السبت، 31 أكتوبر 2009

خبر عاجل / قصة قصيرة


فجأة ظهرت حركة غير عادية في الطابق العاشر من مبنى القناة الأولى، وهو الطابق المخصص للأخبار العاجلة في تلك القناة، التي تعتبر واحدة من أهم قنوات التلفزيون الرسمي الموريتاني.
ومع أن العاملين في قسم الأخبار العاجلة في تلك القناة لا يتوقفون عادة عن الحركة، فهم في حالة استنفار دائم ، إلا أنهم في تلك الليلة رفعوا درجة الاستنفار إلى حدها الأقصى، بسبب الخبر العاجل الذي ورد للتو، فهو خبر غير عادي، يتعلق بجريمة غير عادية، كان الكل يعتقد بأنها تنتمي إلى جيل من الجرائم اختفى منذ ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن.
ونظرا لخطورة الجريمة فلم يكن من الممكن أن يُعْلَنَ الخبر قبل اتخاذ بعض الإجراءات المصاحبة، لذلك فقد أرسل مدير الصحة النفسية برقية عاجلة لقسم الأخبار العاجلة، يؤكد فيها أن إدارته قد أرسلت طبيبا نفسيا إلى المدرسة التي يدرس فيها الابن الأصغر للمجرم لكي يوفر له الرعاية النفسية اللازمة لحظة إذاعة الخبر، وهو ما يعني أن إدارة الصحة النفسية لم تعد تمانع في نشر الخبر.
وقبل ذلك بثوان معدودة استقبل مدير القسم برقية أخرى عاجلة من نفس الإدارة، تثبت أن المجرم لم يكن يشكو من أي مرض نفسي أثناء ارتكابه للجريمة، وذلك وفق شهادة طاقم من أكبر الأطباء قام بتحليل السجل الصحي للمجرم، كما أشرف على جلسات وفحوصات طارئة تم إجراؤها بعد خمس دقائق من وقوع الجريمة.
لقد كان مصدر ذلك الخبر العاجل هو زوجة المجرم التي لم تترد ـ ولو للحظة ـ في إبلاغ إدارة الأمن بالجريمة التي ارتكبها زوجها، كما أنها أبلغت ابنها الأكبر الذي تم نقله إلى قسم الحالات المستعجلة بمستشفى جامعة "أمبود " التي يدرس بها بعد غيبوبة أصابته بفعل صدمة الخبر، ثم إنها أبلغت بعد ذلك بعض أعضاء الحزب الذي كان ينتسب له زوجها، وهو ما جعل المكتب التنفيذي للحزب يرسل برقية عاجلة يطلب فيها وبإلحاح من قسم الأخبار العاجلة أن يعلن تبرؤ الحزب من المجرم عندما يتم الإعلان عن الجريمة كخبر عاجل، وذلك في محاولة من الحزب للتقليل من الآثار السلبية التي سيجلبها ذلك الخبر العار للحزب الذي لا بد أن يتأثر سلبا بفعل تلك الفضيحة المدوية إن لم تقض عليه بشكل نهائي .
ـ وماذا في تلك البرقية الأخرى ؟
انزعج الموظف المسؤول عن استقبال البرقيات من تلك الكلمات الصارخة والمتوترة والمرتبكة التي صاغها مديره على شكل سؤال، فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يشاهد فيها العمال مديرهم وهو عاجز عن إخفاء توتره وارتكابه وغضبه أمام العمال.
ـ إنها برقية من وزارة الشؤون الإسلامية تطلب فيها من القناة أن تُطَمْئِنَ الشعب الموريتاني بأن الوزارة في حالة طوارئ منذ وقوع الجريمة، كما أنها وفي خطوة عاجلة قررت أن تخصص كل خطب الجمعة القادمة للتحذير من ذلك النوع من الجرائم الغريب على ديننا وعلى تقاليدنا، رغم أن الوزارة على قناعة تامة بأن تلك الجريمة إنما هي مجرد جريمة معزولة، ولن تتكرر مرة أخرى، نظرا لحصانة المجتمع ضد ذلك النوع البشع من الجرائم.
ـ سيدي المدير.. أرجو المعذرة .. هناك برقيتان جديدتان ..
ألقى الموظف نظرة خاطفة على وجه مديره وكأنه يطلب إذنا بعينيه لقراءة البرقيتين، أجاب المدير بنظرة خاطفة أيضا، فهم منها الموظف أن المدير يأمره بأن يقرأ البرقيتين وعلى وجه السرعة.
ـ البرقية الأولى قادمة من إدارة السجن، وتقول بأن المجرم قد انتحر منذ ثانية ونصف، وأنه قد خطط مسبقا لهذا الانتحار في حالة تم كشف جريمته ، وهو ما جعله يجلب معه قرصا ساما لا يرى بالعين المجردة، ويستطيع أن يوقف دقات القلب بعد نصف دقيقة فقط من ابتلاعه.
ـ هل سيتم تغسيله والصلاة عليه أم سيرسلون جثته إلى حاويات القمامة ؟
ـ سيدي المدير أنا لست فقيها حتى أجيب على هذا السؤال.
ـ وهل طلبت منك الإجابة ؟ عليك أن تواصل قراءة البرقيات، هذا هو بالضبط ما أطلبه منك.
ـ البرقية الثانية أرسلها وزير الإعلام وهي على شكل تعميم موجه لكل القنوات والإذاعات والصحف الرسمية بما في ذلك طبعا قناتنا، والبرقية تطلب تخصيص كل البرامج والزوايا لهذا الأسبوع للحديث عن تلك الجريمة النكراء.
والوزير يطلب بشكل خاص من نجوم الإعلام الرسمي الذين أبدعوا في العهود الماضية، والذين استطاعوا أن يقضوا على السمنة وعلى الأمية وعلى الفساد من خلال برامجهم الرائدة، أن يخصصوا برامجهم لهذا الأسبوع لمحاربة تلك الظاهرة الغريبة التي أفرزت تلك الجريمة النكراء .
ولقد خص الوزير أصحاب البرامج التالية : " على الطاولة " ، "الميزان " ، "العيادة الطبية"، "موريتانيا الأعماق " ، " باناروما ".
لم يكد الموظف ينهي قراءة البرقية حتى شعر المدير برغبة جامحة للتقيؤ، لذلك خرج مسرعا إلى الحمام.
بعد ذلك بلحظات عاد المدير وهو يكرر: عن أي برامج يتحدث الوزير !؟
أجاب الموظف: لا أدري لماذا تأتي دائما خططي بنتائج عكسية، رغم أني شاركت في ثلاث دورات في التخطيط ؟ فتلك البرامج قد أضفتها أنا إلى البرقية، كنت أريد أن أضحك سيادة المدير بعد هذا الخبر البائس، فإذا بسيادته يتقيأ!
ـ أبشرك لقد نجحت خطتك هذه المرة، فقد ضحكت كثيرا أثناء التقيؤ، كما أني شعرت بشيء من الإشفاق على أولئك "النجوم " وعلى مشاهدي برامجهم.
سكت المدير قليلا ثم أردف قائلا : لم يحدث أن تقيأت وضحكت وشعرت في الوقت نفسه بالإشفاق على من جعلني أضحك وأتقيأ قبل إضافتك هذه.
ـ إذًا بعد أن ضحكت سيادتكم، أستطيع الآن أن أقول لكم بأن هناك برقية ثالثة.
ولم لم تقرأها مع البرقيات السابقة ؟
ـ الحقيقة أنه ... الحقيقة أنه ... الحقيقة أنه ..
ـ الحقيقة أنه سيتم فصلك من العمل إذا لم تقرأ البرقية فورا.
ـ إنها برقية من العاملين في قسم الأخبار.
ـ ومنذ متى ونحن في القسم نتواصل عن طريق البرقيات ؟
ـ لقد قرروا وبشكل جماعي رفض تقديم الخبر، بحجة أنهم يخجلون من تقديم هذا النوع من الأخبار المشينة، وبحجة أن من سيقدم ذلك الخبر قد يتحول إلى نذير شؤم عند الكثير من المشاهدين.
ـ لا بأس.. عد إلى مكتبك .. فسأتولى أنا شخصيا تقديم ذلك الخبر المشؤوم.
عاد الموظف إلى مكتبه بعد أن ودع مديره بنظرة احترام ، وهو احترام يشاركه فيه كل العاملين في القناة بل وغالبية مشاهديها.
أما المدير فقد توجه مباشرة إلى استديو الأخبار لإذاعة الخبر العاجل، مواصلا بذلك عادته المعروفة لدي العمال، فهو دائما يتولى بنفسه كل الأعمال التي يرفض الآخرون لسبب أو لآخر القيام بتنفيذها.
ألقى المدير نظرة عاجلة على الساعة الرقمية الكبيرة التي تكاد تغطي الجدار بكامله والتي كانت تشير إلى الساعة الخامسة وثلاث دقائق وخمس ثوان من يوم الثلاثاء العاشر من نوفمبر من عام 2044 ميلادي.
لقد مر نصف ساعة وخُمْسُ دقيقة على تلك الجريمة المشؤومة.
قالها المدير بصوت خافت وكأنه يخاف من أن يسمعه أحد العمال، فهو من جهة يحب دائما أن يتحدث بلغة الأرقام، ومن جهة ثانية فهو يكره لقب الصحفي الرقمي الذي يطلقه عليه زملاؤه في القناة لقدرته الخارقة على حفظ الأرقام.
أخذ المدير مكانه في الاستديو خلف طاولة غريبة يتبدل شكلها الهندسي في كل ثانية فهي لحظة تكون على شكل حرف العين والألف، ولحظة أخرى تكون على شكل حرف الجيم واللام .
إنها الطاولة المثيرة والغريبة التي اختارها المدير بنفسه لتكون هي الطاولة الرئيسية في استديو الأخبار العاجلة.
في تلك اللحظة لم تكن الطاولة تعني شيئا بالنسبة له ، فقد أحس وكأن حنجرته قد اختفت تماما،وهو لم يعد قادرا على النطق، رفع يده اليمنى قليلا ليتأكد أن رقبته لم تزل في مكانها الطبيعي، ثم حاول النطق مرة أخرى ولكنه فشل أيضا.
ظهر المدير على الشاشة بوجه شديد البياض، وبفم مفتوح، وبعينين زائغتين، وبيد يتحسس بها مكان رقبته.
لابد أن المشاهدين يضحكون الآن، ويسخرون، ويعلقون، ويحللون، ولابد أن المدير العام للقناة يسب، ويشتم، ويتوعد، ومن المؤكد أن وزير الإعلام لا يبتسم في هذه اللحظات.
لا يهم، أسرها المدير في نفسه، المهم أن أقول شيئا، فذلك هو التحدي الأكبر لمديرالأخبار في تلك اللحظة، نزع يده من فوق رقبته، خف بياض وجهه، حرك شفتيه قليلا، ثم نطق بكلمات بطيئة، متقطعة كأنها قادمة من كوكب آخر.
أعزائي مشاهدي القناة الأولى، لقد ورد إلينا منذ ثلاثة وثلاثون دقيقة وخمس ثوان خبر مخيف، عن جريمة نكراء، بطلها أحد المترشحين في انتخابات تجديد ثلث مجلس الشيوخ التي تجري اليوم .
لقد حاول هذا المجرم الخطير المتنكر في زي سياسي أن يُقَدِّمَ رشوة لمستشار بلدي لكي يصوت له، ولقد حاول المجرم الوقح أن يستعين بزوجته التي تعمل في نفس البلدية لكي تقدم نيابة عنه تلك الرشوة التي بلغت عشرة ملايين أوقية.
ولقد انتحر المجرم بعد أن تم القبض عليه.تصبحون وأنتم قادرون على أن تحلموا بوطن جميل ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق