الأحد، 27 يناير 2013

تفكيك موقف!!



لا أجد فرقا كبيرا بين عملية تفكيك عبوة ناسفة أو قنبلة وعملية تفكيك موقف يتعلق بهذه الحرب المخيفة التي تجري على حدودنا، لذلك فلا تستغربوا إن بدت لكم الكلمات مرتعشة وخائفة فما خوفها وارتعاشها إلا من ارتعاش اليد التي خطتها.
وكيف لا ترتعش اليد وهي تعلم بأن عملية تفكيك المواقف هي عملية بالغة التعقيد، ونتائجها ليست مضمونة، خاصة وأن الموقف المراد تفكيكه ـ والذي كنت قد عبرت عنه في مقالي السابق عن الحرب في مالي ـ  يحوي العديد من المواد المتفجرة، والتي يمكن لكل واحدة منها أن تنفجر في أي لحظة، وتصيبني بإحدى شظاياها.
ويزداد الأمر خطورة، إذا ما كانت عملية التفكيك تجري في بلد كبلدنا حيث تعودت النخب ـ من قبل العامة ـ  على الاكتفاء باتخاذ مواقف بسيطة من كل ما يجري حولها من أحداث، ولم يعرف في تاريخ هذه النخب أنها اتخذت موقفا مركبا من أي قضية، حتى ولو كانت تلك القضية بالغة التعقيد كما هو الحال بالنسبة لهذه الحرب الدائرة على حدودنا.
ولأن بعض القراء قد تستفزه بعض الشظايا المتناثرة  هنا أو هناك بعد عملية تفكيك الموقف، وربما يوصله الاستفزاز إلى أن يتجاهل  كل ما كتبتُ من قبل هذا المقال، وكل ما سأكتبُ من بعده فيأخذ بشظية من هنا، أو يقتطع فقرة من هناك، ليقدمها كدليل على أني أصبحت من المطبلين للنظام الحاكم، أو بأني أصبحت من عملاء فرنسا. ولأن شيئا من ذلك قد يحصل، وهو كثيرا ما يحصل،  فقد ارتأيت من قبل أن أبدأ عملية تفكيك موقفي من الحرب في مالي أن أقدم الإيضاحين التاليين:
 أولهما بأني كنت ـ ولا زلت ـ أبغض فرنسا الاستعمارية من قبل هذا المقال، وسأظل أبغضها من بعده، ولن أقبل من أي كان أن يزايد عليَّ في هذه الجزئية. ولكن ذلك البغض لا يعني بأي حال من الأحوال بأني سأصنف ـ وبشكل تلقائي ـ كل من تحاربه فرنسا، أو يحاربها، على أنه ملاك طاهر أو مجاهد في سبيل الله.
أما ثانيهما فهو أني كنت وسأظل أعارض هذا النظام القائم، ولن أقبل أيضا من أي كان أن يزايد عليَّ في معارضته، ولكن ذلك لا يعني أيضا بأني لن أعترف لهذا النظام بحسنته الوحيدة، وأقول حسنته الوحيدة، والمتمثلة في حسن إدارته لملف الإرهاب، وفي تعزيز قدرات جيشنا الوطني.
وما دام قد تم إيضاح ذلك فلا بأس بعرض نتائج عملية التفكيك، والتي أنتجت الفقرات أو إذا شئتم  الشظايا التالية:
1 ـ عن الموقف الحكومي: لقد كنت من الذين ناصروا ـ وفي وقت مبكر ـ النظام الحالي في حربه ضد الجماعات المسلحة. ولقد كنت أرفض دائما أن أصف ما يقوم به النظام من عمليات ضد تلك الجماعات المسلحة بأنه حرب بالوكالة، بل إني اعتبرت من يصف تلك الحرب بالوكالة بأنه هو أيضا يمارس إرهابا بالوكالة، وذلك لأن  خطر هذه الجماعات المسلحة يهددنا نحن هنا في موريتانيا من قبل أن يهدد فرنسا. وهذه الجماعات المسلحة قد شنت علينا في الماضي غارات متعددة، وقتلت العشرات من جنودنا، لذلك فقد كان من حقنا أن نغزوها نحن في معاقلها، ونرد على جرائمها التي ارتكبت ضدنا، فإن هي أوقفت هجماتها أوقفنا نحن هجماتنا، وإن عادت عدنا. وأعتقد بأن تلك العمليات قد ساهمت إلى حد كبير في خلق هدنة غير معلنة مع تلك الجماعات، مما ساهم في خلق هذا الأمن الذي نعيشه منذ عام، رغم أننا نعيش في منطقة غير آمنة. وقد حصل العكس في مالي، و في الجزائر أيضا، والتي كان يحتج البعض بعدم ملاحقتها للجماعات الإرهابية في الأراضي المالية، وهي الدولة الأقوى منا، ليبرر بذلك خطورة ما كان يقوم به النظام من ملاحقة الجماعات المسلحة داخل الأراضي المالية.
ولقد تجاهل أولئك بأنه ليس من مصلحة الجزائر أن يتم الضغط على تلك الجماعات داخل الأراضي المالية، لأن ذلك الضغط قد يجعلها بعضها يعود من حيث أتى، أي يعود إلى الأراضي الجزائرية، وذلك هو ما يفسر الموقف الصادم الذي اتخذته الجزائر من العمليات التي كان يقوم بها الجيش الموريتاني داخل الأراضي المالية، والتي أظهرت الجزائر وكأنها حليفة للجماعات المسلحة. ولقد كتبت في تلك الفترة العديد من المقالات التي كانت تدين الموقف الجزائري المتخاذل، وتناصر تلك العمليات التي كان يقوم بها الجيش الموريتاني، وكان من بين تلك المقالات: شكرا للجيش الموريتاني، الإرهاب بالوكالة، سامحونا، الكلام المباح.....
أما في هذا الوقت الحرج فإني أيضا لا أجد حرجا في أن أقول ـ وبأعلى صوتي ـ بأني أدعم الموقف الحالي للنظام من الحرب الدائرة على حدودنا، وسأظل أدعمه على ذلك الموقف ما دام متمسكا به. أما إذا رضخ لفرنسا ودخل معها في هذه الحرب التي جاءت بعد قرار فرنسي منفرد،  فإني حينها لن أتردد إطلاقا في إدانة ذلك، بل إني لن أكتفي بالإدانة لأن اتخاذ قرار مثل ذلك سيبدد كل رصيد النظام، وسيأتي على حسنته اليتيمة التي اكتسبها من خلال تعامله الحازم مع الجماعات المسلحة.
يبقى أن أشير في الأخير إلى أن الانتقاد الأبرز الذي يمكن أن نوجهه للنظام القائم بخصوص هذا الملف، وهو الانتقاد الذي ينبغي علينا أن نركز عليه في هذه الآونة، هو أن هذا النظام قد فشل في بناء جبهة داخلية متماسكة لمواجهة مخاطر الحرب الدائرة على حدودنا. ومن المعلوم بداهة  بأن تعزيز القدرات الأمنية والعسكرية لن تكون له جدوى إذا ما ظلت الجبهة الداخلية غير متماسكة بفعل الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد. 
2 ـ عن فتاوى العلماء : اختلفت الفتاوى وتعددت حول الحرب الدائرة على حدودنا، وفي ظل هذا التعدد يحتار عامة المسلمين من أمثالي، والذين ليس لهم إلا أن يقلدوا العلماء، ويختاروا من بين فتاويهم تلك الفتوى التي تطمئن لها قلوبهم، والتي يعتقدون بأنها أقرب إلى الشرع.
ولقد كان من الصعب جدا أن يطمئن قلبي لبعض الفتاوى التي تم تقديمها.
يُقدم أستاذي الجليل محمد ولد سيدي يحي حجة قوية للرد على أولئك الذين يقومون بالدعاية السياسية للمرشحين في الانتخابات، وترتكز الحجة على أن تطلب ممن جاءك يدعو لمرشح معين أن تقول له بأنك ستدعو الله بأن يحشره يوم القيامة مع ذلك المرشح، فإن قبل بذلك فمرشحه يستحق أن تصوت عليه، وإن لم يقبل بذلك فقد أقمتَ عليه الحجة.
ورغم أن الأستاذ قدم هذه الحجة في مقام يختلف عن مقامنا هذا، إلا أني ـ مع ذلك ـ وجدتها هي أفضل ما يمكن أن أبرر به عدم استجابتي للدعوة التي قدمها بعض علمائنا الأجلاء، وطالبوا ـ من خلالها ـ بمناصرة الجماعات المسلحة في مالي. فهل يرضى من يطلب منا أن نناصر الجماعات المسلحة في الشمال المالي بأن ندعو الله له بأن يحشره يوم القيامة مع من ذبح جنودنا في لمغيطي أو في تورين أو من يروع الأبرياء في كل مكان؟ إذا قبل أصحاب تلك الفتوى بأن ندعو لهم بذلك الدعاء،  فقد أقاموا علينا نحن عامة المسلمين الحجة، وقد ألزمونا بأن نخرج من يومنا هذا لمناصرة "المجاهدين في سبيل الله" في شمال مالي، أما إذا لم يقبلوا  فعليهم أن يعذرونا إن نحن تقاعسنا عن الاستجابة لندائهم.
ومما يؤسف له كثيرا هو أن العلماء انتظروا حتى تدخلت فرنسا لكي يتحدثوا عن معاناة المسلمين في مالي. أو لم يكن من الأولى بعلمائنا الأجلاءـ وتجنبا لما يحدث الآن ـ أن يكونوا قد بادروا بإصدار الفتاوى والنصح للجماعات المسلحة في الشمال المالي لكي تتعقل قليلا حتى لا تُدخل هذا البلد الفقير المسلم في حرب طاحنة سيتضرر منها كل المسلمين الماليين سواء كانوا في الشمال أو في الجنوب، بل وسيتضرر منها الكثير من المسلمين في الدول المجاورة؟ ولماذا لم يبحث علماؤنا الأجلاء عن حل لما يجري في الشمال المالي خاصة وأن أزمة مالي قد طال أمدها من قبل أن تتدخل فرنسا؟ أوَ لمْ يكن واضحا لعلمائنا بأن الطريقة التي يتصرف بها "المجاهدون في سبيل الله" في الشمال المالي ستؤدي حتما إلى تدخل الدول الكافرة وستمنحهم مبررا وجيها لتدخلهم ذلك؟ أَوَ لمْ يكن واضحا لهم بأن تصرفات "المجاهدين في سبيل الله" ستجعل الكثير من المسلمين في مالي يستغيثون بالدول الكافرة لحمايتهم من إخوتهم المسلمين؟ ولماذا لم يطلب علماء المسلمين من الدول الإسلامية التدخل سلميا أو عسكريا لحل الأزمة في مالي حتى لا يجد الكافر مبررا للتدخل؟ ولماذا يظل علماء المسلمين يحتفظون بفتاويهم حتى تحدث الفتنة وتختلط علينا الأمور فيطلب منا بعضهم أن نناصر فريقا على حساب آخر، وكأن الناس قد تمايزت في المعركة بين فسطاطين: فسطاط حق لا باطل فيه، وفسطاط باطل لاحق فيه؟
إن الذي جعلني أخصص هذه الفقرة للحديث عن بعض الفتاوى، هو أن بعض تلك الفتاوى حاول أن يصور لنا نحن عامة المسلمين بأن ما تقوم به الجماعات المسلحة في شمال مالي هو جهاد في سبيل الله. ولقد استمعت في هذه الأيام إلى فيديو على اليوتيب تحت عنوان " لمن لا يعرف مالي"، وهو الفيديو الذي استمع له إلى حد الآن ما يزيد على مائة وثلاثين ألفا، رغم أنه لم يكمل أسبوعه الأول على اليوتيب، وفي هذا الفيديو مغالطات كثيرة، وقد جاء في ختامه بأن علماء موريتانيا قد أفتوا بأن ما يجري في مالي هو جهاد في سبيل الله، وأن من ناصر فرنسا فقد ارتد عن دينه.
ويبقى أن أشير في ختام هذه الفقرة إلى أن الفتوى التي ارتاح لها قلبي من بين كل الفتاوى التي تم تقديمها، هي فتوى جاءت من علماء إفريقيا، وقد صيغت على شكل تقرير متوازن أعدته الأمانة العامة لعلماء إفريقيا، فهو لم يبسط الأمور تبسيطا مخلا، ولم يغفل عن الأخطاء التي ارتكبتها كل الأطراف، والتي أدت في محصلتها النهائية إلى هذه الحرب المفزعة التي تعيشها مالي.
3 ـ عن التدخل الفرنسي : لا يمكن أن نفسر كل حروب فرنسا بالحروب الصليبية، لأننا لو فعلنا ذلك لوجدنا صعوبة كبيرة في تفسير التدخل العسكري في ساحل العاج، والذي جاء لصالح رئيس مسلم على حساب رئيس مسيحي، ولوجدنا صعوبة كذلك في تفسير تدخلها في ليبيا، وفي  تدخلها من قبل ذلك ضد الصرب في حرب الإبادة  التي أشعلوها ضد المسلمين هناك.
كما أن الجشع والبحث عن المصالح الاقتصادية لا يكفيان لوحدهما لتفسير كل حروب فرنسا، حتى وإن كنا نعلم بأن الجشع والبحث عن مزايا اقتصادية يصعب أن يغيبا عن أي حرب تخوضها فرنسا، أو تخوضها أي دولة غربية أخرى.
وبالنسبة للحرب الفرنسية في مالي فهي ليست بالحرب الصليبية فقط، ولا بالحرب الاقتصادية فقط. كما أنها ليست بالتأكيد بتلك الحرب التي يمكن أن نعتبرها حربا مشروعة جاءت لإنقاذ دولة مالي وشعبها من تهديد الجماعات المسلحة. إن الأحمق وحده هو الذي يمكن أن يخطر بباله بأن فرنسا يمكن أن تغامر بجندي واحد من جنودها من أجل تحقيق مصلحة خالصة للدولة المالية، أو لأي دولة أخرى.
إن الأسباب التي دفعت فرنسا إلى الحرب في مالي هي أسباب بالغة التعقيد والتشابك، ولا يمكن تبسيطها أو اختزالها في تلك الأسباب التقليدية المعروفة عندنا، والتي قد يكون من أبرزها البحث عن مصالح اقتصادية في المنطقة.
فلو فسرنا الحرب بأنها جاءت فقط للبحث عن مصالح اقتصادية، فإن أول سؤال قد يتبادر إلى الأذهان هو : من الذي كان سيستفيد من الثروات والمعادن الموجودة في إقليم أزواد إذا لم تخض فرنسا حربها في مالي؟
والجواب على ذلك السؤال هو أن فرنسا ودول الغرب هي التي كانت ستستفيد من تلك الثروات سواء استقل اقليم أزواد أو لم يستقل، وسواء أعلنت فرنسا الحرب أم لم تعلنها.
فسواء قامت الحرب أم لم تقم، وسواء استقل إقليم أزواد أو لم يستقل، ففي كل تلك الحالات، فإن سكان هذا الإقليم كانوا سيجدون أنفسهم ــ نتيجة للجهل والفقر المتفشي هناك ـ  بأنهم بحاجة لمن يعطيهم الفتات مقابل نهب ثرواتهم، ولن يجدوا حينها إلا فرنسا أو دولة غربية أخرى لتقوم بعملية النهب تلك. فهم لن يجدوا قطعا الشركات الموريتانية ولا الشركات الجزائرية القادرة على استغلال تلك الثروات التي هم في أمس الحاجة لاستغلالها حتى ولو ظل العائد الذين يحصلون عليه من استغلالها لا يتجاوز 2%. ألا يحصل شيء من هذا عندنا نحن في موريتانيا، حيث تستغل ثرواتنا برضانا، وبدون أن تضطر الدول الغربية لخوض حرب ضدنا من أجل ضمان عملية الاستغلال تلك؟
وبالمختصر المفكك، فيمكن القول بأن كل الدوافع والأسباب التي دفعت فرنسا لهذه الحرب هي دوافع شريرة، حتى وإن كان لا يمكن وصف حربها بأنها شر مطلق.
لا يمكن وصفها بالشر المطلق لأن مالي كانت تعيش حربا من قبل حرب فرنسا، وكانت تعيش غزوا من طرف الجماعات المسلحة من قبل الغزو الفرنسي، لذلك فعلينا أن نمتلك الشجاعة لندد بالحربين وبنفس الحدة، وإذا لم نكن نمتلك مثل تلك الشجاعة فعلينا في هذه الحالة أن نلتزم بالصمت وأن نكتفي بالتفرج، وأن نتجاهل الحربين، والتي تشكل كل واحدة منهما خطرا كبيرا على بلادنا.
كان الحل الأمثل لما يجرى في مالي هو أن يأتي ذلك الحل من دول الجوار بعيدا عن فرنسا، وسواء كان ذلك الحل سياسيا أو عسكريا. ولكن المشكلة أن الدول المجاورة لم تبذل جهدا من أجل إيجاد حل للأزمة المالية، فحصل ما حصل، وتُركت الساحة المالية لمن لا تهمه إطلاقا مصلحة مالي، ولا مصلحة المنطقة بكاملها: الجماعات المسلحة وفرنسا.
وإن أهم شيء يمكن أن نفعله الآن، لتصحيح أخطائنا في حق دولة شقيقة ومجاورة، وبغض النظر عن مواقعنا هو أن:
أولا : ندعم ـ وبكل ما نملك ـ  كل تلك الأصوات التي انشقت عن الجماعات المسلحة، وأصبحت تدعو اليوم إلى حل سلمي للأزمة المالية.
ثانيا : الوقوف بحزم ضد أي محاولة للقيام بأي تصفيات ذات طابع عرقي.
ثالثا :  الضغط بكل ما هو متاح على فرنسا وعلى السلطات المالية وعلى الجماعات المسلحة من أجل وقف هذه الحرب المجنونة.
رابعا : دعم الأزواديين ـ وبكل ما هو متاح من وسائل الدعم ـ حتى يتم إنصافهم، وحتى يستعيدوا حقوقهم كاملة غير منقوصة في إطار  دولة مالية موحدة تعترف لهم بخصوصيتهم الثقافية.
 تصبحون وجواركم آمن..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق