مر الثامن من
سبتمبر من هذا العام دون أن يجد من يذكره، وفي ذلك الكثير من العبر التي تستحق أن
نتوقف عندها.
لقد تغير الزمن
كثيرا، ولكنه مع ذلك لم يتغير..
فالذي حدث هو
أنا أبدلنا الحرب ضد الأمية بحروب أخرى ..
وأبدلنا حملات
محاربة الأمية بحملات غرس الأشجار..
لقد تبدلت
الأيام في ظاهرها، وتبدل القادة في ظاهرهم، وتبدل الأعداء والخصوم، وتغيرت الحروب
في ظاهرها، فانتقلنا من حرب مقدسة ضد الأمية، إلى حروب مقدسة أخرى ضد الفساد، وضد البرك
والمستنقعات، وضد التصحر، وقريبا سنعلنها حربا مقدسة جديدة، في مطلع العام القادم،
ولكنها هذه المرة ستكون حربا ضد البلاستيك (زازو).
تغيرت الأيام،
وتغير القادة، وتغير الأعداء، وتغيرت الحروب، وتبدلت الحملات، ومع ذلك فلم يتغير
أي شيء، فلا زالت حروبنا حروبا صوتية، ولا زالت حملاتنا حملات مسرحية.
لقد مر الثامن
من سبتمبر، وهو الذي يمثل اليوم العالمي لمكافحة الأمية، دون أن يجد من يذكره لأن
الناس انشغلت عنه بحملات غرس الشجر، وبالحرب ضد التصحر.
مر الثامن من
سبتمبر في موريتانيا دون أن يذكره ذاكر، مر كما تمر الأيام العادية، فهل تبدلت
الأرض غير الأرض؟ أم هل تبدل الناس؟
كانت الأبدان
تقشعر من هول هذا اليوم..
وكانت المبادرات
تتفجر في مثل هذا اليوم..
وكان رجال الحي
يحملون دفاترهم في هذا اليوم ..
وكان الوجهاء
ينفقون بكرم في مثل هذا اليوم..
وكان التلفزيون
يوظف كل معداته وكل طاقته في مثل هذا اليوم من كل عام، حتى يصور كل فصول محو
الأمية التي كانت تتناثر هنا وهناك، وكانت الإذاعة تسابق التلفزيون، وكانت جريدة
الشعب تسابقهما معا.
فأين أنت يا
مدير التلفزيون ؟ فهل ابتلعتك رمال العاصمة كما ابتلعت الكثير من أموالنا؟ ألا
تتذكر يوم كنت وزيرا لمحو الأمية في عهد
فارسها؟
كم هي غريبة
أحوال الدنيا.
وأين أنت يا
مدير الإذاعة؟ ولِمَ لا تذكر اليوم العالمي لمكافحة الأمية بعدما تجاهله
التلفزيون؟ ألم تكن أنت الذي يملأ صفحات الشعب وملحقاته بتقارير وملفات عن "الجهود
الجبارة" التي كان يقام بها في مثل هذا اليوم لمحاربة الأمية يوم كنت حينها مديرا
للوكالة الموريتانية ؟
وأين أنتِ يا وزارة
التوجيه الإسلامي، ألا يقودك اليوم عالم كانت له جهوده المشهودة في مثل هذا اليوم، حيث كن
يحث الجميع ـ من خلال الإذاعة والتلفزيون ـ على التعلم وعلى أهميته وعلى خطورة
الأمية؟
فلماذا لم يقم
بأي نشاط مهما كانت بساطته لتخليد هذا اليوم؟ فهل قضينا حقا على الأمية كما قضت
عليها دولة قطر مثلا، والتي لم تعد نسبة
الأميين فيها تتجاوز 3.6 % ؟
وهل خلت حقا بلادنا من الأميين حتى أصبحنا غير معنيين ـ
إطلاقا ـ بتخليد اليوم العالمي لمكافحة الأمية؟
هكذا أهلكنا البلاد
والعباد، فمن حملات مسرحية يبالغ فيها كثيرا إلى تجاهل كامل. فبالأمس كانت محاربة
الأمية هي شغلنا الشاغل (نظريا)، ولكن لما سقط النظام الذي كان يحارب الأمية (نظريا)
تجاهلت كل الأنظمة التي جاءت من بعده هذا الداء الخطير، وكأنه لم يعد من أهم
العوائق التي تعيق التنمية في هذا البلد.
حتى المعارضة
أصيبت بما أصيبت به الأنظمة، ولم تتحدث عن الأمية كعائق من عوائق التنمية، ولم
تطالب بالاهتمام بمحاربتها، بل إنها تجاهلتها كما تجاهلتها كل الأنظمة التي جاءت
بعد "ولد الطايع".
ولا أذكر أني
سمعت ـ ولو لمرة واحدة ـ أي معارض في هذا البلد يتحدث عن الأمية، ويطالب الحكومة بضرورة
محاربتها.
فيبدو أن الجميع
قد أصابته حملات محو الأمية بعقدة لا علاج منها.
فالمعارضة لدينا
ـ وهذه واحدة من أعظم مصائبنا ـ لا تمتلك خطابا مستقلا، بل إن خطابها السياسي هو
خطاب تابع للسلطة القائمة، فإن امتدحت السلطة شيئا ذمته المعارضة بشكل تلقائي، وإن
ذمت السلطة شيئا مدحته المعارضة، وإن تجاهلت السلطة شيئا ونسته فلم تمدحه ولم تذمه،
تجاهلته أيضا المعارضة ونسته.
فيا أيها
النظام، ويا أيتها المعارضة إن هذا البلد يعاني نصفه من داء يسمونه بالأمية، ولا
يصح أن نتجاهل داء يعاني منه نصف المجتمع بكامله، بسبب عقدة من حملات "ولد
الطايع"، فهل تتخيلون أن مجتمعا أعرج بإمكانه أن ينهض؟
قد يقول قائل
هنا، ونحن في مجتمع تعود أهله على أن يوزعوا التهم حسب مزاجهم، وتبعا لآخر انطباع
يتولد لديهم، بأني أحن إلى الحملات المسرحية لمحاربة الأمية، وأني أدافع عنها من
خلال هذا المقال.
ولأولئك أقول
بأني كنت من الذين انتقدوا تلك الحملات
المسرحية في الوقت الذي كان يجب أن تنتقد فيه، ولقد أعددت حينها دراسة من مائة
صفحة خصصتها لانتقاد تلك الحملات، وأرسلت منها نسخا للرئيس السابق معاوية، عن طريق
البريد المضمون، وعن طريق مكتب الاستقبال التابع لرئاسة الجمهورية.
ولأني كنت قد
فعلت ذلك في وقته، فإني لا أجد حرجا اليوم، في أن أقول وبأعلى صوتي كفى تجاهلا
للأمية، وكفى تجاهلا لليوم العالمي لمكافحة الأمية.
ولعل المصيبة
التي يجب أن نلفت لها الانتباه، هي أننا نعيد نفس الحملات المسرحية التي كان يقوم
بها ولد الطايع، حتى وإن اختلفت عناوين المسرحيات.
لقد أبدلنا
مسرحية محاربة الأمية بمسرحية غرس الأشجار، وانشغلنا عن الثامن من سبتمبر بالسابع
منه، والذي ترأس فيه الوزير الأول الحملة الثالثة لغرس الأشجار، بعد أن تغيب عنها رئيس
الجمهورية ولأول مرة منذ أن أطلقها منذ سنتين، ويعني ذلك ـ في لغة الحروب عندنا ـ
بأننا سنوقع قريبا معاهدة صلح مع التصحر، وذلك لكي نتفرغ لحربنا الجديدة، والتي قد
تكون حربا على البرك والمستنقعات، وقد تكون حربا على البلاستيك، حسب المزاج النهائي للرئيس. المهم أن الجميع سينسى
قريبا الحرب على التصحر، وسيتوقف الإعلام الرسمي عن التغني بأيامها المشهودة.
ولمعرفة مصير الحرب
على التصحر فيكفي أن نعرف بأن هذا "المشروع الطموح" الذي يسعى النظام
لإنجازه، أي غرس مليون شجرة خلال خمس سنوات، والذي قد تم التطبيل له كثيرا في
وسائل الإعلام الرسمية، قد تزامن إطلاقه مع اكتمال مشروع مشابه له في لبنان. ولقد تميز المشروع
اللبناني بأن الذي قام بتنفيذه ليس الحكومة اللبنانية، وإنما هي منظمة واحدة تابعة
لحزب الله تدعى منظمة "جهاد البناء".
فهذه المنظمة تمكنت لوحدها من غرس مليون شجرة في
لبنان ليس خلال خمس سنوات، وإنما خلال عام واحد، وهذه المنظمة لم تحتفل بالمشروع
يوم انطلاقه، ولم تطبل له كما طبلنا نحن، بل إن المشروع لم يتم الحديث عنه
إعلاميا، إلا عند غرس آخر شجرة، وهي الشجرة المليون، والتي غرسها "حسن نصر
الله" أمام بيته في "حارة حريك" في ظهور نادر له، وكان ذلك يوم
الجمعة 9 أكتوبر 2010 ، أي بعد أقل من شهرين من غرس شجرة الرئيس محمد ولد عبد العزيز، والتي كانت بداية لانطلاقة
مشروع المليون شجرة، والذي لن يكتمل في خمس سنوات.
ويكفي لكي نعرف
مصير الحرب على التصحر، أن نعود إلى حديث الرئيس نفسه بمناسبة إطلاقه في العام
الماضي للمرحلة الثانية من غرس مليون شجرة
خلال خمس سنوات.
لقد قال الرئيس
حينها بأن الأموال المخصصة لهذا المشروع تم نهبها من طرف وزارة البيئة، كما انتقد
أيضا الإعلام الرسمي الذي حضر يوم إطلاق المشروع، ثم غاب من بعد ذلك، وبشكل كامل،
وترك المفسدون يعبثون بالمشروع دون أن يكشف عنهم.
تلك الأخطاء الفظيعة
التي تم ارتكابها بعد غرس الشجرة الأولى المعلنة لبدء الحرب الصوتية ضد التصحر لم يتم تصحيحها حتى الآن، ومن ارتكبوا
تلك الأخطاء لم تتم معاقبتهم، بل لم تتم إزاحتهم من وظائفهم، فوزير البيئة الذي
نهب تلك الأموال ـ حسب رئيس الجمهورية ـ لا يزال هو وزير البيئة.
فعن أي حملة
لمحاربة التصحر تتحدثون؟
وعن أي مليون
شجرة تتحدثون؟
عودوا إلى رشدكم
يرحمكم الله.
وتوقفوا عن هذه
الحملات المسرحية.
وواجهوا مشاكل
البلد بشيء قليل من الجدية يرحمكم الله.
فلا نحن نريد
حملة مسرحية لمحاربة الأمية، أو لمحاربة البرك و المستنقعات، أو لمحاربة التصحر،
أو لمحاربة الفساد..
ولا نحن نريد
أيضا تجاهلا للأمية، ولا لبقية التحديات
التي تواجهنا، والتي من بينها قطعا المياه الراكدة في العاصمة، ومن بينها التصحر،
ومن بينها كذلك الفساد.
نحن لا نريد
حروبا مسرحية، ولكننا لا نريد أيضا تجاهلا مسرحيا لهمومنا.
نحن نريد فقط
قليلا من الجدية.
فهل تبخلون
علينا بقليل من الجدية.
تصبحون وأنتم
أكثر جدية..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق