سيدي الرئيس،
يؤلمني حقا ـ ولأسباب عدة ـ أن أحدثكم في هذه الرسالة المفتوحة، بلغة صريحة جدا، لم أحدثكم بها من قبل في كل رسائلي الثمانية عشر الماضية، ولا حتى في تلك التي كتبتها لكم من قبل التنصيب. ولقد أجلت كثيرا كتابة هذه الرسالة، في انتظار بادرة ما، أو قرار ما، أو موقف ما، أو رسالة ما، توحي بأنكم ستمنحون للظرفية الصعبة التي تمر بها البلاد ما تستحق من اهتمام، ومن قرارات وإجراءات ثورية، وهو ما كان سيشوش ـ وبكل تأكيد ـ على الخلاصات المفزعة التي توصلت إليها، والتي يمكن لكل متأمل لنهجكم الإصلاحي أن يتوصل إليها، ودون عناء ذهني يذكر.
إن هذه الصراحة التي سأحدثكم بها في هذه الرسالة، يفرضها أكثر من سبب. تفرضها أولا هذه الثورات التي تحدث قريبا منا، و التي قد تطالنا نحن أيضا، عكسا لما يقوله أنصاركم السلبيون. فنحن رغم أن نصيب كل واحد منا من الثروات الطبيعية يفوق نصيب الفرد في الدول الشقيقة التي ثارت شعوبها، إلا أن دخل الفرد فينا لا زال أقل بكثير من نظيره في تلك الدول. ومدارسنا التي نتعلم فيها لازالت أتعس من مدارسهم، ومؤسساتنا الصحية أسوأ بكثير من مؤسساتهم الصحية. ونحن لا زلنا نعاني من نسبة بطالة أعلى من نسب البطالة التي يعانون منها، كما أننا نفتح أعيننا في كل صباح على مساكن وشوارع لا يمكن ـ بأي حال من الأحوال ـ مقارنتها بمساكنهم وشوارعهم.
صحيح أننا نتميز عن كل تلك البلدان بأننا نملك حرية تعبير أكبر، ولكن ما فائدة حرية التعبير إذا كانت لا تساهم في إصلاح الأوضاع؟ وما فائدة التعبير، بل وما فائدة الصراخ إذا كان القائمون على أمرنا يرفضون سماع صراخنا؟ وما فائدة حرية التعبير إذا كانت انتقادات رئيس الجمهورية لا تترك أثرا إيجابيا؟ لقد انتقدتم الإعلام الرسمي فازداد سوءا، وانتقدتم التعليم فتراجع التعليم أكثر، وانتقدتم الصحة، وانتقدتم القضاء، وانتقدتم قطاعات أخرى كثيرة فانهارت أكثر.
وهذه الصراحة تفرضها ثانيا تحديات أخرى، لم تتسببوا ـ قطعا ـ فيها، إلا أنكم مع ذلك مطالبون بإيجاد حلول لها، لأنها حدثت في عهدكم. فالعودة الإجبارية للآلاف من المواطنين من ساحل العاج، ومن ليبيا، في ظل أزمة اقتصادية عالمية خانقة، لا بد أن تكون له انعكاسات سلبية على الاقتصاد الوطني.
وأخيرا فهذه الصراحة تفرضها مناصرتي الإيجابية لكم بعد أن أصبحتم رئيسا للبلد، وحرصي الشديد على نجاحكم في مأموريتكم، وهذه المناصرة أستطيع أن أقسم لكم، بأنها أصدق بكثير من المناصرة السلبية لكثير من أغلبيتكم، حتى وإن ظهرت في شكل يختلف عن كل أشكال المناصرة التقليدية التي تعودتم عليها، والتي ترتكز ـ في الأساس ـ على التصفيق الساذج بالأيادي والأرجل.
بدءا أقول لكم، وبالعربي الصريح، بأنه لو استمر الإصلاح على هذا النهج، وبهذه الوتيرة، ولو استمرت الحرب على الفساد بخططها الحالية، فإنه لن يكون من المستبعد أن يخرج الشعب عن بكرة أبيه، وعمه، وجده ليطالبكم بأن توقفوا سياستكم الإصلاحية، وبأن تعلنوا نهاية فورية للحرب على الفساد، أو على الأقل هدنة طويلة الأمد مع المفسدين.
ولو استمرت الأمور تدار بهذا النهج "الإصلاحي"، فلن يكون غريبا أن يحن الناس للعهود البائدة، ولن يكون غريبا أن تتعالى أصواتهم بالهتاف :"وامفسداه"، واطائعاه"، "وامؤتمناه".
إن أحاديثكم المتكررة، والتي ما فتئتم تؤكدون من خلالها بأنكم ماضون في برنامجكم الإصلاحي، أصبحت تشكل بالنسبة لغالبية الشعب كابوسا مزعجا. والشعب الذي زادت أوضاعه سوءا بعد عشرين شهرا تقريبا من جهودكم الحثيثة في الإصلاح، أصبح يتطلع إلى شيء آخر غير سياسة الإصلاح التي تنتهجونها. فالإصلاح الذي لا يخلق وظائف، ولا يمنح رواتب منتظمة، حتى ولو كانت هزيلة، ولا يحارب الفقر، بشكل جاد، ولا يحسن من الخدمات الصحية، ولا يصلح تعليما، ولا يأتي بعدالة اجتماعية، ولا يعيد الهيبة للقضاء، ولا يعزز مواطنة، ولا يفتح حوارا بين الشركاء الاجتماعيين والسياسيين، فهو إصلاح لن تصفق له إلا الفئة التي دأبت على التصفيق، والتي لا زالت أياديها رطبة من التصفيق لأفران المصلحة، ولحملات مكافحة السمنة، ولبرنامج التدخل الخاص.
لا إصلاح يمكن توقعه من خلال ترقيع حكومة فاشلة، كثر ترقيعها، واعترفتم أنتم بفشلها، حتى وإن كان اعترافا بالتقسيط، على طريقة البيع في دكاكين التضامن. فالحكومة فاشلة بالجملة، ويكفي لإثبات فشلها بالجملة، أن نجمع "أقساط اعترافاتكم". لقد اعترفتم منذ أسبوعين، بأن الإعلام العمومي لم يتحسن في عهدكم، واعترفتم في وقت سابق، بأن الصحة في عهدكم ليست على ما يرام، واعترفتم منذ شهر تقريبا، بأن القضاء في حالة يرثى لها، وأخير اعترفتم منذ ثلاثة أيام بأن التعليم فاشل.
أليست هذه هي القطاعات الأساسية التي وعدتم بإصلاحها؟ ألا يكفي أن تعترفوا أنتم أنفسكم بالفشل لنحكم نحن على نهجكم الإصلاحي برمته بالفشل ؟ ثم هل تعتقدون حقا بأن المواطن سينسى همومه اليومية الكثيرة بمجرد أن تعدوه بأنكم ماضون قدما في نهجكم الإصلاحي الذي اعترفتم أنتم بفشله؟
إن ظهور احتجاجات عنيفة، في قرى تصنف عادة على أنها محصنة ضد الاحتجاج: "فصالة" و "الغايرة" مثلا، وربما تتبعهما "انبيكت لحواش"، مع تصاعد واتساع غير مسبوق في الاحتجاجات الفئوية، لهو أقوى دليل على أن نهجكم الإصلاحي يعاني من اختلالات بنيوية، وعلى أنه يحمل في طياته بذور فشله.
وإن من أهم أسباب فشل برنامجكم الإصلاحي:
1 ـ الارتجالية في اتخاذ القرارات: لم يعد مقبولا الاستمرار في ارتجال قرارات تؤثر سلبا أو إيجابا على مصير بلد بكامله، في زمن أصبح فيه التخطيط يفرض نفسه، في كل كبيرة وصغيرة، ولم يعد الارتجال ممكنا حتى لو تعلق الأمر بقرارات داخل الأسرة، أو قرارات في النوادي، أو في المنظمات، أو في المشاريع الصغيرة الخاصة.
ولأنكم كنتم عازمين على الاستمرار في الارتجال، ولأنكم لا تعطون اهتماما كبيرا للاستشارات، فقد انعكس ذلك كله على تعييناتكم. فلم تتعبوا أنفسكم بالبحث عن الكفاءات، فاخترتم طاقما استشاريا ليست له القدرة ولا الرغبة في تقديم الاستشارة الصائبة. واخترتم حكومة غير قادرة على إعداد التصورات، و تمتاز ـ ويبدو أن هذا هو المهم لديكم ـ بأن لديها قابلية عجيبة لتنفيذ القرارات المرتجلة، دون تفكير، ودون تردد.
