الثلاثاء، 9 نوفمبر 2021

عن الصور الأخرى لمشروع "قانون الرموز"!

 


نجح نواب المعارضة في تأجيل نقاش مشروع "قانون الرموز" ليوم كامل، ولكن ـ وهذه هي المفارقة التي تستحق أن نتوقف معها ـ فإن المستفيد الأول من هذا التأجيل هم نواب الأغلبية.

إن هذا التأجيل سيتيح للكثيرين الاطلاع على مشروع القانون في نسخته المعدلة، والتي تم تسريبها إلى مواقع التواصل الاجتماعي تزامنا مع التأجيل، ومن اطلع على النسخة المعدلة من مشروع القانون سيجد أنها تختلف كثيرا عن صورة السيئة العالقة في أذهان الكثير من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي عن مشروع القانون، وهي صورة تشكلت نتيجة للحملة القوية التي خاضها منتقدو مشروع القانون، وذلك في ظل غياب تام للطرف الآخر، أي الأغلبية التي تتبنى مشروع القانون، وتسعى إلى تمريره.

في بعض الأحيان قد يكون ما يَعْلق في أذهان الناس أقوى من الحقيقة، ولذا فإنه في النقاشات العامة لا يكفي أن تمتلك الحقيقة، بل لابد لك أن تعمل من أجل إقناع الآخرين بأنك أنتَ هو من يمتلك الحقيقة.

إن من اطلع على النسخة المعدلة من مشروع قانون الرموز، والتي ستعرض غدا الثلاثاء (9 نوفمبر) على النواب لمناقشتها والتصويت عليها سيجد أنها ليست بذلك السوء الذي كان يتم الحديث عنه خلال الفترة الماضية.

إن السؤال الذي يمكن أن يطرح هنا هو : كيف تشكلت هذه الفجوة الكبيرة جدا بين حقيقة مشروع القانون، وصورته التي رسمت في أذهان المواطنين؟

إن الإجابة على هذا السؤال تفترض علينا أن ندفع بمعلومتين سريعتين:

الأولى : أن كل ما يأتي من السلطة هو أصلا محل شك وريبة من طرف المواطن، خاصة عندما يتعلق الأمر بحرية التعبير.

الثانية : أن الذراع الإعلامي والسياسي للنظام يعاني من عجز واضح، وأنه لا يتحرك في أغلب الأحيان إلا في وقت متأخر جدا.

لقد ظل الذراع السياسي والإعلامي للنظام غائبا بشكل كامل عن النقاشات الدائرة حول مشروع القانون خلال الأشهر الماضية، وترك الساحة لمنتقدي مشروع القانون إلى أن ترسخت صورة سيئة جدا عن مشروع القانون لدى الرأي العام، وفي أذهان المواطنين، حينها فقط قررت الحكومة وأغلبيتها الداعمة أن تتحرك لتصحيح تلك الصورة السيئة!

إن النسخة التي ستعرض على النقاش والتصويت يوم الثلاثاء 9 نوفمبر تم إعدادها خلال الدورة الماضية (27 يوليو 2021)، أي أنها كانت موجودة منذ أشهر، ومع ذلك فلم تتحدث عنها الحكومة والأغلبية إلا خلال الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، وكانت البداية مع منشور لمعالي وزير الثقافة بين فيه أن مشروع القانون جاء لحماية الحريات من التمييع، بعد ذلك  نشر النائب جمال اليدالي (رئيس محكمة العدل السامية) توضيحا للرأي العام استعرض فيه مواد مشروع القانون التي تترتب عليها عقوبات. ثم أجرى من بعد ذلك النائب يعقوب ولد أمين رئيس حزب التحالف الوطني مقابلة مع موقع زهرة شنقيط أكد فيها أن مشروع القانون يشكل ضمانا للوحدة الوطنية وترقية للديمقراطية وحماية للمؤسسات.

لقد كان من الواضح جدا أن الحكومة وأغلبيتها الداعمة قررتا التحرك في اللحظات الأخيرة لتحسين صورة مشروع القانون الذي ساءت سمعته كثيرا خلال الفترة الماضية.

السؤال الذي يُمكن أن يُطرح هنا هو : لماذا لم يكتب معالي الوزير عن مشروع القانون خلال الفترة الماضية؟ ولماذا لم ينشر النائب جمال ولد اليدالي توضيحا عن المشروع خلال تلك الفترة؟ ولماذا لم يجر النائب يعقوب ولد أمين مقابلة حول مشروع القانون قبل فجر يوم الاثنين؟

أشهر عديدة مرت على إعداد هذه النسخة من مشروع القانون، ولم تتحدث عنها الأغلبية بشطر كلمة، وذلك في وقت كان يصر فيه بعض منتقدي المشروع على نشر النسخة القديمة التي تم تعديلها منذ أشهر، وذلك على أساس أنها هي النسخة التي سيتم نقاشها خلال الدورة الحالية!

لقد كانت كلفة هذا التأخر كبيرة جدا، فهل سيأخذ النظام درسا من مشروع قانون الرموز، فيعلم بأن توقيت أي تحرك إعلامي وسياسي يجب أن يكون مع بداية تشكل رأي عام حول ملف أو موضوع معين، لا مع نهاية تشكل ذلك الرأي، كما حدث الآن مع مشروع قانون الرموز؟

بكلمة واحدة : هل سيدرك النظام أن التحرك الإعلامي والسياسي الناجح هو ذلك "التحرك ألاستباقي المدروس"، وأن ردود الأفعال الإعلامية والسياسية قد تكون ضعيفة التأثير والأثر؟

نعم لقد تحسنت صورة مشروع القانون خلال الساعات الأخيرة، والسبب في ذلك يعود إلى أن أغلب الذين اطلعوا على نصه لم يجدوه بذلك السوء الذي كان يتحدث به بعض نواب المعارضة وأحزابها خلال الأشهر الماضية.

عن الصورة الحقيقية لمشروع قانون الرموز

كثيرا ما تضيع الحقيقة في ظل التجاذبات السياسية، وحقيقة مشروع هذا القانون الذي أثار جدلا كبيرا يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1ـ كل العقوبات المنصوص عليها في مشروع قانون الرموز كانت موجودة أو موجود ما هو أشد منها في قوانين أخرى باستثناء العقوبات المتعلقة بالإساءة إلى العلم والنشيد، فهذه لم تكن موجودة من قبل مشروع القانون هذا..هذه الحقيقة يحتج بها نواب المعارضة ونواب الأغلبية في وقت واحد. فنواب المعارضة يقولون لنواب الأغلبية لماذا تقدمون مشروع قانون جديد لم يأت بجديد، ونواب الأغلبية يقولون لنواب المعارضة لماذا تعترضون أنتم على مشروع قانون لم يأت بجديد؟

2ـ لم يتقدم نواب المعارضة بمقترحات تعديل للجنة باستثناء النائب العيد ولد محمدن الذي اقترح أن يقتصر مشروع القانون على العلم والنشيد اللذين لا توجد في القوانين عقوبة محددة ضد من أساء إليهما، مع مطالبته في مقترح التعديل بإلغاء كل الأمور الأخرى في مشروع القانون والتي كانت توجد لها عقوبات منصوصة من قبل مشروع القانون؛

3 ـ لم تكن هناك عقوبات في القانون خاصة بالإساءة إلى شخص الجمهورية، فقد كان مشمولا ضمن الوكلاء العموميين. في النسخة المعدلة من المشروع تم ذكر شخص رئيس الجمهورية، ولكن كان ذلك في نفس المقام الذي تم فيه ذكر الإساءة إلى المسؤولين العموميين. تقول الفقرة الثانية من المادة الثالثة من مشروع القانون :"يعتبر مساسا متعمدا بالحياة الشخصية كل تجريح أو إهانة أو سب لشخص رئيس الجمهورية أو إلي مسؤول عمومي يتجاوز أفعاله وقراراته التسييرية إلى ذاته وحياته الشخصية."

4ـ حقيقة الأمر هي أن المعارضة تريد سحب مشروع القانون لا تعديله، والأغلبية تصرُّ على تمريره.لا تمتلك المعارضة لرفض مشروع القانون إلا حجة وجيهة واحدة وهي أن هناك عبارات عامة في مشروع القانون يمكن استغلالها بصورة سيئة، ولا تمتلك الأغلبية إلا حجة وجيهة واحدة وهي أنه في ظل هذا الانفلات اللفظي الذي تشهده البلاد فإن هناك حاجة ماسة لإصدار قانون يجمع كل العقوبات التي كانت مشتتة في القانون الجنائي وفي قوانين أخرى في قانون واحد سمته :"حماية الرموز الوطنية وتجريم المساس بهيبة الدولة وشرف المواطن ".

5ـ ما سيناقش يوم الثلاثاء 9 نوفمبر هو تقرير اللجنة، وليست النسخة الأصلية من المشروع، والتي ما زال يتحدث عنها بعض النواب، فقد جاء في المادة 103 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية : " يدور نقاش مشاريع ومقترحات القوانين ومقترحات التوصيات حول نص مقدم من قبل اللجنة المختصة".

6 ـ لا يشكل مشروع القانون انتكاسة لحرية التعبير كما تُحاول المعارضة أن تصوره، وليس بكل هذه الأهمية الاستعجالية التي تتحدث عنها الأغلبية.

7 ـ لم يكن النقاش الدائر حول مشروع القانون نقاشا مهنيا، بل كان نقاشا سياسيا بحتا، وقد كسبته المعارضة خلال أشهر كاملة، وبدأت الأغلبية تكسبه خلال الساعات الأخيرة.  

حفظ الله موريتانيا...

الأحد، 7 نوفمبر 2021

هل هناك جهات في الأغلبية تريد إفشال التشاور؟


من المقلق جدا أنه في الوقت الذي قررت فيه المعارضة ـ وبكل أطيافها ـ أن تشارك في الجلسات التحضيرية للتشاور الوطني الشامل أو للحوار الوطني الشامل بلغة أخرى فوجئت هذه المعارضة برسالتين غير مطمئنتين في توقيتهما وفي مضامينهما.

الرسالة الأولى :  تمثلت هذه الرسالة في مقال نشره الأمين العام المساعد للحكومة على حسابه في الفيسبوك تحت عنوان "لا للتهدئة" وصف فيه المعارضة بأنها مرهقة ومفككة وضعيفة..المقال تم افتتاحه بالفقرة التالية: "كان قرار تهدئة الساحة السياسية قرارا حكيما هدف إلى إرساء تعامل جديد مع معارضة مرهقة. استقبل فخامة الرئيس السيد محمد ولد الشيخ الغزواني رموز المعارضة في القصر الرمادي في غياب وسائل الإعلام، كما يستقبل الوجهاء وكبار معاونيه، وفي ذلك رسالة لم ينتبه لها غالبا..."

في هذه الفقرة يصف الأمين العام المساعد للحكومة استقبالات فخامة رئيس الجمهورية لقادة "المعارضة المرهقة" بأنها لا تختلف عن استقبال الوجهاء وكبار المعاونين، ويرى الأمين العام المساعد للحكومة بأن في ذلك رسالة لم يُنتبه لها غالبا، فأي رسالة يقصد الأمين العام المساعد للحكومة؟

وفي فقرة أخرى من مقال "لا للتهدئة" يقول الأمين العام المساعد للحكومة : "لكن المعارضة استثمرت التهدئة لتأخذ إجازة تريدها معوضة! فاختفى زعماؤها من المشهد السياسي إلا في مناسبات تدعوهم لها الأغلبية، ودخل النشطاء الذين كانوا يملؤون الفضاء ضجيجا، في سبات عميق! وضعوا أنفسهم على الصامت دون "اهتزاز" للأحداث الوطنية والدولية! وسوقوا أنهم يفعلون ذلك من أجلنا، والواقع أننا أول المتضررين، ولعلهم يدركون ذلك."

من الواضح جدا أن سيادة الأمين العام المساعد للحكومة لا تعجبه التهدئة، وأنه أصبح يحن إلى زمن الصدام والتجاذبات السياسية العنيفة، ففي مثل تلك الأجواء قد تروج كل المنتجات والسلع التي تأتي من سلة "لا للتهدئة".

يواصل الأمين العام المساعد للحكومة الترويج  لأجواء "لا للتهدئة" من خلال مقاله، وسعيا منه لإرباك هذه التهدئة  التي لا تريحه ولا يرتاح لها، يقرر في خطوة لا يمكن أن يحسن الظن بها أن يذكي من جديد الخلاف حول مصطلح كان قد أثار الكثير من الخلاف من قبل البدء في جلسات التحضير للتشاور، وقرر الجميع أن يتجاوز ذلك الخلاف على أساس أنه لا مشاحة في المصطلح، وأن المهم هو المضمون. يقول الأمين العام المساعد للحكومة : "فتم الإلحاح على إجراء "حوار وطني" رفضته الأغلبية، إذ لا مسوغ سياسي له. ومن باب العطف على المعارضة قبلت الأغلبية "التشاور" معها في القضايا الوطنية الكبرى" . ثم يواصل القول : "واجتمعت اللجنة التحضيرية واستخدم رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، في خطابه الافتتاحي مفردة تشاور، وتجنب "الحوار" إذ لا حاجة لحزب مهيمن إلى حوار معارضة ضعيفة ومفككة، لكنه عطفا عليها قد يشاورها، فإذا عزم توكل على الله، ثم على رصيده الشعبي الهائل..."

هنا أرجو أن يسمح لي الأمين العام المساعد للحكومة بطرح هذا السؤال السريع : أين هو الآن"الرصيد الشعبي الهائل" للرئيس السابق؟

لقد أثبتت تجارب الماضي القريب جدا جدا أن هذا "الرصيد الشعبي الهائل" الذي تتحدث عنه اليوم، والذي كنتَ تتحدث عنه بالأمس، لا يمكن التعويل عليه.

لم يكتف الأمين العام المساعد للحكومة في مقال "لا للتهدئة" بمحاولة إذكاء الجدل من جديد حول مصطلحي "التشاور والحوار"بل حاول أن يسدد طعنة أخرى لهذا التشاور من خلال  التقليل من شأن مخرجاته، واصفا تلك المخرجات بأنها " لا تعدوا (الألف الزائدة من النص الأصلي) كونها توصيات قد يستأنس بها الجهاز التنفيذي بما لا يتعارض مع برنامج رئيس الجمهورية، وتقديرا للصالح العام."

إن مضمون وتوقيت مقال "لا للتهدئة" لا يبعثان على الارتياح، خاصة وأن كاتبه يحتل وظيفة حكومية سامية، ويبقى السؤال المطروح لدى كل المهتمين بنجاح التشاور : هل مضمون هذا المقال يعبر فقط عن الأمين العام المساعد للحكومة، أم أن المقال يعبر عن جهة ما داخل النظام بدأت تتشكل وتعمل لإفشال التشاور من قبل أن ينطلق؟

الرسالة الثانية: وتتمثل هذه الرسالة في إصرار بعض الجهات داخل الأغلبية أو الحكومة على تمرير مشروع قانون الرموز المثير للجدل.

صحيح أننا بحاجة في هذه البلاد إلى قوانين رادعة تحمي من هذا الانفلات اللفظي ومن هذا التساهل في الوقوع في أعراض الناس دون أدلة؛

وصحيح أيضا أن مشروع قانون حماية الرموز كان قد تم تأجيل نقاشه في وقت سابق، وأن نسخته الجديدة أجريت عليها تعديلات هامة أبعدت الإساءة إلى رئيس الجمهورية عن الإساءة إلى الرموز الوطنية، وجعلت الإساءة إليه  مع الإساءة إلى بقية الموظفين العموميين، كما أنه في نسخته المعدلة سحب تصوير قوات الأمن من الأفعال التي يُعاقب عليها، وهي التي تحتك عادة بالمواطنين، وأبقى فقط على تصوير عناصر القوات المسلحة بغية النيل من الروح المعنوية لهم أو زعزعة ولائهم للجمهورية.

صحيح كذلك أن لجنة العدل والداخلية والدفاع بالبرلمان رفضت مقترحي تعديلين لنائبين في المعارضة كما رفضت مقترحي تعديلين لنائبين في الأغلبية.

صحيح كذلك أن مقترحات التعديلات أعطيت لها فترة كافية لعرضها على اللجنة، وأنه ما زال بالإمكان عرضها في الجلسة العلنية المخصصة لمناقشة مشروع القانون والتصويت عليه ( مقترح النائب محمد بويا ومقترح النائب العيد، أما مقترح النائب محمد أمبارك فقد تم إلغاؤه لأنه لم يقدمه للجنة).

صحيح كذلك أن جوهر الخلاف الحالي لا يتعلق برفض اللجنة لاستقبال مقترحات التعديلات، وإنما يتعلق أصلا بعرض مشروع القانون في البرلمان، فنواب المعارضة يريدون أن تناقش مواده في جلسات التشاور المنتظر من قبل أن تعرض على البرلمان للمصادقة عليها، ونواب الأغلبية لا يريدون تأجيله إلى التشاور.

كل ذلك صحيح، ولكن كل ذلك لن يمنع من طرح الأسئلة التالية : لماذا تصر الأغلبية على تمرير مشروع هذا القانون المثير للجدل في هذا التوقيت بالذات؟ أليس من الأسلم تأجيل أو سحب مشروع هذا القانون حتى لا يعمق الشرخ بين الأغلبية والمعارضة في مثل هذا الوقت الذي يحتاج إلى المزيد من تعزيز الثقة بينهما لإنجاح التشاور المنتظر؟

ختاما

إن أي متابع للشأن العام يهتم بنجاح التشاور أو الحوار، ويأخذ مسافة واحدة بين الأطراف المعنية بالتشاور، لابد وأن يشعر بالقلق من هذه الرسائل غير المطمئنة التي تأتي من أوساط داخل النظام.

لقد كنتُ من الذين عاشوا قلقا مع بداية الحديث عن التشاور بسبب عدم تحمس بعض الأطراف في المعارضة للتشاور، وقد عبرتُ عن ذلك بقوة في مقالات عديدة، واليوم بدأتُ أشعر بأن هناك بعض الأطراف في الأغلبية تريد أن تشوش على التشاور، الشيء الذي يستوجب الوقوف ضدها بقوة.

إن ما يجري على حدودنا، وفي كل الجهات، يستدعي من كل العقلاء في هذا البلد الوقوف صفا واحدا ضد كل من يحاول أن يشوش أو يُفشل التشاور المنتظر. ومما لا شك فيه أن هناك في الأغلبية والمعارضة من يَحِنُّ إلى زمن الصدام والتجاذب السياسي العنيف، وذلك بسبب أن بضاعته لا تروج إلا في مثل تلك الظروف.

فليقف العقلاء في هذه البلاد صفا واحدا ضد هؤلاء وأولئك، وبذلك سنضمن نجاح التشاور، وبذلك سنحقق المصلحة العليا للبلد.         

 

حفظ الله موريتانيا...

الأربعاء، 3 نوفمبر 2021

معا لتفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني (2)

سيتم تخصيص هذه الحلقة من سلسلة "معا لتفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني" للرد على بعض"خبراء" أو "فقهاء" ترتيب الأولويات، والذين كثيرا ما يعلقون على مناشيري بتعليقات مفادها أن الاهتمام باللغة الرسمية واللغات الوطنية أمرٌ مهمٌ، ولكن ترتيب الأولويات يقتضي تركه إلى حين، والتفرغ لقضايا أكثر أهمية وأكثر إلحاح كارتفاع الأسعار وانقطاع الماء والكهرباء.

دعونا نفكر بعقولنا..

دعونا ننظر إلى الأمور نظرة إستراتيجية..

دعونا نرتبها حسب درجة الأولوية والإلحاح..

إذا فعلنا ذلك بحق، فسنجد ـ ودون عناء فكري كبير ـ أن ترتيب الأولويات يقتضي الاهتمام في مثل هذا الوقت بالذات بقضية اللغة، وترك الأمور الأخرى إلى حين.

كيف؟

ماذا تقول يا هذا؟

لنفترض جدلا أن ترتيب من تم وصفهم ب"خبراء" الأولويات هو الترتيب الأسلم، الشيء الذي يستوجب ترك قضية اللغة جانبا، والتي هي مسألة جوهرية جدا في إصلاح النظام التربوي، والتفرغ لقضايا أخرى أكثر أولوية كالمطالبة بخفض الأسعار أو وقف انقطاعات الكهرباء والماء. دعونا نفترض أننا تفرغنا لتلك المطالب وتمكنا بالفعل من فرض تخفيض أسعار بعض المواد الأساسية، ووقف انقطاعات الكهرباء والماء في بعض مدننا.

هذا شيء جيد تماما، لاشك في ذلك.

ودعونا نفترض كذلك أن الأيام التشاورية حول التعليم أبقت الحال على ما كان عليه، وأن التشاور الوطني الشامل لم يأت بجديد بخصوص قضية لغة التدريس وتعريب الإدارة.

ستكون نتيجة كل هذا في المحصلة النهائية هي أننا بعد عشر سنوات سنجد أن حال هذه البلاد قد ازداد سوءا، وأن مشاكل الماء والكهرباء والأسعار ما تزال مطروحة وبإلحاح أكبر.

وسنجد ـ وهذه هي الكارثة الكبرى ـ أننا سرقنا أعمار أجيال كاملة من أبناء هذا الوطن درست في ظل نظام تربوي مختل كان من الممكن إصلاحه في ظرفية كهذه، ولكن "خبراء" ترتيب الأولويات اختاروا أن ينشغلوا بمشاكل أخرى رغم أهميتها وإلحاحها إلا أنها يمكن أن تطرح في كل حين.

لن يصلح حال هذه البلاد في أي مجال من مجالات الحياة إذا لم نصلح نظامنا التربوي..هذه حقيقة أولى . الحقيقة الثانية هي أن الفرصة المتاحة الآن لإصلاح النظام التربوي لن تتاح مرة ثانية من قبل عقد أو عقدين من الزمن على الأقل، ذلك أن الإصلاحات التربوية لا يمكن أن تجرب كل سنة، ولا حتى كل خمس سنوات، فهي تحتاج على الأقل لعقدين من الزمن.

أما الحقيقة الثالثة فهي أن خفض الأسعار ووقف انقطاع الكهرباء والماء إذا لم نطالب به في هذه الأيام، فيمكن أن نطالب به غدا أو في الشهر القادم، أو في السنة القادمة، فهذه مطالب يمكن أن تُطرح في كل حين.

نحن أمامنا اليوم فرصة ثمينة قد لا تتكرر خلال العقدين القادمين، وهي فرصة أتاحها التشاور حول إصلاح التعليم، والتشاور الوطني الشامل، وعلينا أن لا نضيع هذه الفرصة.

صحيح أن مشاكل التعليم كثيرة ومعقدة، ولكن تبقى لغة التدريس واحدة من أهم تلك المشاكل، وصحيح أيضا أن مشاكل الإدارة كثيرة ومعقدة وأن تقريب الإدارة من المواطن يحتاج لجهد كبير، ولكن هذا الجهد يجب أن يبدأ بمخاطبة المواطن بلغة دستوره التي يفهمها أو يفترض فيه أنه يفهمها ..لكل ذلك فإن ترتيب الأولويات السليم يقتضي أن يتم الاهتمام بقضية اللغات في مثل هذا الوقت بالذات، ثم إنه لم يعد من المقبول بعد مرور أكثر من ستة عقود على استقلال البلاد، وأكثر من ثلاثة عقود على التصديق على دستورنا الحالي الذي حصر اللغة الرسمية في اللغة العربية، لم يعد مقبولا بعد هذا كله أن يبقى بلدنا بلا هوية مجمع عليها، وبلا لغة رسمية معترف بها نظريا وعمليا، ففي الوقت الحالي فأن اللغة الرسمية لموريتانيا من الناحية النظرية هي اللغة العربية أما من الناحية العملية فهي اللغة الفرنسية.

هذا التناقض الغريب لم يعد مقبولا، ويجب أن يتوقف بشكل نهائي...ونحن الآن أمامنا فرصة ثمينة للخروج بتوصيات محل إجماع أو شبه إجماع توقف العمل بهذا التناقض الغريب.

 

 

حفظ الله موريتانيا...