الثلاثاء، 30 مايو 2023

لا أحد من هؤلاء أو أولئك يبحث عن قاتل عمار جوب!

 


حاول البعض منذ اللحظات الأولى من بعد الإعلان عن جريمة قتل عمار جوب رحمه الله أن يُثْبتَ أن الشرطة هي من ارتكبت جريمة القتل تلك، وأخذ هؤلاء يبحثون عن كل دليل يؤكد هذا الحكم الجاهز، ويلغون أي دليل آخر قد يضعف من قوة حكمهم الجاهز بأن الشرطة هي من ارتكبت جريمة القتل هذه. لم يكن أصحاب هذا الحكم الجاهز بحاجة للكثير من جمع القرائن فجريمة قتل الصوفي ولد الشين رحمه الله في إحدى مفوضيات الشرطة لم تكن منا ببعيدة.

هذه الطائفة أخذت تنبش في كل جرائم الشرطة هنا بل وفي الخارج، وما أكثر جرائم الشرطة هنا وفي الخارج، وذلك من أجل تأكيد ما كانت تريده أن يكون هو الحقيقة بعينها، وهو أن الشرطة الموريتانية هي من قتلت المرحوم عمار جوب في مفوضية السبخة رقم1.

البعض الآخر حاول أن يبرئ الشرطة، وسعيا منه لتبرئة الشرطة أخذ ينبش في سيرة الضحية نفسه ليكتشف أن الضحية له سوابق في عالم الإجرام، وأن في صحيفته جريمة قتل على الأقل. فهل من كانت له سوابق إجرامية يجوز قتله في مفوضية للشرطة؟

إن السوابق الإجرامية يمكن أن نتحدث عنها في هذه الحالة لتبيان الخلل الذي يعاني منه القضاء، فكيف لقاتل في العام 2018 أن يكون حرا طليقا في العام 2023؟ ويمكن أن نتحدث عنها وقت القبض على المجرم، وإن حدث قتل في مكان إلقاء القبض على المجرم يمكن أن نتحدث في تلك الحالة عن السوابق الإجرامية، فربما يكون المجرم قد حاول المقاومة أو حتى الاعتداء على الشرطة. أما إذا كانت جريمة القتل قد حدثت داخل مفوضية الشرطة، وبعد أن أصبح المجرم تحت سيطرة الشرطة بشكل كامل، ففي هذه الحالة لا معنى إطلاقا لاستحضار السوابق الإجرامية للضحية، وقتله في هذه الحالة يعد من أعظم جرائم القتل لأنه قُتل في المكان الذي يفترض فيه أن يوفر له الأمن، ولا تختلف في هذه الحالة جريمة قتل مواطن صالح بلا سوابق عن قتل مواطن آخر له سوابق، فقتل أي منهما في مفوضية شرطة يعتبر جريمة نكراء.

المؤسف حقا هو أن هؤلاء وأولئك هم من سيطر على مواقع التواصل الاجتماعي يوم أمس، فالطائفة الأولى حاولت أن تُحَمِّل الشرطة ومن ورائها النظام جريمة قتل عمار جوب رحمه الله، ولم تقصر في تجييش العواطف ولا في الشحن الإعلامي، وبالتالي فهي مسؤولة بشكل أو بآخر عن كل ما حدث من بعد ذلك  من تخريب في نواكشوط ونواذيبو..

والطائفة الثانية، وفي محاولتها لتبرئة الشرطة تصرفت بشكل بعيد من الإنسانية والأخلاق، فاستحضرت سوابق الضحية في ظرف يُفترض فيه أنه وقت تضامن مع الضحية وذويه. هذه الطائفة التي تُحاول أن تَسْتَسهل مثل هذا النوع من الجرائم، عليها أن تعلم هي أيضا بأنها تتحمل بشكل أو بآخر جزءا من المسؤولية في كل جريمة قتل من هذا النوع قد تقع مستقبلا. إن اسْتِسهال جرائم القتل هو جريمة في حد ذاته، ثم إن المسارعة في تبرئة متهم بجريمة قتل، أو المسارعة في اتهام بريء بجريمة قتل، كلاهما يعدُّ من الأخطاء الكبيرة التي يجب على العقلاء أن يبتعدوا عنها.

في جرائم القتل يجب الابتعاد كليا عن المسارعة في إصدار الأحكام الجاهزة بالبراءة أو الإدانة، ومما عمت به البلوى في زمن سيطرة مواقع التواصل الاجتماعي أن المدون الذي لا صلة له بالموضوع، قد لا يتورع عن  استخدام حسابه في اتهام من قد يكون بريئا بجريمة قتل، أو تبرئة من قد يكون مجرما، تبرئته من جريمة قتل ارتكبها.

أين العقلاء من رجال الإطفاء؟

بالأمس حضر الجميع ولم يغب إلا العقلاء من رجال الإطفاء الذين لا يتسرعون في إصدار الأحكام الجاهزة، والذين يحاولون إطفاء نيران يريد العض هنا أو هناك إشعالها. حضرت المعارضة بنوابها وحقوقييها وإعلامييها وسياسييها، وحاولت أن تستغل هذه الجريمة ضد النظام، وكانت الفرصة مناسبة، فالجريمة وقعت بعد أيام قليلة من إعلان نتائج انتخابات مشكوك فيها من طرف المعارضة. لم يقصر المعارضون الذين حضروا في تجييش العواطف ولا في الشحن الإعلامي فكان ما كان من مظاهرات تخريبية في نواكشوط ونواذيبو.

وبالأمس حضر أيضا الصف الثاني أو الثالث من الأغلبية ( الصف الأول تبخر كما تبخرت  الأغلبية دائما عندما يجد النظام نفسه أمام أزمة، ولكم أن تسألوا عن المائة والسبعة نواب التي حصدها حزب الإنصاف لوحده في الانتخابات الأخيرة، ولكم أن تستغربوا من عدم مشاهدة نائب واحد من المائة نائب وزيادة من حزب الإنصاف، وذلك في الوقت الذي شاهدتم فيه بعض نواب المعارضة، والتي لم تتمكن في مجموعها من حصد ربع ما حصده حزب الإنصاف لوحده). المهم تبخر الصف الأول في الأغلبية كما تعود دائما أن يتبخر في أوقات الشدة وأن يحضر في أوقات الرخاء، وحضر البعض من الصف الثاني من الأغلبية، وقد حاول هذا البعض أن يبرئ النظام من خلال كشف سوابق الضحية الإجرامية، وربما يكون هذا هو أسوأ أشكال الدفاع عن النظام في مثل هذه الأوقات.

لو حضر العقلاء يوم أمس لكان موقفهم السليم هو الوقوف مع من كلف بالتشريح، والوقوف بقوة من بعد ذلك مع من سيكلف بالتحقيق في الجريمة، فذلك هو ما سيخدم الضحية وذويه، وذلك هو ما سيخدم العدالة، وذلك هو أيضا ما سيخدم الوطن.

إن حضور ذوي الفقيد والسماح لهم باختيار محام يثقون فيه للحضور لتشريح الجثة يعد أمرا مهما كسبناه من جريمة قتل الصوفي، وما دامت هناك لجنة تشريح بحضور ذوي الفقيد ومحاميهم، فالمطلوب في هذه الحالة هو أن لا نتسرع في إثبات أو نفي الجريمة عن الشرطة أو عن غيرها من قبل صدور التقرير الطبي ومن قبل أن تقول لجنة التحقيق كلمتها.

حفظ الله موريتانيا..

الخميس، 25 مايو 2023

رسائل "مهرجان الرفض"


نظمت المعارضة الموريتانية مساء اليوم الخميس الموافق 25 مايو 2023 أول مهرجان جماهيري لها بعد طول غياب امتد لسنوات، وقد كان من المتوقع أن يكون الحضور الجماهيري ضعيفا لهذا المهرجان، وذلك لعدة أسباب نذكر منها:

1 ـ أن المعارضة لم تنظم خلال العهد الحالي مهرجانا واحدا يرفع مطالب المواطن، ولذا فقد كان من المتوقع أن لا يتحمس جمهورها لحضور هذا المهرجان الذي يرفع مطالب "انتخابية" قد لا تهم المواطن بشكل مباشر؛

2 ـ أن هذا المهرجان قد جاء بعد حديث في مؤتمر صحفي لأحد قادة المعارضة قد يُفهم منه بأنه دعوة لحمل السلاح، ومن المعروف بأن المواطن الموريتاني شديد الحساسية من أي دعوة لحمل السلاح؛

3 ـ أن المهرجان كان مهرجانا للمعارضة لوحدها، ولم تنفتح فيه المعارضة على أطراف سياسية أخرى تعتبر أنها كانت ضحية للتزوير، وكان من المحتمل أن يستقطب مثل ذلك الانفتاح حضور جمهور غير معارض يرى أنه تضرر من التزوير؛

4 ـ أن الوقت الذي خصص للتحضير للمهرجان لم يكن كافيا، كما أن مكان المهرجان قد عرف تغييرا؛

5 ـ أنه جاء بعد اللقاء الثلاثي الذي جمع بين الداخلية والأحزاب السياسية ولجنة الانتخابات، مما يعني انطلاق مسار تفاوضي، وقد طالبت الداخلية وقف كل الأنشطة بما فيها مهرجان المعارضة دعما لذلك المسار؛

6 ـ شن بعض نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي المحسوبين على المعارضة حملة تدوينية ضد المهرجان؛

كل هذه النقاط السابقة جعلت أغلب متابعي الشأن العام يتوقعون حضورا جماهيريا ضعيفا لمهرجان المعارضة الرافض لنتائج الانتخابات، ومع ذلك فقد كان الحضور مقبولا إن لم أقل معتبرا، وهو ما يعني أن المعارضة مازالت قادرة رغم كل نقاط ضعفها على تحريك الشارع، وهذه هي الرسالة الأولى للمهرجان.

وهو ما يعني كذلك أن هناك مستوى من الرفض الشعبي للانتخابات الأخيرة، وهذا الرفض هو الذي مكن المعارضة من أن تستقطب حضورا معتبرا أو على الأقل مقبولا لمهرجانها الذي اختارت له شعار " مهرجان الرفض". وهذه هي الرسالة الثانية للمهرجان.

وبكلمة واحدة، فيمكننا أن نقول بأن المعارضة من خلال هذا المهرجان قد أثبتت، وبالرغم كل نقاط ضعفها، أنها ما تزال قادرة على تحريك الشارع. وليس الشارع هو السلاح الوحيد الذي تمتلكه المعارضة للطعن في الانتخابات، فهي تمتلك أيضا سلاحا آخر كلفته أقل من تحريك الجماهير، ومع ذلك فله تأثيره القوي، واقصد هنا عدم اعترافها بنتائج الانتخابات، والذي قد تمتد عدواه خارج المعارضة ليشمل عددا من الأحزاب السياسية الداعمة للرئيس.

لقد عمل رئيس الجمهورية ، ومنذ أول يوم بعد التنصيب، وظل يعمل على ذلك خلال ما يقارب أربع سنوات مضت من مأموريته، على تهدئة الأوضاع، والانفتاح على المعارضة، وخلق مناخ سياسي وانتخابي توافقي، فكيف تكون الحصيلة بعد كل هذا الاستثمار الكبير في التهدئة انتخابات لا تعترف بنتائجها أغلب الأحزاب السياسية في المعارضة وربما في الموالاة؟

إن لجنة الانتخابات الحالية، والتي كان تشكيلها محل توافق غير مسبوق، قد وضعت الجميع في مواقف صعبة، فبالنسبة للمعارضة التي تشكك في نتائج الانتخابات، فإن حكماءها الذين زكت قد زكوا نتائج الانتخابات، وهم أكثر تحمسا من حكماء الأغلبية في الدفاع عن هذه النتائج, أما بالنسبة للنظام فإن اللجنة قد وضعته أمام خيارين كلاهما أصعب من الآخر، فإما أن يمرر انتخابات لا تعترف بها أغلب الأحزاب السياسية، وإما أن يعيد تلك الانتخابات رغم صعوبة إعادتها، ورغم ما تطرح الإعادة من مشاكل وتحديات كبيرة منها:

1 ـ أن رئيس الجمهورية ليس من صلاحياته إلغاء الانتخابات وإعادتها؛

2 ـ أن البرلمان القادم لا يمكن حله إلا من بعد سنة كاملة، وذلك لأن البرلمان السابق قد تم حله من قبل انتهاء مأموريته؛

3 ـ  أن إلغاء الانتخابات بسبب التزوير، قد يشجع كل من سيفشل مستقبلا في الانتخابات القادمة على المطالبة بإلغائها، ولذا فإلغاء الانتخابات دون تعهد مسبق من كل المشاركين في تلك الانتخابات بأنهم سيعترفون بنتائجها بعد استنفاد التظلمات والطعون، فبدون وجود مثل ذلك التعهد فإننا سندخل دوامة من عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات بلا أول ولا آخر.  

نعم نحن أمام خيارين كلاهما أصعب من الآخر، وسيبقى المخرج الوحيد من هذه المعضلة الانتخابية التي وضعتنا فيها لجنة الانتخابات هو الاستمرار في حوار الداخلية مع الأحزاب السياسية إلى أن يتم التوصل لحل توافقي يرضي جميع الأطراف السياسية.

حفظ الله موريتانيا..

السبت، 20 مايو 2023

ماذا بعد الحديث عن الواسع عن التزوير ؟


أشرتُ في مقالي السابق الذي قدمتُ فيه قراءة تحليلية مطولة للنتائج الأولية لانتخابات 13 مايو2023، أشرتُ في ذلك المقال إلى أن أغلب الأحزاب السياسية في المعارضة والأغلبية باستثناء حزب الإنصاف الذي اكتفى ببعض التظلمات قد أجمعت على أن انتخابات 13 مايو قد شهدت عمليات تزوير واسعة وغير مسبوقة.

 لنطرح السؤال : من يتحمل أخطاء اللجنة المستقلة للانتخابات؟

للإجابة على هذا السؤال علينا أن نوضح بعض الأمور من خلال المقارنة بين انتخابات 2018 و انتخابات 2023.

1 ـ  في انتخابات 2018 نزل رئيس الجمهورية إلى الميدان للمشاركة بقوة في حملة الاتحاد من أجل الجمهورية. في انتخابات 2023 لم يسجل أي تدخل لرئيس الجمهورية في الحملة الانتخابية؛

2 ـ  في انتخابات 2018 كنا أمام لجنة غير توافقية لم تمثل فيها أغلب أحزاب المعارضة..في لجنة 2023 مُثلت جميع أحزاب المعارضة في هذه اللجنة والتي يعتبر رئيسها ونائبه من المحسوبين على المعارضة، أو على الأقل من المقربين منها خلال فترة العشرية؛

3 ـ  لاحظنا خلال الحملة الانتخابية في سابقة من نوعها أن التجاذبات الانتخابية كانت أشد بين حزب الإنصاف وأحزاب الأغلبية، أكثر مما هو الحال بين الأغلبية والمعارضة؛

4 ـ  بخصوص توفير الموارد المالية للجنة فإن الحكومة لم تقصر في هذا المجال، ووفرت للجنة ميزانية ضخمة جدا، لا يمكن أن تقارن بميزانية اللجنة السابقة، كما أن الأحزاب السياسية حصلت على الدعم المالي في الوقت المناسب.

نظرا لكل ذلك فإنه يمكن القول وبكل اطمئنان بأن أخطاء لجنة الانتخابات الحالية وفشلها البيِّن تتحمله الأحزاب السياسية في الأغلبية والمعارضة على حد سواء، ولا يتحمله رئيس الجمهورية، والذي كان حريصا على الاستجابة لكل مطالب المعارضة وشروطها خلال الحوار الممهد لهذه الانتخابات، وهو الحوار الذي أجرته الأحزاب السياسية مع وزارة الداخلية.

كان على المعارضة في مؤتمرها الصحفي الأخير أن تكون أكثر شجاعة، وأن تتحمل علنا نصيبها من فشل اللجنة.

لم تتحمل المعارضة نصيبها من فشل اللجنة، وإنما هددت في مؤتمرها الصحفي بالنزول إلى الشارع، وهذا التهديد قد لا يطرح مشكلة كبيرة للنظام، وذلك لكون جمهور المعارضة قد لا يستجيب لأي دعوة للنزول إلى الشارع، وقد ظهرت بوادر ذلك الرفض في مواقع التواصل الاجتماعي، فجمهور المعارضة يرى أن المعارضة قد تخلت عنه خلال السنوات الماضية، ولم تنزل إلى الشارع دفاعا عنه، وهو اليوم لن يستجيب لدعوتها التي جاءت من بعد حصولها على نتائج ضعيفة جدا في الانتخابات.

المشكلة ليست في تهديد المعارضة بالنزول إلى الشارع، وإنما في عدم اعترافها بنتائج الانتخابات، فمن المعروف بأن رئيس الجمهورية عمل منذ وصوله إلى السطلة على تهدئة الأجواء السياسية والانفتاح على المعارضة، ولذا فهو لن يرتاح لانتخابات لا تعترف المعارضة ولا الأغلبية باستثناء حزب الإنصاف بنتائجها.

إن الأخطاء الكبيرة للجنة الانتخابات وضعت النظام أمام خيارات صعبة، فإما أن يعتمد نتائج انتخابات لا تعترف معظم الأحزاب في المعارضة والأغلبية بنتائجها، ويكسر بذلك مناخ التهدئة الذي حققه رئيس الجمهورية وبذل جهدا كبيرا في سبيل تحقيقه، وإما أن يعيد هذه الانتخابات جزئيا أو كليا وهو ما ستترتب عليها مشاكل  وتحديات كثيرة.

ويبقى السيناريو الأقرب هو أن تستأنف وزارة الداخلية اجتماعاتها بالأحزاب السياسية، وأن تفتح نقاشا جديا معها من أجل الخروج بحلول توافقية لمعالجة الأخطاء التي ارتكبتها لجنة الانتخابات.

وبغض النظر عما سيحدث، فسأبقى من الذين يعتقدون بأن لجان الانتخابات السياسية، والتي يتم تشكيلها من طرف الأحزاب السياسية هي في الغالب لجان فاشلة، وسيبقى البديل الأفضل هو تشكيل لجنة انتخابية فنية تضم خبرات وكفاءات غير سياسية مشهود لها بالاستقامة وحسن السيرة الوظيفية.

تنبيه : هذا المقال يعبر فقط عن رأيي كمتابع لقضايا الشأن العام، وحاولتُ أن أكون فيه موضوعيا وأن أقدم من خلاله رأيا تحليليا واستشرافيا لمسار انتخابات 13 مايو، وهو لا يعبر ـ بأي حال من الأحوال ـ  عن رأيي كمرشح خاسر في هذه الانتخابات، يعتقد بأنه كان ضحية من ضحايا التزوير والارتباك وانشغال القائمين على لجنة الانتخابات بتشغيل الأقارب والبحث عن مكاسب شخصية بدلا من الإنشغال بتأدية الأمانة الجسيمة التي كلفوا بها. لو كتبتُ المقال بصفتي مرشحا خاسرا في هذه الانتخابات لكان نقدي للجنة الانتخابات أشد وأقسى مما هو عليه في هذا المقال.

Haut du formulaire

 

حفظ الله موريتانيا..

الخميس، 18 مايو 2023

قراءة تحليلية لانتخابات 13 مايو 2023


 لقد تعودنا في هذه البلاد، ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي، أن تُصْدِر المعارضة الموريتانية بعد كل استحقاق انتخابي العديد من البيانات والتصريحات التي تؤكد فيها أن الانتخابات شهدت عمليات تزوير غير مسبوقة. لم تخرج المعارضة عن المألوف في هذه المرة، فسارعت من جديد لإصدار بيانات تندد من خلالها بالتزوير غير المسبوق الذي شهدته انتخابات 13 مايو. الجديد في هذه الانتخابات هو أن أحزاب الأغلبية باستثناء حزب الإنصاف أصدرت هي الأخرى بيانات تندد فيها بتزوير الانتخابات، ولم تكن بياناتها بأقل حدة من بيانات أحزاب المعارضة. ولعل أغرب ما في الأمر هو أن حزب الإنصاف لم يسلم هو الآخر من موجة التنديد بما حصل من تزوير أو أخطاء، وقد كانت البداية مع رئيس البرلمان السابق، واتسع الأمر بعد ذلك ليصل إلى رئيس حزب الإنصاف والذي تحدث عن مضايقات اللجنة لممثلي حزبه في بعض المكاتب.

بِمَ نفسر هذا الاستياء العارم من عمل اللجنة؟

إن إجماع الطيف السياسي بمعارضته وأغلبيته وبما فيها حزب الإنصاف، على تقصير اللجنة المستقلة للانتخابات بلغة سياسية، أو ممارستها للتزوير الواسع بلغة سياسية أخرى، ليؤكد أننا أمام لجنة انتخابية فريدة من نوعها، وهي إما أن تكون صارمة في تنفيذ القانون، وبذلك فقد تضرر منها الجميع في الأغلبية والمعارضة، وتلك فرضية يمكن أن نفسر من خلالها السيل العارم من التنديد والتظلم الذي جاء من مختلف الطيف السياسي، وإما أن تكون قد بلغت من الفشل والارتباك مستويات غير مسبوقة أدت إلى تضرر الجميع، وبما في ذلك الحزب الحاكم الذي ظل خلال العقود الماضية محصنا ضد أي ظلم يأتي من لجنة الانتخابات، وهذه فرضية ثانية يمكن أن نفسر بها ذلك السيل العارم من التنديدات.

وربما تكون هناك فرضية ثالثة قد يدفع بها بعض المعارضين وهي أن الأخطاء التي يتحدث عنها حزب الإنصاف الذي تتهمه بعض الأطراف الأخرى بأنه شريك اللجنة في التزوير ما هي إلا مجرد حركة تمثيلية يسعى الحزب من ورائها إلى دفع شبهة التزوير عنه.

مقارنة بين لجنتين انتخابيتين

لا خلاف على أن الظرف السياسي الذي نظمت فيه اللجنة الحالية انتخابات مايو 2023 يختلف تماما عن الظرف السياسي الذي نظمت فيه اللجنة السابقة انتخابات سبتمبر 2018، ومع ذلك فهناك من يرى بأن أداء اللجنة السابقة كان أفضل بكثير من أداء اللجنة الحالية، وذلك على الرغم من النواقص الكثيرة المسجلة في انتخابات 2018.

وهذه بعض أوجه المقارنة بين اللجنتين:

1 ـ اللجنة السابقة لم تكن توافقية، وهذه اللجنة الحالية توافقية وكل الطيف السياسي تم تمثيله فيها؛

2 ـ اللجنة السابقة كانت ميزانيتها أقل بكثير من ميزانية اللجنة الحالية؛

3 ـ اللجنة السابقة نظمت انتخابات شارك فيها ما يقارب 100 حزب سياسي بينما اللجنة الحالية نظمت انتخابات شارك فيها 25 حزبا فقط. الجديد بالنسبة للجنة الحالية هو أن هناك لائحة إضافية خاصة بالشباب؛

4 ـ اللجنة السابقة نظمت انتخابات في جو مشحون وفي ظل صدام قوي بين النظام والمعارضة، واللجنة الحالية نظمت انتخابات في ظل تهدئة غير مسبوقة بين النظام والمعارضة.

كل المؤشرات كانت لصالح اللجنة الحالية، ومع ذلك فقد كان عمل اللجنة السابقة أقل ارتباكا، وأكثر إقناعا رغم ما تضمن من أخطاء كبيرة.

من يتحمل المسؤولية؟

تُحاول المعارضة أن تحمل أخطاء اللجنة المستقلة للانتخابات للنظام، والحقيقة أن أخطاء اللجنة المستقلة للانتخابات يتحملها الجميع من معارضة وأغلبية، وإن بدرجات غير متساوية، وذلك لكونها قد تشكلت في ظل أجواء توافقية، وقد مُثلت فيها كل الأطراف السياسية.

المؤسف في هذا الأمر هو أن كل الأحزاب السياسية قدمت مقترحات لم تبحث فيها عن الكفاءة، بل بحثت فيها عن الولاء لها فقط.

نقطة مضيئة ..نقطة مظلمة

تبقى النقطة الأكثر إضاءة في عمل اللجنة الحالية هي المنصة الالكترونية التي استحدثتها، والتي كانت تنشر النتائج أولا بأول وبشكل مبسط، مكن الجميع من متابعة النتائج بيسر وسهولة، قد يكون هناك تأخر في ظهور النتائج على تلك المنصة، ولكن تلك ليست مشكلة القائمين على المنصة، وإنما هي مشكلة المكاتب. ربما تكون الملاحظة الوحيدة هو أن المنصة كان بإمكانها أن تخصص خانة تنشر فيها عدد النواب المؤقت الذي يقابل مجموع عدد المصوتين الذي حصل عليه كل حزب...عموما كانت هذه المنصة نقطة مضيئة في عمل اللجنة، أما النقطة المظلمة فتتمثل في الستائر التي ظهرت في المكاتب، والتي تعكس نوعا من عدم الجدية في العملية الانتخابية، فقد كان من المفروض أن تقتني اللجنة ستائر عصرية بها قضبان حديدية، كالتي تستخدم في العديد من البلدان، أو على الأقل أن توحد شكل ومقاس القماش المستخدم في مكاتبها.

وتكرر تصدر البطاقة اللاغية للنتائج

تعودنا مع كل انتخابات جديدة أن تتصدر البطاقة اللاغية النتائج، وأن تحتل المرتبة الثانية على الأقل، بعد الحزب الحاكم. وقد تداول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي نتائج مكتب كان عدد المصوتين فيه 108، وحصدت فيه البطاقة اللاغية 102، أي نسبة 94% من المصوتين.

ستستمر البطاقة اللاغية في تصدر النتائج، وذلك نظرا لتعقيد عملية التصويت ولانتشار الأمية في صفوف الناخبين، ولن يكون بالإمكان التغلب على تصدر البطاقة اللاغية للنتائج إلا إذا أخذنا بمقترح سأعرضه في خاتمة هذه القراءة التحليلية مع مقترحات أخرى.

هل هناك من يريد انتخابات شفافة؟

للأسف فإن أغلبية المشتغلين بالسياسة لا يريدون انتخابات شفافة، وهناك سؤال يجب علينا أن نطرحه بكل شجاعة : هل يمكن أن نعتبر في مجال الانتخابات بأن الغاية تبرر الوسيلة؟

بمعنى: إذا اعتقدتُ أنا مثلا أن بإمكاني أن أخدم المواطن عند وصولي إلى البرلمان، فهل هذا يجيز لي أن ألجأ إلى قبيلتي وأن أمارس ترحيل الناخبين لتحقيق غايتي النبيلة هذه؟

لنطرح هذا السؤال بصيغة أخرى : هل الأفضل هو أن أمارس هذه المسلكيات الخاطئة وأجذرها بالتالي وأرسخها في ممارستنا الديمقراطية، وذلك من أجل تحقيق غاية نبيلة وهي خدمة المواطن من داخل البرلمان أم الأفضل أن أتجنب ممارستها نهائيا مما قد يحول دون وصولي إلى البرلمان، وحرماني بالتالي من خدمة المواطن من داخل البرلمان؟

للأسف الشديد فإن أغلب المترشحين يمارسون هذه المسلكيات الخاطئة، والفرق هو فقط في مستوى الممارسة.

فالمرشح القادم من الحزب المحسوب على الدولة أو المرشح صاحب الأموال الطائلة يمارس هذه المسلكيات بشكل واسع، والمرشح القادم من خارج دائرة النظام يمارس هذه المسلكيات بشكل محدود جدا.. الفرق هنا هو كالفرق بين الموظف الكبير الذي يسرق أموالا طائلة من أموال الشعب والسارق الصغير الذي لا يجد إلا قنينة غاز أو هاتفا ليسرقه.

يتساوى السارقان في ارتكاب جريمة السرقة، حتى وإن اختلفا في حجم وقيمة المسروقات، تماما كما يتساوى بعض المترشحين في ترحيل الناخبين وفي توظيف القبيلة في العملية السياسية، والفرق هنا يختلف فقط في حجم التوظيف، فالمرشح القادم من النظام يمتلك نفوذا كبيرا وأموالا طائلة لترحيل أكبر عدد من الناخبين ولشراء الكثير من الأصوات بينما لا يملك المرشح خارج دائرة النظام إلا إمكانيات قليلة قد لا ترحل له إلا القليل من الأصوات، وقد لا تسمح له بتوظيف القبيلة إلا في مجالات محدودة جدا، ولكن في النهاية فكلا المرشحين يشارك في ترحيل الأصوات وفي إدخال القبيلة في العملية الانتخابية، حتى وإن كان ذلك بمستويات متباينة.

حضر الشباب...غاب الشباب

تميزت هذه الانتخابات عن غيرها من الانتخابات بوجود لائحة شبابية، وقد شكل وجود هذه اللائحة إضافة نوعية ولفتة سياسية مهمة نحو الشباب، ولكن المفاجأة هي أن وجود لوائح شبابية لم ينعكس إيجابا على الحملات الانتخابية، بل يمكن القول بأن حملات اللوائح الشبابية كانت تقليدية أكثر من حملات اللوائح الأخرى.

غياب أي بصمة شبابية في الحملة الانتخابية نرجو له أن لا يمتد إلى العمل البرلماني فتغيب أي بصمة شبابية في أداء البرلمان القادم، وذلك على الرغم من وجود 10 نواب شباب لأول مرة في تاريخ البرلمان الموريتاني.

وتستحق النتائج قراءة خاصة

من المؤكد أن نتائج هذه الانتخابات ستفرز خريطة سياسية جديدة، ومن المؤكد كذلك أن الموت الانتخابي لأهم أحزاب المعارضة التقليدية سيؤدي حتما إلى موتها سياسيا، أما بالنسبة للموالاة فإن ظاهرة مغاضبي حزب الإنصاف قد أدت إلى بعث بعض الأحزاب في الأغلبية من مرقدها، وذلك بعد أن كانت قد دخلت في عداد الأموات. لقد أدت هذه الانتخابات إلى موت بعض أحزاب المعارضة وبعث بعض الأحزاب في الأغلبية كانت في عداد الأموات وتستحق هذه الظاهرة أن يتم الحديث عنها بشكل معمق من خلال قراءة أخرى في مقال آخر قد لا أجد وقتا لكتابته.

مقترحات

1 ـ  من المهم أن تُسحب من الأحزاب السياسية صلاحية اختيار حكماء اللجنة المستقلة للانتخابات، ومن المهم التفكير مستقبلا في آلية أخرى لتشكيل لجنة انتخابات فنية تضم خبراء من أهل الكفاءة والاختصاص لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالأحزاب السياسية؛

2 ـ للتغلب على تصدر البطاقة اللاغية لنتائج الانتخابات لابد من فرض بطاقة التصويت الحزبية الموحدة. لقد تم التمكن من إبعاد المستقلين من الترشح رغم ما في ذلك من سلب لحقوقهم، وقد آن الأوان لفرض البطاقة الحزبية الموحدة، حتى وإن تضررت الأحزاب الصغيرة، وقد يكون من المناسب تقديم مقترح بذلك من داخل البرلمان مع بداية المأمورية الحالية، ويمكن لحزبي الإنصاف وتواصل أن يقدما مقترحا مشتركا بخصوص البطاقة الموحدة، ومما لا شك فيه أن الحزبين سيستفيدان من ذلك المقترح؛

3 ـ من الضروري كذلك إصدار ميثاق شرف انتخابي يوقعه كل المترشحين من قبل أي عملية انتخابية، وقد أعددت مسودة نسخة من هذا الميثاق، وعرضتها على المنافسين في دائرتي الانتخابية، ولكن لم يوقعها أي واحد منهم، وكان لابد لي من الالتزام ببنودها مما جعلني أفقد الكثير من الأصوات التي كان من السهل الحصول عليها، وأدفع بذلك كلفة انتخابية كبيرة لم يدفعها بقية المنافسين.

وتبقى كلمة خاصة

شكرا لكل من دعمني في هذه الانتخابات، وشكرا لكل من صوت لي، وكل التفهم لمن لم يصوت لي. لقد نافستُ بشرف رغم كل التحديات، ولقد حاولت أن تكون حملتي مميزة، ورفضت أن أمارس فيها بعض المسلكيات الخاطئة التي عمت بها البلوى، وهو الشيء الذي جعلني أخسر أصواتا كثيرة. لستُ نادما على ذلك، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ فلن أغير أسلوب حملتي الانتخابية.

إني أومن ـ ولله الحمد ـ بأن الخير فيما اختار الله، وأن في عدم دخولي للبرلمان الكثير من الخير حتى وإن عجز عقلي القاصر عن إدراكه.

الحمد لله أولا وأخيرا، وسيبقى الخيرـ كل الخير ـ فيما اختار الله.  

      

حفظ الله موريتانيا..