(1)
مع مطلع شهر نوفمبر
من العام 2014 وصل عدد كبير من الحراس إلى مشارف العاصمة نواكشوط قادمين من
ازويرات في مسيرة راجلة، وكنتُ من الذين استقبلوهم وكتبوا عن معاناتهم وظلوا
يترددون عليهم في مكان اعتصامهم الذي قضوا فيه شهرا ونصف شهر دون أن يسمح لهم
بدخول العاصمة ودون أن يستجاب لمطالبهم.
حدثنا الحراس عن معاناتهم خلال رحلة السبعمائة والخمسين كيلومترا التي
قطعوها سيرا على الأقدام، وحدثونا عن مطالبهم البسيطة التي رفض السيد الشيخ ولد
بايه تلبيتها، وكان حينها يرأس مجلس إدارة الموريتانية للأمن الخصوصي. في تلك
الفترة حصلنا كداعمين ومتضامنين مع الحراس على صيد ثمين، كان عبارة عن مقطع
الفيديو الشهير (متليت آن أومتلات موريتان)، حصلنا عليه صدفة في أحد الفيديوهات
التي خلفتها حملة ولد بايه على اليوتيب (حملة انتخابات 2013 البلدية والتشريعية).
كتبتُ عن مقطع الفيديو الذي انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي كانتشار
النار في الهشيم، وبلغني من أكثر من مصدر أن ولد بايه حاول أن يرفع قضية ضدي، ولكن
محاميه أبلغوه بأنه لا جدوى من رفع تلك القضية، فأنا لم أتجاوز فيما كتبت ما اعترف
به هو في مقطع الفيديو المثير.
ما قاله ولد بايه في ذلك المقطع جعله يحتل
الواجهة في أي نقد موجه للنظام، وجعل غالبية متابعي الشأن العام ينشغلون بفساده عن
فساد أي موظف آخر، ولو أن ولد بايه لم يقع في زلة اللسان تلك لما تعرض لما تعرض له
من نقد واسع خلال السنوات الأخيرة.
(2)
هذا الفيديو جعل الكثيرين ينتقدون ترشيح السيد
الشيخ ولد بايه نائبا عن مدينة ازويرات، وترشيحه من بعد ذلك رئيسا للجمعية
الوطنية، وكنتُ من الذين انتقدوا بقوة ترشيحه. ولكن لا أخفيكم بأن رئيس البرلمان
الشيخ ولد بايه قد أعجبني ـ وأنا الذي لا أنظر إليه إلا بعين الناقد ـ في مواقف عديدة خلال ما مضى من مأموريته، ومن
مواقفه التي أعجبتني:
1 ـ رفضه القوي لمبادرة النواب الداعية للتمديد
للرئيس السابق. يقول البعض بأن سبب الرفض لا يعود إلى تمسك ولد بايه بالدستور، وإنما
يعود لأسباب شخصية تتمثل في تبليغه بالمبادرة من طرف نواب تحت إمرته. مهما يكن
السبب وراء الرفض، فإن ذلك الرفض يحسب له.
2 ـ عدم دخوله المباشر في الصراعات الداخلية
للأغلبية (مبادرة النواب المطالبة بالتمديد والمبادرة الرافضة له؛ الخلاف حول
مرجعية الحزب ...إلخ) ووقوفه على بعد مسافة واحدة من الجميع، ومثل ذلك هو ما يليق
برئيس جمعية وطنية.
3 ـ محاولته لأخذ مسافة واحدة من نواب الأغلبية
والمعارضة خلال إدارته للجلسات وخلال تسييره للغرفة، ومثل ذلك هو ما يليق برئيس
جمعية وطنية في نظام ديمقراطي.
4 ـ إطلاق واجهة إعلامية أنيقة تليق بمكانة البرلمان
الموريتاني (قناة البرلمانية؛ موقع وصفحة متميزة على الفيسبوك).
5 ـ تسيير مقبول للموارد المالية للجمعية على
العكس مما كان يحدث في الماضي.
6 ـ ضبط الأعصاب في مواقف كثيرة، وتفادي الصدام
خلال إدارة الجلسات مع أحد النواب الذي كان يتعمد استفزازه، هذا إذا ما استثنينا
ما حدث في آخر جلسة من الدورة البرلمانية المنتهية.
7 ـ التحسين من وضعية النواب المادية، وتدشين
مقر يليق بالجمعية الوطنية.
8 ـ إدخال الترجمة مِنْ وإلى اللغات الوطنية،
ومحاولة إبعاد اللغة الفرنسية من المداولات والنقاشات داخل جمعيتنا الموقرة. في
هذه النقطة بالذات بذل الرئيس الشيخ ولد بايه جهودا كبيرا وذلك على الرغم من تمسك
النواب الناطقين بالبولارية والسنونكية والولفية باللغة الفرنسية، ووضعهم لعراقيل
أمام استخدام لغاتهم الأم في مناقشات ومداولات البرلمان بدلا من اللغة الفرنسية،
والتي هي بالمناسبة ليست لغة دستورية. ربما يكون البرلمان الموريتاني هو البرلمان
الوحيد في هذا العالم الذي يتحدث نوابه بلغة غير دستورية تحت قبة البرلمان.
لقد حقق الرئيس ولد بايه للبرلمان الموريتاني
إنجازات لا بأس بها خلال فترة قصيرة نسبيا، ولكن كل تلك الإنجازات انهارت وضاعت في
غمضة عين بسبب زلة لسان، ولو أن مراهقا تلفظ في الشارع بكلمات بذيئة لسقط من أعين
الناس وإلى الأبد، فكيف إذا تلفظ بتلك الكلمات البذيئة رئيس برلمان خلال إدارته
لجلسة برلمانية سيتابعها المواطنون على شاشة التلفزيون؟
خلاصة القول هي أن الفترة التي قضاها ولد بايه
على الرقابة البحرية قد لا تكون بكل ذلك السوء الذي كنا نتحدث عنه في السنوات
الماضية، وهناك من يقول بأن الرجل كان مفاوضا جيدا مع الأوروبيين، ولكن كل ذلك ضاع
بسبب زلة لسان وبسبب فيديو (متليت آن أومتلات موريتان). وقد لا تكون أيضا الفترة
التي قضاها ولد بايه رئيسا للبرلمان فترة سيئة، بل على العكس من ذلك، فهذه الفترة كانت
هي الأحسن إذا ما قورنت بمأموريات الرؤساء السابقين. نعم لقد حقق ولد بايه إصلاحات
هامة للبرلمان الموريتاني في فترة وجيزة، ولكن كل ذلك ضاع بسبب زلة لسان، ولم يعد
الرجل ـ بسبب زلة اللسان تلك ـ يصلح
لرئاسة البرلمان الموريتاني. فهل سيستقيل الرئيس ولد بايه، أم سيلجأ لحل البرلمان
للتخلص منه، أم أنه سيسترك ليكمل مأموريته بعد زلة اللسان تلك؟ الشيء المؤكد أن
ولد بايه قد انتحر سياسيا ومعنويا وأخلاقيا بسبب زلة اللسان تلك، نعم لقد انتحر
الرجل، حتى وإن بقي رئيسا للبرلمان الموريتاني ولمأمورية كاملة.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق