الجمعة، 23 نوفمبر 2018

رواية "يوميات شخص عادي جدًا"/ الحلقة الرابعة


مع اختتام عام اللكمات، وتشجيعا لي على تفوقي، فقد اختارتني إدارة المدرسة لأمثلها في المخيم الصيفي الذي تم تنظيمه في نهاية ذلك العام الدراسي، وكانت تلك هي أول مرة يتم فيها اختيار أحد تلاميذ مدرسة العرقوب ليشارك في مخيم صيفي، وربما كانت ـ كذلك ـ هي آخر مرة. فلم يحدث أن بلغني بعد ذلك، أن أي تلميذ آخر من مدرستنا شارك في أي مخيم صيفي، تم تنظيمه بعد المخيم الذي كان لي الشرف في أن أمثل فيه مدرستنا.

ولقد خيرتني إدارة المدرسة، بين الذهاب إلى العاصمة نواكشوط، أو الذهاب إلى المملكة المغربية، ولقد اخترت العاصمة نواكشوط، لأن والدي رحمه الله تعالى، طلب مني ذلك، واشترط عليَّ مقابل السماح لي بالمشاركة في المخيم الصيفي، أن أكتفي بالسفر إلى العاصمة نواكشوط.
كنتُ في تلك المرحلة من عمري أسمع قصصا كثيرة عن العاصمة نواكشوط، وكان أغلبها  يرتبط بالأفلام وبالسينما، ولذلك فقد تخيلتُ العاصمة نواكشوط وكأنها مجرد صالة كبيرة لعرض الأفلام السينمائية. وسيأتي زمن من بعد ذلك سأسمع فيه عن شاب شرس، كان يعرف ب: " Sans pitiè"، ليس في قلبه مثقال ذرة من شفقة، وكان يقف يوميا أمام صالات عرض الأفلام، وكان يفرض على كل زائر لتلك الصالات غرامة مالية، ولم يكن بإمكان أي زائر أن يرفض دفع تلك الغرامة.
ولي زميل ثان كان يتخيلها ـ أي العاصمة نواكشوط ـ مجرد مستشفى كبير، تحيط به بيوت مخصصة لمرافقي المرضى، ولقد تكونت لديه هذه الصورة، لأنه ـ وكما قال لي لاحقاـ كان لا يسمع عن العاصمة نواكشوط، إلا إذا ما اضطرت أسرة من جيران أهله في الحي لأن تسافر بمريضها لعلاجه في مستشفى العاصمة.
ولي زميل ثالث كان يتخيلها بحرا  تسقط فيه الشمس كل مساء، وكان ذلك البحر يغلي غليانا شديدا، ويرتفع منه بخار كثيف، يملأ ما بين السماء والأرض، لحظة سقوط الشمس. وهذه القصة، أي قصة سقوط الشمس في بحر العاصمة، كانت شائعة عندنا نحن أطفال ذلك الزمن الجميل، وبالنسبة لزميلي فقد سمعها من جارة لوالدته، ذهبت إلى نواكشوط، وعادت لتؤكد له، ولأطفال الحي، بأن الشمس تسقط في كل مساء في بحر نواكشوط. وكانت تقول لهم بأنها رأت الشمس بعينيها الاثنتين ـ اللتين لابد أن يأكلهما الدود ـ وهي تسقط من السماء، في بحر نواكشوط، وأنها رأت بعد سقوطها غيوما كثيفة من البخار تتصاعد من البحر.
لم تكن العاصمة نواكشوط بالنسبة لي، ولا لزملائي في ذلك الوقت، مجرد مدينة عادية بملامح عادية، وبمواصفات ثابتة لا تتغير، بل كانت مدينة شبح، بعشرات الصور والملامح. وكان لكل طفل منا شبحه، أو صورته التي يختزل فيها عاصمة البلاد،  ولذلك فقد كان من اللازم أن أعود إلى زملائي في المدرسة، بحقيقة نواكشوط، وكانت تلك هي مهمتي الأساسية في المخيم الصيفي، حتى وإن كانت مهمة غير معلنة. ولقد أديت تلك المهمة غير المعلنة على أحسن وجه، والدليل على ذلك، أني كنت عندما أتحدث عن نواكشوط، خاصة في الأيام الأولى بعد العودة، يصغي لي الجميع بانبهار وبتركيز شديد.
لقد عدت إلى زملائي بحقيقة نواكشوط. فقلت لهم بأن فيها مصنعا عجيبا للأشربة، وأني تجولت ـ مع زملائي في المخيم ـ داخل ذلك المصنع العجيب، وأني رأيت القوارير تتحرك لوحدها بانتظام عجيب، نحو آلة تملأ تلك القوارير من مشروب الكوكا كولا، ثم تتحرك إلى آلة ثانية تغلقها، ثم إلى ثالثة تضعها في الأكياس، وهكذا.
وقلت لهم بأن أهل نواكشوط لا يجوعون أبدا، فهم يأكلون ست وجبات في اليوم الواحد، ولقد كان ذلك هو عدد الوجبات التي كانت تقدم لنا يوميا في المخيم، وذلك باعتبار أن قطعة الخبز مع الزبدة، أو مع الجبن يمكن عدها وجبة متكاملة، وكانت قطعة الخبز بالزبدة تقدم لنا في المخيم ثلاث مرات في اليوم، مما رفع الوجبات المقدمة لنا يوميا إلى ست وجبات.
ولم أقل لزملائي بأني شاهدت الشمس تسقط في البحر، كما كانت تقسم على ذلك جارة والدة زميلي، ولكني في المقابل، قلت لهم ما لا يقل غرابة عن ذلك، في زمننا ذاك. فحدثتهم عن المرأة الموريتانية التي رأيتها، بعيني الاثنتين على شاطئ البحر، وهي تدخن سيجارة! ولم أقل لهم بأني ذهبت إلى دور السينما لمشاهدة الأفلام، وإنما قلت لهم بأن أهل نواكشوط لا يذهبون إلى دور السينما، وإنما تأتيهم السينما في ديارهم. ولقد حدثتهم عن كل الأفلام التي شاهدتها في ثانوية البنات، حيث كان مقر مخيمنا الصيفي.
وقلت لهم ـ ولم أصدقهم في ذلك ـ بأني مللت من ركوب الحافلات والسيارات في العاصمة نواكشوط، وأني أصبحت أنزعج عندما يدعوننا المشرفون على المخيم إلى جولة في العاصمة نضطر خلالها لركوب حافلة أو سيارة.
والحقيقة أنه لم يكن من الممكن لطفل مثلي، قادم من مدينة لعيون، في تلك الفترة من الزمن، أن يمل من التنقل في السيارات. لقد كانت أمنيتي في المراحل الأولى من طفولتي، وهي أمنية الكثير من زملائي، أن أكبر بسرعة، وأن أصبح سائقا لأحدى سيارات "Land Rover" التي كنا نشاهدها، من حين لآخر، تجوب شوارع المدينة، في السبعينات.
ولقد كان سائقو السيارات، بالنسبة لنا نحن أطفال السبعينات، هم نجوم المدينة الذين لا يمكن لأي كان أن ينافسهم على تلك النجومية، وكان من أشهر أولئك النجوم، سائقان نُسِج حولهما الكثير من القصص المثيرة. أحدهما كنا نلاحقه بنظراتنا، كلما مر بسيارته من أحد الشوارع. فمن يدري، فربما يتصادف معه أحدنا، وهو يطير بسيارته؟ لقد كان من المؤكد لدينا، بأن ذلك السائق الشهير، قد طار بسيارته مرة  واحدة على الأقل، وكان ذلك على الحدود المالية الموريتانية، والسبب أنه في أحدى رحلات عودته من مالي، وجد واديا في طريقه قد امتلأ بالماء، بفعل الأمطار التي تهاطلت أثناء رحلة العودة، فما كان من السائق الشهير، إلا أن قرر أن يطير بسيارته، حتى يجتاز الوادي، ثم يعود بها إلى الأرض ليواصل طريقه، وكأن شيئا لم يكن. أما النجم الثاني، فقد كان يقال بأن سيارته تعطلت به ذات مرة، في أرض قاحلة، فانزعج الركاب كثيرا، وخافوا أن يهلكهم العطش في تلك الأرض القاحلة. ولكن السائق الشهير لم ينزعج كالركاب، وإنما ذهب إلى شجرة، وقطع جزءا من جذعها، وصمم منه قطعة على شكل القطعة المتعطلة في ماكينة السيارة، ثم وضع القطعة الخشبية مكان القطعة المتعطلة، ليواصل من بعد ذلك طريقه إلى المدينة.
ولقد كان شائعا عندنا بأن ذلك السائق، هو الذي ساعد في إصلاح جناح طائرة"DC-4 الذي سقط ذات مرة في أحد المطارات، وكان يقال بأنه هو الذي ثَبَّت ذلك الجناح من جديد بالطائرة، وأنه ربطه بالحبال، ولقد عادت الطائرة إلى الطيران، وظلت تطير وأحد أجنحتها مربوط بالحبال.
ولقد بحثت كثيرا عن ذلك الحبل، عندما شاهدت، ولأول مرة، طائرة"DC-4" عن قرب، وهي جاثمة في مطار لعيون، وكان ذلك عند ذهابي إلى العاصمة، في رحلة المخيم. وبحثت عن الحبل مرة ثانية أثناء عودتي من المخيم، في نفس الطائرة، ولكني لم أشاهد الحبل المذكور، ومع ذلك فإني لم أحدث زملائي بذلك، مخافة أن أقلل من شأن أحد أشهر سائقين، أو على الأصح، أشهر نجمين بمدينة لعيون في ذلك الزمن.
وفي ذلك العام كان كل شيء في مدينتنا الرائعة، رائعا بحق، وكان الصف الخامس، بالنسبة لي، من أروع سنواتي في المرحلة الابتدائية. فقد كنت أنا التلميذ الوحيد في المدرسة الذي كان بإمكانه أن يقول لزملائه في ذلك العام الرائع، بأنه قد مر به شهر كامل، ظل يأكل فيه ست وجبات في اليوم الواحد، ويشاهد فيه الأفلام قبل النوم، ويتنقل يوميا في السيارات والحافلات، حتى أصبح منزعجا من ذلك.
وفي ذلك العام الرائع، وهذا من أسرار روعته، لم أتعرض للضرب إلا قليلا، فقد كان معلمنا في الصف الخامس، هو مدير المدرسة المعروف بتسامحه وبحلمه، ولقد قابلت تسامح المدير وحلمه بأدب جم، ولم أشوش إلا قليلا.
ورغم ذلك فلم يخل العام الرائع من بعض المنغصات التي حدثت خارج المدرسة، وكان بعضها مروعا، ففي ذلك العام انفجرت قنينة غاز داخل منزلنا، وتسببت في حروق متفاوتة الخطورة لكل أفراد عائلتنا، وكانت حروقي متوسطة. لقد شوهدت ألسنة نيران الانفجار من أماكن متفرقة في المدينة، وسُمِع صوت الانفجار في أمكنة بعيدة، ولقد اعتقد الكثيرون من سكان المدينة، بأن صحراويين كانوا قد تسللوا إلى المدينة، وبأنهم هم من يقف وراء ذلك الانفجار القوي. وكان للناس الحق في أن يعتقدوا ذلك، فحرب الصحراء لم تكن حينها قد توقفت، واستخدام الغاز المنزلي لم يكن معهودا في ذلك الزمن.
وقبل انفجار قنينة الغاز، كنت قد فوجئت في يوم من الأيام بسيارات عسكرية، مدججة بالسلاح، تتوقف وبشكل عنيف أمام باب منزلنا، ويهبط منها عدد من العسكريين. اعتقدت في البداية بأن تلك السيارات يقودها ابن خال والدتي، والذي تخرج في تلك الفترة ضابطا، والذي ربما يكون قد زار المدينة في مهمة عسكرية، وقرر بالتالي أن يمر بمنزلنا للسلام، وكان من المؤكد بأن ذلك المرور كان سيرفع من  مكانتي بين الأطفال، فأن يوقف ضابط عسكري في ذلك الزمن سيارة عسكرية أمام منزل ما في المدينة، فإن مثل ذلك الحدث لن يكون بحدث عابر، خاصة عند أطفال المدينة.
خرجت إلى باب المنزل مسرعا، لاستقبال الضابط الخال، ولكنني صُدِمت عندما لم أشاهده بين العسكريين الذين كانوا يتصرفون بغطرسة فاجأتني كثيرا. لقد نزلوا من سياراتهم بخشونة، ومروا من أمامي بخشونة، ودخلوا في المنزل بخشونة، وأخذوا يهددون النساء والأطفال بخشونة.
صوب قائد الجند، وبالوحشية المعهودة للقادة، سلاحه نحونا، وهدد بنسف المنزل وبمن فيه، من نساء وأطفال، إن لم نُخرج لهم، وعلى الفور، الصحراوييْن الاثنين اللذين نخبئهما في مكان ما من المنزل.
كان في تلك الفترة يسكن عندنا صديق لوالدي رحمه الله تعالى، وكان برفقته عامل يستأجره، وكان صديق الوالد يقيم معنا مدة من الزمن، يشتري خلالها عددا من رؤوس الإبل، يسوقه في وقت لاحق، إلى مدينة أطار لبيعه هناك، وكان صديق الوالد رجلا من أهل الساحل، وكان شكله وبشرته يختلفان كثيرا عن الأشكال المعهودة في المدينة، خصوصا في فصل الصيف، حينما تصبغنا حرارة المدينة بصبغتها المميزة، وكان بالإضافة إلى ذلك يملك بندقية يحملها معه كلما سافر خارج المدينة.
ولقد حدث أن لمح حطابٌ يسوق حمارا محملا بالحطب، صديق والدي مع عامله، وهما داخل كهف من كهوف الجبال المحيطة بالمدينة، من الناحية الجنوبية، وكانا وقتها ينتظران إبلا سمعا بأنها قادمة إلى المدينة، وعندما رآهما الحطاب هناك، اتجه فورا إلى السلطات، وأخبرهم بأنه شاهد صحراوييْن مسلحين في كهف من كهوف الجبال الواقعة جنوب المدينة، وأن المسلحيْن يستعدان للإغارة على المدينة.
ـ دعك من تهديد وترويع النساء والأطفال، أنت جئت إلى هنا من أجلي، وها أنذا بين يديك فأفعل بي ما تشاء، ودع عنك تهديد النساء والأطفال.
هكذا خاطب صديق والدي رحمه الله تعالى، القائد المتوحش. لم يكن صديق الوالد في تلك اللحظات بعيدا عن المنزل، وعندما شاهد السيارات العسكرية، وسمع بالخبر عاد مسرعا تسبقه كلماته تلك، والتي لم تترك للقائد المتغطرس أي حجة للاستمرار في ترويعنا وتهديدنا بتلك الطريقة المتوحشة، ولا بتنفيذ تهديداته، والتي يبدو أنه كان يفكر بشكل جاد في تنفيذها.
لم تستمر التحقيقات طويلا مع صديق والدي رحمه الله، فقد كانت لديه أدلة كثيرة تثبت بأنه لم يفكر يوما في الإغارة على مدينة لعيون، ولكن، ورغم ذلك، فلم يُطلق سراحه إلا بعد أن تدخل بعض وجهاء المدينة، وتعهدوا بتحمل المسؤولية الكاملة، عن أي جريمة يرتكبها صديق والدي رحمه الله، خلال فترة إقامته بالمدينة.
وعندما أُطْلِق سراح صديق والدي رحمه الله، هجم عليه بعض سكان المدينة، ممن صدق بأنه صحراوي مسلح، ورشقوه بالحجارة، ونددوا بإطلاق سراحه، فما كان منه إلا أن أعاد إلى مكان الاعتقال، وطلب من السلطات أن تؤمنه في طريق عودته إلى منزلنا الذي يقع في الحي الجنوبي من مدينة لعيون، المدينة المتميزة في كل شيء، حتى في إشاعاتها، وفي قدرة أهلها على تخيل القصص، وعلى مزج ما تخيلوا من قصص بتفاصيل حياتهم اليومية.
وكعادتهن، فقد أبدعت بائعات الخضروات في سوق المدينة، هن وزبوناتهن، في ذلك اليوم المتوحش، فألفن في دقائق معدودة قصصا مثيرة وعجيبة، ونسجن خلال تلك الدقائق روايات عديدة للمعركة الشرسة، التي حدثت في ذلك اليوم، داخل منزلنا بين أهلي، ومن معهم من الصحراويين، ومن ناصرهم من الأقارب، وعساكر المدينة.
وتحدثت بائعات الخضروات،عن العديد من الجرحى والقتلى الذين سقطوا من الجانبين، في ساحة المعركة الشرسة التي دارت في ذلك اليوم، داخل حدود منزلنا.
ولقد ذُهِلت كثيرا عندما قابلت زملائي في مساء ذلك اليوم المتوحش، ووجدت أن لديهم روايات وتفاصيل لما حدث من معارك شرسة داخل منزلنا، قللت كثيرا من أهمية روايتي للحدث، رغم أني أضفت لروايتي كشاهد عيان، إضافات عديدة لمزيد من الإثارة. ولقد اكتشفتُ في ذلك المساء، بأن روايتي للحدث الذي كنت شاهدا عليه، كانت هي أسخف رواية بمكن أن أرويها للأطفال في مساء ذلك اليوم، فروايتي لما جرى لم تكن لتتحدث عن سقوط جرحى ولا قتلى، ولم تكن لتتحدث عن مخزون كبير من السلاح (بنادق، وقنابل) تم العثور عليه في ذلك اليوم في منزلنا، وبالمناسبة فإن منزلنا لم يكن يتكون إلا من غرفتين اثنتين وعريش، ومن النادر جدا أن تغلق أي من الغرفتين، بل ومن النادر جدا أن تخلو أي واحدة منهما من بعض الضيوف أو من بعض الزوار.
وفي الصف السادس، لا أذكر أني ضُربت ولو لمرة واحدة، وقد درسنا في ذلك العام معلم للفرنسية، أحبني كثيرا، وتوطدت علاقتي به منذ الأيام الأولى التي أعقبت الافتتاح، ولم تتوتر علاقتي به، إلا عند البدء في إيداع ملفات الترشح لمسابقة دخول السنة الأولى من الإعدادية، فلم يكن معلمي يرضى لي بأن أدرس باللغة العربية التي كانت منبوذة ومهمشة في ذلك الوقت، والتي لا تزال مهمشة في هذه البلاد، وإلى يوم الناس هذا.
كان معلم الفرنسية يثق بي ثقة عالية، وكان يكلفني بمهام كثيرة داخل الفصل، في إطار ما يمكن تسميته بالتحفيز من خلال التكليف بالمزيد من المهام والصلاحيات.
ومن شدة ثقته بي، أذكر أنه لما زارنا تلميذان من خارج الفصل، خلال حصة حصصه، وكانا يريدان منه أن يحل لهما أصعب مشكل على الإطلاق، في كتاب الحساب الشهير، والمعروف باسم أحد مؤلفيه:J.Auriol"" . وكان من عادة التلاميذ أن يختبروا مستوى المعلمين في الحساب من خلال مطالبتهم بحل المشكل المذكور.
أذكر بأن التلميذين الزائرين لما طلبا من معلمنا حل المشكل، ما كان منه إلا أن  فاجأهما بأن أجابهما بشكل مباشر، وقال لهما بأن وزن خنشة الأرز المطلوب تحديد وزنها في المشكل المذكور هو 63.5 كلغ، إن لم تخني الذاكرة. وبالمناسبة فأنا أعتمد في سرد هذه المذكرات، على ما أتذكره الآن، وهناك بعض الأحداث التي كان يمكن لي أن أقدم عنها تفاصيل أكثر، وأن أتحدث عنها بدقة أكبر، لو أني استعنت بآخرين ممن عايشوها مثلي، ولكني لم ولن أستعين بهم، فهذه اليوميات ستقتصر أحداثها على ما ستجود به ذاكرتي البخيلة من ذكريات مشوشة.
وفاجأ المعلم التلميذين مرة ثانية، عندما قال لهما بأن أصغر تلميذ في فصله، يمكنه أن يحل لهما المشكل المذكور. وعندها طلب مني معلم التحفيز بالمهام الصعبة أن أتقدم لحل المشكل المذكور.
وكانت تلك واحدة من أصعب المهام التي كُلفت بها في ما مضى من حياتي، وكانت تلك هي المهمة الوحيدة التي يستحيل أن أفشل فيها.
تقدمت إلى السبورة، وبدأت في حل المشكل، وكنت أثناء الحل أحس بنظرات المعلم الواثقة تخترق جسمي، وتزودني بطاقة هائلة. لم أكن بحاجة لأن أسترق النظر إلى وجهه، فقد كنت واثقا بأنه ينظر إليَّ في تلك اللحظات بنظرات واثقة، نظرات تخيفني وتطمئنني في آن واحد. لقد كنت خائفا من أن يهلكني معلم التحفيز بالمهام الصعبة بثقته المفرطة، وبمهامه الصعبة، وبتحفيزه الذي كان في بعض الأحيان، يزعجني ويخيفني أكثر من إبر المعلم المشكلة، ومن سطل معلم تحسين الخط، ومن لكمات المعلم الملاكم.
وقد لا تصدقون بأني تمنيت وأنا أحاول حل المشكل المعقد، أن يكون المعلم المشكلة، أو معلم تحسين الخط، أو المعلم الملاكم، أن يكون أحدهم هو الذي يقف في تلك اللحظات  خلفي، بدلا من معلم التحفيز بالمهام الصعبة.
وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني المعلم المشكلة بحل ذلك المشكل، لما أتعبت نفسي، ولبحثت عن أغرب إجابة، وربما كتبت له على السبورة بأن وزن الخنشة هو صفر كلغ، حتى وإن كنت أعلم بأن تلك الإجابة المشاكسة ستترتب عليها مائة وخزة بالإبر على اللسان.
وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني المعلم الملاكم بحل ذلك المشكل، لربما فكرت في أن أكتب له بأن وزن الخنشة يزيد على ثلاثين ألف طن، حتى وإن كنت أعلم بأن تلك الإجابة المستفزة ستتسبب لي في مائة لكمة على الوجه.
وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني معلم تحسين الخط بحل ذلك المشكل، لربما امتنعت عن حله، مدعيا أني لا أفهم إلا في تحسين الخط، حتى ولو كنت أعلم بأن ذلك التصرف الأحمق قد يترتب عليه أن أقف وأجثو مائة مرة، وأنا أحمل سطلا مملوءا بالتراب المبلل.
مشكلتي في ذلك اليوم، أن المعلم الواقف خلفي، هو معلم التحفيز بالمهام الصعبة، الذي لم يغضب عليَّ يوما، ولم يعاقبني يوما، والذي فوق ذلك، يحبني كثيرا، ويحترمني كثيرا، ويثق بي ثقة عمياء.
ومشكلتي في ذلك اليوم، أنه إذا كان يجوز لي أن أفشل في أي شيء، كُلفت به في حياتي، حتى لو كان أمرا بسيطا، فإنه لا يجوز لي إطلاقا أن أفشل في أصعب مهمة كُلفت بها في حياتي، لأن من كلفني بتلك المهمة الصعبة، لم يكن سوى معلم التحفيز بالمهام الصعبة، ولأنه بعد ما كلفني بها، وقف خلفي، وهو على ثقة كاملة بأني سأنجزها، وعلى أحسن وجه.
ولعل مشكلتي الكبرى في هذه اللحظات، هي أن الكاتب الذي تعاقدت معه على كتابة هذه السيرة، لن يتمكن من أن يصف لكم بدقة ما جرى في ذلك اليوم، حتى ولو تفرغ لهذه الحلقة أسبوعا كاملا. لن يستطيع أن يفهمكم بأن التحفيز قد يهلك تلميذا في الصف السادس، أكثر مما تهلكه اللكمات في الصف الرابع، أو حمل السطل في الصف الثالث، أو الوخز بالإبر الحادة في الصف الثاني ابتدائي. لن يستطيع كاتب هذه اليوميات أن ينقل لكم بلغته العادية جدا، مشاعر غير عادية، في لحظة غير عادية، من حياة شخص عادي جدا. كلما يمكن للكاتب أن يفعله، وأنا أتحداه الآن أن يفعل أي شيئا آخر، هو أنه سيهرب من تلك اللحظة الاستثنائية، وسيقول لكم، وبسذاجة سخيفة جدا، بأني تنفست الصعداء عندما توصلت خلال حلي للمشكل، لرقم يتطابق تماما مع الرقم الذي ذكره معلم التحفيز بالمهام الصعبة منذ دقائق، على أنه وزن الخنشة المطلوب تحديده في المشكل.
ومن الغريب حقا، أني بعد ذلك بسنوات عدة، وبعد أن تحسنت معلوماتي في الرياضيات، حاولت أن أحل نفس المشكل، بنفس الطريقة التي استخدمتها لحله سابقا، ولكني فشلت في ذلك، ولم أتمكن من حله إلا بعد أن استخدمت نظاما من معادلتين ذواتيْ مجهولين، مما جعل من حله مسألة في غاية البساطة. ولقد تمنيت في هذه اللحظات التي كنت أسرد فيها لكاتب يومياتي تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم، أن أذهب إلى وراقات سوق العاصمة، واشتري كتاب الحساب المذكور، فقد رأيته مرة هناك، وذلك لكي أجرب حل المشكل مرة أخرى، بالطرق الحسابية التي كنا نستخدمها في الابتدائية، ولم يمنعني من المحاولة في هذا الوقت، إلا أن ذلك قد يعين الذاكرة، ويساعدها في تدقيق الرقم الذي ذكرته سابقا، على أنه وزن خنشة الأرز، وأنا لا يحق لي حسب الشروط التي اشترطتها على نفسي، عند البدء في سرد هذه اليوميات، أن أعين ذاكرتي بأي عنصر خارجي، من قبل الانتهاء الكامل من سرد هذه اليوميات.
وفي ختام تلك السنة، وجدت نفسي في موقف حرج جدا. فقد أصر معلم التحفيز بالمهام الصعبة على أن أترشح لمسابقة دخول السنة الأولى إعدادية بالفرنسية، وكان يتوقع لي مستقبلا زاهرا في الأدب الفرنسي. أما مدير المدرسة، والذي كنت أحترمه أيضا، فقد أصر على ترشحي بالعربية، بحجة أن قسمنا لابد له من أن يتبرع بتلميذ للشعبة العربية، وكنت أنا بالنسبة للمدير هو التلميذ الوحيد في القسم المؤهل لذلك، فقد كانت العربية حينها لغة ثانوية، ولم ندرس بها الحساب الذي يعتبر مادة أساسية في تلك المسابقة.
ولقد نجح المدير في فرض رأيه، وذلك بعد أن اتصل بوالدي رحمه الله، وأقنعه بضرورة ترشحي للمسابقة العربية. كما أن قيادات في التنظيم الناصري الذي بدأت أدعي الانتساب له، في تلك الآونة، كانت في صف المدير أيضا.
ولقد اتخذت بعد نجاحي في المسابقة قرارا سخيفا، نتجت عنه قطيعة كاملة مع اللغة الفرنسية، فكنت أبخل على هذه اللغة، بتسجيلها في جدول توزيع الزمن، لسنوات أربع في ثانوية لعيون. ولم أتوقف عن القطيعة الكاملة مع اللغة الفرنسية، إلا عندما حُوِّل إلينا في القسم الخامس رياضي، أستاذ مبدع، كان يكتب على السبورة بطريقة عجيبة، وكانت طريقته في الكتابة هي أول ما شدني إلى حصصه التي لم أتخلف عنها في ذلك العام الدراسي، ولو ليوم واحد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق