الجمعة، 19 أبريل 2019

عن ليلة البشير الأولى في سجن كوبر*


البارحة قضى الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير أول ليلة له  في سجن كوبر السيىء الصيت، ولاشك أن تلك الليلة كانت مناسبة لأن يخلو البشير بنفسه، ولأن يفكر بأسلوب آخر يختلف تماما عن الأسلوب الذي كان يفكر به خلال ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن حكم فيها السودان.
قد يتذكر البشير ـ في ليلته الأولى في سجن كوبر ـ  رجالا كان قد ألقى بهم في غياهب هذا السجن سنين عددا، وقد يتذكر آخرين حكم عليهم بالإعدام، ومن الراجح بأنه ـ في ليلته الأولى بالسجن ـ قد تدبر أحوال الدنيا التي قد تنقل في غمضة عين رئيسا من القصر إلى السجن، وقد تنقل ـ في حالات أخرى ـ  سجينا من ضيق السجن إلى سعة القصر.

قد يتذكر البشير خلال خلوته في السجن أشخاصا كان قد وثق بهم خلال العقود الماضية فإذا بهم يسارعون إلى خذلانه عندما زال حكمه، وربما هم الآن يتشفون منه أكثر من تشفي خصومه الذين عارضوه وهو في السلطة، وقد يتفاجأ البشير غدا ـ إن كتبت له الحياة ـ بأشخاص كان قد بالغ في ظلمهم خلال العقود الماضية، فإذا بهم من بعد زوال حكمه  أكثر رحمة به ورأفة من أولئك الذين كان يقربهم كثيرا خلال العقود الثلاثة التي حكم فيها السودان.
 لا يمكن الجزم ولا تحديد ما شغل بالضبط تفكير البشير خلال ليلته الأولى في سجن كوبر السيىء الصيت، ولكن الراجح عندي أن البشير فكر في ليلته الأولى بطريقة مختلفة تماما، وربما يكون قد توصل إلى استنتاج لم يكن يتوقع أن يصل إليه أبدا، المشكلة أن هذا الاستنتاج  لم يتوصل إليه البشير إلا بعد فوات الأوان، ولا شك أن ذلك التأخر سيزيد من معاناة البشير في سجنه، وسيجعله يشعر بالمرارة أكثر.
في اعتقادي بأن الاستنتاجات أو الخلاصات التي توصل إليها البشير بعد تفكير طويل خلال ليلته الأولى في السجن، هي استنتاجات وخلاصات بسيطة كان يعرفها معظم الناس العاديين، ولكن الغريب أن الرؤساء هم وحدهم الذين لا يعرفونها ولا يتوصلون إليها إلا بعد فوات الأوان، مع أنهم هم المعنيون بها أكثر من غيرهم.
قد يتوصل البشير بعد تفكير عميق خلال ليلته الأولى في السجن بأن من كان يسعى لمصلحته حقا هو ذلك السوداني الذي كان يعارضه، ويطالبه بأن ينظم انتخابات لا يشارك هو فيها. سيكتشف البشير ـ وبعد فوات الأوان ـ أن  من كان يسعى لمصلحته حقا هو  ذلك السوداني الذي كان يريد له خروجا آمنا من السلطة، أن يخرج منها معززا مكرما بعد أن يكون قد نظم  انتخابات شفافة يختار فيها السودانيون رئيسا جديدا لهم. وفي المقابل، فإن البشير قد يكتشف أيضا ـ وبعد فوات الأوان ـ  بأن عدوه الحقيقي هو ذلك السوداني الذي كان يطبل له ويرقص معه كلما رقص، إنه ذلك السوداني الذي كان يزين له البقاء في السلطة والخلود فيها، إلى أن أجبر أخيرا إلى أن يخرج منها ذليلا ليلقى به من بعد ذلك في إحدى زنزانات سجن سيىء الصيت.
انقلاب آخر ربما كان البشير ضحيته في أول ليلة له في سجن كوبر، ولكن الانقلاب هذه المرة ليس انقلابا عسكريا أخرج البشير من السلطة، بل إنه انقلاب فكري ومفاهيمي سيقلب الأمور  في رأس البشير،  رأسا على عقب، وسيجعله ذلك يتأكد في نهاية المطاف من أن من كان يسعى لمصلحته حقا هو من كان يعارضه بمسؤولية، وأن عدوه الحقيقي هم أولئك الذين كانوا يطبلون له ويرقصون معه ويزينون له الخلود في السلطة .
البارحة ربما يكون البشير قد وقع ضحية انقلاب جديد على مستوى الأفكار والمفاهيم، وربما يكون قد توصل في خلاصة نهائية إلى أن المعارضة السودانية هي التي كانت تسعى لمصلحته، وأن موالاته أو أغلبيته الداعمة هي التي كانت تعمل في غير صالحه. ليلة واحدة من السجن ستكون كافية لأن تُقنع البشير بأن من كان يتم تصنيفه بأنه معارض حاقد هو في حقيقة الأمر داعم حقيقي، وأن من كان يصنف على أنه داعم ومقرب هو في حقيقة الأمر معارض حاقد.
من المؤكد بأنه لن يأخذ أي طاغية عربي آخر العبرة من مصير البشير الذي يقبع الآن في إحدى زنزانات سجن سيىء الصيت،، فالبشير نفسه لم يأخذ العبرة من مصير زين العابدين ومبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح.
في مرات عديدة كنتُ أسأل نفسي : لماذا لا يأخذ الطغاة العرب العبرة بعضهم من البعض، ولماذا لم يستفد مبارك من مصير بن علي، ولماذا لم يستفد القذافي من مصير مبارك وبن علي، ولماذا لم يستفد على عبد الله صالح من مصير بن علي ومبارك والقذافي، ولماذا لم يستفد عمر البشير من مصير كل هؤلاء الذين سبقوه إلى الخروج المذل من السلطة؟
في اعتقادي بأن الجواب على هذه الأسئلة هو في منتهى البساطة، فهؤلاء الطغاة العرب ظلموا كثيرا وبطشوا كثيرا، ولذلك فقد حرموا من "حسن الخاتمة"، ومن الخروج الآمن من السلطة، وما كان لهم إلا أن يخرجوا من السلطة بنفس الطريقة المذلة التي خرجوا بها.
إن في خروج كل طاغية عربي من السلطة لعبرة، ولكن الطغاة العرب بسبب ظلمهم وبطشهم يحرمون دائما من الاستفادة من العبر، وذلك حتى لا تكتب لهم "خاتمة حسنة" لا يستحقونها، وليسوا أهلا لها.
لقد كُتِب عليهم ـ بسبب بطشهم وسوء أعمالهم ـ أن يخرجوا من قصورهم المشيدة أذلة صاغرين، وما كان لهم إلا أن يخرجوا منها أذلة صاغرين، وقديما قالت العرب ارحموا عزيز قوم ذل، واليوم ليس للعرب إلا أن يقولوا ـ شفقة لا تشفيا ـ ارحموا طغاتكم إذا زال سلطانهم، وارحموا البشير الذي قضى البارحة ليلته الأولى في سجن كوبر بعد ثلاثة عقود من الاستبداد والطغيان.
حفظ الله السودان...
ــــ
* هذا المقال أرسلته صباح أمس ل : مدونات الجزيرة ، ولكنها لم تنشره، فقررتُ نشره هنا مع الاعتذار عن "الليلة الأولى" الموجودة في عنوان المقال عند كتابته صباح أمس .كما أني لم أحذف سجن كوبر والذي أصبحت هناك بعض المصادر تشكك في وجود البشير فيه، المهم أن البشير في السجن الآن، والمهم أن مضمون المقال لن يتغير كثيرا حتى ولو كان البشير في سجن آخر.
المقال تم نشره دون أي تعديل على نسخة الأمس.

هناك 3 تعليقات:

  1. بوركت على بساطة الكلمات وعمق المعنى
    حقيقة ان الانسان يركن الى الدنيا وهي ليست ثابتة ولاتدوم لاحد

    ردحذف
  2. قرأت هذا المقال اليوم و عزيز في السجن سبحان الله يتكرر السيناريو مع طاغية آخر

    ردحذف