إن شعوركم بعدم الحاجة للاستشارة، وعجز كل من حولكم عن تقديمها، إما لأنه لا يستطيع، أو لأنه لا يرغب، أو لأنه لا يملك الشجاعة الكافية، لهما أخطر عائقين أمام نجاح برنامجكم الإصلاحي.
ولقد انعكس ارتجال القرارات على كل قطاعات الدولة الأساسية، وأدى إلى إرباكها وشللها وعجزها عن أداء مهامها الاعتيادية.
ويمكن تقديم التعليم كمثال من أمثلة عديدة على خطورة الارتجال. ففي وقت كان فيه الجميع ينتظر انطلاق منديات التعليم الموعودة، للتشاور حول سبل إصلاحه، فاجأتم الجميع بقراركم المرتجل الذي فككتم من خلاله الوزارة إلى ثلاث وزارات.
ولقد ظهر فيما بعد بأن الهيكلة الجديدة للوزارة غير قابلة للاستمرار. ولعل من المفارقات اللافتة أنكم دعوتم في زياراتكم الأخيرة إلى ضرورة توجه الشباب للتكوين المهني، في الوقت الذي كنتم تعلمون فيه، أن وزارة التكوين المهني في شلل كامل منذ الهيكلة الجديدة. فالوزير المنتدب للتكوين المهني، وكل أعوانه، لا يستطيعون أن يتخذوا اليوم أي قرار في وزارتهم ، وهم لا زالوا ـ وحتى كتابة هذه الرسالة ـ ينتظرون رسالة تكليف من الوزير الأول، ومن وزير الدولة للتعليم تحدد لهم مهامهم وصلاحياتهم.
وإن ميلكم للارتجال، هو وحده الذي فسرت به الوضعية المزرية التي يتخبط فيها المكتب الوطني للإحصاء، والذي يعاني عماله من وضعية في غاية السوء، لم يعرفوها من قبل. فأنتم وحكومتكم في غنى عن خدمات المكتب الوطني للإحصاء، ولستم بحاجة لأرقامه وتوقعاته ودراساته، فقراراتكم مرتجلة، والقرارات المرتجلة لا تحتاج ـ قطعا ـ إلى إحصائيات وأرقام.
2 ـ من أسباب فشل برنامجكم الإصلاحي، غياب الرؤية الواضحة، والتي لا يمكن لأي برنامج إصلاحي أن ينجح دونها. ولقد تحدثت رياضيا، وفي وقت سابق، عن معادلة التغيير، وعن أهمية وضوح الرؤية في تلك المعادلة.
لن أعود في هذه الرسالة لذلك، وإنما سأكتفي بالقول بأن التأمل في برنامجكم الإصلاحي، وخاصة في مجال وضوح الرؤية، يؤكد بأنه يعاني من إشكال خطير ينتج عنه ـ وبشكل تلقائي ـ إشكالا آخر، لا يقل خطورة. فعدم وضوح الرؤية الإصلاحية لديكم أدى إلى بروز تنافر قوي في مجموع خطاباتكم، وقراراتكم، ومواقفكم، ورسائلكم. والتنافر هذا تسبب بدوره، في فشلكم في تسويق رؤيتكم للإصلاح، لأنها لم تكن واضحة أصلا لديكم.
ولتوضيح ذلك أكثر يمكن تقديم النماذج التالية، من عدم وضوح الرؤية، في برنامجكم الإصلاحي:
النموذج الأول: في فاتح مارس من العام الماضي ترأس الوزير الأول يوما احتفاليا باللغة العربية، وتحدث يومها بحماس كبير. وفي فاتح مارس من هذا العام، ترأس الاحتفال مستشار وزيرة الثقافة ، وأظهرته الوكالة الموريتانية للأنباء في صورة على طاولة جرداء، وخالية من أي مكرفون، ومن أي قنينة ماء.
المقارنة بين اليومين، تؤكد بأن موقفكم من مسألة اللغة العربية لم تحسموه بعد.
النموذج الثاني : في أحد التعديلات الوزارية ظهرت كتابة للشؤون الإفريقية فجأة، وفي تعديل آخر اختفت فجأة. هذا يعني بأنكم لم تحددوا حتى الآن مستوى علاقاتكم بالدول الإفريقية، ولا زالت الرؤية غير واضحة في هذا المجال.
النموذج الثالث: نظمتكم ـ لأول مرة في تاريخ البلد ـ لقاءً مع الشعب بمناسبة ذكرى التنصيب، بل إن بعض المواقع الإخبارية تحدثت عن خروجكم بلا بروتوكول للحديث مع بعض المحتجين أمام القصر. في المقابل فإنكم لم تنجحوا حتى الآن، في فتح حوار مع المعارضة. فأنتم في بعض الأحيان تظهرون انفتاحا غير مسبوق، وفي أحيان أخرى تظهرون انغلاقا غير مسبوق. هذا يعني أن الرؤية لم تتضح لديكم بعد، فيما يخص نمط وطبيعة وشكل التواصل، بينكم وبين المواطنين والشركاء السياسيين.
3 ـ من أسباب فشل برنامجكم الإصلاحي، أنكم تجاهلتم أن الحرب على الفساد، لابد لها من جناحين تحلق بهما. الجناح الأول هو مبدأ المكافأة، وإعطاء الأولوية في التعيينات للموظفين النزهاء الأكفاء. هذا الجناح ظل غائبا ـ وبشكل كامل ـ في حربكم على الفساد. أما الجناح الثاني، وهو الجناح المتعلق بالعقوبة، فقد انحرف ـ في بعض الأحيان ـ عن المسار الصحيح.
وكمثال على ذلك، فقد ذكرت بعض المواقع الإخبارية، بأنكم أمرتم الخزينة ـ لأسباب سياسية بحتة ـ بأن تعيد إلى رئيس حزب الوئام المبالغ الكبيرة، التي أُجبر على دفعها، في وقت سابق، بدعوى الاختلاس.
لا يجوز لكم أن تعيدوا أموال الشعب لمن اختلسها، إذا كان فعلا قد اختلسها. أما إذا كان بريئا، فعلى القضاء أن يعلن ذلك، وعلى السلطات أن تعتذر له علنا عن الضرر الذي ألحقته به، لكونها قد اتهمته سابقا وعلنا، بالاختلاس وبسرقة المال العام.
وهناك صور وقرارات عديدة أخرى، لا تنسجم إطلاقا مع الحرب المعلنة على الفساد. فإلغاء حظر استيراد بعض أنواع السيارات مثلا، بعد المصادقة عليه في البرلمان، دون العودة إلى البرلمان، شكل صدمة كبيرة في هذا المجال.
كما أن تعيين عدد كبير من المفسدين، شكل انتكاسة كبيرة لهذه الحرب المعلنة. وهناك حجة ذكرتموها أكثر من مرة، مفادها أن المفسدين الذين عينتموهم، لن يكون بإمكانهم أن يختلسوا المال العام في عهدكم.
وفضلا عن صعوبة تصديق ذلك، فإن المشكلة لا تكمن فقط في اختلاسهم للمال العام، وإنما تكمن في خيبة الأمل، التي يتسبب فيها تعيين كل مفسد، للكثير من الموظفين المستقيمين، والذين قد يفتر حماس بعضهم، وينحرف عندما يتم حرمانه من التعيين، في الوقت الذي يتابع فيه تعيين المفسدين فرادى وجماعات.
سيدي الرئيس،
إن الإصلاح الذي نطمح إليه، هو ذلك الإصلاح الذي يكون نتاجا لخطط مدروسة من قبل الخبراء، أيا كان انتماءهم السياسي، تصاغ في شكل مشاريع قوانين يصادق عليها البرلمان، وتطبقها الحكومة. وهو أيضا يجب أن يكون نتاجا لتراكم قرارات، ومواقف متناسقة، ذات طبيعة إصلاحية واضحة، يتضح دون عناء لمن يتأملها أنها إصلاحات فعلية لا شكلية. أما رفع شعار الإصلاح، في الوقت الذي تكون فيه أغلب القرارات والمواقف المتخذة، لا يمكن كشف وجهها الإصلاحي، حتى ولو بكثير من لي الأعناق، فذلك إصلاح لن يقنع أحدا، خاصة في عام الثورات هذا.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير البلد..وإلى الرسالة العشرين، إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق