سارعت بعض المواقع
الإخبارية إلى تحريف مضمون التصريحات التي أدلى بها الرئيس محمد ولد عبد العزيز
على هامش زيارته للاتحادية الموريتانية لكرة القدم، ولقد وصل التحريف ببعض المواقع
إلى أن ادعت بأن الرئيس قد أعلن على هامش تلك التصريحات بأنه لن يترشح لمأمورية
ثالثة، وهذا ما لم يصرح به الرئيس إطلاقا، ولا أظن بأنه سيصرح بمثله في هذه الفترة
المربكة والمرتبكة التي يمر بها.
ومن الراجح عندي بأن
هذه التصريحات الغامضة عن المأمورية الثالثة ستتواصل في الفترة القادمة، فالرئيس
إن قال بصريح العبارة بأنه سيغادر السلطة في منتصف العام 2019 تشتت موالاته
المشتتة أصلا، وإن قال بأنه باق في السلطة من بعد اكتمال مأموريته الثانية انخرط
المزيد من الموريتانيين في معارضته، وصعدت المعارضة التي بدأت تكسر حاجز الخوف من
أنشطتها واحتجاجاتها، وربما أدى ذلك في محصلته النهائية إلى فقدانه للسلطة، حتى من
قبل أن يكمل مأموريته الثانية.
وكما قلتُ سابقا في
أكثر من مقال فإن الرئيس محمد ولد عبد العزيز في حيرة من أمره، وهو يعيش حالة
ارتباك شديد، وذلك لأنه يعلم بأنه لا يستطيع ـ
بسبب الضغوط الداخلية والخارجية ـ البقاء في السلطة من بعد اكتمال
المأمورية الثانية، ويعلم أيضا بأنه لا يستطيع تركها بسبب ملفات الفساد، وكثرة
الخصوم، وذلك بالإضافة إلى أنه لم يعد يستطع ـ من بعد تجربته مع الرئيس السابق
سيدي ولد الشيخ عبد الله ـ أن يثق في أي شخص، ويسلمه السلطة، حتى ولو كان ذلك
الشخص من أقرب المقربين.
في اعتقادي بأن
الرئيس محمد ولد عبد العزيز لم يحسم حتى الآن أمره، وهو لا يزال في حيرة وارتباك،
ولا شك أن ذلك قد انعكس على تصرفاته وعلى قراراته، والتي أصبحت في الفترة الأخيرة
في غاية الغموض والارتباك.
ومن آخر تجليات مظاهر
ارتباك الرئيس أنه قرر أن يخرج إلى قصر المؤتمرات في ليلة الخامس من أغسطس ليشارك
في سهرة احتفالية بالفوز المنتظر، ولقد ترك الرئيس تلك السهرة دون أي مظهر احتفال،
ودون أي ابتسامة نصر، ودون أي تعليق يذكر.
وقد دخل من بعد ذلك هو وموالاته في صمت مريب قرر أن يقطعه من خلال زيارة للاتحادية
الموريتانية لكرة القدم، والتي يبدو أنه قد قرر زيارتها ليقطع الصمت الذي بدأ يثير
الشكوك، وليتحدث عن الاستفتاء وعن نتائجه التي أثارت جدلا كبيرا.
لم يتحدث الرئيس بلغة
المنتصر، بل تحدث بلغة أكثر هدوءا وأكثر سلمية، لم تعهد في خطاباته الأخيرة التي
طبعها التشنج والعنف اللفظي، وقد قال بأن المعارضة كالموالاة معنية هي أيضا بأمن
البلاد، وكان ذلك أمر لافت في تصريحه. ومن الأمور اللافتة أيضا هو أن الحكومة لم
تتقدم بشكر الشعب الموريتاني على مشاركته وعلى تصويته "المكثف بنعم" في
الاستفتاء في بيانها الذي أصدرته في أول اجتماع تعقده من بعد الاستفتاء..هذه
مجموعة إشارات لافتة قد يفهم منها في الظروف العادية بأن النظام يتجه إلى إلغاء
نتائج الاستفتاء، ولكن في ظروفنا هذه فإن تلك الإشارات قد تكون مجرد تعبير آخر عن
حالة الارتباك التي يمر بها الرئيس في أيامه هذه.
وبالعودة إلى
المأمورية الثالثة فإنه قد يكون من المهم التذكير بأن حديث الرئيس عنها قد كلفه
كثيرا، وسواء كان ذلك الحديث إيجابيا أو سلبيا، ففي بداية الأمر تم التعبير عن
تفكير جدي في تمديد المأموريات، فتحدث الوزراء عن التمديد، وأطلقت المبادرات، فتصاعد
من بعد ذلك حجم الضغوط إلى أن اضطر الرئيس
إلى أن يصرح في قصر المؤتمرات، وفي ختام الحوار الأحادي بأنه لن يترشح لمأمورية
ثالثة، وهو ما انعكس بشكل سريع على تماسك موالاته التي لم تكن متماسكة أصلا.
في بداية الأمر تم
التعبير عن تفكير جدي في مأمورية ثالثة، فتسبب ذلك في دخول النظام في ورطة، وتم من
بعد ذلك القول وبشكل صريح بأن الرئيس لا يفكر في مأمورية ثالثة، فدخل النظام في
ورطة أخرى أشد، ولذلك فقد قرر الرئيس بأن لا يتحدث بشكل واضح وصريح عن المأمورية
الثالثة، لا إيجابا، ولا سلبا، بل إنه أصبح يتعمد بشكل مباشر أو عن طريق وزراء
حكومته إطلاق تصريحات يفهم منها بأنه باق في السلطة في تلك الأوقات التي يكون فيها
الرأي العام أقرب إلى تصديق الإشاعات التي تقول بخروجه من السلطة في منتصف العام
2019، ويتعمد في المقابل بشكل مباشر أو عن طريق وزراء حكومته إطلاق تصريحات أخرى
يفهم منها بأنه سيغادر السلطة في تلك الأوقات التي يكون فيها الرأي العام قد بدأ
يقتنع بأن الرئيس لن يغادر السلطة من بعد اكتمال مأموريته الثانية.
إن ما يسعى إليه
الرئيس محمد ولد عبد العزيز في هذه الفترة المربكة والمرتبكة من حكمه هو أن يخلق
توازنا في الحجج لدى من يصدق رواية الخروج من السلطة من بعد اكتمال مأموريته
الثانية، ومن يصدق رواية البقاء في السلطة من بعد اكتمال المأمورية الثانية، وسيظل
الرئيس يطلق بشكل مباشر تصريحات غامضة، أو يأمر وزراءه بإطلاقها تدعم هذه الرواية
أو تلك كلما شعر بأن الرأي العام قد بدأ يميل لتصديق رواية على حساب رواية أخرى.
كان بإمكان الرئيس
ولد عبد العزيز أن يتفادى هذه الوضعية الحرجة التي أوقعه فيها الحديث عن المأمورية
الثالثة، سواء كان ذلك الحديث إيجابيا أو سلبيا، كان بإمكانه أن يتفادى ذلك لو لم
يأمر بعض وزراء حكومته في الربع الأول من العام 2016 بالترويج للتمديد، فمنذ ذلك
الوقت احتل الحديث عن المأموريات مساحة واسعة في الجدل السياسي، وظل النظام الحاكم
يتكبد المزيد من الخسائر السياسية بسبب
حديثه عن تلك المأموريات، سواء كان ذلك الحديث لتأكيدها أو لنفيها.
كان بإمكان الرئيس أن
يتجنب في السنتين الماضيتين أي حديث عن المأموريات، سواء كان ذلك الحديث إيجابيا
أو سلبيا، ولو أنه فعل ذلك لجنب موالاته المزيد من التشتت، ولو أنه فعل ذلك لما
وصلت المعارضة اليوم إلى ما وصلت إليه من التوسع والتماسك. كان بإمكانه أن يحتفظ
بجملته الشهيرة التي كان يقولها في فترة كان يبدو فيها أكثر قوة وأقل ارتباكا، وهي
الجملة التي مفادها بأن الوقت لم يحن للحديث عن المأمورية الثالثة، وبأنه لن يتحدث
عن هذا الموضوع إلا في العام 2019.
ما حدث بعد ذلك سواء
تعلق الأمر بالحديث عن المأمورية الثالثة، أو بمواضيع أخرى، كان عبارة عن أخطاء في
أخطاء، وقد أدت تلك الأخطاء في مجملها إلى إظهار الرئيس ونظامه في أشد حالات الضعف
والارتباك..فهل الأمر يتعلق هنا بتغير ما نفسي أو صحي طرأ على الرئيس جعله يظهر
أكثر ضعفا وأكثر ارتباكا وأقل تركيزا وأقل قدرة على إدارة الأمور أم أن الأمر
يتعلق بيد خفية تحرك الأمور بشكل احترافي من أجل إظهار النظام على أنه قد دخل في مرحلة
سكرات الموت، وأنه قد أصبح بحاجة ماسة إلى "مخلص" أو "منقذ" لإنقاذه
من موت محقق؟
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق