السبت، 7 نوفمبر 2009

تفاديا للالتفاتة القاتلة


الالتفات إلى الوراء قد يكون ثمنه الحياة بكاملها. فالغزال المعروف بسرعته يصطاده الأسد بسبب الالتفات إلى الوراء. يلتفت الغزال المطارد إلى الوراء ليرى أين أصبح الأسد، دون أن يعلم ذلك الغزال المسكين بأن تلك الالتفاتة وتكرارها هو ما سيخفف من سرعته، وهو ما سيمكن بالتالي الأسد من اللحاق به واصطياده.
لو لم يلتفت الغزال إلى الوراء لما تمكن الأسد إطلاقا من اصطياده.
ينصح خبراء التنمية البشرية من حدد هدفا ما بأن لا يكون كالغزال، وأن لا يكثر من الالتفات إلى الوراء. وإنما عليه أن يكون مثل الأسد الذي يظل يركز بنظره إلى الأمام حتى يحقق هدفه.
وهذه النصيحة بالذات هي أفضل ما يمكن تقديمه لرئيس الجمهورية : واصلوا حربكم على الفساد، ولا تلفتوا إطلاقا إلى الوراء، فالتفاتة واحدة خلال هذه الحرب المصيرية التي وصلت إلى مرحلة حساسة ستكلف كثيرا وستكون قاتلة بالنسبة لكم ولنا.
لقد كنت واحدا من أقلية من فقراء البلد صوتت ضد "رئيس الفقراء". ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما فعلت غير ذلك. إلا أنني مع ذلك لا أستطيع أن أخفي بأن أكثر ما يعجبني في "رئيس الفقراء" هو جرأته على مواجهة الفساد والمفسدين، حتى أثناء الحملة، وفي تلك الأوقات الصعبة التي كان يحتاج فيها لأصواتهم. وأكثر شيء أبغضه في المعارضة، هو تزلفها للفساد والمفسدين، حتى في الأوقات التي ليست فيها حملة، ولا تحتاج فيها لمال أو لأصوات المفسدين.
لقد قرر الرئيس أن يبدأ حربه على الفساد التي كان قد وعد بها في حملته الانتخابية مما جعله يواجه حربا معلنة من طرف المعارضة، لدوافع لا صلة لها بالصالح العام، وحربا صامتة في بعض الأحيان، وقذرة في أحيان أخرى، من طرف بعض أغلبيته، لأسباب لا أجد ضرورة لذكرها. في الوقت الذي يمكن القول بأنه حصل على دعم كل الشعب الموريتاني تقريبا، بمعارضيه ومواليه، والذي يعتبر كله ضحية للفساد. وإن كان ذلك الدعم لا يجد قنوات تنظمه وتعبر عنه، وتلك واحدة من نواقص هذه الحرب المعلنة ضد الفساد.
والحقيقة أن هناك فريقان كبيران كل واحد منهما يعمل جاهدا من أجل انتكاسة هذه الحرب، أحدهما في الموالاة وهو يريد الرئيس أن يلتفت إلى الوراء التفاتة قاتلة وأن يستخدم أسلحة فاسدة في حربه كما كان يحدث سابقا. ويظهر ذلك جليا في إلغاء الاتفاق الذي حصل بين رجال الأعمال والبنك المركزي من أجل استعادة الأموال. فلا يعقل ـ ونحن ندعي بأننا نحارب الفساد ـ أن نوقع اتفاقا وأن نلغيه من طرف واحد، في الوقت الذي بدأ فيه الطرف الآخر في تنفيذ بنود الاتفاق حسب ما يقال.
إن إلغاء ذلك الاتفاق إنما يؤكد الشكوك والأسئلة الحائرة التي تطرح حول هذا الملف. وهو يتناقض مع مطلبنا في " مبادرة ضحايا ضد الفساد " الذي يشجع كل الحلول التوافقية فيما يخص كل الملفات الكبيرة المتعلقة بالعهود السابقة.
أما الطرف الثاني فأغلبه في المعارضة، وهو يريد لهذه الحرب أن تتوقف بشكل نهائي. وقد ارتفعت أصوات كثيرة من الفريق تشكك في هذه الحرب. و حاولت أصوات أخرى أن تثبط عزيمة الرئيس، بينما لجأ البعض الآخر إلى العمل في الخفاء من أجل إيقاف تلك الحرب أو تحريفها. أي أنه في المحصلة النهائية، هناك أطراف عديدة، من اتجاهات شتى، ولدوافع كثيرة ومتنوعة، تعمل جاهدة بحسن نية أو بسوئها، من أجل أن يلتفت الرئيس إلى الوراء التفاتة قاتلة.
بعض أولئك يقول بأنه لا يجوز نبش الماضي لأن المجتمع بكامله كان يسبح في بحر من الفساد، وإن بدرجات متفاوتة. فهناك من ابتلت قدماه، وهناك من كان غارقا حتى حقويه. ويقول هؤلاء بأنه من أجل فتح ملفات الماضي علينا أن نستورد ـ وعلى وجه السرعة ـ شرطة وقضاة للتحقيق وسجانين غير مفسدين.
ويقول البعض الآخر بأن الملفات التي تم فتحها حتى الآن لم تكن ملفات بريئة، لأنها تدين رجال أعمال من حزب سياسي واحد، بل ومن قبيلة واحدة. وذلك لتحقيق أطماع حزب سياسي آخر، وقبيلة أخري ، ويقول هؤلاء بأن فتح مثل هذه الملفات قد يهدد السلم الاجتماعي الهش.
وهناك فئة ثالثة، وهي أكثر ذكاء، لأنها تعترف ـ عكس غيرها ـ بأن الرئيس قد استهدف في حربه على الفساد حلفاءه أكثر من خصومه. فهناك شخصيات سياسية لا يمكن لأحد أن يشكك في ولائها للرئيس تم إقصاؤها. كما أن هناك موظفين كبارا تم تجريدهم من وظائفهم ولم يشفع لهم أنهم بالغوا ـ أكثر من اللازم ـ في التعبير عن ولائهم للرئيس الحالي.
هذه الفئة تعترف بتلك الحقائق التي لم يعد من الممكن إنكارها. ولكنها تقول بأن كل تلك "الرصاصات الذكية" التي أطلقها الرئيس على بعض أنصاره، إنما كانت تهدف للتمويه و لتشريع الضربة القاضية التي تم توجيهها لكبار رجال الأعمال الذين عارضوه.
تلك إذاً هي أهم حجج الفريق الثاني، الذي يريد للرئيس أن يلتفت إلى الوراء ، وهي حجج يجدر بنا أن نتخذ منها موقفا صريحا من وجهة نظر لا أنكر بأنها منحازة بطبيعتها للشرائح الأكثر فقرا التي عانت كثيرا من الفساد.
في اعتقادي أنه لنجاح أي حرب على الفساد علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الحقائق التالية :
1ـ إن عدم محاربة الفساد بشكل جاد هي التي تمثل أكبر تهديد للسلم الاجتماعي. وعلينا أن نعلم جميعا بأن يومنا لم يعد كأمسنا. فقد ولدت هذه الحرب أحلاما كبيرة في نفوس المستضعفين وخصوصا بعد تلك النقاشات الصريحة والأحاديث الرسمية عن خطورة الفساد. ولم يعد بالإمكان الآن التوقف في بداية المسار، لأن ذلك قد يجعل الأمور تخرج عن السيطرة مما قد يتسبب في انفلات الأوضاع وانتفاض الجوعى والعُطَشْ والعاطلين والمتسولين والمعوقين وأطفال الشوارع وشباب الشوارع وشباب الأعماق والفقراء بصفة عامة.
2ـ إن على القبائل أن تعود إلى رشدها، وإلى أدوارها الاجتماعية النبيلة. فقد أصبحت قبائلنا اليوم تتنكر لعلمائها ولمصلحيها إذا ما سجنوا ظلما وعدوانا، في الوقت الذي تعلن فيه حالات طوارئ واستنفار إذا ما تمت معاقبة أحد مفسديها.
3ـ علينا أن نختارـ بعد أن مر نصف قرن على تأسيس الدولة الموريتانية ـ بين الاندماج في دولة واحدة ذات كيان مشترك أو البقاء مشرذمين في كيانات مبعثرة تمثلها القبائل والتكتلات الجهوية.
4ـ إذا ما قررت مجموعة ما، من قبيلة ما، أو من جهة سياسية ما، أن تنهب ثروة ما، دون أن تشرك غيرها، في نهب تلك الثروة، فعليها أن تقبل ـ في المقابل ـ بأن تحاسب وتعاقب لوحدها، دون أن يشرك معها في العقوبة من لم يشارك في ذلك النهب.
وبالمختصر المفيد، فإذا كان من اشترك في ملف البنك المركزي هم نفس الأشخاص الذين تم التحقيق معهم ، فإنه لا يجوز أن تتحرك قبيلة أو مدينة أو جهة سياسية ضد العدالة. أما إذا كان قد شارك البعض الآخر في ذلك النهب، وتم إبعاده من التحقيق، لأسباب قبلية أو سياسية، فإنه ساعتها لا يجوز أن تبقى قضية رجال الأعمال الثلاثة، قضية قبيلة واحدة، أو مدينة واحدة، أو جهة سياسية واحدة، بل يجب أن تتحول إلى قضية رأي عام وقضية بلد بكامله، حتى تتم معاقبة الجميع أو العفو عن الجميع.
وإذا ما حدث أن تمالأت مجموعة ما، من قبيلة الرئيس الحالي، أو من حزبه، وقررت أن تنهب لوحدها ثروة من ثروات هذا الشعب الضعيف، فإنه لن يكون من الجائز إطلاقا إذا ما جاء رئيس آخر وقرر أن يحاسبها أن نقف ضده بحجة أن ذلك يمكن اعتباره استهدافا لمجموعة معينة.
5ـ صحيح أنه لا يمكن أن نفتح كل ملفات الفساد، لأن الكل تقريبا قد شارك بدرجة أو بأخرى في الفساد في "عصره الذهبي". ولكنه صحيح أيضا بأن ملفات الفساد ليست متجانسة، فهناك ملفات كبيرة تخص عشرات المليارات من الأوقية، كملف القرض الزراعي، أو ملف البنك المركزي، أو ملف عقود النفط وملحقاته، وملحقات ملحقاته، فتلك ملفات يجب أن لا تظل مغلقة، بل أن فتحها هو مطلب شعبي.
6 ـ على المعارضة إذا ما أرادت أن تقنعنا بأن الحرب الحالية على الفساد إنما هي حرب تستهدف أنصارها، أن تقدم لنا ملفات فساد لرجال أعمال أو لموظفين كبار يدعمون الرئيس وترفع ضدهم قضايا، وتقول لنا هذه حجتنا. وللمعارضة القدرة على ذلك إذا ما أرادت، وهي بالمناسبة كانت أول من أثار ملف البنك المركزي الذي تعارض فتحه الآن.
مشكلة المعارضة هي أنها أصبحت تجامل المفسدين كثيرا، ولا تريد أن تستفزهم حتى أولئك المفسدين الذين ليسوا معها في خندق سياسي واحد!!!
7ـ يحذر البعض من معاقبة رجال الأعمال لأن ذلك سيكون له الأثر البالغ على الاقتصاد الوطني الهش. والحقيقة أن استشراء الفساد هو أشد خطورة على الاقتصاد حيث أن غالبية مشاريع رجال الأعمال لا تعدو كونها مشاريع تجارية عائلية محدودة الفائدة على المستوى الوطني.
أما فيما يخص الخوف من اختفاء بعض المواد الاستهلاكية التي كان يستوردها بعض رجال الأعمال، فلا مبرر لذلك فهناك العديد من رجال الأعمال أو على الأصح من التجار الذين يملكون أموالا ضخمة، ولا يعرفون كيف يستثمرونها ، لذلك فعندما يتوقف مستورد ما عن الاستيراد فسيظهر مكانه عشرات المستوردين.
8ـ إنه على الرئيس وبشكل فوري أن يبعد عن الحرب على الفساد كل الأوجه الإعلامية التي كانت تروج في الماضي القريب للحرب ضد السمنة وللحرب ضد الأمية وللحرب ضد الإرهاب. فهذه الحرب يجب أن تختلف عن حروبنا السابقة ويجب أن تخاض بأسلحة شفافة لا يعرف أولئك "الفرسان" استخدامها، لأنهم قد تعودوا على تلك البرامج الغبية والسطحية التي تضر أكثر مما تنفع.
كما أنه يجب فتح الإعلام الرسمي وبشكل فوري أمام كل الموريتانيين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية.
9ـ إن الحرب على الفساد لن يكون بالإمكان حسمها إذا لم تصاحبها انتفاضة شعبية ضده. كما أنها يجب أن لا تقتصر على العقوبة فقط بل يجب أن تكون فيها مكافآت، وتلك المكافآت يجب أن يكون فيها لأنصار المعارضة نصيبا كما كان لهم نصيب كبير في العقوبات.تصبحون على حرب على الفساد بأسلحة غير فاسدة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق