إن المتأمل في مشروع النشيد الجديد، وإن الباحث
لهذا النشيد عن "شرعية" أو "مشروعية" سيجد نفسه أمام ثلاث
عقبات كبرى: الأولى أن النشيد لم يجزه أهل
الاختصاص، والثانية أن البرلمان الموريتاني قد أسقطه سياسيا، أما الثالثة فتتمثل
في أن فكرة تجديد النشيد قد جاءت في الأصل من جهات معادية للشعر وللعلوم
الإنسانية، وبالتالي فهي غير مؤتمنة على تغيير النشيد الوطني لبلاد المليون شاعر.
أولا : النشيد لم يجزه أهل الاختصاص
في الساعات الأولى التي أعقبت تسريب مشروع النشيد
الجديد إلى الإعلام ظهر من أهل الاختصاص من قال بأن النص الذي تم تسريبه لا يمكن
أن يكون هو مشروع النشيد المقترح، ولما تأكد أن النص الذي تم تسريبه هو بالفعل
مشروع النشيد الجديد تعالت الأصوات المنتقدة له، وكان على رأس المنتقدين شعراء وكتاب
ونقاد إن لم يحسبوا على الموالاة فإنهم لا يحسبون على المعارضة.
أغلب أهل الاختصاص ممن يجب الأخذ برأيه في الشعر
لم يجز النشيد الجديد، وقد كتب بعضهم مناشير وتدوينات ومقالات في نقده، بل إن هناك
من انتقده شعرا، ولقد جمعت أربعين تعليقا لأربعين من أهل الاختصاص ومن المهتمين
بالشعر والثقافة ينتقدون فيها مشروع النشيد الجديد، وكان ذلك خلال إعداد العريضة
التي تم توجيهها إلى النواب، والتي سخر الوزير من بعض الأسماء الموقعة عليها. غابت
الأصوات المدافعة عن مشروع النشيد الجديد، ولم يدافع أحد من أهل الاختصاص عن مشروع
النشيد الجديد، هذا إذا ما استثنينا حالة واحدة أو اثنتين. حتى أعضاء اللجنة المكلفة
بمشروع النشيد الجديد فإنهم لم يدافعوا عنه أمام موجة الانتقاد العارمة التي تعرض
لها، وذلك على الرغم من أن من بين أعضاء اللجنة
من لا يعجزه أن يكتب مقالا أو تدوينة، ولكن يبدو أن الذي أعجزه هو غياب
الحجة المقنعة للدفاع عن مقترح النشيد الجديد، بل أكثر من ذلك، فإن بعض أعضاء
اللجنة ظل ينتقد في مجالسه الخاصة مشروع النشيد الجديد، وكان يقول بأن هناك
محاولات فردية تقدم بها بعض أعضاء اللجنة كانت أفضل بكثير من النشيد الجماعي الذي
اعتمدته اللجنة.
خلاصة هذه الفقرة تقول بأن مشروع النشيد الجديد
لم يجزه أهل الاختصاص، بل إنهم أسقطوه.
ثانيا:
مشروع النشيد وتصويت النواب
إذا ما تجاوزنا حججا وجيهة تقول بأن مشروع النشيد
الجديد لم يكن من المناسب تقديمه في فترة انسداد سياسي، وفي ظل تعطيل إحدى الغرف
البرلمانية (مجلس الشيوخ)، وأن اعتماد نشيد جديد في مثل هذا الوقت لن يحل مشاكل
موريتانيا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العالقة، والتي سيزيد من حدتها الجفاف
الذي يهدد البلاد في هذا العام، والذي يبدو أن النظام سينشغل عنه بعلمه ونشيده
الجديدين. إذا ما تجاوزنا كل ذلك، وإذا ما اكتفينا بتصويت النواب، وبتمرير الجمعية
الوطنية في يوم 25 أكتوبر لمشروع النشيد الجديد، فإننا سنجد بأن ذلك التصويت وذلك
التمرير قد شابتهما عدة أمور لعل من أبرزها:
1 ـ أن جلسة تمرير مشروع النشيد الجديد لم يحضرها
الثلث كاملا، وقد تغيب عنها ما يزيد على الثلثين (100 نائب تحديدا) ..لم يصوت في
هذه الجلسة من النواب البالغ عددهم 147 إلا 47 نائبا، صوت 45 منهم
ب"نعم"، وصوت نائب واحد ب"لا"، وامتنع آخر عن التصويت. وبمنطق
الرئيس في مؤتمر الصحفي الذي أعقب إسقاط الشيوخ للتعديلات الدستورية، فإنه لا يحق
ل 45 نائبا أن تجيز مشروع نشيد رفضه الشعب الموريتاني.
2 ـ من
الناحية القانونية يمكن لثلاثة نواب فقط أن يمرروا مشروع النشيد الجديد في حالة
كان الحضور للجلسة لا يزيد على 5 نواب، فالمهم لتمرير مثل هذا النوع من القوانين العادية
هو أن تصوت أغلبية الحضور ب"نعم"، والأغلبية هنا هي الأغلبية
البسيطة، أي يكفي أن يزيد عدد من صوت ب"نعم" على عدد من صوت
ب"لا" بصوت واحد، وليس هناك أي حد أدنى للحضور، فعملية التصويت يمكن أن
تتم في جلسة لم يحضرها إلا خمسة نواب من مجموع النواب ال147.
هذا من الناحية القانونية والتشريعية البحتة،
ولكن من الناحية السياسية فإن مشروع قانون النشيد الجديد قد سقط بمقاطعة نواب
الجمعية الوطنية للجلسة، فأن يغيب ثلثا النواب في فترة تشهد تجاذبات سياسية قوية، فإن
لذلك دلالته السياسية القوية، ويتأكد الأمر في حالتنا هذه حيث أن التصويت على
القوانين العادية يتم بشكل علني لا سري، وكثير من نواب الموالاة يخاف من أن تتم
معاقبته إن هو تجرأ على التصويت علنا ضد مشروع النشيد الجديد، الشيء الذي حصل
مع الشيوخ رغم أنهم كانوا قد صوتوا سرا
ب"لا" على التعديلات الدستورية. ففي هذه الفترة الحالكة من تاريخ
موريتانيا، والتي يُعاقب فيها المنتخبون (بفتح الخاء) بالسجن وبالمتابعة القضائية
إن هم صوتوا ب"لا" يكون الغياب المتعمد عن التصويت هو في حد ذاته تصويتا
ب"لا"، ويتأكد الأمر بالنسبة لنواب الموالاة الذين لم يعرفوا بالشجاعة
ولا بالجرأة، ولذلك فإن مجرد عدم حضورهم لجلسة كهذه، تتعلق بقضية دار حولها جدل
سياسي ساخن بين الموالاة والمعارضة ليمكن أن يعد من الناحية السياسية بأنه رفض
ضمني لمشروع النشيد الجديد. علينا أن
نلاحظ في الأخير بأن الجلسة كانت في يوم 25 أكتوبر أي أنها برمجت من بعد انتهاء
العطلة، ومن بعد عودة الجميع إلى العاصمة مما يعني بأن هذا التغيب الكبير لم يكن
بسبب خلو العاصمة من النواب..بعض هؤلاء النواب حضر للجلسة والنقاشات ولكنه تعمد
الغياب عند التصويت، وذلك ربما لكونه لا يمتلك من الجرأة والشجاعة لأن يقول
"لا" علنا، ولكنه لا يريد في نفس الوقت أن يصوت ب"نعم"ويوثق
تصويته ب"نعم" على مشروع نشيد مرفوض شعبيا، ومرفوض من أهل الاختصاص.
3 ـ فيما يخص ال45 نائبا التي صوتت
ب"نعم" على مشروع النشيد الجديد، والتي تمثل أقل من ثلث أعضاء الجمعية
الوطنية، فإنها هي أيضا قد عبرت بشكل أو بآخر عن رفضها لمشروع النشيد الجديد.
وقد جاء ذاك التعبير من خلال الانتقادات التي
وجهها بعض أولئك النواب في مداخلاتهم، حتى لجنة العدل والداخلية والدفاع في
الجمعية الوطنية فقد انتقدت مشروع النشيد الجديد، وقدمت في تقريرها انتقادات قوية
ووجيهة لمقترح النشيد، حتى وإن كانت في نهاية المطاف قد أوصت النواب بالتصويت
ب"نعم" على مقترح النشيد الجديد.
هذا الانتقاد الواسع الذي تعرض له مشروع النشيد
الجديد، حتى من طرف أولئك النواب الذين صوتوا ب"نعم" لصالح تمريره،
ليؤكد بأن أولئك النواب ـ قد أسقطوا بشكل أو بآخر ـ مشروع النشيد الجديد، حتى وإن
كانوا قد صوتوا خوفا أو تطبيلا ب"نعم"
على تمريره.
إن المنطق يقول بأن أي عملية تغيير يجب أن تكون
في اتجاه الأحسن، ويتأكد الأمر عندما تكون عملية التغيير تخص أمرا غير مستعجل، كما
هو الحال بالنسبة للنشيد الوطني الذي لا يعتبر تغييره في غاية الاستعجال،
فموريتانيا بإمكانها أن تبقي على نشيدها الأول لسنوات أخرى، وكان بإمكانها أن تؤجل
تغييره في انتظار قدوم فترة سياسية مناسبة
خالية من التجاذبات، كان بإمكانها أن تبقي على نشيدها الأول دون أن يتسبب لها ذلك
في أي أضرار أو أي خسائر من أي نوع. لذلك فإن تغيير النشيد الذي هو ليس بأمر
مستعجل، كان يجب أن يكون في اتجاه الأحسن، ولذلك فعندما ينتقد النائب هذا المشروع
الجديد بطريقة يفهم منها بأن عملية التغيير لم تكن في اتجاه الأحسن، فإن ذلك يكفي
ضمنيا لإسقاط هذا المشروع، حتى وإن قرر ذلك النائب أن يصوت ـ خوفا أو تطبيلا ـ
لصالح تغيير هذا النشيد.
خلاصة هذه الفقرة هي أن التغيب المكثف للنواب،
والانتقاد المكثف لمشروع النشيد الجديد من طرف النواب الذين صوتوا عليه
ب"نعم"، إن كل ذلك قد أسقط مشروع النشيد الجديد سياسيا، حتى وإن كان قد
تم تمريره قانونيا.
ثالثا: شكوك حول بواعث تغيير النشيد
من العوائق التي تقف في وجه مشروع النشيد الجديد
وتحيل دون تقبله هو أن الرئيس الذي يصر على تغيير هذا النشيد قد عبر في أكثر من
مرة عن عدم إعجابه بالشعر وبالشعراء، وقد انتقد في أكثر من مناسبة العلوم الإنسانية،
الشيء الذي قلده فيه بعض أعضاء حكومته، وبمن فيهم وزير الشباب والرياضة والذي كان
هو آخر من انتقد تلك التخصصات في برنامج تلفزيوني.
فلماذا يصر هذا النظام الذي لا يعجبه الشعر
والشعراء على تغيير النشيد الوطني لموريتانيا؟ ولماذا يصر هذا النظام الذي لا يحب
الشعر والشعراء على إجراء "تحسين" على النشيد الوطني لموريتانيا؟
الشيء المؤكد أن هذا الإصرار على تغيير النشيد
الوطني لا علاقة له إطلاقا بالاهتمام بالشعر والشعراء..إنه مجرد تغيير في إطار
حزمة من التغييرات والإلغاءات والتي شملت حتى الآن العلم الوطني ومجلس الشيوخ، مما
يعني بأن الأهداف من وراء هذه التغييرات والإلغاءات قد لا تكون تلك الأهداف
المعلنة حتى الآن.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق