لقد حاز أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح عدة صفات وألقاب يصعب أن تجتمع في شخص واحد، ولعل من أشهر صفاته وألقابه ما حُظِي به من ألقاب في مجالي العمل الدبلوماسي والإنساني.
ولأن الحديث عن ألقاب أمير الكويت
الراحل قد يطول، ولا تتسع له مثل هذه المساحة الضيقة، فقد ارتأيت أن أكتفي بلقطة
واحدة في حياة الأمير الراحل، وهي لقطة اختزلت العديد من الرسائل الدبلوماسية
والإنسانية، وقد كنا شهودا عليها هنا في موريتانيا.
في العام 2016، وتحديدا في يوم 25
يوليو انعقدت بالعاصمة نواكشوط القمة العربية السابعة والعشرون، وكانت هذه هي أول
مرة تنعقد ببلادنا قمة عربية، وكانت هناك ـ وبكل تأكيد ـ تحديات كبيرة. قبيل انعقاد هذه القمة تم إطلاق
حملات إعلامية غير ودية من طرف بعض الأشقاء سامحهم الله، فتم الحديث بشكل واسع عن
فنادق نواكشوط التي لا تتمتع بالحد الأدنى من الشروط الصحية لإقامة الوفود، وقرر
رؤساء بعض الوفود المبيت في عاصمة دولة شقيقة مجاورة تفاديا للمبيت في العاصمة
نواكشوط.
لقد أربكتنا على المستويين الرسمي
والشعبي تلك الحملات المغرضة، والتي جاءت ـ وفي ذلك مفارقة عجيبة ـ من وفود دول
يعاني بعضها من تراكم القمامة ومن أزمات اقتصادية واجتماعية صعبة، وبينما كنا
نحاول أن نتصدى إعلاميا لتلك الحملات البعيدة كل البعد عن الأخلاق وعن احترام
العلاقة بين الأشقاء، فإذا بالرد العملي يأتي عليها من حيث لم نكن نتوقع.
لقد جاء الرد من شيخ الدبلوماسية
وقائد العمل الإنساني بلغة دبلوماسية وإنسانية فصيحة وصريحة، وتمثل ذلك الرد في
قراره بقطع عطلته التي كان يقضيها في النمسا، وقدومه إلى العاصمة نواكشوط ليقضي
فيها ليلة من قبل بدء أعمال القمة.
كانت لحظة هبوط طائرة أمير الكويت
الراحل في مطار أم التونسي بالعاصمة نواكشوط ليلة قبل انعقاد القمة، ونزوله منها،
وهو القادم من بلد غني زاده الله غنى، كافية للرد على كل أولئك القادمين من بلدان
فقيرة، ومع ذلك كانوا يقولون بأنه لا يمكنهم المبيت في العاصمة نواكشوط!!
لم يعتذر أمير الكويت الراحل بسبب ظروفه الصحية ولا بسبب سنه، ولم ينتظر حتى
يوم القمة ليأتي فيقضي ساعات قليلة كما فعل البعض ممن قبل بالمشاركة في تلك القمة،
بل قرر أن يأتي يوما قبل موعد القمة، وأن يبيت ليلة في العاصمة نواكشوط، والتي
كانت تتعرض في ذلك الوقت لحملات تشويه غير منصفة من بعض الأشقاء.
سارع أمير الكويت الراحل إلى زيارة
موريتانيا والمشاركة في أول قمة عربية تنظمها، وكان ذلك موقفا نبيلا وشهما من
الأمير الراحل، ويحمل في طياته الكثير من الرسائل الدبلوماسية والإنسانية، ومما
زاد من نبل ذلك الموقف وشهامته، أن موريتانيا كانت قد اتخذت ـ نتيجة لتعقيدات
معينة لا يتسع المقام لبسطها ـ موقفا في غير صالح دولة الكويت أثناء تعرضها
للاحتلال العراقي.
تجاهل أمير الكويت الراحل موقف
موريتانيا من الغزو العراقي لبلده، ولم يفكر في استغلال تنظيمها للقمة لمحاسبتها
على ذلك الموقف، بل على العكس من ذلك فقد تحمل عناء المشقة للحضور، وعمل جاهدا
لإنجاح القمة التي قال عنها بأنها شهدت إعدادا مميزا، ولم يكن ذلك مستغربا من قائد
مثله أفنى عمره في تعزيز العمل العربي المشترك، وفي التوسط بين الأشقاء كلما ظهر
خلاف هنا أو هناك.
حقاً، لقد انبهرنا في موريتانيا
بذلك الموقف الشهم والنبيل من أمير الكويت الراحل، وقد تم التعبير عن ذلك الانبهار بشكل واسع في كتابات المثقفين، وفي
أحاديث الناس العاديين، بل وفي مبادرات شعبية عفوية طالبت حينها برد الجميل للكويت
وأميرها.
نعم، لقد كان ذلك الموقف موقفا
نبيلا وشهما، ولكنه مع ذلك كان موقفا عاديا في مسيرة الأمير الراحل، وفي تاريخ
الكويت ذات الأيادي البيضاء، والتي لم تتأخر في أي يوم من الأيام عن الوقوف معنا
في موريتانيا، ولا عن تقديم الدعم السخي لنا.
لم يتوقف عطاء الكويت عن أشقائها،
ولا عن بقية دول العالم التي هي بحاجة إلى العون، ولذا فلم يكن غريبا أن يلقب
أميرها الراحل بقائد العمل الإنساني، ولا أن تختار هي كمركز للعمل الإنساني. ولم
تتوقف الكويت كذلك عن بذل الجهود في سبيل تعزيز العمل العربي المشترك، ولذا فلم
يكن غريبا أن يلقب أميرها الراحل بشيخ الدبلوماسية وحكيم العرب. لقد تعودت الكويت
أن تعطي بدون منِّ وأذى، وأن تساعد بلا
ضجيج إعلامي، وربما تكون من أكثر بلدان العالم زهدا في تسويق عطائها وفي الترويج
له.
لقد عُرِفت الكويت في عهد أميرها
الراحل ومن قبله بموقفها المشرف والثابت من القضية الفلسطينية، فها هي ترفض
التطبيع الذي تسارعت وتيرته في المنطقة، وذلك على الرغم من حجم الضغوط الكبيرة
التي تتعرض لها في هذا المجال. وقد عُرِفت
الكويت أيضا بمستوى لافت من الديمقراطية إذا ما قورنت بدول المنطقة، كما عُرِفت كذلك
بالابتعاد عن سياسة المحاور والتخندقات وعن تأجيج الصراع في المنطقة، والانشغال ـ
بدلا من ذلك ـ برأب الصدع بين الأشقاء
كلما كان ذلك ممكنا, وبذلك فقد تميزت الكويت عن غيرها، حتى وإن كان ذلك التميز لم
يجد ما يستحق من تثمين وإشادة.
تلك كانت كلمة في حق الكويت وأميرها
الراحل كان لابد من قولها، وذلك من قبل التقدم بأصدق التعازي وأخلصها لأهلنا في
الكويت بعد وفاة الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، والذي نسأل الله
تعالى أن يغفر له، كما نسأله أن يحقق للكويت المزيد من التقدم والرفاه في عهد صاحب
السمو أمير البلاد الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح.
حفظ الله الكويت وأميرها..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق