لم تكن المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا مساء الجمعة الماضي بالمحاولة التقليدية، ولم تكن الأساليب التي تم اعتمادها لإفشال تلك المحاولة الانقلابية بالأساليب التقليدية. فأن تكون الساعة صفر في محاولة انقلابية ما هي الساعة التاسعة والنصف ليلا، لا الساعة الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة فجرا، فهذا يعني بأننا أمام محاولة انقلابية غير تقليدية، حتى وإن جاءت هذه المحاولة الانقلابية في منتصف شهر الانقلابات (يوليو)، وحتى وإن تم فيما بعد القول بأن الساعة صفر كانت في الأصل هي الساعة الثالثة فجرا، وأن الخوف من انكشاف المحاولة هو الذي أدى إلى تعجيل تحرك الانقلابيين. هذه المحاولة الانقلابية لم تكن أيضا تقليدية لا في أساليب إفشالها، ولا في نتائجها، فأن يتم إدراج 2745 قاضيا ومدعيا عاما على قائمة المطلوبين، وأن يتم إيقاف 15200موظفا من العمل في وزارة التعليم، وأن يُطالب المجلس الأعلى للتعليم بإقالة 1577 عميدا بعد ثلاثة أيام فقط من بدء المحاولة الانقلابية الفاشلة فهذا يعني بأننا أمام حدث غير تقليدي، وسواء كان هذا العدد الكبير من موظفي وزارة العدل والتعليم قد شارك فعلا في المحاولة الانقلابية الفاشلة أم أنه لم يشارك فيها، ففي كلتا الحالتين، فنحن أمام حدث غير تقليدي وغير عادي.
وفي انتظار أن يتكشف لنا الأمر، وهل أن هذه الأعداد الكبيرة من الموظفين المدنيين قد شاركت فعلا في المحاولة الانقلابية الفاشلة، أم أن الأمر يدخل في إطار استغلال ظرف خاص لتصفية الحساب مع ما بات يعرف في تركيا بالكيان الموازي، في انتظار أن تتكشف لنا حقيقة الأمر، فلا بأس أن نتوقف من قبل ذلك مع جملة من المفارقات اللافتة التي صاحبت هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة.
خدعة الأرقام
شهد العامان الأخيران تنظيم انتخابات عديدة في عدد من الدول العربية والإسلامية، وأعطت تلك الانتخابات في محصلتها النهائية نسبة 96.91% للانقلابي السيسي، و94.5 % للدكتاتور عمر البشير، و88.7% للطاغية بشار، و81% للرئيسين الجزائري والموريتاني، في حين أن أردوغان وحزب العدالة والتنمية لم يحصلا في آخر انتخابات تنظم في تركيا إلا على نسبة 49%.
المفارقة هنا هي أن أردوغان الذي لم يحصل إلا على نسبة 49% من أصوات الناخبين الأتراك في آخر انتخابات هو نفسه أردوغان الذي استجاب له الشعب التركي وبشكل واسع لما أطلق نداءً بضرورة النزول إلى الميادين للتصدي للانقلاب، وهو ما كان، فخرج الآلاف من الأتراك استجابة لذلك النداء، وأفشلوا بذلك المحاولة الانقلابية.
إن أردوغان الذي لم يحصل إلا على نصف أصوات الناخبين في تركيا قد حماه شعبه من العسكر، أما الطغاة في بلداننا العربية، والذين حصلوا على 97% (السيسي) و95% (عمر البشير) و 89% (بشار) إلى بقية اللائحة فإن العسكر هو الذي يحميهم من شعوبهم التي يُقال زورا وبهتانا بأنها صوتت لهم بنسب تقترب في بعض الأحيان من 100%.
إن التأمل في هذه الأرقام ليؤكد بأنه كلما كانت نسبة الفوز في حدود 50% فإن ذلك يعني بأن الانتخابات كانت أقرب إلى الشفافية والمصداقية، وبأن شعبية الفائز في تلك الانتخابات هي شعبية كبيرة وحقيقية، أما إذا كانت نسبة الفوز كبيرة وتفوق 80%، وهو الشيء الذي يتكرر دائما في عالمنا العربي، فإن ذلك يعني بأن شعبية أولئك الرؤساء الذين حصلوا على تلك النسبة العالية قد وصلت إلى الحضيض.
الانقلاب انطلق من "الواتساب" وفشل ب"الفيس تايم"
من المعروف بأن هناك عداءً شديدا بين الأنظمة الحاكمة ووسائط التواصل الاجتماعي، ويشتد هذا العداء لدى الأذرع العسكرية والأمنية لتلك الأنظمة الحاكمة. ومن المعروف أيضا بأن هناك معارك قد دارت بين أردوغان وبعض وسائط التواصل الاجتماعي. المفارقة هنا هي أن الانقلابيين في تركيا، وحسب ما تناقلته وسائل الإعلام، كانوا قد اعتمدوا في تحركهم الانقلابي على مجموعة أطلقوها في"الواتساب"، وفي المقابل فإن اردوغان قد استعان بمكالمة مجانية قصيرة عبر "الفيس تايم" لإفشال ذلك التحرك الانقلابي الواسع الذي شارك فيها عدد كبير من الجنود والضباط، واستخدمت فيه الكثير من الطائرات والآليات العسكرية.
إن هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة، والأساليب التي تم اعتمادها لإفشالها، أظهرت بأن الإعلام التقليدي قد بدأ يفقد دوره في إنجاح وفي إفشال الانقلابات. ففي الماضي القريب كان يكفي لنجاح أي انقلاب أن يتمكن الانقلابيون من إصدار بيانهم الأول عن طريق الإذاعة أو التلفزيون الرسمي، وكان يكفي لإفشال ذلك الانقلاب أن يتمكن النظام الحاكم من حرمان الانقلابيين من الوصول إلى الإذاعة والتلفزيون الرسمي لبث بيانهم الأول. هذا هو ما كان يحصل في الماضي، أما في الحاضر، وهذا ما أظهرته المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، فإن دور مواقع التواصل الاجتماعي قد أصبح مهما وحاسما لنجاح ولإفشال أي انقلاب عسكري، كما أن دور تلك المواقع مهم أيضا لإشعال أو إخماد أي ثورة.
التلاحم بين الشعب والشرطة
من المعلوم بأن العلاقة بين الشعب والمؤسسة الأمنية والعسكرية، في العالم كله، وفي منطقتنا العربية والإسلامية بشكل خاص هي علاقة سيئة جدا في أغلب الأوقات، وفي اللحظات النادرة التي تتحسن فيها تلك العلاقة فإن ذلك التحسن يكون على مستوى العلاقة بين الشعب والجيش كما حدث في تونس ومصر في بداية الربيع العربي. الجديد هنا، وهذا هو ما ظهر خلال هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة، هو أن الشرطة كانت في خدمة الشعب وديمقراطيته، فالشرطة هي التي تصدت للانقلابيين، وهي التي تولت الهجوم على ثكنات الجيش واعتقال الانقلابيين الذين احتموا بها. كما أن الشعب أيضا كان في خدمة الشرطة، وقد ظهر ذلك، وبشكل جلي حين تمكنت حشود من الشعب التركي أن تحمي مديرية الأمن في العاصمة أنقره من الانقلابيين الذين قصفوها، ثم حاولوا من بعد ذلك أن يسيطروا عليها فمنعتهم حشود شعبية من ذلك.
موقف مشرف للمعارضة في تركيا
لم تكن العلاقة بين الحكومة التركية ومعارضتها علاقة جيدة، بل كانت في منتهى التوتر، ومع ذلك فقد وقفت المعارضة التركية موقفا مشرفا من المحاولة الانقلابية، نفس الشيء حدث مع الإعلام المعارض. لقد استطاعت المعارضة في تركيا أن تتخذ موقفا مشرفا في لحظة حاسمة وفاصلة على العكس من بعض المعارضات في الدول العربية التي شهدت بلدانها في السنوات الأخيرة انقلابات عسكرية على رؤساء منتخبين (انقلاب 6 أغسطس 2008 في موريتانيا، وانقلاب 3 يوليو 2013 في مصر).
هناك مفارقة أخرى لافتة وهي أن صور أردوغان لم ترفع في الميادين التركية، وإنما رفع العلم التركي، في حين أن صور أردوغان ـ لا العلم التركي ـ هي التي ظهرت كثيرا في حسابات وصفحات الكثير من النشطاء رافضي الانقلاب في عالمنا العربي. فمن المؤسف أننا في البلدان العربية قد تعودنا على رفع صور الرؤساء والقادة للإعلان عن تضامننا مع الدولة عندما تكون معرضة للخطر، وقد تعودنا أيضا على أن نخلط بين النظام الحاكم والدولة في الأوقات التي نعلن فيها معارضتنا للأنظمة الحاكمة. إن اختزال الدولة في شخص الرئيس، والذي تصل عدواه في بعض الأحيان إلى النخب المعارضة هو الذي يوقع بعض الأحزاب والنخب المعارضة في أخطاء كبيرة، وهو الذي جعلها تساند انقلابات عسكرية وقحة مثلما حصل مع أجزاء كبيرة من المعارضة الموريتانية والمصرية خلال انقلاب 8 أغسطس 2008 في موريتانيا، وانقلاب 3 يوليو في مصر، وذلك على الرغم من كون الرئيسين اللذين تم الانقلاب عليهما كانا قد فازا في انتخابات تم قبول نتائجهما من طرف الجميع.
وتبقى المفارقة الأكثر إيلاما تتمثل في أنه في الوقت الذي كان فيه الشعب التركي وحكومته يعملان معا من أجل إفشال المحاولة الانقلابية، كانت حكومة أكبر دولة عربية تعمل جاهدة من أجل "إحباط" محاولة إصدار بيان من طرف مجلس الأمن للتنديد بتلك المحاولة الانقلابية الفاشلة.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق