة. ولقد اعتقدت حينها بأن الوزير لن يخيب ظني، وأنه لن يبخل عليَّ بوظيفة مدرس لمحو الأمية في مدينة نائية، هذا إذا لم تعجبه الدراسة المذكورة، ويقدر الجهد المبذول في سبيل إعدادها، فيقرر أن يعين من أعد تلك الدراسة مديرا لمحو الأمية في أول مجلس وزراء يعقد بعد انقلاب الثالث من أغسطس.
رفض الوزير أن يستقبلني في مكتبه حتى يسمع على الأقل حجتي، وكتبت الوزارة في "عهده الميمون" في عدد من يومية السفير، وعلى صيغة رد، بأن "شخصي الكريم" كان يتقاضى راتبا لا يجوز له شرعا أن يتقاضاه، لأنه لم يقم بأي عمل مقابل ذلك الراتب ( تحضرني الآن أسماء العشرات من أساتذة محو الأمية الذين كانت الوزارة ـ ولا تزال ـ تسلمهم رواتبهم بانتظام، رغم أن بعضهم كان يمارس التجارة في بعض دول إفريقيا، والبعض الآخر كان يتابع دراساته العليا في الخارج). كان رد الوزارة قاسيا ومستفزا، ويومها فكرت في أمرين اثنين، كانا في غاية التناقض، أولهما أن أبحث عن كمية من المتفجرات لأنسف بها مبنى وزارة التوجيه الإسلامي بمن فيه وبما فيه. أما الثاني فكان على النقيض من ذلك تماما، ولكني لن أذكره لكم الآن، لأني إن ذكرته الآن فسأكون بذلك قد أمطت اللثام عن هدف طموح رسمته لحياتي في تلك الفترة، ولم يحن الوقت المناسب للكشف عنه.
كان رد الوزارة قاسيا ومستفزا، ولكنه مع ذلك لم يخل من وعد في غاية الأهمية، وذلك عندما وعدتني الوزارة في ردها بيومية السفير بأنها ستتعامل بشكل إيجابي مع مقترحي المتعلق بالمطالبة بتشييد مسجد داخل الوزارة.
ففي تلك الفترة لم يكن هناك أي مسجد بمبنى الوزارة الوصية على المساجد يصلي فيه عمالها، والذين من المفترض بأنهم يحرصون أكثر من غيرهم على أداء الصلاة في المساجد.
ولقد كان إلحاحي على القائمين على الوزارة بضرورة تشييد مسجد بمبنى الوزارة، يدخل في إطار اهتمام شخصي بالمساجد بدأ يبرز منذ العام 2000، ذلك العام الذي شهد ميلاد حلمي الجديد. ففي تلك الفترة كنت أحرص على أن أعتني شخصيا بنظافة المسجد الذي أصلي فيه، سواء كنت أقيم  في مدينة سيلبابي، أو في العاصمة نواكشوط.
ففي فترات إقامتي بالعاصمة كنت أتكفل بنظافة المرافق الصحية الملحقة بمسجد العباس، وكان ذلك أمر في غاية الصعوبة، نتيجة لعدم احترام الكثير من المصلين لقواعد النظافة داخل تلك المرافق. أما في فترات الإقامة بسيلبابي فكنت أكتفي فقط بنظافة فراش وساحة مسجد الصحابة، وذلك لأن المسجد لم تكن  تتبع له مرافق صحية.
وكنت أحرص دائما على أن أتولى آذان السدس، سواء كنت في سيلبابي أو كنت في العاصمة. كما كنت أحرص في الوقت نفسه على أن أتكفل بإغلاق المسجد بعد مغادرة آخر واحد من أولئك الذين يحرصون دائما على البقاء في المسجد بعد صلاة الفجر حتى يصلون ما شاء الله لهم أن يصلوا بعد إشراق الشمس.
وفي تلك السنوات كنت أحرص دائما، عندما أكون في العاصمة، على أن لا يفوتني منبر الخميس، ولا أذكر بأني قد تغيبت عن حضوره، ولا لمرة واحدة، في كل تلك الفترات التي كنت أقيم فيها بالعاصمة.
ورغم إصراري على الحضور الدائم لمنبر الخميس، إلا أني مع ذلك لم أقترب ممن كانوا يعدون من حركة الإخوان المسلمين. كنت أحضر للمنبر فقط، وكان ذلك الحضور من أجل التعلم أولا، ولزيادة سواد المسلمين عند المساجد ثانيا، ولإغاظة نظام ولد الطايع ثالثا، هذا فضلا عن الأهم، وهو رجائي في أن أكون ممن تحفهم الملائكة بأجنحتها لساعة من نهار، و أن أكون جليس القوم الذي يغفر له بمجالستهم. ورغم مداومتي على الحضور للمنبر، إلا أني كنت أتحاشى دائما الاقتراب من قيادات الحركة. ولم أكن أحضر للمنبر إلا بعد أن أكون قد أديت صلاة العصر في مسجد العباس، مما يعني بأني لم أكن لأصل إلى جامع الذكر إلا بعد أن يكون المسجد قد أصبح ممتلئا، ولذلك فقد كنت أكتفي دائما بالجلوس في طرف من أطراف الجموع الغفيرة التي كانت تسبقني إلى المنبر، وتحديدا في أقصى نقطة تصلها تلك الجموع.
حتى فضيلة الشيخ محمد الحسن ولد الددو فإني لم أحظ بلقائه رغم حضوري الدائم لمجالسه. ولقد حاولت مرة أن ألتقي به في العام 2008، في أيام كنت أمر فيها بظروف حرجة جدا، ولكني لم أوفق في لقائه. وكانت أول أمرة ألتقي فيها بالشيخ في العام 2012، وقد حدثت بالصدفة، وذلك بعدما طلب مني منسق "حراس المستقبل" الأستاذ الخليل النحوي أن أرافقه إلى حفل لتكريم المتفوقين في ذلك العام من طلاب مركز تكوين العلماء، وكان الأستاذ الخليل من المدعوين الرسميين لذلك الحفل. وقد تسبب ذلك اللقاء، بإحراج واحد من أكبر رجال الأعمال في البلاد كان من أبرز رعاة الحفل، وذلك بعد أن وجد نفسه مضطرا لأن يصافحني، بعدما نودي باسمي لتسليم إحدى الجوائز لأحد الطلاب المتفوقين.
لقد أدرج اسمي في تلك الليلة في لائحة من سيتولون تسليم الجوائز للمتفوقين من طلاب المركز، وأعتقد بأن الأستاذ الخليل النحوي هو من كان قد طلب ذلك من إدارة المركز، والتي لم تكن تعرفني، ولم تكن على علم بحضوري للحفل.
نودي باسمي لتسليم جائزة لأحد الطلاب المتفوقين، فصعدت إلى منصة الحفل، فإذا بي أقف وجها لوجه مع واحد من أغنى رجال الأعمال في البلد، كنتُ قد كشفتُ منذ فترة غير بعيدة عن شيء غير يسير من فساده.

ولقد كان آخر مجلس أحضره للشيخ في ذلك العهد هو الحضور لدورة في فريضة الصوم، كان قد نظمها الشيخ في مسجد أسامة، وكانت هي آخر نشاط علمي ينظمه من قبل أن يسجن سجنه الذي لن يخرج منه إلا بعد الإطاحة بنظام ولد الطايع.
لقد كنت حاضرا يوم ألقي القبض على الشيخ أثناء تقديمه لتلك الدورة، كما كنت أيضا من بين أولئك الذين خرجوا من مسجد أسامة في مسيرة منددة بالقبض عليه. ولقد انطلقت مسيرتنا بشكل عفوي من المسجد مباشرة بعد القبض على الشيخ، وانتهت بكارفور مدريد، والذي ما إن وصل إليه المشاركون في المسيرة حتى بدؤوا في الانسحاب فرادى وجماعات.
وأذكر أني بعد القبض على الشيخ بأيام معدودة، كتبت في ورقة بيانا منددا بإلقاء القبض عليه، ثم ذهبت بالورقة إلى صاحب وراقة لم أكن أعرف عنه شيئا سوى أنه يكتب على الجهاز بشكل جيد، ولقد عرفت ذلك بعد أن جربته أثناء طباعة دراستي المتعلقة بالأمية.
كان البيان موقعا على ما أذكر بأحباء الشيخ في الله، وكان يقدم جملة من المقترحات للتضامن مع الشيخ بعد اعتقاله.
وكعادتي دائما فلم أكن في ذلك اليوم أملك مالا كثيرا، فكان كل ما أملك هو ألف أوقية وبضع مئات، لذلك فلم يكن بإمكاني أن أسحب أكثر من مائة نسخة من البيان المذكور.
أخذت النسخ ووضعتها في غلاف ورقي كتبت عليه بالقلم ما مضمونه "خذ نسخة واحدة وحاول أن تنسخها وتوزعها قدر المستطاع" ثم اتجهت رأسا إلى مسجد الذكر لتأدية صلاة الظهر هناك، ولترك المائة نسخة على منبر المسجد.
كنتُ من أول القادمين إلى المسجد لذلك فقد بادرت بوضع النسخ على المنبر من قبل قدوم المصلين، ولم تكد تمر دقائق حتى وصل مفوض شرطة دار النعيم على ما أعتقد مصحوبا ببعض عناصر الشرطة، وقد  جاؤوا للقبض على إمام المسجد.
كان الموقف في غاية الإرباك، فأنا من جهة لم أكن معروفا لدى جماعة المسجد، ولا لدى المؤذن، ولذلك فلن يكون غريبا في ذلك العهد أن يثير حضوري انتباه جماعة المسجد، خاصة وأن حضوري كان قد تزامن مع حضور مفوض شرطة رفقة بعض أعوانه.
ومشكلتي في ذلك الوقت لم تكن مع المؤذن لوحده، والذي لابد أنه لاحظ تصرفي الغريب الذي قمت به من قبل حضور المفوض وأعوانه، بل كانت أيضا لدي مشكلة أخرى مع عناصر الشرطة، فماذا لو قرر أحدهم أن يلقي نظرة على الغلاف الورقي الذي وضعته على المنبر منذ دقائق؟ بل وما الذي سيحصل إذا ما تسببت الريح في فتح الغلاف الورقي وفي تناثر نسخ البيان أثناء وجود الشرطة في المسجد؟
في بعض الأحيان قد تكون أفضل طريقة لتؤمن نفسك هي في أن تبالغ في المخاطرة، وذلك بالضبط هو ما فعلته أنا في ذلك اليوم، حتى وإن كنت قد فعلته عن غير قصد.
وبعد ذلك البيان الذي لم يلق صدى اكتفيت بالدعاء للشيخ ولغيره بأن يفرج الله عنهم، ولا أذكر بأنه مر بي يوم دون أن أدعو فيه للشيخ في وردي اليومي إلى أن تم إطلاق سراحه بعد انقلاب الثالث من أغسطس.
أما بالنسبة للشيخ والأستاذ الجليل محمد ولد سيدي يحي فقد التقيت به في تلك الفترة مرتين، كانت أولاهما رفقة مجموعة من طلاب العلم جاءته لتطلب منه أن يتراجع عن قراره بإيقاف دروسه ومحاضراته، والتي كان قد أعلن عن إيقافها في تلك الفترة. أما الثانية فقد كانت رفقة بعض الأئمة والمؤذنين الذين اتصلوا بالشيخ بأسبوع واحد من بعد لقائه بطلاب العلم، وذلك لتقديم نفس الطلب.
في اللقاء الثاني لم أتكلم إطلاقا، أما في اللقاء الأول فكنت قد اكتفيت بأن عرفت بنفسي، وقلت بأني أستاذ لمحو الأمية في سيلبابي، ثم طلبت وبشكل مختصر جدا من الشيخ أن يعود إلى تقديم دروسه. والحقيقة أنه لم يكن لديَّ ما أقوله، ولا ما أضيفه، فقد تحدث من قبلي من لم يترك لي، ولا لغيري، ما أقوله.
والغريب أني بعد ذلك سأقابل الشيخ ليلا، وفي شارع غير بعيد من منزله، فإذا به يقول لي من قبل أن أعرفه ـ وذلك مما أدهشني كثيرا ـ يا أستاذ ماذا تفعل هنا، فَلِم لم تذهب إلى سيلبابي لتدريس طلابك؟

(الحلقة الأخيرة )


في منتصف العام 2007 اتخذت قرارا جريئا حسب بعض أصدقائي، أحمق طائشا حسب البعض الآخر، ولكنه في حقيقة الأمر لم يكن إلا مجرد قرار عادي لمن عاش طفولة كطفولتي، ولمن كان أيضا يلهث خلف حلم كبير كما هو الحال بالنسبة لي.
في منتصف ذلك العام حصلتُ على قرض بقيمة مليون وستمائة ألف أوقية عن طريق الوكالة الوطنية لتشغيل ودمج الشباب، وذلك بصفتي حامل شهادة عاطل عن العمل. ولقد حصلت على ذلك القرض بعد أن اقتربتُ من إكمال عقدي الثاني مع البطالة، وبعد أن أصبح عمري يقترب من الأربعين عاما.

ولكم أن تتصوروا ما الذي سيفعله عاطل عن العمل بمبلغ كهذا حصل عليه بعد عقدين من البحث عن وظيفة، وبعد أن اقترب عمره من الأربعين؟ لكم أن تتصوروا ما شئتم، ولكن الشيء المؤكد هو أنكم لن تستطيعوا أن تتخيلوا ما الذي فعله بالضبط هذا العاطل عن العمل الذي تقرؤون يومياته بذلك القرض.
لن تتصوروا إطلاقا بأني قد قررت عند استلامي للقرض بأن أتجاهل ظروفي الخاصة، وما أصعبها من ظروف، وبأن أفتتح بذلك القرض مركزا خيريا تكون أولى مهامه تشغيل ودمج المواطنين الأكثر فقرا في الحياة النشطة!! وكأنه يوجد بالمدينة من هو أكثر مني حاجة لأن يدمج في الحياة النشطة.
لن يكون بمقدوركم أن تتخيلوا ما الذي فعلتُه بالمليون والستمائة ألف أوقية، وقد لا تصدقونني إذا قلت لكم بأني أنفقتها على عمل خيري، ولكم العذر في ذلك، فأنتم وحتى الآن لم تتعرفوا على حقيقة هذا الشخص العادي جدا الذي تقرؤون سيرته. وكيف لكم أن تتعرفوا على حقيقته ما دام كل ما سُرد عليكم في الحلقات الثلاث عشر الماضية من أحداث ومواقف لم يكن إلا مجرد قشور متناثرة طفت في وقت من الأوقات على سطح حياتي، أنا الذي ما زلت، وكما  قلتُ لكم سابقا، أعيش متنقلا بين فواصل التاريخ، وهوامش الجغرافيا.
والآن، ولكي تفهموا ذلك التصرف بالذات، سأبتعد بكم قليلا عن القشور، لأكشف لكم عن بعض الأسرار في حياتي، والتي ما كان لي أن أكشفها لكم إلا في الجزء الثاني من هذه اليوميات. فالاتفاق مع كاتب هذه السيرة كان يلزمنا، أنا وهو، بأن لا نتجاوز السطح، وأن لا نغوص في الأعماق، إلا عند البدء في كتابة الجزء الثاني من هذه اليوميات.
لقد سمحتُ لكاتب هذه اليوميات بأن يتجاوز بنود الاتفاق المبرم بيننا، وبأن يكشف لكم شيئا قليلا من أسرار طفولتي، وذلك فقط بالقدر الذي يمكنكم من فهم هذه اللقطة من حياتي والمتعلقة بإنفاق قرض الوكالة على عمل خيري. وهذه اللقطة وحتى وإن بدت لكم غريبة شيئا ما، إلا أنها مع ذلك كانت هي التصرف السليم والمنطقي الذي كان يمكن أن نتوقعه ممن تربى في أحضان مؤسسة خيرية.
لم يكن بإمكاني وأنا ابن الليعة كما كنتُ ألقبها، أو أم طريعة كما كانت تعرف في مدينة لعيون، أن أنفق أول مبلغ كبير أستلمه، إلا في عمل خيري.
كانت أم أطريعة رحمها الله تعالى : عجوزا، فقيرة، أمية، لا تستطيع أن تعد إلى العشرين، ولكنها مع ذلك كانت  مؤسسة خيرية فريدة من نوعها، ولقد وصلت شهرتها إلى خارج مدينة لعيون.
ومن الأمثلة على ذلك أن سيدة فقيرة من مدينة كيفة، مرضت مرضا شديدا، وقررت أن تذهب إلى مستشفى لعيون للعلاج، ولكنها كانت تقول لزوارها بأنها لا تعرف أحدا في مدينة لعيون لتقيم عنده خلال فترة العلاج، فما كان من أحد الذين شكت لهم تلك المريضة، إلا أن استغرب من قولها بأنها لا تعرف في مدينة لعيون منزلا تقيم فيه خلال رحلة العلاج. ولم يكن من ذلك الرجل إلا أن قال للمريضة متسائلا ومستغربا في نفس الوقت : كيف تقولين بأنك لا تعرفين أحدا تقيمين عنده، وعريش أم أطريعة لا يزال يوجد في وسط المدينة؟
وفعلا فقد كان عريش أم أطريعة مكان استقبال دائم للضيوف، وكذلك للمرضى، خاصة في موسم الخريف الذي تنتشر فيه حمى الملاريا.
كانت أم أطريعة رحمها الله تعالى مؤسسة خيرية لا تتوقف عن العطاء، وكانت تلك المؤسسة تعمل وفق فلسفة بسيطة جدا، فهي كانت على استعداد دائم لأن تقدم لضيوفها كل الطعام الذي تأتي به ابنتها من العمل في خدمة البيوت، هذا إذا كان الضيف من أولئك الضيوف الفقراء جدا. أما إذا كان الضيف يملك ما يشتري به شيئا قليلا من اللحم والأرز فإن أم أطريعة في هذه الحالة، تتكفل بإعداد الطعام، وبتقديمه لذلك الضيف، ولغيره من الضيوف الآخرين ممن لا يملكون ما ينفقونه، أو ممن لا يريدون أن ينفقوا شيئا.
كانت أم أطريعة رحمها الله تعالى من شريحة لحراطين، وكانت في الأصل إذا ما تحدثنا بلغة بائسة تتبع لأسرتنا، ومع ذلك فلا أذكر بأنها، لاهي، ولا ابنتها قد اشتغلت عندنا في المنزل. كنا نحن عندما نبحث عن خادم للمنزل نبحث عنه من خارج عائلة أم أطريعة، أما هي فقد كانت تشغل ابنتها وحفيداتها خادمات بأجر عند عائلات أخرى.
كانت العلاقة التي تربطنا بأم أطريعة علاقة قوية جدا، وكانت هي تسكن  في وسط المدينة، قرب السوق المركزي، أما نحن فقد كنا نسكن في حي العرقوب الذي يقع في أقصى جنوب المدينة. وكان عريش أم أطريعة يقع تقريبا في المنتصف، بين الثانوية التي تقع في أقصى الشمال، وحي العرقوب الذي يقع في أقصى الجنوب.
وكان الموقع الاستراتيجي للعريش يغريني دائما بالتوقف عنده، عندما أصبحت أدرس في الثانوية، خاصة في أيام الصيف الحارة. كما كان كرم أم طريعة وحنانها يغريانني أيضا بالتوقف هناك، حتى وإن كنتُ في كثير من الأحيان لا أتمكن خلال الغداء من ابتلاع أكثر من لقمة أو لقمتين، وذلك بسبب تعدد الأيادي التي كانت تمتد إلى وجبة الغداء، تلك الوجبة التي قد تكون في بعض الأحيان، مجرد وجبة لشخص واحد، جاءت بها ابنة أم أطريعة من عند المنزل الذي تشتغل خادما لأهله.
كانت أم أطريعة رحمها الله تعالى، تصر دائما، إن كانت هناك مضغة واحدة من اللحم في وجبة الغداء تلك، أن تكون تلك المضغة من نصيبي أنا، أنا الذي كانت تَعُدُّني من أحب أبنائها إليها.
ومن قبل ذلك، وفي طفولتي المبكرة،  كنتُ أمر دائما بأم أطريعة حيث تعمل، أو بالأصح حيث تمثل دور بائعة الخضروات، فلم يكن كل ما تعرضه من تجارة يتجاوز ما تحتاجه أسرة واحدة من الخضروات والتوابل لإعداد وجبة غداء واحدة، وقد كانت مائة أوقية تكفي لشراء كل ما هو معروض على "طاولة" أم طريعة.
كنتُ أمر بها في مكان عملها، كلما تقطعت بي الأسباب، وكلما وجدتني بحاجة ماسة إلى نقود، ولم يحدث أن عدتُ من عندها إلا وأنا أحمل معي ثروة مالية تقدر بالأوقية أو الأوقيتين.
وكانت رحمها الله تعالى كلما رأتني قادما تطلق الزغاريد، وتقول لمن يجلس معها، وبثقة لا أعرف من أين أتت بها:
ـ هذا ابني الذي سيصبح إن شاء الله وزيرا كبيرا.
كانت تستقبلني دائما بحفاوة، وبقولها بأني سأصبح وزيرا كبيرا، وكنتُ أحب دائما أن أسمع ذلك منها، ولكن هناك شيئا آخر كنت أحبه أكثر، وهو تلك الحركة التلقائية التي كانت تقوم بها كلما زرتها في "محلها التجاري". وكانت تلك الحركة تبدأ بإخراج المحفظة العتيقة التي تعلقها على صدرها، ثم تقوم بعد ذلك بإخراج كل ما في المحفظة من نقود لتعطيني منه أوقية أو أوقيتين، وفي بعض الأحيان قد تكون تلك الأوقية أو الأوقيتين هي كل ما كان  يوجد في محفظتها من نقود لحظة مروري بها.
فهل بعد كل هذا يمكن لابن أم أطريعة الذي تربى في أحضانها، بل وتدرب في مؤسستها الخيرية، إلا أن يحب العمل الخيري؟ وهل يمكن أن يُستغرب منه إذا ما فتح في لحظة من اللحظات محفظته فوجد فيها مليون وستمائة ألف أوقية فأخذها ووزعها بطيب خاطر على الفقراء، ليعود صفر اليدين كما كان؟
رحم الله أم أطريعة فقد كانت عجوزا، فقيرة، أمية، لا تستطيع أن تعد إلى العشرين، ولكنها مع ذلك كانت سيدة عظيمة، بتضحياتها، بكرمها، بعطائها، وبمؤسستها الخيرية التي لم تتوقف يوما عن العطاء.
لقد رحلت عن دنيانا الفانية سيدة عظيمة كانت بالنسبة لي أكثر من أم. رحلت من قبل أن تصدر الرئاسة مرسوما بتعيين ابنها وزيرا، بل ومن قبل أن يحصل ذلك الابن على أبسط وظيفة تمكنه من أن يعوض لها شيئا قليلا من تعبها، من شقائها، من تضحياتها الجسيمة التي كانت تبذلها عن طيب خاطر، من أجل سعادته، بل ومن أجل سعادة كل عابر سبيل يمر بعريشها.
وما زلتُ أذكر بأن الدموع كانت قد انهمرت رغما عني، يوم علمتُ برحيلها، وذلك بالرغم من أني كنت دائما أتغلب على تلك الدموع عند موت من أحبهم وأجلهم كثيرا، كما هو الحال عند وفاة والدي رحمه الله تعالى، وكذلك عند وفاة جدتاي وجدي وعمي وخالي وخالتي، رحمهم الله جميعا.
ورغم أن أم أطريعة رحمها الله تعالى كانت هي أستاذتي ومدربتي الأولى على العمل الخيري، إلا أنها مع ذلك لم تكن هي الوحيدة، بل كان هناك أيضا الوالد رحمه الله تعالى، والذي كان تاجرا بسيطا، وعاش جل حياته وهو فقير، ولكنه مع ذلك كان ينفق بكرم على فقراء الحي. وكانت هناك أيضا الوالدة أطال الله عمرها، والتي لولا أني عرفت أم أطريعة لقلت لكم بأنها هي أكرم من عرفتُ في مدينة لعيون.
هذا بالإضافة طبعا إلى الجدة رحمها الله تعالى، والتي كانت تبيت وهي تتضور جوعا، وذلك رغم أنه كانت تُذبح تحت خيمتها الذبائح، فتوزع اللحم على الضيوف، وتحرم نفسها، لتبيت وهي جائعة في انتظار فضلة طعام قد تأتيها من عند جارة، وقد لا تأتي.
وهناك بالإضافة إلى ذلك كله، والدة جدي رحمها الله تعالى، والتي كانت، وكما قيل لي، تحرم حفيديها الصغيرين اليتيمين من جهة الأب (والدي وعمي) من تناول أي طعام، إذا لم يأتيا بمن يشاركهما في طعامهما.
ويبدو أن العمل الخيري كان صفة وراثية تحملها العائلة في جيناتها، فجدي الخامس رحمه الله تعالى، والذي لا تزال العائلة تحمل اسمه حتى الآن، كان يخرج ـ حسب ما يروى عنه ـ في كل يوم من مدينة وادان التي كان يرأسها ليحتطب، أو ليقوم بأعمال عضلية أخرى، ثم يأتي بحصيلة عمله اليومي إلى الرحبة، ويترك تلك الحصيلة هناك، لينتفع بها من أراد من الوادانيين أن ينتفع بها. وقد كان رحمه الله تعالى معروفا بقوته البدنية، والتي وظفها لتمويل مؤسسته الخيرية. وقد نُسج الكثير من الأساطير حول تلك القوة، والتي من بينها تلك الأساطير المرتبطة بصخرته الضخمة التي تحمل اسمه، والتي لا تزال موجودة حتى الآن في المدينة القديمة.
وقد كان ابنه الذي ترأس المدينة من بعده، منفقا هو كذلك، فهو الذي شيد، ومنذ قرنين تقريبا، وعلى نفقته الخاصة، المسجد الجامع في وادان، والذي لا يزال قائما حتى الآن. ويقال بأنه تمكن من تشييد ذلك المسجد بين جمعتين. وتقول الرواية الشعبية بأن الماء كان قد نفد في وادان قبيل اكتمال بناء المسجد، فما كان منه إلا أن استبدل الدهن بالماء لبلِّ التراب وجعلها طينا، وذلك لإكمال ما تبقى من المنارة، ليكتمل بذلك بناء المسجد من قبل دخول وقت الجمعة.
ولم يقتصر إنفاق هذا المحسن الذي أنعم الله عليه بأموال طائلة على مدينة وادان فقط، بل امتد ليصل إلى مدينة تيشيت، وإلى أمكنة أخرى، وهذا ما تثبته بعض الوثائق من بينها وثيقة بخط العالم الجليل صالح ولد عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
لذلك كله فلم يكن غريبا أن أفتتح مركزا خيريا عند استلام قرض الوكالة، ولم يكن غريبا كذلك أن أعتمد على نفس الأسلوب البسيط في ظاهره، المدهش في جوهره، والذي كانت تتبعه عجوز أمية لا تستطيع أن تعد إلى العشرين في تسيير مؤسستها الخيرية.
كانت أم أطريعة رحمها الله تعالى تقدم لضيوفها الفقراء ـ وعن طيب خاطر ـ  وجبة الطعام التي كانت تأتي بها ابنتها من خدمة المنازل، وذلك في الوقت الذي لم تكن تملك فيه غير تلك الوجبة، ولكنها أيضا كانت تستقبل الضيوف الأقل فقرا، وكانت تأخذ منهم ما يكفي لإعداد وجبة طعام، فتعد لهم طعاما، يأكلون منه، ويأكل منه أيضا ضيوفها الأكثر فقرا.
كانت أم أطريعة رحمها الله تعالى تأخذ ـ بشكل أو بآخر ـ أجرا من ضيوفها الأقل فقرا، مقابل تلك الخدمات التي كانت تقدم لهم: توفير مكان للاستراحة، التكفل بإعداد الطعام والشاي.. ولكن ذلك الأجر الذي كانت تأخذه أم أطريعة من أولئك كان يقتصر فقط، على أن يسمح الضيف الأقل فقرا أن يشرك في طعامه ضيفا أو ضيوفا آخرين أكثر فقرا.  
وبالتأكيد فلم يكن ذلك الاتفاق معلنا، ولكن هكذا كانت تسير الأمور في مؤسسة أم أطريعة الخيرية، هكذا كانت تسير بتلقائية، وبعفوية، وبذكاء أيضا، أدى في المحصلة النهائية إلى أن ضيوف أم أطريعة كان بعضهم يطعم البعض الآخر، وهو ما أعطى لتلك المؤسسة الخيرية ديمومتها واستمراريتها.
ولقد حاولتُ في المركز الخيري الذي أسسته، أن أعتمد نفس الأسلوب، فبالنسبة لي فلم تكن المليون والستمائة ألف التي لا أملك سواها، إلا كوجبة الطعام التي كانت تأتي بها ابنة أم أطريعة من الأسرة التي كانت تشتغل خادمة لها.
وكما كانت أم أطريعة تقدم وعن طيب خاطر تلك الوجبة لضيوفها الفقراء، فكان عليَ أنا أن أقدم وعن طيب خاطر أيضا المليون والستمائة ألف أوقية للمتدربين في المركز من الفقراء.
وكما كانت هي أيضا تطعم بعض الضيوف على حساب بعض الضيوف، وهو ما أعطى لمؤسستها الخيرية الاستمرار، فكان عليَّ أنا أيضا أن أبحث عن طريقة ما تمكنني من أن أُكَون وأدرب بعض زوار المركز على حساب البعض الآخر حتى أضمن الاستمرارية للمركز.
فتحتُ أبواب المركز أمام مئات الفقراء، ولكني أيضا بدأت أبحث عن وزارة أو عن مؤسسة عامة  تقبل بأن تمول دورات في المركز، وذلك لأوفر من خلال دوراتها موارد مالية تمكنني من إطلاق المزيد من الدورات لصالح المزيد من الفقراء الذين لا يملكون مالا ينفقونه على التدريب والتكوين.
ولذلك فقد كتبتُ العديد من الرسائل  للعديد من الوزارات والإدارات ذات الصلة، وطلبتُ من تلك الوزارات والإدارات أن يقوم المعنيون بالتكوين فيها بتنظيم زيارات مفاجئة للمركز، وكنتُ أصر على أن تكون تلك الزيارات مفاجئة، وذلك حتى يطلع الزائر على حقيقة  المركز، وعلى ما يقدم من دورات.
وبعد أن يطلع المعنيون على تلك الدورات، كنت أطلب منهم من خلال رسائل أخرى بأن يتحملوا تكاليف دورة من تلك الدورات، أو أن يقدموا على الأقل إعانة للمركز تمكنه من الاستمرار. وكان ما يهمني بالأساس، هو أن أجد جهة ما تتحمل تكاليف إيجار المقر (50.000 أوقية للشهر)، وتتحمل كذلك تسديد أقساط القرض بعد أن تكون أشهر الإعفاء الستة قد اكتملت، إلى أن يكتمل تسديد القرض، وأستعيد بالتالي مستندات قطعة أرضية تعود ملكيتها لصديق، كنتُ قد رهنتها مقابل الحصول على القرض المذكور، وكانت قيمة القسط الواحد = 50.000أوقية .
كنتُ بالأساس أحتاج إلى جهة ما تلتزم لي بتوفير ما يزيد قليلا على المائة ألف أوقية شهريا، وذلك  لتسديد إيجار المحل، وقسط القرض، وفاتورة المياه والكهرباء، أما بقية المصاريف والنفقات فلم تكن ملحة، خاصة أني وجدتُ طاقما رائعا من المكونين والمدربين ظل أغلبهم يرفض أن يأخذ أي تعويض من المركز.
كان أول مسؤول حكومي زار ميدانيا مقر المركز في مقاطعة عرفات هو مدير الشؤون الاجتماعية بمفضوية الحماية الاجتماعية. ولقد اندهش هذا المسؤول من الدورات التي كان يقدمها المركز، خاصة منها تلك التي تحارب الفقر، من خلال التثقيف الحرفي، وقد كان برنامج التثقيف الحرفي من أهم البرامج التدريبية التي ابتدعها المركز.
وبعد تلك الزيارة تمت صياغة مسودة اتفاق بين المركز ومفوضية الحماية الاجتماعية، وبموجب تلك الاتفاقية فإن المركز كان سيتكفل بتنظيم دورات لصالح المفوضية، وذلك في إطار برنامج مكافحة التسول مقابل إعانات من المفوضية. كما كان من المفترض بالمركز أن يستقبل مفوض الحماية الاجتماعية في إطار تدشينات 28 نوفمبر 2007، وذلك ليشرف بنفسه على حفل تخرج دفعة من  30 رب وربة أسرة تم تكوينها في المركز على صناعة الحلويات، ولكن وفي آخر لحظة، ولسبب ما،  لم يحضر المفوض، ولم يتم التوقيع على الاتفاق المذكور.
وزار المركز أيضا مدير التكوين بوكالة تشغيل الشباب، والذي اندهش أيضا من الدورات التي يقدمها المركز، فقد تصادف حضوره مع حصتين في المركز، إحداهما في صناعة الحلويات، والثانية حصة في اللغة الفرنسية تدخل في أطار دورة نظمها المركز لصالح بعض خريجي الجامعة من أصحاب الشهادات العربية، ولكن اندهاش مدير التكوين في الوكالة لم يترتب عليه عمليا أي شيء.
نظمت أيضا وزارة المرأة زيارة للمركز، وقد أوفدت هذه الوزارة المديرة المساعدة لشؤون الأسرة مصحوبة بخبير اجتماعي. وكانت وزارة المرأة هي الوزارة الوحيدة التي قدمت إعانة مباشرة للمركز تمثلت في عدد من العصارات والخلاطات  تم تسليمها كجوائز للمتفوقات من ربات الأسر في دورة صناعة الحلويات. كما أن هذه الوزارة تكفلت بتوفير خيام لحفل التخرج، وقد التزمت الوزيرة بأنها ستشرف شخصيا على ترؤس الحفل، ولكن في اليوم المقرر للحفل غابت الوزيرة، ولم ترسل من يمثلها.
ومن قبل ذلك، ولظروف طارئة، حسب ما أُبلِغنا في المركز، فقد تغيب المستشار الإعلامي أو المستشار المكلف بالاتصال لوزيرة التعليم عن حفل تخرج 200 طالبة من المركز. وقد استفادت تلك المجموعة الكبيرة من حصص تقوية استمرت لعام دراسي كامل. كما استفاد بعضها من دورات أخرى، منها دورة هي الأولى من نوعها في الإسعافات الأولية، ودورة تدريبية على العمل التطوعي، كانت من أهم الدورات التي قدمها المركز.

لقد أصبح  من شبه المؤكد بالنسبة لي، وبعد مرور عام على افتتاح مركز "الخطوة الأولى" للتنمية الذاتية، بأن المركز سيعيش حدثا جسيما في يوم قادم لا محالة، وذلك بعد أن تراكمت عدة أشهر لم يتم خلالها تسديد الإيجار، وبعد أن توقف أيضا تسديد أقساط قرض الوكالة. ولكن ورغم ذلك، فلم يكن هناك من هو على استعداد لأن يصدق بأن المركز يعيش في تلك الأيام أزمة حقيقية، ولم يكن هناك من يتوقع بأنه مقبل على كارثة كبرى. فالمستفيدون والمستفيدات من خدمات المركز كانوا يعتقدون بأن المركز يتبع للمؤسسة القطرية للتنمية الاجتماعية أو لمؤسسة ختو الخيرية، وذلك مما سمعتُ من بعضهم، ولذلك فلم يكن من المحتمل بالنسبة لهم أن يمر بضائقة مالية. لم يكن هناك من هو على استعداد لأن يصدق بأن المركز ليست لديه من الموارد المالية إلا ما كان يملكه مؤسسه العاطل عن العمل، والذي لم يكن يملك غير ذلك القرض المتواضع الذي تم إنفاقه وبشكل  شبه كامل على أنشطة وخدمات المركز المتنوعة.
لم تتأخر الكارثة كثيرا، والكوراث ليس من عادتها أن تتأخر، ففي يوم من الأيام قرر مالك الدار التي كانت تأوي المركز، بأن يبدل أقفال أبوابها، وأن يحتجز ما فيها من أثاث مكتبي، ولم يكن أمامي إلا أن استسلم للأمر الواقع، فأنا لم أكن أملك أي شيء صالح للبيع لأنقذ به المركز، فأنا لا أملك مترا مربعا واحدا من أراضي الجمهورية الإسلامية الموريتانية الشاسعة، ولا أملك سيارة، ولا أملك حينها حتى حاسوبا شخصيا يمكن بيعه للمساعدة في تسديد ديون المتراكمة على المركز.
لقد واجهتُ صدمة إغلاق المركز بمفردي، وذلك بعد أن كنتُ قد تمكنتُ وبصعوبة كبيرة من أن أوقف كل الأنشطة داخل المركز، حتى لا يعيش المستفيدون من خدمات المركز، صدمة إغلاق المركز كما عشتها أنا.
وقد كان آخر نشاط تم تنظيمه في المركز هو حفل اختتام دورة في التجويد استمرت لما يزيد على العام، وكانت بمعدل حصة لكل أسبوع. وهذه الدورة كنا قد افتتحنا بها المركز تبركا، وشاء الله أن نختتم  بها أنشطة المركز.
وقد طلبت مني الأستاذة الفاضلة التي كانت تشرف على تلك الدورة، وكذلك الطالبات المستفيدات، أن أوجه باسم المركز دعوة إلى فضيلة الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وذلك لكي يلقي عليهن كلمة، ويوجه لهن نصائح بمناسبة اختتام الدورة.
كتبتُ رسالة دعوة باسم المركز، ووضعتها في ظرف، ولكني اكتشفتُ بعد أن وصلتُ إلى منزل الشيخ رفقة صديق أوصلني إلى هناك، بأني لم أصحب معي الظرف الذي توجد به الدعوة.
لم يكن فضيلة الشيخ في منزله حينها، ولم يكن بالإمكان أن أنتظر فرصة أخرى، لذلك فقد أخذتُ ورقة من عند المحل المجاور لسكن الشيخ، وكتبت فيها بخط اليد دعوة، ثم سلمتُ الرسالة لعامل بالمنزل، ليسلمها بدوره للشيخ عند عودته للمنزل.
مرت أيام، دون أن يصلني رد من الشيخ، وبدأ الوقت يضيق كثيرا، ولم أكن لأقبل بأن تعيش المستفيدات من هذه الدورة، مأساة إغلاق المركز، لذلك فقد أجبرتهن على تنظيم حفل التخرج بحضور الأستاذة فقط، وهو ما استغربته بشدة بعض الطالبات.

أغلق المركز، وبدلت أقفاله، وتم احتجاز أثاثه، وخرجت أنا من تلك التجربة وأنا مثقل بديون لا أعرف كيف سأسددها. لقد حدث كل ذلك بعد أسابيع معدودة تمكنتُ فيها، ولأول مرة في حياتي، من أن التقي برئيس للجمهورية، والذي علم من خلال ذلك اللقاء بوجود مركز "الخطوة الأولى" للتنمية الذاتية، ولكنه، وربما يكون ذلك بسبب تقصير مني، لم يأخذ علما بالأزمة الصعبة التي كان يمر بها المركز في ذلك الوقت، والتي ستؤدي فيما بعد إلى إغلاقه.
لم أخطط جيدا لذلك اللقاء الذي جمعني برئيس الجمهورية، ولكن الذي حدث هو أنه كانت قد خطرت ببالي فكرة عابرة، بشكل عابر، في وقت عابر، من ليلة عابرة، تماما كتلك الأفكار الكثيرة التي تومض فجأة، ثم تنطفئ فجأة، ودون أن يكون لها أثر في حياتنا.
 يقول الخبراء ـ والخبراء هنا هم خبراء التنمية البشرية ـ بأن تدوين الأفكار مسألة هامة كادخار النقود في حساب بنكي، فالأفكار الهامة تظهر فجأة في أوقات غريبة جدا، وإن لم يتم تدوينها فإنها تضيع إلي الأبد.
بالنسبة لي لم أدخر ـ عفوا لم أدون ـ تلك الفكرة، بل إني أخذت مباشرة في تنفيذها لذلك أجريت بعض الاتصالات العاجلة، قررت بعدها أن أسافر في فجر اليوم التالي إلي مدينة روصو لمقابلة رئيس الجمهورية، وذلك بعد أن كان قد وعدني أحد الأصدقاء بأن أحد زملائه سيمر بي فجرا لأرافقه في سيارته.
قبل ذلك بأشهر كنت قد طالعت في بريدي الالكتروني رسالة مختصرة جدا كتبها أحد القراء ردا علي فكرة كنت قد نشرتها في بعض المواقع الوطنية. الرسالة تميزت عن غيرها من الرسائل بكلمة " عصف ذهني " التي وردت فيها، وهي كلمة ـ لندرة استعمالها في البلد ـ فاجأتني كثيرا، وأثارت فضولي كثيرا، وهو الشيء الذي جعلني أرد مباشرة على صاحب تلك الرسالة متمنيا لقاءه في أقرب وقت.
كنت أعتقد أن كاتب الرسالة يعيش معي في نفس المدينة، ولكني اكتشفت بعد ذلك من خلال رده أنه يعيش على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وهذه واحدة من سلبيات تطور تكنولوجيا الاتصال، فأنت قد تقرأ الرسالة دون أن تعرف إن كان كاتبها قد أرسلها إليك من الجهاز المجاور لك في المقهى، أو من جهاز آخر يبعد آلاف الكيلومترات. المهم أننا في المقابل استفدنا من واحدة من ايجابيات تكنولوجيا الاتصال، حيث قررنا أن نناقش، وخلال أيام متوالية، بعض الأفكار التنموية عن طريق " أسكايب ". كانت أفكارنا شبه متطابقة كما يقول عادة الدبلوماسيون في ختام  مؤتمراتهم الصحفية المشتركة.
ناقشنا أفكارا عديدة وحاولنا أن نبحث عن سبل لتنفيذها، وكان من بين تلك الأفكار فكرة عرضها محاوري (وهو بالمناسبة أحد أدمغة موريتانيا المهاجرة، وصاحب عدة براءات اختراع). تهدف هذه الفكرة إلي إدخال الطاقة الشمسية إلى المطبخ الموريتاني. وهذه الفكرة بالذات هي التي جعلتني أفكر في تلك الليلة في أن أقابل رئيس الجمهورية.
في صبيحة تلك الليلة، وفي وقت مبكر جدا، أخذت مكاني في سيارة من نوع  (تويوتا  VX) على مقاعدها الوسطى خلف مالك السيارة وسائقها. لم يكن مالك السيارة يرغب في أن يتحدث معي، ولم أكن أنا أيضا شديد التحمس للتحدث معه، فقد كنت بحاجة إلي وقت أخلو فيه مع نفسي لأني مقبل على لقاء غير عادي، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي سأشاهد فيها رئيسا لم يزل يمارس مهامه، عن قرب، أشاهده من خارج شاشة التلفزيون، فلم يحدث من قبل هذا أن كنت من بين "الجماهير الغفيرة" التي تستقبل في العادة الرؤساء، والتي تحظى بمشاهدة الرؤساء عن قرب.
أخذت السيارة تبتلع الطريق بسرعة طائشة لكي تصل إلى مدينة روصو  في وقت مبكر، وكنت أنا أبتلع الزمن عائدا بذاكرتي إلى الوراء. ولقد أعادتني ذاكرتي إلى مدينة روصو، وذلك من قبل أن تعيدني إليها سيارة (تويوتا  VX)، والتي كانت تبتلع الطريق بسرعة طائشة.
صُدِمْتُ من جديد، وأنا أدخل هذه المدينة بعد غياب دام عدة سنوات، صدمتُ بقصص جديدة عن الفساد، ولقد تأكدت من مصادر شديدة الإطلاع بأن الكثير من المواد الزراعية المعروضة في حفل استقبال الرئيس ليست منتجات محلية، وإنما هي منتجات مستوردة تم عرضها على أنها منتجات محلية، كما علمت أيضا بأن السياج المستخدم في بعض أماكن العرض قد تمت سرقته من مخازن المندوبية الجهوية، ليتم بيعه  من بعد ذلك لبعض العارضين.
المهم أني وضعت فرن الطاقة الشمسية في مكان استراتيجي جدا من المساحة المخصصة للعرض، وذلك بناءً على الاستشارة التي قدمها لي صديق يعمل في وزارة التنمية الريفية. وقد أكد لي صديقي هذا بأنه كان قد قام بعملية مسح متأنية لكل نقاط العرض المتاحة، ووجد أن أفضلها هو ذلك المكان الذي كان قد اقترح عليَّ أن أضع فيه الفرن.
ورغم ذلك فقد مر الرئيس بقربنا دون أن يشاهد الفرن مما يعني أن المكان الذي اخترناه لم يكن بالمواصفات التي ذكرها صديقي الموظف بوزارة التنمية الريفية.
تركت المكان واتجهت إلى الرئيس الذي ابتعد عن الفرن بعدة أمتار، وقلت له بصوت عال بأني أريد أن أعرض عليه فكرة هامة. طلب الرئيس مني أن أعرض تلك الفكرة على الوزير المعني، وقد فاته بأني كنتُ قد عرضت تلك الفكرة قبل ذلك اليوم على حفنة من الوزراء دون أن يهتم بها أي واحد منهم.
تظاهرت بعدم سماع رد الرئيس، وواصلت طريقي بين الجموع لكي أصل إليه، تدخل بعض الحراس وتعاملوا معي بشكل خشن وفظ مما تسبب لي في بعض الأضرار الجسدية والمعنوية التي لم أقدم حتى الآن فاتورتها إلى الرئاسة وعموما فتلك ليست هي الفاتورة الوحيدة التي أطالب بها خزينة الدولة.
يقول الخبراء بأن الأفكار الإبداعية أثمن من أن تمر بالقنوات التقليدية، وفي موريتانيا فإن الأفكار الإبداعية أبخس من أن يُسْمَحَ لها بأن تعرض كما تعرض بعض الطماطم المستوردة والمكتوب عليها أنها منتجات محلية !
لم أكن على استعداد لإعلان الفشل مبكرا، وذلك لأني كنت قد عاهدت صديقي الذي جاء بالفرن من أمريكا ومن عند مُصنعه الأمريكي، بأني سأفعل كل ما يمكنني فعله من أجل أن يتم اعتماد الطاقة الشمسية، ولو بشكل محدود جدا في المطبخ الموريتاني، لذلك فقد فكرت في خطة بديلة لعرض الفرن على الرئيس.
واستخدمت لذلك أكثر أنماط التفكير الإبداعي تطرفا، وهو التفكير بالمقلوب: فبدلا من أن أسعى لمقابلة الرئيس، فلماذا لا أجعل الرئيس يسعى هو بنفسه لمقابلتي !؟ لقد كان هناك شريط طويل من السجاد الأحمر يمتد بين مجموعة الخيام المخصصة للعرض ومجموعة أخرى من الخيام تم ضربها لكي يلقى فيها الرئيس خطابه.
اتجهت إلى شريط السجاد الأحمر الطويل، واخترت منه مكانا معينا، لأعرض عليه الفرن ولم أعتمد هذه المرة على خبرات صديقي الموظف بوزارة التنمية الريفية. وضعتُ الفرن في مكان محدد، ثم ابتعدت قليلا وأخذت أنتظر.
لقد تخوفت من أن يثير الشكل الغريب للفرن فضول بعض رجال أمن الرئيس، وأن يتسبب ذلك في إزاحة الفرن من قبل مرور الرئيس، ولكن ذلك الذي لم يحصل.
توقف الرئيس أمام الفرن وطرح على مرافقيه سؤالا من كلمتين: ما هذا ؟
تبادل أفراد الوفد المرافق للرئيس نظرات سريعة، وكان كل واحد منهم يريد من الآخر أن ينقذ الموقف بتقديم إجابة للرئيس.
ومن أجل الإثارة ومن أجل إحراج الوفد المرافق، فإني لم أجب الرئيس إلا بعد أن أعاد سؤاله للمرة الثانية.
تقدمت إلى الرئيس وصافحته ثم أخبرته بأني هو صاحب الفرن ثم قلت له:
ـ سيدي الرئيس إننا لسنا بخير، وأقصى ما يمكننا أن فعله هو أن نقول لك بأننا لسنا بخير.
لم تعجب تلك الجملة التي افتتحت بها حديثي الوفد المرافق للرئيس، ورغم ذلك فقد واصلت حديثي وأخبرت الرئيس بأني أكتب له بانتظام رسائل مفتوحة، عن معاناة الفقراء في بلادنا، وبأني أتمنى أن يكون قد اطلع عليها.
بعد ذلك بدأت أحدث الرئيس عن الفرن، وعن طريقة تشغيله، وعن بساطة التكنولوجيا المستخدمة في تصنيعه، وعن جدوائيته الاقتصادية فتكلفة تصنيعه زهيدة، وعن أهمية أن تتولى الدولة كلفة تصنيع أعداد كبيرة من هذه الأفران، وأن توزعها على الأسر الأكثر ففرا،  وهو ما سيساعد تلك الأسر الفقيرة في الحد من استهلاك الغاز الذي وصلت أسعاره إلى مستويات عالية جدا، كما أنه قد يساعد في التخفيف من الطلب على الفحم الذي يشكل استهلاكه خطرا كبيرا على البيئة.
علق الرئيس ببعض الكلمات المشجعة، ورغم ذلك فقد اكتفى بأن طلب من وزير التنمية الريفية المرافق له بمتابعة الموضوع.
لم يفعل الوزير شيئا بعد انتهاء الزيارة، وبعد عودته إلى مكتبه في العاصمة، سوى أنه أغلق باب مكتبه في وجهي، وظل يغلقه في وجهي،  إلى أن تم إغلاق المكتب في وجه الوزير نفسه ذات صبيحة أربعاء، قرر فيها الجنرال محمد ولد عبد العزيز أن ينقلب على الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، فكان انقلاب السادس من أغسطس من العام 2008.


                 انتهى ـ ولله الحمد ـ  الجزء الأول من رواية "يوميات شخص عادي جدا".

هناك 11 تعليقًا:




  1. مرحبا بكم في القرض العماني المستثمر ، ونحن نقدر التعليقات الجيدة التي كانت تعمم حول الإنترنت عن عملنا جيده ، وشكرا لجميع اننا قد اتخذت قرض من شركتنا. الآن دعوانا نحصل علي ما نفعله بشكل أفضل مره أخرى هل تحتاج إلى قرض عاجل ؟ القرض ربما توسيع أو بدء الاعمال التجارية الخاصة بك ؟ أو كنت في حاجه إلى قرض للتعليم أو لدفع الديون الخاصة بك ، مع انخفاض معدل الفائدة تصل إلى 2 ٪ من شانها ان تناسب اي عميل سوف تستمتع خدماتنا. لذا اتصل بنا الآن عبر البريد الكتروني: oman_insurance_investors @ Outlook.

    ردحذف



  2. مرحبا بكم في القرض العماني المستثمر ، ونحن نقدر التعليقات الجيدة التي كانت تعمم حول الإنترنت عن عملنا جيده ، وشكرا لجميع اننا قد اتخذت قرض من شركتنا. الآن دعوانا نحصل علي ما نفعله بشكل أفضل مره أخرى هل تحتاج إلى قرض عاجل ؟ القرض ربما توسيع أو بدء الاعمال التجارية الخاصة بك ؟ أو كنت في حاجه إلى قرض للتعليم أو لدفع الديون الخاصة بك ، مع انخفاض معدل الفائدة تصل إلى 2 ٪ من شانها ان تناسب اي عميل سوف تستمتع خدماتنا. لذا اتصل بنا الآن عبر البريد الكتروني: oman_insurance_investors @ Outlook.

    ردحذف



  3. 2 ٪ الائتمان مقبولة الآن *

    هناك حاليًا العديد من الأسباب التي تجعلك تحصل على الائتمان: توحيد الديون بمعدل أفضل ، تحسين المنزل الذي حلمت به ، تمويل السيارة ، بدء نشاط تجاري ، قيادة عطلة كبيرة ، التخطيط للمشاركة في حفلات الزفاف ، بعض النفقات الطبية غير المتوقعة أو ربما بعض سبب آخر معا. بغض النظر عن الأسباب الخاصة بك ، فمن المرجح أن تكون طريقة بسيطة ومعقولة للحصول على قرض بالإضافة إلى المال لحسابك المصرفي.

    البريد الإلكتروني اليوم: oman_insurance_investors@outlook.comتحياتي للجميع

    ردحذف
  4. اهلا جميعا،

    أنا مقرض خاص ، أنا أعرض قرضاً بنسبة 2٪ هذه شركة شرعية بشرف وإختلاف نحن مستعدون لمساعدتك في أي مشكلة مالية بأنك نقدم كل أنواع القروض إذا كنت مهتماً بهذا العرض الخاص بالقرض يرجى الاتصال بنا على البريد الإلكتروني لدينا: (anggadiman1@gmail.com)

    كما تقدم تفاصيل المتابعة حتى نتمكن من المضي قدما في القرض على الفور.

    اسم:
    المبلغ المطلوب:
    المدة: ل
    بلد:
    الغرض من القرض:
    الدخل الشهري:
    رقم الهاتف:

    اتصل بنا مع التفاصيل أعلاه على البريد الإلكتروني لدينا: anggadiman1@gmail.com

    التحيات لكم جميعا.

    ردحذف
  5. هل أنت ماليا أسفل؟ هل تبحث عن قرض؟
    نحن نقدم القروض الشخصية ، وقروض الأعمال ، وقروض الطلاب ، وقروض السيارات والقروض
    سداد الفواتير من 7000 دولار إلى 10،000،000.00 دولار ، دولار / يورو ، 3٪
    سعر الفائدة.القروض يجب أن تكون لأغراض مشروعة وقانونية. اذا احتجت
    المساعدة المالية / القروض اتصل بنا مباشرة الآن على:
    Mrfrankpoterloanoffer@Gmail.com
    مع تحياتي،
    السيد باتر ل رولاند.
    Contact Emails: Mrfrankpoterloanoffer@Gmail.com
    ************* ************************************* *****************
    ملاحظة: آسف إذا رأيت هذه الرسالة كرسالة تحذير في مجلد الرسائل الاقتحامية (SPAM FOLDER) الخاص بك
    ITS بسبب مقدم خدمة الإنترنت الخاص بك.

    ردحذف
  6. نحن نقدم قرضًا من 100000.00 يورو إلى 200000 يورو ، وبسعر فائدة معقول وبدون فحص ائتماني ، نحن نقدم قروضًا شخصية أو قروض توحيد الديون أو رأس المال الاستثماري أو قروض الأعمال أو قروض التعليم أو قروض الإسكان أو "القروض لأي سبب!" ؟ لدينا سعر فائدة ثابت 3 ٪!
    البريد الإلكتروني: Guaranteeloanoffer@outlook.com أو الاتصال على WhatsApp @ +38972751056

    ردحذف
  7. أنا سعيد للغاية لأنني حصلت على قرضي من السيدة سارة أبو بكر الآن حياتي عادت إلى طبيعتها ، وعملي يسير بسلاسة بفضل السيدة سارة أبو بكر ، يمكنك الاتصال به أيضًا إذا كنت بحاجة إلى قرض اليوم؟ البريد الإلكتروني له عبر: (Mrfrankpoterloanoffer@gmail.com)

    ردحذف
  8. مرحبًا ، أنا عبد المحمد بالاسم وأريد أن أشهد لمقرض جيد أقرضني قرضًا بقيمة 490.000.00 دولار أمريكي ، بعد تعرضي للغش من قبل العديد من ممولي الإنترنت الدوليين ، يعد الجميع بإعطائي قرضًا بعد أن أجبرت على دفع الكثير من التكاليف التي لا قيمة لها أو قرض لا توجد نتيجة إيجابية. حتى التقيت بشاهد تم خداعه أيضًا واتصل في النهاية بشركة قرض مشروعة تسمى مؤسسات القروض الائتمانية ، حيث حصل في النهاية على قرضه ، لذلك قررت الاتصال بشركة القرض وكل ما أكدوا لي أنني لن أبكي أكثر لأن سوف أحصل على قرض من شركتهم وسأتبعهم عندما أبلغوا عن دهشتي. أعطوني قرضًا بقيمة 490.000.00 دولارًا لمزيد من المعلومات حول خدماتهم البريد الإلكتروني: البريد الإلكتروني: loancreditinstitutions00@gmail.com
    WhatsApp: +393510483991

    ردحذف
  9. مرحبًا ، أنا عبد المحمد بالاسم وأريد أن أشهد لمقرض جيد أقرضني قرضًا بقيمة 490.000.00 دولار أمريكي ، بعد تعرضي للغش من قبل العديد من ممولي الإنترنت الدوليين ، يعد الجميع بإعطائي قرضًا بعد أن أجبرت على دفع الكثير من التكاليف التي لا قيمة لها أو قرض لا توجد نتيجة إيجابية. حتى التقيت بشاهد تم خداعه أيضًا واتصل في النهاية بشركة قرض مشروعة تسمى مؤسسات القروض الائتمانية ، حيث حصل في النهاية على قرضه ، لذلك قررت الاتصال بشركة القرض وكل ما أكدوا لي أنني لن أبكي أكثر لأن سوف أحصل على قرض من شركتهم وسأتبعهم عندما أبلغوا عن دهشتي. أعطوني قرضًا بقيمة 490.000.00 دولارًا لمزيد من المعلومات حول خدماتهم البريد الإلكتروني: البريد الإلكتروني: loancreditinstitutions00@gmail.com
    WhatsApp: +393510483991

    ردحذف
  10. شهادة على كيفية حصولي على مبلغ القرض من شركة قروض موثوقة وموثوق بها في الأسبوع الماضي. بريد إلكتروني للاستجابة الفورية loancreditinstitutions00@gmail.com / WhatsApp: +393510483991

    مرحبًا بالجميع ، اسمي السيدة كارولين جلوسكي ، أنا من أوروبا ، أنا هنا لأشهد كيف حصلت على قرضي من مؤسسات الائتمان بعد أن تقدمت بطلب مرتين من مختلف مقرضي القروض الذين ادعوا أنهم مقرضون هنا هذا المنتدى ، اعتقدت أن إقراضهم حقيقي وقد تقدمت بطلب لكنهم لم يمنحوني قرضًا أبدًا حتى قدمني صديق لي للدكتور بنجامين سكارليت أوين ، الرئيس التنفيذي لمؤسسات الائتمان التي وعدت بمساعدتي في الحصول على قرض من رغبتي وقد فعل ذلك حقًا لقد وعد دون أي شكل من أشكال التأخير ، لم أفكر أبدًا أنه لا يزال هناك مقرضون موثوق بهم حتى التقيت {د. بنيامين سكارليت أوين} الذي ساعدني حقًا في الحصول على قرض بقيمة 50000 يورو وغير حياتي للأفضل. لا أعرف ما إذا كنت بحاجة إلى قرض عاجل أيضًا ، فلا تتردد في الاتصال بالدكتور بنجامين سكارليت أوين على عنوان بريده الإلكتروني: loancreditinstitutions00@gmail.com / WhatsApp: +393510483991

    ردحذف