السبت، 26 ديسمبر 2009

تأملات في اللاشيء


إذا أردت أن تفهم كل شيء في هذا البلد..أو أن لا تفهم أي شيء عن هذا البلد .. فما عليك إلا أن تفكر في اللاشيء.. وإذا أردت أن تفهم حقيقة اللاشيء.. الذي يطرأ على موريتانيا مع كل طبعة جديدة.. فما عليك إلا أن تعود إلى كل الأشياء.. أو كل اللاأشياء .. التي كانت تحكمها في طبعاتها القديمة..
والشيء الثابت في هذا البلد.. هو أن كل شيء.. قد يتحول إلى اللاشيء.. وأنَّ اللاشيء قد يصبح بين عشية وضحاها شيئا مذكورا.. فكثير وكثير جدا من اللاأشياء في هذا البلد تحولت إلى أشياء كبيرة .. وكثير من الأشياء التي كان يعول عليها ظلت تصغر و تصغر حتى تحولت إلى اللاشيء.. ولكل شيء في هذا البلد وجهان : وجه قد يوحي بأنه شيئا.. ووجه آخر يوحي بأنه ليس شيئا ..
وفي هذا البلد هناك وزارة لشيء يسمونه الاتصال.. تتبع لها عدة أشياء لا اتصال ولا تواصل ولا تحالف ولا تكتل ولا اتحاد ولا منسقية بينها: شيء مرئي.. وشيء مسموع.. وشيء مقروء.. هذه الأشياء الثلاثة كان من المفترض أن يكون لها نفس الخطاب الإعلامي.. ومع ذلك فكل شيء من تلك الأشياء الثلاثة يسير وفق المزاج الشخصي للشيء الذي يديره ..وتلك الأشياء الثلاثة أثبتت أنها عمليا لا تتبع للوزير .. فالشيء المسموع ـ مثلا ـ لم يزل يرفض أن يبث مداولات البرلمان.. رغم أن الشيء المرئي والذي كان معروفا بتحجره يقدم تلك المداولات بطريقة ممتازة جدا ( هذا أول شيء إيجابي.. أكتبه عن الشيء المرئي.. والذي لا أستطيع رغم ذلك إلا أن أنتقده خلال تأملاتي للاشيء ).
المحير في الأمر أن وزير الشيء الذي يسمونه الاتصال.. قد قال في الملأ: بأن كل الأشياء التابعة لوزارته ستفتح أمام جميع الموريتانيين.. فهل البرلمانيون ليسوا موريتانيين ؟؟؟ ذلك شيء لا يجوز التحدث فيه ..
والشيء المحير أكثر.. هو أن فتح تلك الأشياء أمام الجميع كانت أوامر عليا صادرة من رئيس الجمهورية.. فكيف لا تنفذ أوامر الرئيس ؟؟ وهل الشيء المسموع له حكم ذاتي .. وهل هو شيء مستقل عن الدولة.. له قيادة أركان خاصة لا تتبع لأي شيء؟؟ ذلك شيء لا أملك الإجابة عليه .. وهو ليس ـ بالقطع ـ الشيء الوحيد الذي لا أملك له إجابة..في بلد الأشياء و اللاأشياء..
وفي بلد الأشياء و اللاأشياء قد تعتقد للحظة بأن الشيء المرئي لا يفوته أي شيء.. فهو يتحدث في كل ليلة عن أشياء تافهة.. حدثت في أدغال إفريقيا أو في أطراف آسيا أو فيما بين الأمريكيتين .. يتحدث عن أشياء فاتت "الجزيرة" ولم تذكرها ل"بي بي سي" .. ومع ذلك فالشيء المرئي أبله تماما ولا يعلم أي شيء.. حتى تلك الأشياء الخطيرة التي تحدث في هذا البلد .. وهو يبدو أنه لم يعلم ـ حتى الآن ـ بأن القاعدة قد اختطفت ثلاثة أسبان في الثالث من دجمبر ..اختطفتهم بين أهم شيئين في هذا البلد : شيء نسميه عاصمة سياسية ..وشيء آخر نسميه عاصمة اقتصادية..
وفي الشيء المرئي لا شيء يميز بين شيئين .. فمثلا لا فرق بين النشرة الغبية التي أعقبت اختطاف الأسبان.. أو تلك الصامتة التي أعقبت اختطاف الإيطاليين..ولا فرق بين مَشَاهِد من البادية الموريتانية وبين أي برنامج حواري ناطق أو صامت ..ولا فرق بين مؤتمر صحفي وبين مداولات البرلمان .. فقد تشاهد شيئا من المؤتمر .. وتشاهد أشياء من المداولات .. في مشهد واحد.. أما في الشيء المسموع .. فقد يختلط شيء من الترويج ..بشيء من خطاب الرئيس .. وذلك شيء لا يحدث إلا في بلد الأشياء و اللاأشياء ..
وفي الشيء المرئي قد يُطِلُّ عليك اللاشيء بشحمه ولحمه .. يتحدث عن لاشيء .. ويستضيف ضيوفا لا يفهمون أي شيء .. يتحدثون عن كل شيء .. دون أن يتحدثوا عن أي شيء .. يتحدثون عن السمنة كما يتحدثون عن الإرهاب .. ويتحدثون عن الفساد كما يتحدثون عن الكتاب.. يتحدثون عن الشيء القديم ..كما يتحدثون عن الشيء الجديد .. ويتحدثون عن الشيء المهم.. كما يتحدثون عن الشيء التافه ..يُظهرون شيئا كبيرا من النفاق للسلطان .. و شيئا قليلا من الحياء للمشاهد..
وشيء من الأمن في هذا البلد يأخذ كل شيء .. من أي شيء يسوق شيئا .. وهو يعرف كل شيء.. عن أي شيء.. يمارس أي شيء.. بشرط أن يكون ذلك الشيء الممارس لا صلة له بالجريمة .. وهو ـ في المقابل ـ لا يهتم بأي شيء له صلة بالأمن .. و لم يعد قادرا على فعل أي شيء.. لمواجهة الانفلات الأمني الذي هز كل شيء.. وتضرر منه كل شيء.. وأصبح المواطن فيه لا يأمن على أي شيء.. لا نفسه ..ولا ماله..ولا عرضه ..
وللجيش في هذا البلد وجهان : وجه يوحي بأنه كل شيء .. فهو يتحكم في كل شيء .. ويستطيع أن ينصب أي شيء .. وينقلب على كل شيء .. وتتدخل أشياؤه الكبيرة في كل شاردة وواردة .. أما الأشياء الصغرى فهي مشغولة بالبحث عن لقمة العيش .. ووجهه الآخر فيه شيء من الفساد حسب "مصدر شديد الإطلاع" .. وفيه شيء من لاشيء .. يكبله أثناء مطاردة شيء من الإرهابيين.. اختطفوا شيئا من الأسبان.. وجابوا بهم البلاد.. دون أن يعترضهم أي شيء.. أو يزعجهم أي شيء.. أو يقلقهم أي شيء .. حتى أوصلوا أشياءهم الثمينة التي اختطفوها إلى شيئهم الكبير.
و القانون في بلدنا هو كل شيء .. ويطبق على أي شيء .. حتى على المريض الضعيف ..فالطبيب ـ بشكوى بسيطة ـ يستطيع أن يُخْرِج مريضا في حالة صعبة من شيء يسمونه مجازا حالات مستعجلة.. إلى شيء آخر يسمونه اصطلاحا مخفر الشرطة..
وفي المقابل فإن القانون في هذا البلد ليس بالشيء .. وخيرة أطباء البلد يتنابزون بالألقاب.. ويتعاركون بالأيادي.. ويدهس بعضهم بعضا.. وكأنهم يعيشون في غابة..يُسْمَحُ فيها بكل شيء .. ولا يُحَرَّمُ فيها إلا شيئان : شيء تتميز به الكائنات الناطقة عن غيرها : الحوار .. وشيء آخر تلجأ إليه تلك الكائنات عندما تفشل في الحوار: القانون..
وبلدنا له قانون غريب .. فعندما يسرق فينا شيء صغير شيئا صغيرا..نتسابق في معاقبته قبل أن يعاقبه القضاء.. تنهال عليه الأيادي الصغرى والكبرى بشيء من الضرب المبرح .. أما عندما يسرق شيء كبير أشياء كبرى.. فإن نفس تلك الأيادي تصفق ـ وبلا خجل ـ لذلك اللاشيء " المحترم " الذي سرق شيئا " محترما " وبذره بشكل " محترم " على كل لا شيء "محترم " ..يظن أنه شيئا " محترما " ويعامله المجتمع بشكل "محترم" رغم أنه مجرد لا شيء من اللاأشياء الكثيرة ..لقد طغت تلك اللاأشياء كثيرا ..وقلبت المفاهيم كثيرا .. وعلت علوا كبيرا ..
وفي بلدنا قد تجد ثلاثة أشخاص يوصفون بعدة أشياء .. فهم عند المعارضة في طبعتها القديمة شريرون جدا .. وعند المعارضة في طبعتها الجديدة خيرون .. ونفس الأشخاص الثلاثة عند الأغلبية في طبعتها القديمة خيرون .. وعند الأغلبية في طبعتها الجديدة مفسدون يستحقون أقسى عقاب..
ففي بلدنا قد يتحول الشيء الواحد إلى أربعة أشياء.. حسب التوقيت وحسب التخندق.. تلك واحدة من أشيائنا المخجلة والمقززة ..
لقد أخطأت المعارضة مرة .. وأصابت مرة .. و أخطأت الأغلبية مرة .. وأصابت مرة ..ذلك شيء نتفق عليه .. وإن كنا نختلف على شيء آخر.. هو متى أخطأت المعارضة ؟؟؟؟ ومتى أصابت الأغلبية ؟؟؟؟
أما الشيء الذي لا يقال فهو: إن المعارضة اختارت أن تدافع عن أغنيائها بدلا من فقرائها..وهي منذ صدمة الانتخابات لم تتحرك وتندد وتنسق وتتظاهر إلا بعد سجن رجال الأعمال.. والموالاة لا تدافع بطبعها إلا عن رجال أعمال السلطة.. فهي التي رفضت تعديلات في الميزانية حتى لا تغضب أولئك الأغنياء .. الذين يمارسون الآن أشياء و أشياء .. قد مارسها من قبلهم إخوة لهم..يعانون الآن من شيء .. قد يعانون هم منه مستقبلا ..ذلك شيء يتكرر مع كل طبعة جديدة ..وتلك حقيقة يتمسك كل طرف بشيء منها .. ويحاول أن يخفي منها شيئا آخر ..
فيا معارضة كفى حديثا عن الفقراء .. ويا أغلبية كفى حديثا عن الفقراء.. فلا أنتم تهتمون حقا بالفقراء .. ولا هم يهتمون بهم حقا ..
وفي بلدنا لدينا نخبة .. تنهب كل شيء بما في ذلك الزراعة وآلياتها .. وتبتلع كل شيء بما في ذلك النفط ومشتقاته .. وترشف كل شيء بما في ذلك المحيط وحيتانه.. ولا ترضى بأي شيء ..و تصفق لكل شيء .. وترتحل مع أي شيء ..لا تشبع من أي شيء .. ولا تضحي بأي شيء..تتمالأ وقت النهب مع كل شيء .. وتتبرأ ساعة الحساب من كل شيء..
وفي بلدنا فإن المواطن شيء تافه .. ولا يكون شيئا مهما إلا في يوم واحد من كل خمس سنوات.. ثم يعود إلى شيء تافه مع غروب شمس يوم التصويت ..هذا إذا لم يحدث شيء ما.. يستوجب شيئا ما ..قد يفضي إلى شيء ما ..
وفي بلدنا يستطيع الحزب الحاكم أن يجمع أشياء كبيرة.. وأشياء صغيرة..أشياء طويلة .. وأشياء قصيرة ..أشياء سمينة .. وأشياء هزيلة .. أشياء عاقلة.. وأشياء ليست كذلك .. أشياء تفهم كل شيء.. وأشياء لا تفهم أي شيء .. ولكن هذا الحزب قد يتحول إلى اللاشيء .. تماما كما حدث مع "عادل" الذي كان يجمع أشياء وأشياء.. وكما حدث قبل ذلك للجمهوري ..وكما حدث قبل قبل ذلك مع هياكل تهذيب الجماهير..
وفي بلدنا كان هناك شيء مفقود .. شيء لا يستقيم أي شيء في ظل غيابه ..شغل البلاد والعباد ..قامت له أشياء كثيرة ولم تقعد .. حتى تم تأسيس ذلك الشيء .. ثم تحول ذلك الشيء إلى اللاشيء .. أو تحول على الأقل إلى شيء لا رائحة له ..ولا طعم .. ولا لون.. ولا صوت ..فغريبة هي المحكمة السامية يوم أغضب فقدانها الأغلبية.. وغريبة يوم شرع غيابها للانقلاب.. وغريبة أكثر يوم اختفت تماما عن الأنظار..
وغريب برلمان يتظاهر بحب الفقراء ..ويتشاغل بهموم الفقراء .. ويصوت رغم ذلك على زيادة الضرائب على شيء يأكله الفقراء .. وعلى شيء آخر يستخدم لنقل الغذاء لفقراء الأعماق .. وفي الوقت نفسه يرفض زيادتها على شيء من الدخان .. وغريب رئيس فريق مكافحة التدخين في البرلمان الذي جاهد وناضل حتى لا ترفع الضرائب على السجائر ..
وغريب أمر رئيس فريق الصحة الإنجابية الذي يجاور سكنه مركزا صحيا مغلقا منذ ستة أشهر ومع ذلك لم يتحدث عنه ولو لمرة واحدة..
وأغرب من كل أولئك وزير الصحة الذي يقول الشيء الجميل .. ولا يفعل الشيء القليل .. من أجل رفع الهم الثقيل ..تصبحون على أشياء جميلة ...!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق