صادق مجلس الوزراء في بيانه الأخير على مشروع قانون جديد للجمعيات، وقد شكل هذا القانون مطلبا رئيسيا لنشطاء المجتمع المدني خلال السنوات الماضية. بعد عرض مشروع هذا القانون على البرلمان والمصادقة عليه سيكون التصريح بإنشاء جمعية يكفي ويغني عن طلب الترخيص ومشاكله المعقدة.
إن مصادقة مجلس الوزراء على مشروع
هذا القانون يعدُّ خطوة هامة في الاتجاه الصحيح، ولكن يبقى السؤال الأهم : هل
ستنعكس المصادقة على هذا القانون الجديد على أداء المجتمع المدني أم أن التغيير
الذي سيحصل لن يتعدى زيادة أعداد الجمعيات المصرح بها ووصولها إلى أرقام فلكية؟ بعبارة
أخرى : هل ستقتصر نتائج هذا القانون الجديد على أن ينتقل عدد "جمعيات
الحقائب" من الآلاف إلى عشرات الآلاف ؟
مهما تكن الإجابة على هذا السؤال،
فإن الشيء المؤكد ـ حتى الآن ـ هو أننا في هذه البلاد بحاجة ماسة إلى ترسيخ ثقافة
العمل التطوعي وإلى إقناع النخب بضرورة الاهتمام بالشأن العام. فأغلب نخبنا منشغلة
بالبحث عن مصالحها الخاصة، وقليلة الاهتمام بالصالح العام مع وجود استثناءات تؤكد
صحة القول بأن لكل قاعدة استثناءات، ولذا فلم يكن غريبا أن يتكرر على مسامعنا في
الفترة الأخيرة من حكم الرئيس السابق أن أطر الولاية كذا أو المدينة كذا أطلقوا
مبادرة تزلفية تطبيلية تدعو إلى انتهاك الدستور . إن الشيء الذي لم نسمعه لا في
فترة حكم الرئيس السابق، ولا في فترات حكم من سبقوه، ولا في العام الذي مضى من حكم
الرئيس الحالي، هو أن أطر الولاية كذا أو المدينة كذا نظموا يوما تفكيريا لدراسة
مشاكل ولايتهم أو مدينتهم، أو أنهم أطلقوا قافلة صحية، أو نظموا نشاطا ثقافيا، أو
شاركوا في أي عمل تنموي مهما كان حجمه لصالح مدينتهم أو ولاياتهم. طبعا هناك
استثناءات قليلة تؤكد هي بدورها صحة القاعدة، وتكاد تنحصر تلك الاستثناءات في
مبادرتي أطر تجكجة والحوض الغربي في مجال نظافة المدن.
في موريتانيا هناك بالفعل كارثة لا
تجد من يتحدث عنها، إنها كارثة "الأطر"، فالأطر هم قومٌ لا يجلبون منفعة
لمدنهم ولا لوطنهم، وليتهم اكتفوا فقط بعدم جلب المنفعة، بل إنهم قومٌ يسارعون في
أغلب الأحيان إلى جلب الضرر، أو على الأقل يسارعون إلى حجب هموم ومعاناة سكان
المدن عن الرئيس وأركان نظامه، ولذا فقد عودونا على أن لا يهتموا بمدنهم إلا عندما
تكون هناك مواسم انتخابية أو عندما يقرر الرئيس تنظيم زيارات للداخل. عندها فقط
يسارعون إلى مدنهم ليحجبوا عن الرئيس مشاكل ومعاناة السكان الحقيقيين لتلك المدن، وذلك
من خلال استقباله بأحسن الثياب، وأفخر السيارات، وبالقول بأن مدنهم على أحسن ما حال.
إن أطر موريتانيا بحاجة إلى أن
يكفروا عن ذنوبهم التي ارتكبوها في حق مدنهم ووطنهم، ولا يتعلق الأمر هنا بالأطر
لوحدهم، فواجب كل الموريتانيين أن يكفروا عما ارتكبوه في حق وطنهم، وذلك من خلال الانخراط
في أنشطة مجتمعية ذات نفع عام ، بقدر ما يسمح الوقت والجهد والإمكانيات، وهذه بعض
الأفكار والمقترحات التي قد تكون مفيدة في هذا المجال.
أولا/ أنشطة خاصة بالشباب العاطل
عن العمل
لقد اخترتُ أن أبدأ بالشباب العاطل
عن العمل والقليل الإمكانيات، وذلك لأقول بلغة صريحة وفصيحة بأنه لا أحد يستثنى من
العمل التطوعي. هذا المقترح الخاص بالشباب الذي لا يمتلك الحد الأدنى من الموارد سيكون
تحت عنوان "ساعة تطوع"، وهي الساعة التي اخترتها عنوانا للمقال.
يتلخص مقترح "ساعة تطوع"
أو "ساعة خدمة عامة" في أن تكون رسوم الانتساب للنوادي والجمعيات الشبابية
التي لا يمتلك أصحابها موارد مالية تقتصر فقط على التزام المنتسب بالتبرع بساعة من وقته كل
أسبوع للخدمة العامة، وذلك بدلا من دفع أي رسوم مالية حتى ولو كانت رمزية.
لنفترض مثلا أن عشرة شباب قرروا أن
يؤسسوا جمعية، وأن يخصص كل واحد منهم ساعة من كل أسبوع للخدمة العامة كرسوم انتساب
لتلك الجمعية..هذه العشر ساعات يمكن أن تستثمر في :
- القيام بأعمال ميدانية كتنظيف
شارع في الحي، أو خدمة مريض في المستشفى بلا مرافق، أو تقديم حصص تقوية لتلاميذ
فقراء ..وهكذا؛
- القيام بأنشطة توعوية في بعض
القضايا التي تحتاج لأنشطة من ذلك النوع؛
وحتى في حالة عدم التمكن من القيام
بأي أنشطة ميدانية أو توعوية فيمكن تخصيص هذه الساعات العشر للتفكير في القضايا
العامة. يُقال بأن الموريتاني هو الشخص الوحيد الذي لا يستطيع أن يقضي
ساعة متواصلة وهو يفكر في قضية عامة، ولذا فإن مجرد التفكير في قضايا الشأن العام يمكن
أن يصنف في بلادنا على أنه عمل تطوعي.
ثانيا / أنشطة خاصة بالسياسيين
وبالأحزاب السياسية
يدور في أيامنا هذه جدل واسع حول
السقاية التي ينظمها حزب تواصل في كل عام لصالح المشاركين في امتحانات البكالوريا،
. في هذه السقاية يرفع الحزب لافتات تحمل شعاراته، بل أكثر من ذلك فإنه يلف ما
يمنحه للطلاب من خبز وألبان بأوراق تحمل شعار الحزب.
لنفترض بأن ما يقوم به حزب تواصل
من أنشطة خيرية سواء تعلق الأمر بسقاية الطلاب أو بالتدخل في القرى والمدن المنكوبة،
لنفترض بأن كل ذلك العمل ليس صدقة لوجه الله، وإنما هو عمل سياسي صرف يسعى الحزب
من خلاله إلى تحقيق مكاسب سياسية وانتخابية، حتى ولو تأكدنا من صحة هذه الفرضية،
فإنه سيبقى علينا كمتابعين للشأن العام أن نشيد بهذا العمل التطوعي، فالحزب الذي
ينفق موارده التي خصصها للدعاية وللحملات الانتخابية في غير المواسم الانتخابية هو
أفضل من ذلك الحزب الذي لا ينفق مالا إلا خلال أيام الحملات الانتخابية. وإن الحزب
الذي ينفق جزءا من موارده التي خصصها للدعاية والحملات الانتخابية في سقاية طالب
أو في إغاثة منكوب تضرر سكنه من الأمطار إلى غير ذلك من أوجه الإنفاق، لهو خير ألف
مرة من ذلك الحزب الذي لا ينفق تلك المخصصات إلا في الصور المكبرة لمرشحيه، أو في
حفلات موسيقية يقيمها خلال ليالي الحملة الانتخابية. إنه علينا أن نفرق بين مال
أنفق أو جهد بذل في تنظيف شارع أو في إغاثة منكوب، وبين مال آخر أنفق في صور مكبرة
لمرشح أو في حفلة موسيقية للدعاية له، فالإنفاق الأول سيستفيد منه الفقراء، وسيعود
إيجابا على الوطن. أما الإنفاق الثاني فلن يحقق نفعا للوطن، ولن يفيد المستضعفين.
لقد تعودنا في المواسم الانتخابية
أن يظهر أشخاص ميسورون كمترشحين، وينفقون أموالا طائلة في الحملات الانتخابية ومع
ذلك لا يتمكنون من الفوز، والأمثلة كثيرة وليست بالبعيدة، وقد حصل شيء من ذلك خلال
الانتخابات التشريعية والبلدية الماضية.
أكاد أجزم بأن أولئك الذين أنفقوا
أموالا طائلة خلال الحملة في الصور وفي السهرات الموسيقية ولم يحالفهم الحظ في
الفوز، لو أنهم أنفقوا تلك الأموال فيما ينفع الناس وفي غير المواسم الانتخابية
لتمكنوا من الفوز إن ترشحوا.
إن مليون أوقية تنفق في غير
المواسم الانتخابية فيما ينفع الناس ستأتي ـ بكل تأكيد ـ بأصوات تضاعف تلك الأصوات
التي سيأتي بها أضعاف ذلك المبلغ إن أنفق
في مواسم انتخابية على الصور وعلى الحفلات الموسيقية.
إن من أهم نقاط قوة حزب تواصل ـ والتي
يتميز بها عن كثير من الأحزاب ـ هي أنه لا ينسى المواطنين ولا ناخبيه في الفترات
التي لا تكون فيها مواسم انتخابية، وإن من أبرز نقاط ضعف الكثير من الأحزاب
السياسية في بلادنا هي أن صلتها بناخبيها وبالمواطنين بصفة عامة مرتبطة أساسا
بالمواسم الانتخابية.
خلاصة القول في هذه الجزئية هي أنه
على السياسيين الذين لا ينفقون أموالهم لوجه الله وإنما ينفقونها لتحقيق مكاسب سياسية
وانتخابية، عليهم أن ينفقوا تلك الأموال فيما ينفع الناس وفي غير المواسم
الانتخابية، فمثل ذلك الإنفاق سيزيد من مكاسبهم السياسية ومن حظوظهم الانتخابية،
وسيعود بالنفع على الوطن.
ثالثا / أنشطة خاصة برجال الأعمال
والأطر
تفرض المسؤولية الاجتماعية أن يلعب
رجال الأعمال أدوارا لصالح مجتمعاتهم وأوطانهم،
ويلاحظ في هذا المجال تقصيرا كبيرا من طرف رجال أعمالنا مع وجود استثناءات قليلة
وقليلة جدا تؤكد صحة القاعدة التي تقول بأن رجال أعمالنا لا يهتمون بالأنشطة ذات
النفع العام. لم نسمع عن رجل أعمال شيد مدرسة في مدينته أو وفر سيارة إسعاف
لمستوصفها أو أطلق قافلة صحية أو مول مشاريع مدرة للدخل لفقراء مدينته. لا يختلف
الأمر بالنسبة للأطر الذين تحدثنا عنهم في فقرة سابقة من هذا المقال. هناك مقترحات
عديدة في مجال الخدمة العامة يمكن تفصيلها على مقاسات الأطر، ولكني سأكتفي في هذا
المقال ـ والذي بدأ يتجاوز المساحة المخصصة له ـ بمقترح واحد كنتُ قد تحدثت عنه في وقت سابق،
فلماذا لا يطلق الأطر مبادرات لصالح المدارس والثانويات التي درسوا فيها خدمة
للمدارس العمومية التي توجد اليوم في وضعية صعبة جدا؟.ولماذا لم نسمع عن مبادرات
في هذا المجال يطلقها قدامى كل ثانوية، ويتأكد الأمر بالنسبة لقدامى الثانويات
العريقة التي درس فيها عدد كبير من الأطر.
حفظ الله موريتانيا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق