الخميس، 26 يناير 2012

أين ملعقة البن..؟


يحكى فيما يحكى، أن طباخا حكيما كانت له ابنة واجهت في حياتها العديد من المشاكل، وكانت ابنة الطباخ الحكيم كلما خرجت من مصيبة أو أزمة وقعت في مصيبة أو أزمة أشد عمقا وأكثر حدة. وذات يوم شكت ابنة الطباخ لوالدها الحكيم، من كثرة المصائب والمشاكل التي تواجهها في حياتها، فما كان من الوالد إلا أن أخذ ابنته إلى المطبخ، وهناك قدم لها درسا في غاية الروعة وفي منتهى الحكمة. وهو درس ارتأيت أن أقدمه للقراء في مثل هذه الأيام الحبلى بالأزمات والصراعات. وقصة ابنة الطباخ هي واحدة من قصص قليلة أحب دائما أن أحكيها، وقد جعلت منها مقدمة ثابتة لدورة "كيف تتعامل مع المشاكل والأزمات"، وهذه القصة تذكرني دائما بحال موريتانيا التي لا تأتيها الأزمات والمصائب فرادى، وإنما تأتيها مجتمعة، حتى أصبحت النصال تتكسر على النصال، ولم يعد هناك أي مجال، أو أي وجه من أوجه الحياة إلا وفيه من المصائب والمشاكل ما يكفي لأن يدمر بلدا بكامله. في المطبخ، أخذ الطباخ الحكيم جزرة وبيضة وملعقة من البن، ووضع كل ذلك في الماء ليغلى فوق نار هادئة، مع إضافة ملاعق من سكر، وأخذ يراقب البيضة والجزرة ومعلقة البن وهي تتفاعل مع الماء المغلي، ودون أن ينطق بكلمة. وبعد صمت طويل، التفت الطباخ الحكيم إلى ابنته، وطلب منها أن تتأمل ما حدث للجزرة والبيضة وملعقة البن بعد أن تعرضت لنفس درجات الحرارة العالية، ودعونا نعتبر أن حرارة الماء المغلي تمثل المخاطر والمصائب التي نواجهها في حياتنا. أخذت الفتاة تتأمل الجزرة والبيضة وملعقة البن، دون أن تلاحظ شيئا مذكورا، ولم تجد ما تعلق به، سوى القول بأنها لاحظت أن البيضة أصبحت صلبة من الداخل، ولم تستطع قشرتها أن تحمي أحها ومحها ( بياضها وصفارها) من تأثيرات الماء المغلي، وأن الجزرة التي كانت رخوة أصبحت أيضا صلبة، أما البن فقد اختلط بالماء وامتزج به، وغير من طعم الماء حتى أصبح طعمه رائعا. قال الطباخ الحكيم لابنته بأنه رغم تعرض الجزرة والبيضة وملعقة البن لنفس النار، أي لنفس التهديدات والمخاطر الخارجية، إلا أن ردود أفعالها كانت مختلفة ومتباينة. نحن أيضا نتعرض في هذا البلد لنفس الضغوط والتحديات ولكن ردود أفعالنا تأتي دائما مختلفة، فكثير من نخبنا يكون كالبيضة، وكثير من العامة يكون كالجزرة، ولكن لا يوجد من بيننا، لا من نخبنا ولا من العامة من يحاول أن يكون كحبات البن التي تتمكن من تغيير الماء المغلي وتغيير طعمه، أي تغيير المخاطر والمصائب المحيطة بنا. وكثرة المشاكل والأزمات التي تمر بها موريتانيا كان من المفترض أن تجعل فئة من أبناء هذا البلد تقرر بأن تتشبه بملعقة البن في طريقة تعاملها مع المخاطر التي تواجه البلاد، بدلا من التشبه بالجزرة أو بالبيضة. فلعب دور الجزرة والبيضة سيزيد حتما من انهيار موريتانيا الشقية بعقوق أبنائها، البائسة بأنانية نخبها، والتائهة بتيه عوامها. ولعل ما يفرق موريتانيا عن ابنة الطباخ الحكيم، هو أنه في موريتانيا لا يوجد "طباخ حكيم" يمكن أن يُلجأ إليه إذا ما تزاحمت المصائب، وكثرت الخطوب، وتعددت الأزمات وتنوعت، كما هو حال بلدنا في هذه الأيام، وكما كان حاله في الماضي القريب والبعيد على حد سواء. ونظرا لغياب "طباخ حكيم" في بلادنا، فقد يكون من الحكمة أن نستمع قليلا لما قاله الطباخ الحكيم لابنته، في قصة الجزرة والبيضة وملعقة البن، فربما نستخلص من القصة ما ينفعنا في مواجهة المخاطر والأزمات والتهديدات الكثيرة التي تواجهنا وتواجه بلادنا. وإذا كان لا يجوز لنا أن نلوم عوام الناس إذا ما تغلب عليهم الحقد والمرارة في الفترات التي تكثر فيها الأزمات والمصائب، نظرا لكونهم كالجزرة، يعانون من رخاوة طبيعية، ولا يمتلكون قشرة تحميهم من المخاطر. فإذا كان لا يجوز لنا أن نلوم عوام الناس، إلا أنه في المقابل يجوز لنا أن نلوم النخب التي لا تختلف عن البيضة في تعاملها مع المخاطر الخارجية. فالبيضة والتي قد تبدو لمن يراها من بعيد ذات قشرة قادرة على حمايتها من الداخل، سرعان ما تُظهر العكس عندما تواجه حرارة الماء المغلي، فيبدأ داخلها يتأثر، فيزداد قسوة ومرارة. فالنخب ـ وأنا هنا أقتصر على النخب المعارضة والتي كان يتوقع منها أن تلعب دورا ايجابيا في فرض التغيير والإصلاح ـ تشبه تماما البيضة، والتي قد تبدو للناظر وكأن لها قشرة تحميها، ولكن يظهر العكس كلما كانت هناك أزمات وتحديات ومخاطر. فكم من كاتب أو سياسي معارض كنا نعتقد بأن له "قشرة" تحميه إذا ما تعددت الأزمات وأحاط به الماء المغلي فإذا به يهبط بخطابه إلى مستوى بائس، فيصبح خطابه خطابا قبليا مخصصا في مجمله لشتم وسب قبيلة الرئيس، رغم أن النظام الحالي يمكن القول بأنه أكرم الأنظمة وأرحمها بالمعارضة، فقد منحها العديد من الفرص من خلال الأخطاء العديدة التي يرتكبها، والتي يمكن لمعارضيه أن ينتقدوه من خلالها بدلا من الهبوط إلى خطاب قبلي بائس، يبدو أن معارضتنا لا تحسن غيره. وكم من كاتب أو سياسي معارض كنا نعتقد بأن له "قشرة" تحميه فإذا به في انتقاده لما أصبح يسمى عند البعض بالحرب بالوكالة يتحول إلى "إرهابي بالوكالة" يدافع عن القاعدة في كل حين، ويصف رجالها بالشجاعة، في الوقت الذي يقلل فيه من شأن الجيش الموريتاني معتقدا بأن ذلك هو أفضل طريقة لانتقاد النظام . وكم من كاتب أو سياسي معارض وصف الجيش الموريتاني بعبارات غير لائقة، ولم يستطع أن يفرق بين بعض القادة العسكريين الغارقين في السياسة وبين مؤسسة الجيش التي يعاني أغلب من فيها مما يعاني منه الشعب الموريتاني، ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أنه رغم تبخيس الجيش من طرف بعض المعارضين، إلا أن ذلك لم يجعلهم يتورعون عن الاستجداء به لإحداث التغيير الذي فشلوا هم في إحداثه. وكم من كاتب أو سياسي كنا نعتقد بأن له "قشرة" تحميه فإذا به يتعلق بشخصيات بلا رؤية ليجعل منها أبطالا وقادة مفترضين للتغيير رغم خواء خطاب أولئك "القادة"، ورغم تفاهته، ورغم إساءاتهم المتكررة للدولة الموريتانية ورموزها، وفي موريتانيا يزداد التصفيق لمن يسيء أكثر للدولة الموريتانية ( أتحدث عن الدولة لا عن النظام الحاكم). لقد كنا نتوقع من أولئك الكتاب والساسة أن يكونوا كحبات البن التي تتفاعل بشكل إيجابي مع الأزمات والمحن فتمنحها مذاقا حلوا وتحولها إلى منح. وكنا نتوقع منهم أن يقودوا حراكا من أجل التغيير يرتكز على خطاب سياسي ناضج بدلا من التقزم والجري وراء خطابات تافهة وتصريحات بائسة يطلقها أشخاص بلا رؤية، يسيئون للوطن في كل يوم، ويكبرون يوما بعد يوم ليس لميزات قيادية يتمتعون بها، وإنما نتيجة لفشل النخب المعارضة نظرا لميلها الفطري للعب دور البيضة بدلا من لعب دور حبات البن في قصة ابنة الطباخ الحكيم. لقد كنا نتوقع من نخبنا التائهة والضائعة شيئا آخر غير هذا الذي نشاهده اليوم. لقد كنا نتوقع منها خطابا قويا وراشدا يفرض التغيير والإصلاح، ويُخرج البلاد من مستنقع الأزمات الذي تتخبط فيه بدلا من التطبيل والتصفيق لخطابات بائسة لن تعمر طويلا، ولن تمكث في الأرض، لأنها ـ وببساطة شديدة ـ مجرد زبد قد يعلو كثيرا، لكنه سرعان ما يختفي بنفس السرعة التي ظهر بها. إننا نريد خطابا معارضا قويا وقادرا على البقاء، ولا نريد خطابا يختزل المعارضة في كلمات بائسة تسب قبيلة الرئيس، وتستهزئ بالوطن، وتسخر من الجيش، وتمجد كل طائش بائس. إننا نريد "ملعقة بن" تغير طعم الماء وتزيد من حلاوته كلما زاد غليانه، ولا نريد بيضا أو جزرا يزداد قسوة وحقدا كلما زاد غليان الماء. إننا نريد نخبا يزداد عطاؤها كلما زادت المخاطر والمصائب من حولها، ولا نريد نخبا وعواما يزداد حقدهم وقسوتهم على الوطن كلما زادت المصائب والمخاطر من حولهم. إننا نريد "ملعقة بن" ولا نريد بيضا أو جزرا.. فهل تستكثرون علينا "ملعقة بن"؟ تصبحون على "ملعقة بن" ....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق