إنهم سبعة فتية ظُلموا في ذلك اليوم ظلما كبيرا، وبدؤوا منذ ذلك اليوم رحلة مثيرة وغريبة، حكوها لي بتفاصيلها الصغيرة، وأنا سأحكيها لكم بدوري لتعلموا أن الإدارة، في زمن تقريبها من المواطن، لم تتحسن شيئا قليلا.
أربعة رؤساء تعاقبوا على معاناة الفتية السبعة، وعشرات الوزراء شهدوا على عدالة قضيتهم، ومئات الموظفين السامين والعاديين احتاروا واستغربوا من تجاهل معاناتهم.
إنهم سبعة فتية وثامنهم تنازل عن حقه، آمنوا بعدالة قضيتهم التي "نامت" في كهف الإدارة سنين عددا.
إنهم سبعة فتية ضاعت من أعمارهم عشر سنين، فأشفق عليهم التلفزيون، ومنحهم دقيقتين من برنامج الحكومة في الميزان، ليتحدثوا عن معاناة استمرت عشر سنين. تدرب الفتية ـ قبل التسجيل ـ على اختصار عقد من الزمن في دقيقتين، ولكنهم فوجئوا بعد مشاهدة البرنامج، أن التلفزيون سرق دقيقة من الدقيقتين، وشوه بذلك ما أرادوا قوله للوزيرة وللرأي العام.
إنهم سبعة فتية إيمانهم بقضيتهم عجيب..
إصرارهم على الدفاع عن حقهم عجيب..
عنادهم في مواجهة الظلم عجيب..
إنهم يستحقون أن يوشحوا بأعلى وسام لإصرارهم، ولصبرهم، ولحماسهم الذي لا يفتر. ولقد حدثوني عن معاناتهم، بتفاؤل عجيب، حتى خلت وكأنها حدثت في الأمس، وأنها ستحل غدا، ولو كان في البلاد آلاف من أمثالهم لتغير حالنا شيئا كثيرا.
ضرب الفتية خيمتهم، وفرشوا حصائرهم، ثم علقوا لافتاتهم وقالوا : إنا هنا ماكثون أمام المبنى الجديد لحكومة العهد الجديد.
قال لهم كبير الوزراء ذات يوم، بعدما اعترضوا موكبه المهيب: إني سآمر صاحب الديوان بأن يُدخلكم عليَّ بعد حين.
تم اللقاء في اليوم الثاني من مارس من عام الناس هذا، عام الشباب، عام "ارحل"، عام أنا "فهمتكم"، عام "زنقة زنقة"، عام "فصالة"، عام "الغايرة"، عام ساحة"بلوكات"، وعام أشياء أخرى مخيفة، قادمة لا محالة، إذا ما ظلت الأمور تُدار بنفس العقلية التي تدار بها اليوم.
فرح الفتية بعد اللقاء فرحا لم يعرفوه منذ عشر سنين خلت، أزاحوا خيمتهم، وعلقوا اعتصامهم، وحملوا حصائرهم، ووزعوا بيانهم على الصحافة، وقالوا : إنا فرحون، وإنا للأحد القادم لمنتظرون.
مر أسبوع بلا يوم أحد، أو على الأصح بيوم أحد عادي، لا يشبه الأحد الموعود..
ثم مر أسبوع بعده بلا يوم أحد..
ثم مر أسبوع ثالث بلا يوم أحد..
عاد الفتية مرة أخرى إلى مرابع المحتجين، نصبوا خيمتهم، وفرشوا حصائرهم. وفي الثاني والعشرين من مارس، من عامكم هذا، زرتهم في خيمتهم، بعد دعوة كريمة من أحد المتعاطفين معهم، فحدثوني عن حكايتهم، و زودوني بكثير من الوثائق الشاهدة على كل تفاصيلها.
قال محدثي، وشهدت الوثائق على ذلك، بأن الحكاية، بدأت بعد صدور قرار عن اللجنة الوطنية للمسابقات بتاريخ 25 ـ 02 ـ 2001، متضمن لإعلان نتائج مسابقة منظمة من طرف وزارة المالية، ووزارة الوظيفة العمومية والشباب والرياضة، لاكتتاب ثمانين من مفتشي ومراقبي الخزينة والضرائب.
وقد شهدت تلك المسابقة "فتحا عظيما" في التلاعب بالنتائج، فكانت أول مرة تقرر فيها اللجنة، أن تساوي بين ضارب الكتابي، الذي يشمل ست مواد، مع ضارب الشفهي، أي أن المتسابق الذي تمنحه اللجنة نتيجة عالية في الشفهي، سيتفوق حتما، حتى ولو كانت نتائجه في الكتابي ضعيفة جدا.
في حين أن المتسابق الذي حصل على معدل 17 في مواد الكتابي،وهذا ما كشفه الإطلاع على النتائج فيما بعد، قد تم إقصاؤه من خلال مادة الشفهي.
تقدم المتضررون بعد الإعلان عن النتائج بتقديم تظلم إلى رئيس لجنة المسابقات آنذاك، وهو الرئيس الذي خير المتضررين بين انتظار فرصة قادمة قد لا تأتي، أو الذهاب للقضاء للشكوى من اللجنة.
اختار المتضررون اللجوء إلى القضاء، وبعد جهد شاق، استمر ثلاث سنوات وزيادة ، أصدرت المحكمة العليا حكما يلغي قرار لجنة المسابقات، واعتمدت في حكمها على المادة 5 من المقرر المشترك بين وزيري المالية والوظيفة العمومية، والتي تنص صراحة على أن مجموع ضوارب المسابقة الكتابية الداخلية والخارجية ستة. كما اعتمدت على المادة ستة من نفس المقرر المشترك، والتي تقول إن المتسابقين المعلن عن قابليتهم للنجاح، يخضعون لمقابلة شفهية، مع لجنة التحكيم بضارب واحد، بعد حصولهم على معدل12/20 على الأقل في المواد الكتابية.
ودعونا هنا نطوي خمس سنين من الزمن، اختصارا للحكاية، واستكشافا لما حدث للفتية السبعة بعد مجيء رئيس الفقراء، الذي جاء ليوزع العدالة على المواطنين.
بعد جهد جبار من المتضررين، قررت اللجنة الوطنية للمسابقات، أن توجه الرسالة رقم 0061 بتاريخ 07 ـ 05 ـ 2009 إلى وزارة الوظيفة العمومية، وذلك من أجل تحديد أسماء المستفيدين من الحكم القضائي الصادر من المحكمة العليا بتاريخ 17 ـ 06 ـ 2004.
وفي يوم 20 مايو 2009 استدعت اللجنة الوطنية للمسابقات عن طريق بلاغ رسمي مجموعة 14 والتي تتكون من : 8 من المسابقة الخارجية، وهم الفتية السبعة، وثامنهم تنازل ـ بعد ذلك ـ عن المطالبة بحقه، بعد أن حصل على وظيفة مغرية، و6 من المسابقة الداخلية، وهم يزاولون وظائفهم، ومشكلتهم ليست معقدة كما هو الحال بالنسبة للفتية السبعة.
وقد أبلغت اللجنة مجموعة 14 بأن استدعاءها يأتي في إطار الإجراءات التمهيدية لتنفيذ الحكم الصادر لصالح المجموعة.
وفي يوم 07 ـ 6 ـ 2009 أحالت اللجنة الوطنية للمسابقات لوزارة الوظيفة العمومية لائحة بأسماء المستفيدين كل حسب تخصصه واقترحت اللجنة أن يتم إلحاق مجموعة 14 بدفعة 500 التي كان يتم تكوينها في ذلك الوقت بالمدرسة الوطنية للإدارة.
ولعل من غرائب الصدف أنه كان يوجد 14 اعتمادا ماليا شاغرا، أي نفس عدد مجموعة 14. فالدفعة التي كانت تتكون في ذلك الوقت، كان عددها تحديدا 486، رغم أن القطاعات الوزارية كانت قد عبرت عن حاجتها واستعدادها لاكتتاب خمسمائة موظف.
إذاً كانت الدفعة التي يتم تكوينها في ذلك الوقت ناقصة بأربعة عشر عن الاحتياجات المعبر عنها، من طرف القطاعات الوزارية، وكان عدد المجموعة المظلومة 14، وكان يمكن حل الأمر بكل سهولة، لو كانت هناك إرادة جادة، ونية صادقة لدى المعنيين بالأمر.
وفي يوم 02 ـ 07 ـ 2009 وجهت وزارة الوظيفة العمومية على وجه السرعة، رسالة إلى وزارة المالية تحت رقم 332/2009 وطالبتها بتحمل مصاريف التكوين والمنح والاعتمادات المالية، وقد ردت وزارة المالية بالموافقة.
كانت تلك مجرد محطة من محطات أليمة، عانى منها الفتية السبعة وبقية المجموعة. ولعل أقسى ما في تلك المعاناة هو أن الفتية كانوا في ختام كل محطة من محطات معاناتهم، يكتشفون أن الإدارة ألغت كل جهدهم وجعلته هباء منثورا.
فعندما يُقال وزير ويأتي وزير جديد يضطر الفتية لأن يعودوا إلى نقطة الانطلاق من جديد. ولقد تعاقب على الفتية السبعة ثلاثة وزراء للوظيفة العمومية منذ قدوم الرئيس الحالي.
وتعاقب عليهم مديران للوظيفة العمومية، ومديران للمدرسة الوطنية للإدارة.
المهم أنه بعد التنصيب اضطر الفتية لأن يعودوا من جديد إلى الحكم الصادر عن المحكمة العليا في العام 2004 ويبدؤوا رحلة المعاناة مرة أخرى من هناك.
وبعد سلسلة من المراسلات والكتابات واللقاءات اقترح مدير المدرسة أن يتم إلحاق المجموعة بدفعة من الجمارك تم اكتتابها في تلك الفترة ولم ينفذ ذلك الاقتراح.
وبعد ذلك بفترة اقترح المدير الجديد للمدرسة الوطنية للإدارة والقضاء والصحافة، أن يتم تكوين المجموعة في دورة خاصة بهم، أو أن يتم ترسيمهم بشكل مباشر في الأسلاك الوظيفية مع دورات تكوينية مكثفة.
لم يتم تنفيذ أي من الاقتراحين، واكتفت الوزارة التي يقال بأنها مكلفة بعصرنة الإدارة، بأن أرسلت رسالة استئناس، ظهر فيما بعد بأنها كانت ستطرح مشكلة قانونية عويصة للمجموعة، لو أنه تم تكوينهم على أساس تلك الرسالة.
وبدلا من أن تكفر الوزارة عن خطئها، ظلت تماطل المجموعة لمدة ثمانية أشهر قبل أن ترسل رسالة ثانية تصحح فيها الأخطاء الواردة في الرسالة السابقة.
بعد ذلك بمدة، استقبلت الوزيرة، بصحبة الأمين العام ومدير الوظيفة، مجموعة 14 وزفت لهما البشرى: سيتم استدعاؤكم في أكتوبر 2010، وسيبدأ التكوين مع الافتتاح الجديد.
وجاء أكتوبر، وتبعه نوفمبر، ولم يتم استدعاء المجموعة. قررت المجموعة أن تتصل من جديد بالوزيرة فكانت الصدمة: لم يعد بإمكاني أن أفعل لكم أي شيء، بعد أن أصبحت المدرسة لا تتبع لوزارتي فقد تم إلحاقها بالوزارة الأولي.
واقترحت عليهم الوزيرة بأن يذهبوا إلى الوزارة الأولى.
قال أحد الفتية بعد ذلك: لقد كانت الوزيرة تعلم بأن المدرسة ستلحق بالوزارة الأولى، لذلك وعدتنا بالتكوين في أكتوبر لكي تستريح منا برهة من الزمن.
بعد ذلك ولى الفتية وبقية المجموعة، وجوههم شطر الوزارة الأولى، ثم اتصلوا ـ في وقت لاحق ـ بالنواب وعرضوا قضيتهم على كل الكتل البرلمانية.
تعاطفت معهم كل الكتل، إحدى الكتل قررت أن توجه سؤالا شفهيا الوزيرة، كتلة أخرى ارتأت أن ترسل أحد نوابها للوزير الأول وتطلب منه أن يحل القضية فورا.
ولأن الفتية ليسوا طلاب إثارة، ولا يريدون إحراج أي مسؤول، اختاروا عرض الكتلة الثانية وطلبوا من الكتلة الأولى أن تتوقف عن إجراءات المساءلة.
بعد ذلك بمدة قابل أحد النواب الوزير الأول، وشرح له كل تفاصيل القضية، ووعد الوزير الأول بأنه سينهي الموضوع في وقت قريب.
انتظرت المجوعة أن ينفذ الوزير الأول وعده، وهو الشيء الذي لم يتم، ثم تم بعد ذالك اللقاء بالوزير الأول الذي كنت قد حدثتكم عنه في بداية المقال، والذي وعد فيه بأنه سيجد حلا نهائيا للقضية في يوم الأحد القادم.
ليختفي بعد ذلك يوم الأحد من كل الأسابيع التي أعقبت ذلك اللقاء.
تصبحون على يوم الأحد....
ــــــــــــــــــ
في هذه الصورة : النقيب الحسين ولد مدو وهو يسلم باسم مركز "الخطوة الأولى" للتنمية الذاتية شهادة تقدير للنائب المعلومة بنت بلال، والتي كنا قد كرمناها في المركز في نفس الحفل الذي تم فيه تكريم الفتية السبعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق