الأربعاء، 20 سبتمبر 2023

ما هي اللغة الرسمية لموريتانيا؟

 


هذا ما حدث خلال الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، وذلك على الرغم من مرور أكثر من 32 سنة على المصادقة على دستور 20 يوليو 1991، والذي نصت مادته السادسة على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية.

(1)

للمرة الثانية يتحدث فخامة رئيس الجمهورية محمد الشيخ الغزواني بلغة أجنبية خلال مشاركته في أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة. كانت المرة الأولى في يوم 01 نوفمبر 2021، وكانت المرة الثانية مساء أمس الثلاثاء الموافق 19 سبتمبر 2023 في قمة أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، على هامش أشغال الدورة العادية الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث ألقى فخامته خطابا بلغة أجنبية في منبر أممي تعتبر اللغة العربية واحدة من لغاته الرسمية، وتكرار حديث الرئيس بلغة أجنبية في منبر أممي هو أمرٌ محير، ويطرح أكثر من سؤال.

فلماذا يصر فخامة رئيس الجمهورية على مخالفة المادة السادسة من الدستور الموريتاني بحديثه بلغة غير دستورية في منبر أممي جعل من اللغة العربية إحدى لغاته الرسمية الست؟ ولماذا يُعطي الرئيس الانطباع لقادة العالم بأن اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية هي اللغة الفرنسية وليست اللغة العربية؟

لو كان الرئيس لا يستطيع أن يتحدث باللغة العربية، لكان بالإمكان تفهم حديثه بلغة أجنبية، ولكن ما يحير في الأمر هو أن الرئيس يتحدث بشكل جيد باللغة العربية، وهو قادر على أن يبهر القادة العرب بلغته العربية الجميلة، فلماذا اختار الرئيس أن يتحدث بلغة أجنبية في منبر أممي؟

(2)

للمرة الثانية أيضا يتحدث رئيس أعلى هيئة دستورية في البلاد (المجلس الدستوري) بلغة أجنبية خلال ترؤسه لحفل تنصيب. كانت المرة الأولى خلال حفل تنصيب رئيس الجمهورية (1 أغسطس 2019). أما المرة الثانية، فكانت اليوم (20 سبتمبر 2023) خلال تنصيب زعيم مؤسسة المعارضة الموريتانية.

في كلا التنصيبين افتتح رئيس المجلس الدستوري حديثه بكلمات عربية، وذلك من قبل أن يبدأ خطابه الرسمي بلغة أجنبية لا ذكر لها إطلاقا في أي مادة من مواد الدستور الموريتاني، البالغ عددها 102 مادة.

كان من الأفضل في حالة عجز رئيس المجلس الدستوري عن الحديث باللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية أن يتحدث بإحدى لغاتنا الوطنية، ولو أنه تحدث بإحدى لغاتنا الوطنية لكان في ذلك احترام للدستور الموريتاني، ولكان فيه أيضا إعطاء قيمة لإحدى لغاتنا الوطنية، فلماذا اختار رئيس المجلس الدستوري أن يتحدث بلغة أجنبية بدلا من التحدث بإحدى لغاتنا الوطنية؟

(3)

في نفس هذا اليوم طالعتُ كذلك خبرا عن وصول وفد برلماني موريتاني برئاسة نائب رئيس البرلمان "موسى دمبا صو" للصين، وذلك لتمثيل بلادنا في النسخة السادسة من المعرض العربي الصيني، ومن المعروف أن نائب رئيس الجمعية الوطنية لا يستطيع أن يتحدث باللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية، وهو ما ظهر خلال ترؤسه لأول جلسة للبرلمان الحالي، ولذا فمن المؤكد أنه سيتحدث باللغة الفرنسية في معرض خاص بالدولة العربية، ومنظم في دولة تهتم باللغة العربية أكثر من اهتمامها باللغة الفرنسية، فلماذا اختير لرئاسة وفد سيمثل بلادنا في المعرض العربي الصيني نائب لا يستطيع أن يتحدث باللغة العربية أمام الوفود العربية المشاركة في  هذا المعرض؟

في المجمل، فإن خطابات رئاسة الجمهورية والمجلس الدستوري والجمعية الوطنية، كانت كلها باللغة الفرنسية خلال الأربع وعشرين ساعة الأخيرة، وكانت على النحو التالي:

1 ـ فخامة رئيس الجمهورية يتحدث في قمة أهداف التنمية المستدامة باللغة الفرنسية؛

2 ـ رئيس المجلس الدستوري يتحدث في حفل تنصيب زعيم المعارضة باللغة الفرنسية؛

3 ـ نائب رئيس الجمعية الوطنية يتحدث أمام المعرض العربي الصيني باللغة الفرنسية؛

يمكن أن نُضيف لكل هذا أن كل الوثائق الرسمية التي تصدر عن الوزارة الأولى وعن أغلب الوزارات هي باللغة الفرنسية حصرا، وأن اللغة الرسمية لإجراءات الصفقات العمومية هي اللغة الفرنسية حصرا، وأن اللغة الرسمية للبنك المركزي الموريتاني، وكل البنوك العاملة في موريتانيا هي اللغة الفرنسية حصرا. لنُذكر هنا بأن الشرط الأول في تقريب خدمات الإدارة من المواطن يتمثل في مخاطبته بلغته الرسمية التي يفهمها أو يفترض فيه أنه يفهمها.

(4)

لا أخفيكم أني عشتُ اليوم ظرفية نفسية صعبة جدا، وذلك بعد أن تابعتُ فخامة رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الدستوري وربما نائب رئيس الجمعية الوطنية يتحدثون كلهم بلغة أجنبية، وهم الذين يمثلون أعلى سلطة تنفيذية، وأعلى سلطة دستورية، وأعلى سلطة تشريعية في البلاد.

في ظل هذه الوضعية النفسية الصعبة التي عشتها اليوم، أرسل لي أحد المتابعين سامحه الله، وكأنه أراد أن يزيد همومي بهم جديد، نسخة من تعميم صادر اليوم عن الإدارة الجهوية للتعليم الثانوي بكيدي ماغا باللغة الفرنسية فقط، وموجه لمديري الثانويات في الولاية، ويوم أمس أشار إليَّ أحد المتابعين سامحه الله هو أيضا بخصوص منشور (إعلان اكتتاب بتاريخ 27 يوليو 2023) على صفحة شركة "آفرو بورت" على الفيسبوك، والتي تتولى تسيير مطار نواكشوط الدولي (أم التونسي)، وقد تم اشتراط المعرفة الجيدة للغة الفرنسية والانجليزية لكل من يريد أن يترشح للوظائف المطلوبة في الإعلان، والذي جاء فيه أيضا أن معرفة اللغات الأخرى مهمة، ولم يأت أي ذكر للغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية في هذا الإعلان.

بين الأمس واليوم تلقت اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية الكثير من الطعنات، وقد تعودنا في هذه البلاد أن المصائب لا تأتي فرادى للغة العربية. ومما يزيد من حجم المصائب التي تتلقاها اللغة العربية في هذه البلاد، أن المعارضة الموريتانية، والتي نُصِّب زعيمها اليوم، تنتقد الحكومة على كل تقصير، ولا تستثني من انتقادها للحكومة إلا التقصير في مجال ترسيم اللغة العربية.

لم يستنكر قادة المعارضة حديث رئيس المجلس الدستوري أمامهم بلغة أجنبية (لا هي لغة رسمية ولا هي لغة وطنية) خلال حفل تنصيب زعيمهم الذي نُظم اليوم، ولم يأت أي ذكر للغة العربية في الميثاق الجمهوري الذي أعده حزبان من أحزاب المعارضة. لقد تحدثت هذه الوثيقة عن كل شيء تقريبا، ولم تستثن إلا اللغة العربية مع أنها تحدثت عن بقية لغاتنا الوطنية.

ليس لنا في ختام هذا المقال إلا أن نسأل: ما هي اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية؟

يمكن أن نجيب على هذا السؤال بإجابتين: الأولى تقول إنها اللغة العربية بنص الدستور الموريتاني المكتوب، والثانية تقول إنها اللغة الفرنسية بنص دستور الأمر الواقع.

 نرجو أن يكون الخطاب الثاني لفخامة رئيس الجمهورية في أشغال الدورة العادية الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة باللغة العربية.  

حفظ الله موريتانيا..

الأحد، 17 سبتمبر 2023

لا إصلاح دون عقاب


هناك ثلاث خطوات في مجال الإصلاح مترابطة فيما بينها بشكل قوي جدا، فإذا ما اتخذت السلطة الخطوة الأولى من هذه الخطوات، وجب عليها اتخاذ الخطوة الثانية، وإذا ما اتخذت الخطوة الثانية كان لابد من اتخاذ الخطوة الثالثة.

إنها خطوات في غاية الأهمية، وفي غاية الترابط، ولا يمكن أن نتوقع إصلاحا دون الأخذ بها مجتمعة، أما إذا لم يؤخذ بها مجتمعة، أي إذا أُخِذ باثنتين وتركت الثالثة مثلا، فإن النتائج في هذه الحالة ستكون سلبية، بل وكارثية.

الخطوة الأولى: إعطاء صلاحيات واسعة للوزراء وكبار الموظفين

هناك من الرؤساء من يتولى إدارة كل الأمور، ويتدخل لوزرائه وكبار موظفيه في كل كبيرة وصغيرة، وهناك من الرؤساء من يمنح لوزرائه وكبار موظفيه صلاحيات واسعة في قطاعاتهم، وهذا النمط الأخير هو الأفضل، فالقائد الناجح هو الذي يصنع قادة من حوله، ولكن منح صلاحيات واسعة للوزراء وكبار الموظفين، إذا لم تتبعه الخطوتان اللتان سأتحدث عنهما لاحقا، سيتحول إلى كارثة على النظام وعلى البلد. يمكن القول بخصوص هذه الخطوة أن فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني قد منح لوزرائه وكبار موظفيه صلاحيات واسعة جدا خلال السنوات الأربع التي مضت من مأموريته الأولى؛

الخطوة الثانية: الرقابة ومتابعة الأداء 

إن منح صلاحيات واسعة للوزراء وكبار الموظفين يجب أن تصاحبه رقابة صارمة لأداء الجميع تمكن من تحديد أصحاب الأداء الجيد وأصحاب الأداء السيء. من الملاحظ أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على اطلاع كبير بأداء وزرائه وكبار موظفيه إيجابيا كان أو سلبيا، وأنه على دراية واسعة بما يقع من اختلالات ونواقص، وقد تحدث عن تلك الاختلالات والنواقص في أكثر من خطاب، ولعل خطابه بمناسبة تخرج دفعة جديدة من المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء (24 مارس 2022)، كان هو الخطاب الأوضح، دون أن يعني ذلك أن خطاباته الأخرى التي جاءت بعد ذلك الخطاب لم تكشف هي الأخرى عن بعض الاختلالات في الأداء الحكومي. 

يمكن أن نضيف إلى ذلك الزيارات الميدانية لبعض المؤسسات الخدمية، ولمشاريع قيد الإنجاز، وهي الزيارات التي تزايدت وتيرتها في الفترة الأخيرة، ومن المؤكد أنها أتاحت للرئيس المزيد من الاطلاع على ما يجري في بعض القطاعات.

تحدث الرئيس عن بعض الاختلالات والنواقص في أداء بعض الإدارات والمؤسسات على هامش زياراته تلك، وقد استحسن الكثير من المواطنين صراحة الرئيس عند حديثه عن تلك النواقص والاختلالات، ولكن ذلك الحديث، والذي يعدُّ في غاية الأهمية، قد يتحول إلى أمر سلبي، وقد يزيد من تذمر المواطنين إذا لم تتبعه إجراءات عقابية قوية سنتحدث عنها في الخطوة الموالية.

الخطوة الثالثة: الصرامة في المحاسبة 

إن منح الصلاحيات الواسعة للوزراء وكبار الموظفين، وحديث الرئيس عن وجود نواقص واختلالات، إذا لم تتبعهما محاسبة صارمة للمسؤولين عن تلك النواقص والاختلالات، فإنهما ستزيدان من سخط المواطنين، وستكون نتائجهما سلبية على النظام وعلى الدولة.

ومما يبشر على أن هناك إرادة في تفعيل الخطوة الثالثة (المحاسبة)، هو أنه قد لوحظ في الفترة الأخيرة، أن زيارات الرئيس الميدانية، واطلاعه المباشر على بعض النواقص في الأداء، تبعتهما إقالات لبعض الموظفين، وهذا أمرٌ جيد، ومن الضروري أن يستمر، فباستمراره ستكتمل خطوات الإصلاح، وبعدم استمراره فإن الخطوة الأولى والثانية ستكون نتائجهما سلبية على النظام وعلى الدولة.

نعم لتفعيل الخطوة الثالثة من خطوات الإصلاح، ونعم لمعاقبة كل موظف لم يكن أداؤه جيدا، فأن يُمنح موظف ما صلاحيات واسعة، ثم يظهر بعد ذلك أن أداءه لم يكن على المستوى، ففي هذه الحالة يكون من الواجب إقالته، بل ومحاسبته إن كان في تسييره شبهة فساد. 

إن عدم محاسبة الموظفين المقصرين، بعد أن منحوا صلاحيات واسعة، وبعد أن ظهر ضعف أدائهم سيؤدي حتما إلى المزيد من الفساد والتسيب الإداري.

ـ بعد أربع سنوات من إعطاء صلاحيات واسعة للوزراء وكبار الموظفين، لابد أن تكون هناك سنة للحساب؛

ـ بعد حديث الرئيس عن وجود اختلالات ونواقص خلال السنوات الأربع الماضية، لابد أن تكون هناك سنة يُحاسب فيها من يتحمل مسؤولية تلك النواقص والاختلالات؛ 

ـ بعد فتح ملف فساد العشرية، لابد من فتح ملفات فساد أخرى قد تكون شهدتها المأمورية الأولى، ويجب أن يكون التركيز على المشاريع التي لم تنفذ في آجالها، أو تلك التي نفذت دون أي احترام للمعايير.

من المهم أن نشير في الأخير إلى أن هذه الخطوات الثلاث يجب أن يمهد لها بمراعاة الكفاءة والاستقامة في ملف التعيينات في الوظائف عموما، وفي الوظائف السامية خصوصا، وبشكل أخص في الوظائف ذات الصلة بالقطاعات الخدمية الحساسة، أو ذات الصلة بالقطاعات الإنتاجية.


حفظ الله موريتانيا..

الخميس، 14 سبتمبر 2023

لماذا تركز على قضية اللغة وتتجاهل القضايا الأخرى؟

 


يُطرح عليَّ هذا السؤال بشكل متكرر، وإليكم الجواب في عشر نقاط:

1- لقد أصبح من اللازم الانشغال بترسيم اللغة العربية بشكل نهائي، وذلك بعد مرور 63 سنة على استقلالنا الوطني، و32 سنة على المصادقة على دستورنا الذي جعل من اللغة العربية لغة رسمية وحيدة للجمهورية الإسلامية الموريتانية، فهل تريدوننا أن ننتظر أكثر، أي أن ننتظر قرنا كاملا بعد الاستقلال، ونصف قرن على المصادقة على الدستور لحسم مسألة اللغة؟؛

2- لأن النخب السياسية ـ وخصوصا المعارضة منها ـ تهتم بكل المواضيع، وتتجاهل فقط مسألة تهميش اللغة الرسمية في الإدارة والتعليم، ولذلك فإن الاهتمام باللغة العربية في ظل هذا التجاهل العام أصبح "فرض عين" بالنسبة لي ولغيري من المطالبين بتفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني؛

3- لأنه لا نهضة بدون إصلاح التعليم، ولا إصلاح للتعليم من دون التدريس باللغة الأم، ومن هنا فيظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بإصلاح التعليم؛

4 - لأنه لا إصلاح إداري دون تقريب خدمات الإدارة من المواطن، والشرط الأول في تقريب خدمات الإدارة من المواطن يتمثل في مخاطبته بلغته الرسمية التي يفهمها أو يفترض فيه أنه يفهمها. ومن هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بإصلاح الإدارة؛

5- لا يمكن تحقيق تنمية دون محاربة الفساد، ولا محاربة للفساد دون رقابة شعبية، ولا يمكن أن تكون هناك رقابة شعبية ولغة الصفقات العمومية التي تستنزف نصف الميزانية تقريبا هي لغة أجنبية لا تفهمها نسبة 90% من المواطنين. من هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بمحاربة الفساد؛

6 - من أهم حقوق المستهلك أن تصله كل المعلومات المتعلقة بالمنتج أو السلعة أو الخدمة بلغته الرسمية. ومن هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بحقوق المستهلك؛

 

7- لا نهضة للمجتمع دون ترقية اجتماعية، ولا ترقية اجتماعية ما دام حملة الشهادات بالعربية (أبناء الفقراء) يقصون من الوظائف لصالح أبناء الميسورين الذين يتمكنون من دراسة اللغة الفرنسية في المدارس الخاصة أو خارج البلاد. ومن هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بمحاربة الفوارق الاجتماعية؛

8 - لا يمكن أن نتحدث عن دولة قانون ومؤسسات دون احترام الدستور الموريتاني، ولا يمكن أن نتحدث عن احترام الدستور الموريتاني ونحن ننتهك يوميا مادة من مواده التي تحتل رتبة عليا من حيث الترتيب. ومن هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا ببناء دولة القانون والمؤسسات؛

9- لا يمكن أن نتحدث عن وحدة وطنية ونحن نعيش فوضوية لغوية تسمح للبعض بأن يتحدث بلغة غير دستورية وغير وطنية في المناسبات الرسمية، فمثلا رئيس أعلى هيئة دستورية في البلاد تحدث بلغة غير دستورية أثناء تنصيب رئيس الجمهورية!! كان عليه في حالة عدم القدرة على الحديث باللغة الرسمية أن يتحدث بإحدى لغاتنا الوطنية، بدلا من الحديث في مناسبة كهذه بلغة أجنبية. لا وحدة وطنية دون لغة رسمية يتحدثها الجميع. ومن هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بالوحدة الوطنية؛

10 – هناك فرصة ثمينة متاحة لنا الآن إن لم نستغلها في حسم مسألة اللغة، فسيعني ذلك أنه لن يكون بإمكاننا أن نحسم هذه المسألة مستقبلا. فمن المعروف أن فرنسا هي من كانت تحول دون حسم مسألة اللغة، وذلك حتى تبقى لغتها مسيطرة في التعليم والإدارة في بلدنا، ومن المعروف أيضا أن فرنسا اليوم ليست في أحسن أحوالها، وأن هناك موجة من السخط ضدها تعم مستعمراتها القديمة في إفريقيا السوداء.

هناك فرصة علينا أن نستغلها، وأنا لستُ من الذين يُطالبون بإعلان العداء ضد فرنسا، بل إني أدعو إلى الحفاظ على علاقات جيدة معها، ولكن بشرط أن تقبل فرنسا بأننا دولة مستقلة لها سيادتها اللغوية، وأنه ليس من حقها أن تتدخل لنا في سياستنا اللغوية.

يمكننا في هذه البلاد أن نجعل من اللغة الفرنسية لغة أجنبية أولى، وفاءً لعلاقاتنا التاريخية بفرنسا، وذلك على الرغم من أن مصلحتنا تقتضي أن نجعل من اللغة الإنجليزية اللغة الأجنبية الأولى في بلادنا، وذلك لأنها أولا هي لغة العلم والعالم في هذه الفاصلة من تاريخ البشرية، ولأنها ثانيا لغة "شبه محايدة" لا تحمل شحنة استعمارية، ولم تحاول الدول العظمى الناطقة بها أن تفرضها على بقية دول العالم بالقوة، عكس اللغة الفرنسية التي تحمل تلك الشحنة الاستعمارية، وذلك بعد أن جعلت منها فرنسا إحدى أقوى وسائلها لبسط سيطرتها على مستعمراتها القديمة.

يمكننا في هذه البلاد أن نجعل من اللغة الفرنسية اللغة الأجنبية الأولى في بلدنا، وسيكون ذلك في مصلحة فرنسا أولا، أما إذا ما استمرت فرنسا في ضغطها من أجل انتزاع مساحة للغة الفرنسية لا تستحقها، وأن يكون ذلك على حساب لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية، فلتعلم فرنسا أن ذلك قد يسرع من وصول موجة السخط ضدها إلى بلادنا، وحينها فسترتفع الأصوات للمطالبة بالتخلي نهائيا عن اللغة الفرنسية، وجعل اللغة الإنجليزية لغة أجنبية أولى ووحيدة في بلادنا.

حفظ الله موريتانيا..

الأحد، 10 سبتمبر 2023

أيها المواطنون الصالحون: أنتم المشكلة!

 


عرفت أوروبا في القرن التاسع عشر تزايد نسبة الوفيات لدى الأمهات بعد الولادة بسبب حمى النفاس. كان عدد الوفيات مرتفعا جدا، وقد انشغل الأطباء بالبحث عن أسباب هذا الارتفاع الكبير في الوفيات، ولكن دون جدوى. في تلك الفترة كان بعض الأطباء ينتقل من تشريح الجثث مع طلابه في الصباح إلى أقسام توليد النساء في المساء دون غسل اليدين، ولم تكن حينها توجد قفازات طبية، ولا تطعيم وتطهير. وقد لاحظ الطبيب المجرِّي "أجناتس سيملفيس" الذي كان يعمل في قسم التوليد بمستشفى فيينَّا العام، أن نسبة الوفيات لدى الأمهات في جناح الأطباء أعلى بكثير من نسبة الوفيات في جناح القابلات، وقد توصل هذا الطبيب إلى استنتاج صادم مفاده أن الأطباء كانوا هم أصل المشكلة.

لم يكن القول بأن الأطباء هم السبب في وفاة مرضاهم بالقول البسيط، ولم يكن الأطباء ليقبلوا بتلك الإهانة، ولذلك فقد تعرض الطبيب "أجناتس سيملفيس" لهجوم شديد من زملائه الأطباء، فرُفض طلبه بغسل اليدين، وطُرد من المستشفى الذي كان يعمل به، رغم النتائج الإيجابية الكبيرة التي تتحقق عند الالتزام بغسل اليدين، وتسبب له ذلك في حالة غضب شديد، وإصابة بالاكتئاب، وأصبح سلوكه عدوانيا، وألقاه أحد زملائه في عنبر المجانين بأحد المستشفيات، فتشاجر مع الحراس، وأصيب بجرح في يده تحول إلى غرغرينا، وكان ذلك هو السبب المباشر في وفاته.

تم الاعتراف بجهود الطبيب "أجناتس سيملفيس" بعد قرن من وفاته، فلقب بمنقذ الأمهات، وثبت اليوم لدى الجميع أن غسل اليدين وتعقيمهما يؤدي إلى ممارسة طبية أكثر أمانا، ويحد من نقل العدوى، ويقلل من الوفاة الناتجة عن نقل الجراثيم من الطبيب إلى المريض.

هذا السرد التاريخي لبعض تفاصيل حياة طبيب قال لزملائه الأطباء بأنهم هم المشكلة، أردتُ من خلاله أن أبين أنه في بعض الأحيان قد تأتي المشكلة ممن كنا نتوقع منهم حل تلك المشكلة.

فلنترك أوروبا في القرن التاسع عشر، ولنتحدث عن موريتانيا في العام 2023، ولنترك الطب ولنتحدث في السياسة، فإذا ما قمنا ذلك، فسيكون بإمكاننا ـ وعلى طريقة الطبيب المَجَري ـ أن نقول لمن يرى نفسه مواطنا صالحا: أنتَ هو المشكلة!

نعم إن المواطنين الصالحين في هذه البلاد، إذا لم يحاولوا أن يتحولوا إلى مواطنين مُصْلِحين وإلى نخبة مُصلحة سيصبحون هم المشكلة.

وعملية التحول هذه من نخب صالحة إلى نخب مُصلحة، تتطلب تجاوز بعض نقاط الضعف التي عُرِف بها أغلب من يعدُّ نفسه مواطنا صالحا، ومن أهم نقاط الضعف تلك، يمكننا أن نذكر:

1 ـ تتمثل نقطة الضعف الأولى التي تعاني منها "النخب الصالحة" في استقالة هذه النخب من قضايا الشأن العام، وقبولها لمواصلة التفرج على ما يجري في البلد دون فعل أي شيء. وعلى العكس من ذلك فإن أولئك الذين يصنفون ضمن النخب الفاسدة لا يقبلون بالتفرج، وإنما يتحركون هنا وهناك ليس من أجل إصلاح البلد، وإنما من أجل إفساده؛

2 ـ فشل هذه النخب الصالحة ـ والتي هي نخب في منتهى الخمول ـفي إطلاق مبادرات إصلاحية، أو في خلق عناوين سياسية أو جمعوية تمكنها من توحيد الجهود في عمل سياسي أو جمعوي هادف يعود بالنفع على الوطن. وعلى العكس من ذلك فإن أولئك الذين يصنفون ضمن النخب الفاسدة يعرفون بالحيوية والنشاط والقدرة على إطلاق المبادرات، وخلق مساحات للعمل المشترك ليس لإصلاح البلد، وإنما لإفساده؛

3 ـ الانسحاب المبكر من معركة الإصلاح. هناك قلة من المواطنين الصالحين تقبل بالنزول إلى الميادين من أجل الإصلاح، ولكن هذه القلة القليلة من المواطنين الصالحين إذا لم تشاهد ثمار جهودها تنضج في وقت مبكر، وإذا لم تجد من يقدر تلك الجهود، فإنها تسارع إلى الانسحاب من معركة الإصلاح. هذه الطائفة مشكلتها قصر النفس النضالي، ومن المعلوم أن معركة الإصلاح تحتاج إلى نفس نضالي طويل؛

إن اكتفاء النخب الصالحة بالتفرج على ما يحدث في البلد دون فعل أي شيء، وسرعة انسحاب القلة القليلة من هذه النخب الصالحة التي تقبل بالنزول إلى الميادين عند خسارة أول معركة من معارك الإصلاح، إن كل ذلك ترك هموم البلد ومشاكله لنخب انتهازية تضع مصالحها الخاصة في أعلى سلم الاهتمامات، ومصلحة الموالاة إن كانت موالية أو مصلحة المعارضة إن كانت معارضة في الرتبة الثانية في السلم، في حين تكون المصلحة العليا للبلد في الرتبة الثالثة، أي في أدنى رتبة.

إن البلد بحاجة اليوم ـ أكثر من أي وقت مضى ـ إلى نخب صالحة ومُصلحة، تضع المصلحة العليا للبلد في الرتبة الأولى في سلم الاهتمامات، ومصلحة الموالاة إن كانت موالية، والمعارضة إن كانت معارضة في الرتبة الثانية، في حين تكون المصالح الشخصية الضيقة في الرتبة الثالثة، أي أدنى رتبة في سلم الاهتمامات.

حفظ الله موريتانيا..

الاثنين، 4 سبتمبر 2023

تواصل واللغة العربية ...هل من توبة؟

 


هذه جملة من التوضيحات التي لابد من تقديمها تمهيدا لهذا المقال:

1 ـ سيتحدث هذا المقال عن تقصير الإسلاميين في موريتانيا في الدفاع عن اللغة العربية، على المستوى المؤسسي فقط، وليس على مستوى الأفراد ولا على مستوى العمل الجمعوي، فعلى مستوى الأفراد فهناك شخصيات من التيار الإسلامي (ومن تواصل تحديدا) لا يمكن المزايدة عليها في مجال الدفاع عن اللغة العربية، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر : النائبين السابقين محمد غلام الحاج الشيخ، والصوفي ولد الشيباني، والشيخ القطب محمد مولود، والنقابي محمدن ولد الرباني، والدكتور عبد الله بيان وغيرهم، وعلى مستوى العمل الجمعوي فهناك أيضا مؤسسات محسوبة على التيار الإسلامي خدمت اللغة العربية في هذه البلاد بما لم تخدمها به مؤسسة جمعوية أخرى، ويكفي أن نذكر  كمثال :" معهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، و نشر العلوم الإسلامية في موريتانيا"؛

2 ـ التقصير المقصود هنا هو التقصير الخاص بالواجهة السياسية للإسلاميين، أي تقصير حزب تواصل على مستوى خطابه الرسمي، وبياناته السياسية، وتصريحات رؤسائه، ومداخلات نوابه في البرلمان.. ومقصود به كذلك تقصير المؤسسات الإعلامية المحسوبة على التيار، وكذلك كتابات بعض من يمثلون الواجهة الإعلامية للتيار الإسلامي في مواقع التواصل الاجتماعي؛

3 ـ ما نتحدث عنه هنا من تقصير لحزب تواصل لا يقتصر فقط على حزب تواصل، وإنما يشمل كل المعارضة الحزبية في موريتانيا منذ تأسست في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وحتى اليوم، وإن كان هناك من استثناءات فيمكن أن نتحدث بتحفظ شديد جدا جدا عن التحالف الشعبي التقدمي، وبدون تحفظ عن حزب الصواب؛

4 ـ ما سيقال عن حزب تواصل في هذا المقال ينطبق تماما ـ وربما بشكل أوضح ـ على بقية أحزاب المعارضة، وخاصة حزبي التكتل واتحاد قوى التقدم. أما السبب في التركيز على حزب تواصل دون غيره، فيعود أساسا إلى أن حزب تواصل هو الحزب الذي كان يُتوقع منه أكثر من غيره أن يكون في الصف الأول في الدفاع عن العربية، وذلك لخلفيته الإسلامية، فالعربية ـ وكما هو معلوم ـ هي لغة القرآن ووعاء الشريعة الإسلامية، ولا يمكن الاهتمام بالإسلام دون الاهتمام باللغة العربية، ثم إنه هو الحزب الأكثر تضررا من تهميش اللغة العربية، فأغلب منتسبيه تعلموا باللغة العربية، هذا فضلا عن كونه هو الحزب المعارض الأكثر حضورا على المستويين السياسي والإعلامي خلال السنوات الأخيرة.

نظرا لكل ذلك فقد كان من المفترض أن يحمل حزب تواصل لواء الدفاع عن اللغة العربية في موريتانيا، وأن يكون في الصف الأمامي في الدعوة للتمكين لها في هذه البلاد، فإذا به ينافس بعض الأحزاب التي لم يكن منتظرا منها أن تدافع عن اللغة العربية، ينافسها على تصدر لائحة الأحزاب الأكثر خذلانا للغة العربية في موريتانيا.

تلكم كانت توضيحات لابد من تقديمها، وبعد تقديمها، دعونا ندخل الآن في صلب الموضوع.

تواصل وخذلان اللغة العربية

لا أذكر لحزب تواصل منذ أن تأسس وحتى اليوم بيانا سياسيا واحدا ينتصر فيه بوضوح لا لبس فيه للغة العربية، أو يندد فيه بتهميشها في الإدارة، ولا أذكر لأي رئيس من رؤسائه الثلاثة موقفا واضحا أو تصريحا قويا يندد فيه بهيمنة اللغة الفرنسية في الإدارة الموريتانية، ولا أذكر أيضا أن أي نائب من نواب الحزب تقدم بطرح سؤال شفهي أو كتابي بخصوص عدم تفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني.

اللافت في الأمر أن نواب المعارضة، وعلى رأسهم نواب حزب تواصل، وفي ذروة معارضتهم للنظام السابق، لم يسجل لأي واحد منهم موقفا صريحا وقويا لصالح اللغة العربية، واللافت أكثر أن الانتصار للغة العربية والغضب من الحكومة بهذا الخصوص كان يأتي من بعض نواب الحزب الحاكم، ولعلكم تذكرون تمزيق النائب السابق الخليل ولد الطيب ـ والذي لا يمكن التشكيك في موالاته ـ  لتقرير صادر عن اللجنة الاقتصادية والمالية بالجمعية الوطنية، وذلك لأن التقرير قدم له باللغة الفرنسية فقط، وحتى من دون ترجمة إلى اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية. هناك أمثلة أخرى قام بها نواب محسوبون على الأغلبية لصالح اللغة العربية، وذلك في وقت تقاعس فيه نواب المعارضة عن القيام بأي فعل يمكن أن يصنف على أنه يشكل انتصارا جديا للغة العربية.

تعودنا من المعارضة الموريتانية عموما، ومن حزب تواصل خصوصا، أن تقف ـ وبقوة ـ ضد كل أشكال التقصير في العمل الحكومي، وأن تنتصر للدستور كلما كانت هناك محاولة صريحة أو خجولة من طرف الأنظمة المتعاقبة لانتهاك إحدى مواده. هذا الوقوف ضد التقصير في العمل الحكومي تستثني منه المعارضة دائما التقصير في حق اللغة الرسمية (اللغة العربية)، وهذا الانتصار لمواد الدستور تستثنى منه المعارضة دائما مادة واحدة، وهي المادة السادسة، والتي نصت على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية.

لم يكتف تواصل بعدم الدفاع عن اللغة العربية، بل إنه أضاف إلى ذلك أنه كان يشارك في إرباك بعض الخطوات الخجولة التي قد تتخذها الأنظمة الحاكمة في أوقات نادرة جدا لصالح اللغة العربية.

لا يملك المدافعون عن بقاء اللغة الفرنسية مسيطرة في الإدارة والتعليم في موريتانيا أي حجة متماسكة، يمكن أن يواجهوا بها المطالبين بتفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني، ولعل أقوى الحجج لديهم هي أن اللغة الفرنسية لغة تواصل على المستوى العالمي، كما أنها لغة تواصل لبعض المكونات الموريتانية مع امتداداتها في بعض دول إفريقيا السوداء. هذه الحجة لم تعد لتقنع أحدا، فالفرنسية كلغة عالمية في تراجع، وهي اليوم في الرتبة التاسعة عالميا من حيث الاستخدام، في حين أن اللغة العربية تأتي في الرتبة الرابعة عالميا، وعلى مستوى إفريقيا فإن اللغة العربية تنافس على الرتبة الأولى، بينما تحتل الفرنسية الرتبة الرابعة بعد العربية والانجليزية والسواحلية.

هذا عن الحاضر، أما عن المستقبل، فإن كل المؤشرات تقول بأن مكانة اللغة الفرنسية ستظل في تراجع كبير، وخصوصا في إفريقيا السوداء بعد ظهور أجيال جديدة لا تخفي بغضها الشديد لفرنسا، ولكل ما له صلة بها، بما في ذلك اللغة الفرنسية، والتي كان يجب أن تبقى بعيدة عن الصراع السياسي.

يدرك المدافعون عن بقاء اللغة الفرنسية مسيطرة في الإدارة والتعليم أنهم لا يملكون أي حجة متماسكة، ولذا فهم يلجؤون دائما إلى أساليب في منتهى الخبث، وهي الوقوف أمام أي خطوة قد تتخذ لصالح اللغة العربية عن طريق العمل على خلق صدام عرقي غير مبرر لتوقيف تلك الخطوة. وهذا الصدام غالبا ما تكون خلفه فرنسا، وقد أشار إلى ذلك الرئيس الراحل المختار ولد داداه في مذكراته، عندما تحدث عن أول صدام عرقي في موريتانيا وكان في العام 1966، وقد تسبب في وفاة 6 أشخاص وجرح 70 آخرين، وكان بسبب رفض بعض التلاميذ الزنوج لقانون صادر عن الجمعية الوطنية يقضي بإلزامية تدريس اللغة العربية إلى جنب اللغة الفرنسية في المرحلة الثانوية.

في العام 2010، واستجابة لقرار المجلس التنفيذي للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتخليد يوم اللغة العربية (1 مارس 2010) تحت شعار" اللغة العربية لغة ديننا وهويتنا"، قررت الحكومة الموريتانية أن تخلد ذلك اليوم بأسبوع، وأن ترفع في الوقت نفسه من شأن اللغة العربية في موريتانيا.

على هامش حفل انطلاق الأنشطة المخلدة لذلك اليوم طالب صحفي فرانكفوني من الوزير الأول ترجمة حديثه إلى اللغة الفرنسية، فرفض الوزير الأول الترجمة وذكر بأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية لموريتانيا، وأنه على الجميع أن يتصرف وفق ذلك. تحرك بعض الطلاب الزنوج، وحدثت حينها صدامات عرقية، انحازت فيها أحزاب المعارضة ـ بشكل أو بآخر ـ للمحتجين، وأطلق حزب تواصل حملة "هو سماكم المسلمين"، وهي الحملة التي أشاد بها المجلس الوطني للحزب في بيان تم نشره في يوم 22 ـ 05 ـ 2010، طالب فيه الحزب بإعطاء اللغة العربية مكانتها المستحقة في الإدارة والتعليم، وطالب كذلك بتطوير وترسيم اللغات الوطنية. أما اللغات الأجنبية، فتكتسي أهميتها ـ حسب بيان الحزب ـ من ضرورة التواصل والانفتاح على العالم.  يعني كل اللغات مهمة، ويجب الاهتمام بها جميعا، هذا هو ما أوحت به الفقرة الخاصة باللغة في بيان الحزب.

ما حدث بعد ذلك معروف، فقد اعتذر وزير التعليم العالي أحمد باهية باسم الحكومة للطلاب الزنوج، في سابقة من نوعها، وأكد أن الحكومة ليست بصدد فرض تعريب شامل في الإدارة والتعليم، وأن الفرنسية ستبقى لُـغة التواصل في الإدارة الموريتانية، ولا جديد يدفع الطلبة الزنوج إلى القلق على مستقبلهم. هذا الاعتذار الذي يشكل إساءة صريحة للدستور الموريتاني نددت به بعض الأحزاب، ولم يكن من بين الأحزاب المنددة به حزب تواصل.  

 لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد تراجعت الحكومة في السنوات الموالية عن تخليد يوم اللغة العربية بحضور الوزير الأول، وأصبح يُكتفى بموظف من الدرجة الثانية من وزارة الثقافة، يحضر لنشاط متواضع يمتد لساعة أو ساعتين في قاعة بالمتحف الوطني أو بدار الشباب القديمة، في حين أن يوم الفرنسية ظل يخلد دائما بأسبوع كامل وحافل بالأنشطة، وبحضور عدد كبير من الوزراء، وفي أفخر القاعات، وبرعاية ودعم من كبريات المؤسسات والشركات العامة والخاصة.

لم يندد أي حزب معارض بهذا الاختلال البين في تخليد الحكومة ليومي اللغة العربية واللغة الفرنسية، وقد تعودنا من أحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب تواصل، أن تبقى على الصامت في ظل الاختلال القائم والذي هو لصالح اللغة الفرنسية. أما إذا ما حاولت الحكومة أن تقوم بخطوة ولو بسيطة لصالح اللغة العربية، فالذي يحدث بعد ذلك معروف وهو محاولة خلق صدامات عرقية لإفشال تلك الخطوة، وغالبا ما توفر المعارضة الغطاء السياسي والإعلامي لمن يفجر تلك الصدامات العرقية.

هناك أمثلة أخرى كثيرة، كان يمكن أن نستعرضها هنا، ولكن نظرا لتجاوز المقال للمساحة المخصصة له، فسيتم تأجيل تلك الأمثلة إلى مناسبة أخرى، أما الآن، فسننتقل للفقرة الأخيرة والأهم في هذا المقال.

كيف يتوب تواصل من ذنب التقصير في حق اللغة العربية؟

لابد أن أبين هنا بأني لا أتحدث عن التوبة من منطلق ديني، وأنا لستُ أهلا للحديث عنها من ذلك المنطلق، وإنما أتحدث عنها من منطلق سياسي بحت، والتوبة المقصودة هنا هي توبة سياسية من ذنب التقصير في حق اللغة العربية، وشروط قبول هذه التوبة السياسية تتمثل في:

1 ـ أن يضيف حزب تواصل مطلب تفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني ضمن أولوية أولياته، وأن يجعل من أي تقصير للحكومة في هذا المجال موضوعا من مواضيع انتقاده للحكومة، وأن يعبر عن ذلك ـ وبشكل صريح وفصيح ـ من خلال بياناته السياسية، وتصريحات رئيسه وكبار القادة في الحزب، وكذلك من خلال مداخلات نوابه في الجمعية الوطنية؛

2 ـ أن لا يمنح الحزب أي غطاء سياسي أو إعلامي لأي جهة تسعى للوقوف ضد التمكين للغة العربية في موريتانيا من خلال إشعال صدامات عرقية تكون في الغالب بدعم خفي من فرنسا، وهو ما أشار إليه الرئيس الراحل المختار ولد داداه عند حديثه عن أول صدامات عرقية في موريتانيا، وكانت من أجل تعطيل القانون الصادر من الجمعية الوطنية، والقاضي بإلزامية تدريس اللغة العربية في الثانوية بجانب اللغة الفرنسية؛

3 ـ  أن يطلق الحزب حملة تحت شعار : " بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " يبين فيها لقواعده الجماهيرية أن اللغة العربية ليست لغة قوم، وإنما هي لغة دين، ولغة الأمة الإسلامية، ولذا فعلى كل مسلم أن يسعى لتعلمها للتمكن من تلاوة القرآن وتعلم ما يلزم تعلمه من علوم شرعية؛

4 ـ أن يُظهر مدونو الحزب اهتماما أكبر بالدفاع عن اللغة العربية، وذلك لتصحيح الصورة المترسخة لدى الكثيرين في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي قد تعطي الانطباع أن الواجهة الإعلامية للحزب في مواقع التواصل الاجتماعي غير متحمسة للدفاع عن اللغة العربية؛

5 ـ أن تستغل قيادة الحزب اللقاءات التي قد تجريها مع السفير الفرنسي في نواكشوط لفتح ملف اللغة، ولإشعاره بأن بلادنا تمتلك الحق في السيادة اللغوية، ومن مصلحة فرنسا أن تكون اللغة الفرنسية هي اللغة الأجنبية الأولى في موريتانيا تدرس في كل مراحل التعليم، ودون أن تحتل مساحة ليست من حقها في الإدارة أو التعليم على حساب لغتنا الرسمية (اللغة العربية)، واستمرار فرنسا في محاولة انتزاع مساحة للغة الفرنسية على حساب لغاتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية سيؤدي مع الوقت إلى خلق عداء ضد اللغة الفرنسية ( واللغات ليست محل عداء)، وإلى تزايد الأصوات المطالبة بالتخلي عن اللغة الفرنسية بصفتها لغة أجنبية أولـى، وإبدالها باللغة الإنجليزية، والتي تعتبر اليوم هي اللغة العالمية الأولى.

مع تحياتي وتقديري لتواصل، ولكل التواصليين والتواصليات.

 حفظ الله موريتانيا..


الاثنين، 28 أغسطس 2023

إلى المعارضة الموريتانية: لا تتسرعوا في رفض "الميثاق الجمهوري"

 


سارعت بعض التشكيلات والأحزاب المعارضة إلى رفض الوثيقة المقترحة من حزبي اتحاد قوى التقدم والتكتل، وكان من أهم أسباب الرفض أن الوثيقة جاءت لخدمة النظام القائم، وأن الحزبين اللذين تقدما بها لا يمثلان المعارضة الموريتانية، خاصة بعد أن فشلا في الحصول على أي تمثيل في البرلمان الموريتاني في الانتخابات الأخيرة.

لا يمكننا أن ننفي وجاهة بعض الأسباب التي تقدم بها بعض المعارضين، ويمكن أن نضيف لها أخطاءً أخرى ظهرت في صياغة الوثيقة، فمن الواضح من ترتيب المحاور السبعة عشر في ملحق الاتفاق السياسي، أن الحزبين اللذين تقدما بالمقترح يعانيان من خلل كبير في ترتيب المشاكل والتحديات التي تواجهها موريتانيا اليوم. يمكن القول في هذا الإطار إنهما رتبا المشاكل والتحديات في الوثيقة وفق رؤيتهم لترتيب المشاكل والتحديات التي كانت تواجهها موريتانيا في عقد التسعينيات من القرن الماضي.

لقد بدأت المحاور في الملحق السياسي للوثيقة بضرورة إصلاح النظام الانتخابي، وقد يكون ذلك طبيعيا في وثيقة تمت صياغتها من طرف أحزاب سياسية، ويتأكد الأمر أكثر إذا كانت تلك الأحزاب لم تحظ بنتائج معتبرة في الانتخابات الأخيرة، ثم جاء المحور الثاني الذي تم تخصيصه لملفات حقوق الإنسان والمظالم العالقة (الإرث الإنساني). لو كنا نعيش الآن في ظل حكم الرئيس معاوية، لكان من المقبول أن يخصص المحور الثاني في هذه الوثيقة لذلك الملف.

المحور الثالث تم تخصيصه للغات الوطنية، والاعتراف بأنها قابلة لأن تكون لغات رسمية، ويبدو أنه قد فات من تولى ترتيب المحاور في الوثيقة  أن مشاورات إصلاح التعليم قد أوصت بتدريس اللغات الوطنية، وأن الجمعية الوطنية أصبحت توفر الترجمة من وإلى كل اللغات الوطنية، وأنها تتيح لكل المواطنين من خلال قناة البرلمانية الاستماع لكل ما يجري في البرلمان من نقاشات بلغاتهم الأم، ولكن المشكلة المطروحة الآن هي أن بعض النواب الناطقين باللغات الوطنية يرفضون استخدام لغاتهم الأم ويصرون على التحدث بلغة أجنبية داخل البرلمان.

لم تتحدث الوثيقة، ولو بكلمة واحدة، عن اللغة العربية (اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية)، ولا عن ما تتعرض له هذه اللغة من مضايقة في الإدارة والتعليم من خلال لغة أجنبية تتراجع مكانتها عالميا، وبدأ جيراننا في بعض الدول الإفريقية السوداء يفكرون في التخلي عنها، وإبدالها بأي لغة أخرى قد تصادفهم على قارعة الطريق. في الحقيقة كان تجاهل الوثيقة للغة الرسمية للبلد صادما ومستفزا، ولكن مثل ذلك لم يكن مستغربا من معارضة عرفناها منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي وحتى اليوم تنتقد الأنظمة المتعاقبة على كل كبيرة وصغيرة، ولا تستثني من انتقادها للأنظمة إلا تقصير تلك الأنظمة في تفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني.

نعم، لقد بدأت الوثيقة بمشاكل وتحديات لا خلاف على أنها ما تزال مطروحة، ولكنها لم تعد كما كانت في عقد التسعينيات من القرن الماضي، لقد بدأت الوثيقة بمشاكل وتحديات أقل إلحاحا، وفي المقابل فقد أخرت مشاكل وتحديات أصبحت المطالبة اليوم بمواجهتها أكثر إلحاحا وأكثر أولوية عند المواطنين من أي مشاكل وتحديات أخرى، ومن تلك المشاكل الملحة مشكلة الفساد الذي لم يذكر بالاسم في الوثيقة، والذي خُصص له المحور الثامن، مع أنه كان يجب أن يوضع في المحور الأول أو الثاني في أسوأ الحالات.

كما لوحظ أيضا تأخير الحديث عن البطالة والهجرة والمخدرات، أي عن مشاكل الشباب، فجاءت مشاكل الشباب في المحور رقم 14، وهو ما يعكس أيضا خللا كبيرا في ترتيب المشاكل والتحديات التي تواجهها بلادنا اليوم.

لم يأت الحديث بشكل واضح في الوثيقة عن الإصلاح الإداري: تقريب خدمات الإدارة من المواطن، تعيين الكفاءات؛ الأخذ بمبدأ المكافأة والعقوبة في التعامل مع الموظفين.. إلخ، ولا شك أن الإصلاح الإداري يعد اليوم من أهم المطالب المطروحة.

نعم هناك خلل في الوثيقة في ترتيب المشاكل والتحديات التي تواجهها بلادنا، وهناك عدم
"تحيين" لتلك المشاكل والتحديات، وهناك أيضا خجل ملاحظ في الوثيقة من ذكر الفساد بالاسم، ومن إعطاء مشاكل وتحديات أخرى مساحة مناسبة لها في هذه الوثيقة.

كل ذلك صحيح، ولكن الصحيح أيضا هو أن كل المشاكل والتحديات قد ذكرت بشكل أو بآخر في الوثيقة، وهو ما سيتيح للجميع مناقشتها في الورشات التي بوبت عليها الوثيقة، والتي ستشمل 17 محورا تم إدراجها في ملحق الاتفاق السياسي في الوثيقة.

تبقى هناك نقطة أخرى لابد من الإشارة إليها، وهي أن الحزبين اللذين تقدما بمقترح الوثيقة لا يمتلكان اليوم الشرعية الانتخابية للحديث باسم المعارضة، حتى وإن كانا يمتلكان "الشرعية التاريخية" للحديث باسمها. صحيح أنهما لا يمتلكان الشرعية الانتخابية للحديث باسم المعارضة، ولكن المهم الآن هو طرح السؤال الأهم: هل يمكن لهذه الوثيقة وبغض النظر عن الجهة التي أصدرتها أن تكون مسودة لنقاش سياسي معمق بين مختلف الأحزاب السياسية في الأغلبية والمعارضة؟

في اعتقادي الشخصي أن هذه الوثيقة ورغم بعض الأخطاء التي تحدثتُ عنها في بداية هذا المقال، يمكن أن تشكل مسودة لنقاش سياسي واسع، بل ويجب أن تشكل مسودة لذلك النقاش.

من هنا يمكن القول بأن بعض التشكيلات والأحزاب السياسية المعارضة تسرعت في رفض هذه الوثيقة، وهذا الرفض سيكون مرحبا به لدى جهات في الأغلبية لا ترغب في أي حوار مع المعارضة، ولكم أن تلاحظوا أن الترحيب بالوثيقة على مستوى بعض أطراف الأغلبية كان باهتا إن لم أقل منعدما.

نعم تسرعت بعض الأطراف المعارضة في الإعلان عن رفض هذه الوثيقة، ولتبيان ذلك، فلابد أن نتوقف قليلا مع وضعية المعارضة حاليا، والفرص المتاحة أمامها الآن، وفي المستقبل المنظور.

1 ـ  من الواضح جدا أن المعارضة الموريتانية لا تمتلك اليوم مرشحا توافقيا يمكن أن يحظى بالفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة، وليس هناك أي احتمال ـ حتى ولو كان ضعيفا ـ  لوصولها إلى الرئاسة خلال الانتخابات الرئاسية القادمة، حتى وإن افترضنا جدلا أن مرشح المعارضة تمكن من الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة، فالراجح بل المؤكد، أنه سيفشل في التعامل مع التحديات الأمنية المعقدة في المنطقة، ومن الصراع في النفوذ بين القوى العظمى، ومن كبح توسع الحركات والجماعات المسلحة في المنطقة، والراجح أيضا أنه سيكون ضحية لانقلاب عسكري خلال سنته الأولى في الحكم، ففي منطقة كمنطقتنا تعيش موجة من الانقلابات، وتعاني من تحديات أمنية كبيرة، فمن الراجح أن عدوى الانقلابات ستصلها بسرعة كبيرة، إذا ما تولى فيها الرئاسة خلال السنوات الخمس القادمة رئيس مدني لا خبرة له في إدارة الملفات الأمنية في المنطقة، ولا معرفة له بما يدور داخل المؤسسة العسكرية؛

2 ـ لا تقتصر نقاط ضعف المعارضة في الوقت الحالي على أنها غير مؤهلة للوصول إلى الرئاسة في الانتخابات الرئاسية القادمة، بل إن من نقاط ضعفها كذلك أنها غير قادرة على تحريك الشارع، وأنها لا تستطيع فرض الاستجابة لمطالبها من خلال ضغط الشارع وتنظيم الاحتجاجات والمظاهرات التي تستقطب جمهورا معتبرا؛

3 ـ وبما أن المعارضة الموريتانية غير قادرة على الوصول للرئاسة في الانتخابات القادمة، وغير قادرة كذلك على تحريك الشارع لفرض الاستجابة لمطالبها، فإنه في هذه الحالة يكون من الأفضل لها أن تحاول فرض ما يمكن أن تفرضه من مطالب من خلال التفاوض والحوار، وتبقى وثيقة التكتل وقوى التقدم هي أفضل مسودة يمكن اعتمادها لتنظيم حوار موسع بين الأحزاب السياسية، تفرض فيه المعارضة مطالبها، ويتم خلاله الاتفاق على "ميثاق جمهوري" تعمل كل الأطراف على تنفيذ ما جاء في بنوده؛

4 ـ يمكن للمعارضة الموريتانية إن كانت لها رؤية استراتيجية واضحة أن تجعل من السنوات الخمس القادمة فترة انتقالية بين "الديمقراطية العسكرية" إن جازت التسمية، و "الديمقراطية المدنية"، أي فترة لبناء مؤسسات دستورية قوية تهيئ الأرضية لحكم رئيس مدني خالص، وتكون قادرة على حمايته من أي انقلاب  عسكري محتمل، ولن يكون ذلك ممكنا إلا من خلال حوار مع الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وأغلبيته الداعمة، فالرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الأجدر بقيادة مرحلة انتقالية بين الديمقراطية العسكرية والديمقراطية المدنية، وذلك لخلفيته العسكرية التي تمنحه ثقة المؤسسة العسكرية، ولكونه كذلك رجل حوار وانفتاح على المعارضة، وذلك ما أثبته خلال السنوات الأربع الماضية من حكمه.

لابد من فترة انتقالية بين الديمقراطية العسكرية والديمقراطية المدنية يتم خلالها بناء مؤسسات دستورية قوية من خلال حوار وطني شامل يستفيد من أخطاء الماضي، وبدون تلك الفترة الانتقالية فإن الديمقراطية في بلادنا ستبقى مهددة دائما بانقلاب عسكري جديد.

5 ـ يمكن للمعارضة الموريتانية أن ترفض المشاركة في صياغة ميثاق جمهوري، ويمكنها أن ترفض أي حوار جديد مع النظام على أساس وثيقة التكتل وقوى التقدم، يمكنها أن ترفض كل ذلك، ولكنها ستدرك مستقبلا أنها أضاعت فرصة ثمينة كان يمكن من خلالها أن تفرض بالحوار والتفاوض الاستجابة لبعض مطالبها، وأن تجعل من السنوات الخمس القادمة مرحلة انتقالية لبناء مؤسسات دستورية قوية من شأنها أن تهيئ الأرضية لحكم مدني خالص.  

بكلمة واحدة على المعارضة الموريتانية أن تتذكر دائما أن ما حققته خلال العقود الماضية، لصالح الديمقراطية الموريتانية، كان نتيجة لحوارات مع الأنظمة المتعاقبة، والنظام الحالي قد يكون هو النظام الأكثر استعدادا للحوار مع المعارضة، ولذلك فعلى المعارضة أن لا تضيع فرصة الحوار معه لتحقيق المزيد من المكاسب للديمقراطية الموريتانية، خاصة وأننا نعيش اليوم في منطقة تتراجع فيها الديمقراطية بسرعة مقلقة، وتنتشر فيها عدوى الانقلابات العسكرية بشكل لافت.  

  

  حفظ الله موريتانيا..

الخميس، 24 أغسطس 2023

أوامر عليا برفض الوثائق المكتوبة باللغة العربية!


في يوم 11 دجمبر 1972 أصدرت رئاسة الجمهورية تعميما يحمل الرقم 32 يأمر الإدارات والمؤسسات العمومية بعدم رفض العروض والطلبات المقدمة إليها باللغة العربية، وكانت اللغة العربية حينها مجرد لغة رسمية ثانية إلى جنب اللغة الفرنسية.

التعميم تم إصداره بعد أن رفضت هيئة البريد والمواصلات استلام وثائق باللغة العربية تقدم بها بعض المواطنين الموريتانيين إلى الهيئة في ذلك الوقت.

هذا التعميم لم يتم إلغاؤه ولا تعديله منذ إصداره في نهاية العام 1972، ويعني ذلك أنه ما زال حتى الآن ساري المفعول قانونيا.

بعد نصف قرن من إصدار هذا التعميم الرئاسي، وبعد المصادقة على دستور 21 يوليو 1991، والذي جعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة في الجمهورية الإسلامية الموريتانية، بعد هذا كله ما زالت بعض الإدارات العمومية ترفض نهارا جهارا استلام الوثائق المكتوبة باللغة العربية، والتي ينص الدستور الموريتاني على أنها هي اللغة الرسمية الوحيدة للجمهورية الإسلامية الموريتانية!

يتعلق الأمر بلجان إبرام الصفقات العمومية في أغلب، بل وفي كل الوزارات والإدارات العمومية، فهذه اللجان تشترط في إعلاناتها أنها لا تستقبل إلا العروض المقدمة باللغة الفرنسية حصرا. 

في هذا الإطار تقدمت مؤسسة "خطوة للاستشارة والتسويق الإعلامي" (شركة خاصة) بطعن بالإلغاء أمام الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا ضد إعلان مناقصة تقدم به الصندوق الوطني للتأمين الصحي، واشترط فيها أن تكون العروض المقدمة باللغة الفرنسية حصرا.

نحن في "الحملة الشعبية للتمكين للغة العربية وتطوير لغاتنا الوطنية" قررنا أن نقدم الدعم القانوني لمؤسسة خطوة في هذا المسار القضائي، ونرجو أن نحصل على قرار مبدئي من المحكمة العليا، وفي حالة الحصول عليه، فإن ذلك سيشكل خطوة مهمة في تعريب إجراءات الصفقات العمومية، بل وفي تعريب الإدارة كلها.

مؤخرا وصلتنا في الحملة شكاوى من بعض المواطنين تتعلق برفض الشباك الموحد (الجهة المكلفة بإجراءات الترخيص للشركات) استقبال ملفاتهم المتعلقة بطلبات ترخيص لتأسيس شركات، وذلك بحجة أنهم أعدوا الوثائق باللغة العربية، ولم يعدوها باللغة الفرنسية، والتي يبدو أنها هي اللغة الرسمية الوحيدة للشباك الموحد في موريتانيا.

هكذا، وبكل استهتار بالقانون، يتم رفض كل الوثائق المقدمة إلى الشباك الموحد التابع لوكالة ترقية الاستثمارات في موريتانيا المعدة باللغة العربية (اللغة الرسمية الوحيدة للجمهورية الإسلامية الموريتانية)، ولا تبرير لذلك الرفض، إلا بالقول بأنه يأتي في إطار تنفيذ الأوامر العليا للقائمين على هذا الشباك الموحد، والتي تأمر العاملين في الاستقبال برفض أي وثيقة غير مكتوبة باللغة الفرنسية.

إن ترسيم اللغة العربية لن يكتمل ما دامت أرزاق الناس في هذه البلاد ترتبط باللغة الفرنسية، والناس في هذا الزمان لا تهتم إلا بأرزاقها، فمن المعروف أن اللغة الرسمية الوحيدة لإجراءات الصفقات العمومية التي تنفق عليها 40% من ميزانية الدولة هي اللغة الفرنسية، ولذا فإن أصحاب الشهادات العربية سيقصون من العمل في هذا القطاع لأن لغة العمل الوحيدة فيه هي اللغة الفرنسية، كما أن المؤسسات التي تعمل باللغة العربية فقط سيتواصل حرمانها من المشاركة في الطلبيات العمومية، إذا لم تقم بترجمة عروضها إلى اللغة الفرنسية. يمكن أن نضيف إلى ذلك أنه لا يمكن لأي مواطن موريتاني أن يؤسس اليوم شركة جديدة إذا لم يعد كل وثائق ملف الترخيص باللغة الفرنسية حصرا، والتي يبدو أنها هي اللغة الرسمية الوحيدة للشباك الموجد.

لقد آن الأوان لجعل اللغة العربية هي لسان الاقتصاد الوطني، ولقد آن الأوان لأن تكون هذه اللغة هي اللغة الرسمية للصفقات العمومية وللشباك الموحد وللبنك المركزي ولكل البنوك والشركات العمومية والخاصة العاملة على أراضي الجمهورية الإسلامية الموريتانية.

تنبيه : أحد مراجعي الشباك الموحد وبعد أن أودع ملفه لدى المحكمة التجارية، وحصل على وصل بذلك، قام بترجمة اسم الشركة، وبإعداد ملخص بالفرنسية من الملف، ومع ذلك رفضوا من جديد استقبال ملفه تنفيذا للأوامر العليا، وطلبوا منه أن يترجم النظام الأساسي للشركة إلى الفرنسية، حتى يستقبلوا ملفه. 

حفظ الله موريتانيا..

السبت، 19 أغسطس 2023

كيف نحل مشكلة الماء والكهرباء في موريتانيا؟


هناك أربع خطوات لو تم اتخاذها لتحسن أداء القطاعات الخدمية كثيرا، وسنحاول في هذا المقال أن نستعرض هذه الخطوات الأربع.

الخطوة الأولى : إن أول خطوة يمكن اتخاذها لتحسين أداء القطاعات الخدمية عموما، وقطاعي الماء والكهرباء خصوصا، تتمثل في وضع معايير صارمة لاختيار من يدير تلك القطاعات الخدمية، وعلى رأس تلك المعايير الكفاءة والاستقامة والسيرة الوظيفية الناصعة، هذا فضلا عن التمكن من إعداد التصورات والبرامج، والقدرة على مواجهة التحديات والأزمات، وهذه المعايير الأخيرة مهمة لأنه قد يكون الموظف مستقيما في مساره الوظيفي، ولم تسجل ضده أي شبه فساد، ولكنه لا يمتلك القدرة على إعداد الخطط والبرامج، وليست لديه خبرة في مواجهة المشاكل والأزمات التي قد تحدث في قطاعه. هذا النوع من الموظفين الذي لا يمتلك هذه المؤهلات الأخيرة لن يستطيع أن ينجح في إدارة قطاع خدمي حتى ولو كان من أكثر الموظفين ابتعادا عن المال العام. كل هذه المعايير المذكورة آنفا يجب أن تتوفر وبمستويات مقبولة في كل من يتم اختياره لإدارة مؤسسة خدمية توفر يوميا خدمة أساسية للمواطن، كما هو الحال بالنسبة لشركتي الماء والكهرباء. 

لقد بات من الضروري جدا تصنيف بعض الوظائف على أنها وظائف ذات حساسية عالية جدا، يجب وضع معايير صارمة عند اختيار من سيتولاها، والوظائف المقصودة هنا هي أولا تلك الوظائف المرتبطة بالقطاعات الخدمية وعلى رأسها شركتي الماء والكهرباء، وهي ثانيا الوظائف المرتبطة بالقطاعات الإنتاجية. فلندفع بخيرة الموظفين الموجودين حاليا في الإدارة إلى القطاعات الخدمية، ثم القطاعات الإنتاجية.

الخطوة الثانية: بعد فرز خيرة الموظفين لتولي إدارة وتسيير القطاعات الخدمية (الماء والكهرباء خصوصا)، فمن المهم بعد ذلك أن يتم منعهم بشكل كامل من ممارسة العمل السياسي خلال فترة توليهم لتلك القطاعات. 

على هؤلاء الموظفين الذين يتولون إدارة وتسيير قطاعات حساسة توفر خدمات يومية وأساسية للمواطن أن يتفرغوا بشكل كامل لمهامهم الجسيمة التي كلفوا بها، وهم إن نجحوا في المهام الموكلة إليهم فإنهم بذلك يكونون قد خدموا النظام سياسيا بما لم يخدمه به سياسي آخر، وهم إن فشلوا في تلك المهام، فإنهم بذلك يكونون قد أضروا بالنظام وتسببوا في انهيار شعبيته، حتى وإن أطلقوا عشرات المبادرات السياسية، ونظموا مئات المهرجانات الداعمة.

إن ما يمكن أن يلعبه من يدير قطاعا خدميا واحدا يقدم خدمة أساسية للمواطن كتوفير الماء أو الكهرباء في تحسين صورة النظام والزيادة من شعبيته من خلال تقريب الخدمة التي يقدم من المواطن والتحسين من جودتها، إنما ما يمكن أن يلعبه من يدير قطاعا من ذلك النوع في تحسين صورة النظام والزيادة من شعبيته لا يمكن أن تلعبه الأغلبية في مجموعها حتى وإن أقامت عشرات المهرجانات الداعمة لفخامة الرئيس أمام الشعب الموريتاني كله بعد أن يُجمع لها كل الشعب على صعيد سياسي واحد. وفي المقابل فإن ما يمكن أن يتسبب فيه من يدير قطاعا خدميا واحدا من سخط على النظام ومن انحسار في شعبيته من خلال سوء الخدمة التي يقدم للمواطن لا يمكن أن تحققه المعارضة في مجموعها، حتى وإن أقامت عشرات المهرجانات التي تتحدث فيها عن عيوب النظام وأخطائه أمام الشعب كله بعد أن يُجمع لها كل الشعب على صعيد سياسي واحد.

ختاما لهذه الفقرة فقد يكون من المهم التنبيه إلى النقاط التالية:

1 ـ إن من يتولى إدارة قطاع خدمي حساس يقدم خدمة أساسية وضرورية للمواطن يجب عليه أن يتفرغ لقطاعه، وأن يبتعد عن العمل السياسي؛

2 ـ إن إبعاد من يتولى إدارة قطاع خدمي يقدم خدمة أساسية وضرورية للمواطن عن السياسة، سيساعد في تحسين تقديم تلك الخدمة بعد التفرغ لها، وسيساعد كذلك في التحسين من ديمقراطيتنا، فمثل هذه الخدمات الأساسية يجب أن تُبعد بشكل كامل عن التجاذبات السياسية، و أن لا يتم استغلالها سياسيا أثناء تقديمها؛

3 ـ لا يعني الكلام أعلاه منع الاستغلال السياسي لنتائج الأداء في أي قطاع خدمي (الحصيلة)، فالقطاعات الخدمية والمشاريع التنموية إذا كان لا يجوز استغلالها سياسيا، فإن نتائجها وثمارها يمكن أن تستغل سياسيا . إن الاستغلال السياسي لما تحقق من نتائج إيجابية في أي قطاع خدمي هو أمرٌ مطلوبٌ، وكما قلنا سابقا فإن ما يمكن أن يحققه من يدير قطاعا خدميا من خلال التحسين من جودة الخدمة التي يقدم وتقريبها من المواطن، ما يمكن أن يحققه سياسيا لصالح النظام لا يمكن أن تحققه الأغلبية في مجموعها، ولذا فالاستغلال السياسي لحسن الأداء هو أمرٌ مطلوب، والمكافأة السياسية لمن كان خلف ذلك التحسن في الأداء مطلوبة هي أيضا، بل وضرورية، حتى وإن كان من ستقدم له تلك المكافأة كان ممنوعا من ممارسة السياسية خلال أدائه لمهامه في القطاع الخدمي. في المقابل، فإذا كانت حصيلة القطاع الخدمي سيئة، فإن من الواجب أن يعاقب سياسيا من كان وراء تلك الحصيلة السيئة، إضافة إلى عقوبته الإدارية، وذلك لأنه أضر بالنظام سياسيا، أكثر مما أضرت به المعارضة.   

الخطوة الثالثة: بعد اختيار من يتولون إدارة المؤسسات والوزارات الخدمية وفق معايير صارمة، وبعد إبعادهم عن ممارسة السياسية للتفرغ بشكل كامل للمهام الخدمية الجسيمة الموكلة إليهم، فإنه من الضروري بعد ذلك أن يتم منحهم الوقت الكافي لإحداث إصلاح حقيقي في القطاعات الخدمية التي يتولون إدارتها، وأن لا يتم فصلهم من قبل إكمال تلك الفترة إلا عند ارتكاب أخطاء جسيمة، ولا أظن أن من تم اختياره وفق معايير صارمة سيرتكب أخطاء جسيمة، وأسوأ ما يمكن أن نتوقعه منه هو أن لا يتمكن من تحقيق المستوى المطلوب من النجاح. إنه لمن المؤسف أن وزارتي الصحة والتعليم مثلا تعاقب على كل واحدة منهما أربعة وزراء خلال أربع سنوات فقط، أي بمعدل وزير كل سنة. إن عدم الاستقرار الوظيفي يحرمنا من إمكانية تقييم أداء الموظف العمومي، وبالتالي يحول دون مكافأته في حال النجاح في المهمة الموكلة إليه، ومعاقبته في حال الإخفاق فيها.

إن الإنجازات التي تحققت على مستوى التعليم والصحة خلال السنوات الأربع الماضية يمكن لكل وزير من الوزراء الأربع الذين تعاقبوا على إحدى الوزارتين أن يدعيها لنفسه، كما أنه بإمكان كل واحد منهم أن يتهرب من الإخفاقات التي تم تسجيلها في قطاعي التعليم والصحة خلال السنوات الأربع الماضية، وذلك بحجة أنه لم يمنح الوقت الكافي، وأن سنة واحدة لا تكفي لتصحيح الاختلالات أو منع حدوثها أصلا.

الخطوة الرابعة: الصرامة في المحاسبة في حالة الفشل. من يفشل في إدارة وزارة أو مؤسسة خدمية، يجب أن يحاسب حسابا عسيرا أشد من محاسبة من يتولى قطاعا آخر غير خدمي، لا صلة مباشرة له بالمواطن. وفي المقابل فإن من ينجح في إدارة وزارة أو مؤسسة خدمية يجب أن يكافأ مكافأة كبيرة لا يكافأ بها غيره.

حفظ الله موريتانيا..


الاثنين، 14 أغسطس 2023

ما لم يُقَل عن تأمين التناوب السلمي على السلطة!


بدءا أنبه القارئ الكريم على أن هذه الورقة التي خصصتها للحديث عن تأمين التناوب السلمي على السلطة في منطقة يغيب فيها الأمن والاستقرار السياسي، وتكثر فيها الانقلابات العسكرية، هي ورقة من عشر صفحات، ولذا فعلى من لا يملك وقتا كافيا لقراءة ورقة من عشر صفحات، أن يتوقف بشكل فوري عن القراءة عند إكمال هذا التنبيه. أما بالنسبة لمن قرر أن يقرأها فأدعوه إلى قراءتها كاملة إلى أن يصل إلى خاتمتها التي تتضمن بعض المقترحات التي أرى بأهميتها.

ما لم يُقَل عن تأمين التناوب السلمي على السلطة!

مع أني كتبتُ عشرات الرسائل المفتوحة إلى عدد من الرؤساء الذين تعاقبوا على السلطة في بلادنا، إلا أن هناك رسالة واحدة تميزت عن كل تلك الرسائل المفتوحة، وذلك لكونها أرسلت إلى رئيس من قبل أن يستلم السلطة، فقد أرسلت هذه الرسالة في نهاية العام 2018، وتحديدا في يوم 26 دجمبر 2018، إلى رئيس موريتانيا القادم، والذي لم أكن حينها أعرفه، ففي تلك الفترة لم يكن الجدل حول المأمورية الثالثة قد حُسم، ولم يكن مرشح النظام قد عُرف.

في رسالتي المفتوحة تلك التزمتُ لرئيس موريتانيا القادم، بأني سأدعمه بعد تنصيبه رئيسا، وسواء بالنسبة لي أكان هو المرشح الذي دعمتُ في الانتخابات الرئاسية، أو لم يكن ذلك المرشح الذي دعمت. التزمت لرئيس موريتانيا القادم بأني سأدعمه بشرط وحيد ووحيد فقط، وهو أن يأخذ صلاحياته كاملة كرئيس، ويُؤَمِّن بالتالي التناوب السلمي على السلطة، وعندما يتم تأمين التناوب السلمي على السلطة فحينها سيكون لكل مقام مقال، وكنتُ في ذلك الوقت أعتقد أن تأمين التناوب السلمي على السلطة قد لا يحتاج لأكثر من سنة. 

كنتُ على قناعة حينها ـ وما زلتُ كذلك ـ بأن التحدي الأكبر الذي ستواجهه بلادنا بعد التناوب السلمي على السلطة، سيكون تحصين ذلك التناوب من عدوى الانقلابات المتفشية في المنطقة، ذلك أنه بدون تأمين التناوب السلمي على السلطة فلا استقرار سياسي، ولا ديمقراطية، وبالتالي فلا إصلاح ولا تنمية.

في تلك الفترة التي نُشرت فيها تلك الرسالة المفتوحة استغرب البعض من اختصاري لكل المطالب والشروط الموجهة إلى رئيس موريتانيا القادم في نقطة واحدة، وهي انتزاع الصلاحيات كاملة، وبالتالي تأمين التناوب السلمي على السلطة. لم يكن البعض يُدرك حينها أهمية تأمين التناوب السلمي على السلطة، ولكني اعتقد أن الجميع قد بدأ يدرك الآن أهمية هذا المطلب بعد عدوى الانقلابات التي أصابت دول الساحل الخمس: ثلاثة انقلابات ناجحة في ثلاث دول، ومحاولة انقلابية في الدولة الرابعة، ولم تسلم من عدوى الانقلابات إلا الدولة الخامسة (بلادنا)ـ 

إن تأمين التناوب السلمي على السلطة، وبالتالي توفير الشرط الأول من شروط الاستقرار السياسي يُعد إنجازا كبيرا في منطقتنا، ولن تستشعره إلا الدول التي لم تتمكن من تحقيقه، ولكم أن تتأملوا حال أربع دول من مجموعة الساحل، وحال دول أخرى في المنطقة لم تحظ بالاستقرار السياسي والأمني.

لم يكن هذا التناوب السلمي على السلطة ليتحقق، ولم يكن ليُؤمن من بعد ذلك ويُحَصن، إلا في ظل وجود الرئيس الحالي، ويمكنني أن أجزم تحليليا أنه لو ترأس أي رئيس آخر غير الرئيس الحالي في العام 2019 لما اختلف حال بلادنا اليوم عن حال بعض بلدان المنطقة التي شهدت انقلابات عسكرية على رؤساء منتخبين.

قبل الرسالة المفتوحة الموجهة إلى رئيس موريتانيا القادم، كتبتُ رسالة مفتوحة إلى رئيس موريتانيا السابق، تشجع على التناوب السلمي على السلطة، وأرسلتُ إليه كذلك بعض الرسائل التي لم تمر عبر القنوات الإعلامية المعروفة بنفس المضمون.

بالنسبة لي كنتُ أسعى إلى خروج آمن للرئيس السابق من السلطة، ولم أكن من دعاة فتح ملف فساد العشرية من بعد خروجه من السلطة، فالدعوة إلى فتح ذلك الملف قد تشجع على البقاء في السلطة من بعد اكتمال المأموريات الشرعية، ليس فقط بالنسبة للرئيس السابق، بل وبالنسبة لبعض الرؤساء الآخرين في المنطقة.

لا يعني هذا الكلام بأي حال من الأحوال أني أقلل من أهمية محاربة الفساد، فأنا من الذين يرون بأنه لا تنمية ولا إصلاح ولا تغيير من دون حربٍ جديةٍ على الفساد، ولستُ كذلك ممن يقللون من أهمية فتح ملف فساد العشرية، ففتح هذا الملف واستعادة الشعب لبعض أمواله المنهوبة سيبقى خطوة في غاية الأهمية من شأنها أن تكرس مستقبلا مبدأ المحاسبة. لا يمكنني أن أقلل من أهمية فتح ملف فساد كبير بحجم ملف فساد العشرية، وكلما في الأمر هو أني كنتُ أدرك أن للتناوب السلمي على السلطة فاتورة كبيرة يجب دفعها، والفاتورة بالنسبة لي كانت في أن يُترك الرئيس السابق يخرج من السلطة دون أي محاكمة (الخروج الآمن من السلطة مقابل التناوب الآمن)، فالتلويح بالمحاكمة كان يمكن أن يربك العملية كلها، والرئيس السابق كان بمقدوره دائما أن يعرقل ـ بشكل أو بآخر ـ عملية التناوب السلمي على السلطة من قبل خروجه منها، وحتى من بعد خروجه منها، إذا لم يكن خلفه يمتلك من القدرات والمؤهلات ما يكفي لسد كل الثغرات التي يمكن استغلالها للاستيلاء على السلطة بالقوة، وسواء كانت تلك الثغرات عسكرية أو شعبية، أو حتى خارجية.

لقد كنتُ من الذين يتمنون أن يخرج الرئيس السابق من السلطة دون أي التفاتة إلى الوراء، ودون أي تفكير في العودة إليها، وأن يُمَهد لذلك الخروج باتخاذ جملة من الإجراءات لعل من أبرزها: 

1ـ تهدئة الأوضاع السياسية، وخلق جو تصالحي مع الجميع، وخاصة مع المعارضة؛

2ـ إنهاء خصوماته مع بعض الشخصيات المعروفة، وهو ما زال في السلطة، وخاصة منها تلك الخصومات المرتبطة ببعض رجال الأعمال؛

3ـ الأخذ بالشفافية في تسيير المال العام خلال الأشهر الأخيرة على الأقل من مأموريته الثانية، مع محاولة تصحيح ما يمكن تصحيحه من اختلالات سابقة في هذا المجال.

على العكس من ذلك، فسنجد أن الرئيس السابق قد حرص في أشهره الأخيرة على أن يعمق من حجم خلافاته مع المعارضة، وأن يُعَقد ملف رجال الأعمال أكثر، وأن يزيد من حجم الخروقات في تسييره للمال العام. وكان كل ذلك يوحي ـ لكل عاقل فطن ـ بأن الرئيس السابق لا يتصرف في أشهره الأخيرة تصرف مودعٍ للسلطة، فمن كان يتصرف كمودع للسلطة كان عليه أن يتصالح مع الجميع، لا أن يوسع خصوماته مع الجميع، أو يزيد من حدتها.

إن من تأمل في تلك التصرفات سيدرك أن الرئيس السابق كان يفكر ـ وبجد ـ في العودة إلى السلطة، إما عن طريق حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الذي تركه بلا رأس، أو عن طريق رجاله في الحرس الرئاسي أو في بعض القطاعات الأمنية الأخرى.

سيتحدث الرئيس السابق فيما بعد، وفي أكثر من مؤتمر صحفي، بأنه لن يتخلى عن حقه في ممارسة العمل السياسي، وبطبيعة الحال فإن إصرار أي رئيس سابق على الاستمرار في ممارسة العمل السياسي يعني بلغة سياسية فصيحة وصريحة أنه يفكر ـ بل ويخطط ـ للعودة إلى السلطة.

 أذكر أني في يوم 22 يوليو 2019، وقبل خروج الرئيس السابق من القصر الرئاسي بعشرة أيام بالضبط، نشرتُ مقالا مطولا تحت عنوان: " أي دور لولد عبد العزيز في المرحلة القادمة؟". ولقد بينت في ذلك المقال أن الرئيس السابق سيخرج من السلطة ويداه خاليتان من أي ورقة ضغط فعالة يمكن أن يضغط بها على خلفه، وأن من مصلحته الشخصية أن يُحافظ على الثقة مع خلفه وأن يعززها، وأن يبتعد بشكل كامل عن السياسة والإعلام، وكانت هذه هي خاتمة المقال المذكور: " تقول الفرضية الأنسب بأنه على الرئيس المنتهية ولايته أن يخرج بشكل كامل من المشهد السياسي فذلك هو الأسلم له ولموريتانيا، وإن هو أصر على ممارسة "حقه" السياسي، فسيكون من حق خصومه السياسيين أن يصروا هم أيضا على ممارسة حقوقهم السياسية، ومن تلك الحقوق المطالبة بفتح تحقيق شامل حول تسيير شؤون البلاد خلال العشرية الماضية." انتهى الاستشهاد.

وأذكر أيضا أني كتبتُ مقالا آخر  بعد خروجه من السلطة، وسفره إلى الخارج، ومن قبل عودته إلى موريتانيا، وتحديدا في يوم 15 أكتوبر 2019 تحت عنوان " ومن المناصرة ما قتل"، وهو مقال موجه بالأساس إلى مناصري الرئيس السابق، وقد جاء فيه : "إن ما يقوم به بعض أنصار الرئيس السابق من عمليات تشويش، ومن محاولة إظهار الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وكأنه لا يتحكم في الحزب سيؤدي في المحصلة النهائية إلى اهتزاز الثقة بين الرئيسين السابق والحالي، وعندما تهتز تلك الثقة وتتسع الفجوة بينهما، فإن الرئيس السابق سيجد نفسه وقد أصبح رئيس "نظام بائد"، وفي مواجهة غير متكافئة مع السلطة الحاكمة ومع المعارضة ومع رأي عام وطني يرى بأن العشرية الماضية قد شهدت الكثير من الفساد والنهب، والأدلة واضحة على ذلك، فكثير من المؤسسات العمومية قد تم إفلاسها، والكثير من الممتلكات والعقارات العامة قد تحولت إلى أملاك خاصة.

إن أي محاولة لفرض أي دور سياسي للرئيس السابق ستفشل، ولن يكون من نتائجها إلا أنها ستجعل الرئيس السابق هدفا سهلا ومكشوف الظهر للنيران الصديقة ولنيران الخصوم، ولذلك فإن أكبر خدمة يمكن أن تقدم للرئيس السابق ـ لمن تهمه بحق مصلحة الرئيس السابق ـ هي أن يُبْعد اسمه عن التداول اليومي وعن النقاش السياسي الدائر حاليا، وأن يتركه يواصل ـ وبأمان ـ تنقلاته بين الدول الأوروبية." انتهى الاستشهاد.

كان يمكن للدولة الموريتانية أن تقترح الرئيس السابق لشغل منصب أو وظيفة إقليمية أو دولية أخرى في حالة اعتذرت الأمم المتحدة عن انتدابه ممثلا لها في ليبيا، ولكن المشكلة أن الرئيس السابق كان مصرا على ممارسة السياسة هنا في موريتانيا، وكان عاقدا العزم على إرباك المشهد السياسي، وفي هذا الإطار جاء اجتماعه المثير بلجنة تسيير حزب الاتحاد من أجل الجمهورية مساء الأربعاء الموافق 20 نوفمبر 2019، وهو الاجتماع الذي صدر بموجبه بيان في وقت متأخر من الليل، تقترب صياغته من صياغة البيانات رقم1، وقد تضمن ذلك البيان ثمان فقرات أشادت بإنجازات العشرية، وتحدثت عن توجيهات "الرئيس المؤسس"، ولم تذكر رئيس الجمهورية الحالي إلا في فقرة واحدة من الفقرات الثمانية (الفقرة السادسة)!

لقد وصفتُ ذلك الاجتماع في مقال نُشر حينها بالاجتماع القاتل، وإليكم فقرة من مقال كتبته ساعات قليلة بعد ذلك الاجتماع:" إن أول ملاحظة يمكن الخروج بها من اجتماع البارحة هو أننا قد دخلنا مرحلة جديدة لن تكون سهلة. لقد قرر الرئيس السابق أن يخاطر من جديد وأن يغامر، وهو الذي تعود على المخاطرة، والمُخاطر إما أن يكسب كل شيء أو يخسر كل شيء، فهل ستكون هذه هي آخر مخاطرة سياسية للرئيس السابق؟". انتهى الاستشهاد.

قرر الرئيس السابق ليلة اجتماعه بلجنة تسيير الحزب أن يعلن عن حرب مكشوفة مع خلفه، قرر ذلك وهو لا يحمل معه غير سلة بيض، فكانت النتيجة ـ وكما كان متوقعا ـ أن تكسر كل ما في السلة من بيض.

إن استعادتي اليوم لبعض أحداث الأشهر الأولى من مأمورية الرئيس محمد الشيخ الغزواني في هذا الورقة كانت من أجل أن أصل معكم إلى استنتاج من نقطتين: 

أولهما، أن الرئيس السابق كان يفكر بجد في العودة إلى السلطة، وكان يمتلك لذلك حزبا حاكما تركه بلا رأس، ونفوذا قويا في المؤسسة العسكرية، ولحمة وطنية مفخخة، وخبرة كبيرة في الانقلابات العسكرية؛

ثانيهما، أن الرئيس الحالي هو الشخص الوحيد الذي كان بإمكانه أن يوقف طموح الرئيس السابق في العودة إلى السلطة، وأن يُغلق كل المنافذ التي كان بإمكان الرئيس السابق أن يستخدمها للعودة إلى السلطة.

لقد أمن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني التناوب السلمي على السلطة من خلال العمل على:

1 ـ عزل الرئيس السابق سياسيا، وفصله بشكل كامل عن أغلبيته، والعمل على عدم السماح له بخلق أي كتلة داعمة مهما كان حجمها، حتى ولو كانت كتلة ممن يشتركون معه في ملف فساد العشرية؛

2 ـ التهدئة السياسية مع المعارضة؛

3 ـ نزع ما يمكن نزعه من مفخخات وألغام تمت زراعتها خلال العشرية لغرض تفجير اللحمة الوطنية متى كانت هناك "حاجة" لذلك؛

4 ـ غلق كل المنافذ "العسكرية" و "الخارجية" التي كان يمكن أن يستغلها الرئيس السابق للعودة إلى السلطة.

إن تأمين التناوب السلمي على السلطة وتحصينه، لا يعني فقط وقف طموح الرئيس السابق في العودة إلى السلطة، بل يعني كذلك ضرورة تأمين الانتقال بين الديمقراطية العسكرية، إن جازت هذه التسمية، والديمقراطية المدنية. 

إن الانتقال الآمن من ديمقراطية تتحكم فيها المؤسسة العسكرية أو بعض القادة العسكريين، إلى ديمقراطية مدنية خالصة، ليس بالخطوة البسيطة ولا الآمنة دائما، خاصة في منطقتنا، حيث يرفض العسكريون أن يبتعدوا عن الشأن السياسي، وحيث ما زالت النخب المدنية عاجزة عن بلورة مشاريع سياسية وطنية قابلة للنماء والتطور، وقادرة على أن تستقطب المواطنين بعيدا عن الخطاب القبلي أو الشرائحي أو الفئوي أو المناطقي. 

في اعتقادي الشخصي أن الرئيس المؤهل أكثر من غيره لقيادة فترة انتقالية بين الديمقراطية العسكرية والديمقراطية المدنية، هو الرئيس محمد الشيخ الغزواني، وذلك لكونه قادما من المؤسسة العسكرية التي قادها خلال أفضل عشرية في تاريخها، فهو محل ثقة هذه المؤسسة، ولكونه أيضا رجل حوار وتهدئة وانفتاح على المدنيين، وهو ما ظهر بشكل واضح خلال السنوات الأربع الماضية، ولذلك فهو أيضا محل ثقة المدنيين.

ولإدراك أهمية هذه المرحلة الانتقالية التي لا يمكن تجاوزها، والتي لا يمكن أن يتولاها رئيس مدني خالص (فشلنا في إدارتها في العام 2007 ـ 2008 بسبب وجود رئيس مدني لم يستطع أن يحصن نظامه من عدوى الانقلابات العسكرية)، ولإدراك أهمية هذه المرحلة، فدعونا نأخذ هذا المثال من خارج حدودنا.

عن الدرس المصري  

لقد كنتُ من الذين دعموا ـ ومنذ أول يوم ـ الثورات العربية، فكنتُ من مناصري الراحل محمد مرسي في أول انتخابات عرفتها مصر بعد ثورتها، وناصرته بعد فوزه في الانتخابات، ثم تضامنتُ معه بعد الانقلاب عليه، وحزنت كثيرا لوفاته في السجن.

هذا ما كان، وربما لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لاتخذتُ نفس المواقف، ولأسباب عاطفية بحتة. أما إذا ما أبعدتُ العاطفة قليلا، واستمعت إلى صوت العقل، فسأجد أنه كان من الأفضل لمصر ولديمقراطيتها المتعثرة أن يفوز المرشح أحمد شفيق، والذي هو ابن الدولة العميقة، القادم من المؤسسة العسكرية، والراجح أنه كان سيؤمن التناوب السلمي على السلطة، وكان سيجنب مصر انقلاب 3 يوليو 2013، فأحمد شفيق يعرف جيدا كيف يحمي نفسه من نظام هو أحد رجالاته، وكان فوزه سيمكن في نفس الوقت من تحسين حال مصر على المستوى الديمقراطي ..صحيح أن ذلك الفوز لم يكن ليحقق طموح ومطالب الثورة، ولكنه مع ذلك كان سيسير بمصر في الاتجاه الصحيح، حتى وإن كان ذلك ببطء، وكان سيطور ـ وبشكل آمن ـ من ديمقراطيتها. لقد كانت مصر تحتاج في تلك الفترة لرئيس منتخب ذي خلفية عسكرية يمتلك خبرة ورؤية إصلاحية، وله علاقة ما بالدولة العميقة، أي أنها كانت بحاجة إلى رئيس من طينة أحمد شفيق. فاز محمد مرسي وارتكب بعض الأخطاء لنقص في الخبرة والتجربة، وتآمر عليه العسكر والدولة العميقة، وتم في نهاية المطاف الانقلاب عليه، وكان في المحصلة النهائية أن عادت التجربة الديمقراطية في مصر سنين عديدة إلى الوراء.


ليس كل عسكري رئيس فاشل، وليس كل مدني رئيس ناجح

من الناحية النظرية البحتة يمكننا أن نقول إن الرئيس التونسي الحالي يشكل ـ من حيث الصفات والميزات ـ أفضل نموذج يمكن أن نتخيله للرئيس المدني الذي تطمح شعوب المنطقة لأن يحكم في بلدانها، فهو أستاذ جامعي متخصص في القانون الدستوري، نجح بأصوات المواطنين، وخاصة الشباب، دون أي تزوير أو إنفاق للأموال، ودون أن تكون خلفه دولة عميقة أو لوبيات فساد.

هذا الرئيس المدني النموذج، والذي يتصف بكل الصفات والمقاييس المطلوبة شعبيا وديمقراطيا، هو نفسه الرئيس الذي سيتخذ خطوات يصعب أن يتجرأ عليها عسكري انقلابي، فهو الرئيس الذي سيقيل الحكومة في يوم 25 يوليو 2021، ويجمد عمل البرلمان، ويرفع الحصانة عن النواب، ويلغي الدستور، يفعل ذلك كله بين عشية وضحاها.

وكان آخر ما قام به مما لم يتجرأ عليه الانقلابيون العسكريون في المنطقة هو أنه استدعى مديرة التلفزيون التونسي إلى مكتبه، ليوبخها وينتقدها بشدة، وليتدخل لها ـ علنا ـ في نوعية البرامج التي تستحق أن تبث، وكذلك في ترتيب الأخبار في النشرات، وفيمن يستحق أن يُستضاف في التلفزيون، ومن لا يستحق أن يستضاف!!!

في المقابل، فإن صاحب أفضل تجربة حكم في إفريقيا في العقود الأخيرة، هو رئيس رواندا، والذي هو ـ بالمناسبة ـ ليس مجرد عسكري فقط، بل هو زيادة على ذلك كان قائد ميليشيا في واحدة من أكثر الحروب الأهلية فظاعة في إفريقيا.

إن أي عملية تقييم لأداء الأنظمة الحاكمة في إفريقيا في الوقت الحالي، ستوصلنا إلى نتيجة صادمة، مفادها أن الرئيس المدني النموذج من الناحية النظرية هو الرئيس الأكثر دكتاتورية في القارة، والرئيس القادم من ميليشيا عسكرية هو الرئيس الأفضل أداءً في القارة.

ربما تكون هذه الفقرة الأخيرة صادمة، وهي بالفعل كذلك، ولكن كان لابد منها للتمهيد لاستعراض النقاط السريعة التالية:

1 ـ هناك عبارة من قبيل "لا لحكم العسكر" كثُر تكرارها لدى النخب في العقود الأخيرة، لدرجة أننا أصبحنا نعتقد أن الخلاص ـ كل الخلاص ـ في الحكم المدني، وأن كل مشاكلنا ستحل عندما ننتخب رئيسا مدنيا. ليس الأمر بكل هذه البساطة التي يتصورها البعض، فقد ننتخب رئيسا مدنيا في انتخابات شفافة، ومع ذلك فقد لا تحل مشاكلنا، بل إنها قد تتفاقم، والأمثلة على ذلك كثيرة؛

2 ـ من النادر جدا أن ينقلب ضابط عسكري على رئيس مدني ناجح في إدارة شؤون الحكم في بلاده. إن أغلب الانقلابات العسكرية كانت ضد رؤساء فاشلين في إدارة شؤون البلدان التي يحكمونها، وفشل أولئك الرؤساء هو الذي يبرر به العسكريون انقلاباتهم. صحيحٌ أن الانقلابات العسكرية تتسبب دائما في تعقيد الأوضاع أكثر، وفي فشل أكبر، وتأتي دائما بما هو أسوأ مما كان عليه الحال قبل الانقلاب، ولكن الصحيح أيضا هو أن الانقلابات لا تأتي في العادة إلا بعد فشل كبير للأنظمة المُنْقلب عليها، مدنية كانت أو عسكرية؛

3ـ كل الانقلابات التي حدثت في منطقتنا وجدت دائما أجنحة مدنية تدعمها، وتدافع عنها..يعني هذا أن النخب المدنية تتحمل مسؤولية مزدوجة فيما يحدث في المنطقة من انقلابات، ففشل بعض المدنيين في إدارة شؤون الحكم في بلدانهم يستخدمه عادة العسكريون كحجة لتبرير انقلاباتهم، ثم إنه بعد الانقلاب تكون دائما هناك طائفة من المدنيين تبرر ذلك الانقلاب وتشرعه، ومن هنا تظهر المسؤولية المزدوجة للمدنيين، وهي مسؤولية تأتي من قبل الانقلاب من خلال التهيئة له بالفشل في إدارة شؤون البلاد، وتأتي كذلك من بعد الانقلاب من خلال دعم بعض المدنيين له، والخروج في المسيرات والمظاهرات الداعمة للانقلاب.

4 ـ إن القيادة الناجحة في إدارة شؤون البلدان لا ترتبط بجينات وراثية توجد لدى المدنيين فقط، فالعسكري كما هو الحال بالنسبة للمدني يمكن أن يكون قائدا ناجحا، ويمكن كذلك أن يكون قائدا فاشلا، وصاحب الشهادة الجامعية المتواضعة قد يتمتع بميزات قيادية قد لا تكون متوفرة لدى حامل شهادة الدكتوراة في أكثر من تخصص. هناك صور نمطية ارتسمت في مخيلاتنا عن القائد الناجح، قد لا تكون دقيقة في كل الأحوال وفي كل الأوقات؛

5 ـ هناك أوقات وظروف قد يكون فيها انتخاب رئيس ذي خلفية عسكرية أفضل، وهناك أوقات يكون فيها انتخاب رئيس مدني خالص أفضل. وإذا ما تحدثنا بشكل خاص عن بلدنا، فإني من الذين يرون بأهمية وجود فترة انتقالية بين الديمقراطية العسكرية والديمقراطية المدنية، وهذه الفترة يجب أن لا تقل حسب وجهة نظري الخاصة عن مأموريتين. فكما بينتُ سابقا في بداية هذه الورقة، فلو أنه حكم البلاد في العام 2019 رئيس غير الرئيس الحالي الذي قاد الجيش لأكثر من عقد لما اختلفنا اليوم عن بقية دول المنطقة التي شهدت انقلابات على رؤساء منتخبين، ويمكنني أن أجزم تحليليا بأن خطر الانقلاب سيبقى قائما خلال السنوات القادمة، خاصة وأن عدوى الانقلابات تتفشى بسرعة كبيرة في المنطقة، وتعطش بعض العسكريين للانقلابات سيبقى قائما، بل سيزيد في ظل انحسار وتراجع الديمقراطية في المنطقة. يمكن أن نضيف إلى ذلك صراع النفوذ العسكري بين القوى الكبرى، ودخول الروس كلاعب خشن في المنطقة، وفقدان العديد من البلدان في المنطقة السيطرة على بعض أراضيها لصالح حركات وجماعات مسلحة، كل ذلك سيجعل انتخاب رئيس مدني خالص لقيادة البلاد في المرحلة القادمة مجازفة كبيرة، ومن الصعب عليه أن يواجه التحديات الأمنية في المنطقة، وعلى رأسها صراع النفوذ العسكري بين القوى العظمى، وتنامي الإرهاب وصعود الحركات المسلحة، ومن الراجح أنه سيفشل في مواجهة تلك التحديات، وأن فشله سيضع البلاد أمام مخاطر كثيرة لن يكون أقلها خطورة حصول انقلاب عسكري جديد ينضاف إلى لائحة الانقلابات التي شهدتها بلادنا خلال العقود الأربعة الماضية؛

6 ـ يبقى من المهم جدا أن نجعل من المأمورية القادمة فترة لبناء مؤسسات دستورية قوية، ولتهيئة الأرضية لحكم مدني خالص، ويمكن لوثيقة اتحاد قوى التقدم والتكتل أن تكون أساسا نظريا يعتمد عليه في هذا المجال. إن تهيئة الأرضية لحكم مدني خالص تتطلب بناء وترسيخ علاقة جديدة بين المدنيين والعسكريين، يتوقف بموجبها العسكريون عن ممارسة الوصاية على البلد، والتفكير في الانقلابات كلما حدث انسداد سياسي، أو فشل في تسيير شؤون الحكم، ويتوقف كذلك المدنيون عن الاستنقاص من العسكريين، ووصفهم بالجهل أو غير ذلك من الصفات الدونية، وبالمناسبة فإن الكثير من الضباط، وخاصة الضباط الشباب هم من حملة الشهادات الجامعية. 

هذه النقاط الست استعرضتها هنا لتوضيح بعض الأمور التي تغيب عن نقاشاتنا عند الحديث عن الانقلابات، فإذا كان العسكري الذي يخرج من ثكنته إلى القصر الرئاسي للاستيلاء على الحكم هو من يتحمل المسؤولية الأكبر في الانقلاب، فإن هناك شركاء آخرين يجب أن لا نغفل عن مسؤولياتهم عند أي حديث عن الانقلابات العسكرية، وعلى رأس أولئك الشركاء أي رئيس يفشل في إدارة حكم البلاد، ويهيئ بالتالي الأرضية لحصول انقلاب عسكري، ثم تأتي من بعد ذلك النخب السياسية والإعلامية التي لا تؤدي دورها المطلوب للمساهمة في تحصين البلاد من الانقلابات.

ويبقى السؤال الأهم: كيف نحصن بلادنا من الانقلابات؟

هذا هو السؤال الأهم في هذه الورقة، والتي أعدت أصلا من أجل البحث عن جواب له، فمن أجل أن نحصن بلادنا ونؤمنها من الانقلابات في منطقة تنتشر فيها عدوى الانقلابات، فإنه لابد من أن تتحمل كل الأطراف المعنية مسؤولياتها، وهذه المسؤوليات تتفاوت في الدرجات بطبيعة الحال.

على النخب أن تتحمل مسؤوليتها، وعلى السياسيين بشكل خاص أن يتحملوا مسؤولياتهم، وعلى النظام الحاكم، وخاصة الرئيس المنتخب أن يتحمل مسؤولياته، وتبقى مسؤولية الرئيس في تحصين البلاد من الانقلابات هي المسؤولية الأكبر، فالتجارب تقول دائما بأنه يصعب على أي عسكري أن يفكر في انقلاب إذا كانت أحوال البلد بخير، وإذا كانت شؤون البلاد تُدار بشكل جيد.

إني على قناعة تامة بأن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الرئيس الأجدر والأقدر على إدارة شؤون البلاد خلال المأمورية القادمة، والتي لن تكون في الغالب مأمورية سهلة نظرا لوجود بلادنا في منطقة غير مستقرة سياسيا وأمنيا، وتشهد بداية صراع نفوذ قوي بين القوى العظمى.

لن تكون المأمورية القادمة سهلة، ولن يكون ما قيم به خلال المأمورية الأولى لتأمين التناوب السلمي على السلطة، كافيا لتأمينه خلال المأمورية الثانية.

إن تأمين التناوب السلمي على السلطة خلال المأمورية القادمة يحتاج إلى المزيد من العمل في مجالات شهدت تحسنا خلال المأمورية الأولى كالاهتمام بالفئات الهشة، والتهدئة السياسية، وتعزيز الوحدة الوطنية، ويحتاج أيضا إلى عمل كبير في مجالات أخرى لعل من أبرزها:

1 ـ إعلان حرب حقيقية وجدية على الفساد، وإذا كانت المأمورية الأولى قد شهدت فتح ملف فساد العشرية، فإن المأمورية الثانية يجب أن تشهد فتح ملف "فساد الخمسية"، أي أن تُفتح كل ملفات الفساد التي شهدتها المأمورية الأولى، وأن يتم التعامل مع مفسدي الخمسية بصرامة أقوى وبقسوة أشد مما حصل مع مفسدي العشرية.

لا يمكن تأمين البلاد من الانقلابات إلا من خلال محاربة جدية وحقيقية للفساد، ويبقى الفساد هو العنوان الأبرز الذي يبرر به عادة الانقلابيون انقلاباتهم، ولذلك فهم يجدون دائما مستوى جيدا من التعاطف لأن الشعوب لم تعد تقبل باستمرار الفساد ونهب ثرواتها دون حساب أو عقاب؛

2 ـ  البحث عن الكفاءات وتعيينها، فلا يمكن إحداث إصلاح دون مصلحين، ولأن الوظائف تتمايز من حيث الأهمية، ومن حيث الصلة بالمواطن، فإنه من اللازم وضع لائحة بالوظائف ذات الحساسية الأعلى، والتي من بينها الوزارات والمؤسسات الخدمية : التعليم ـ الصحة ـ الماء ـ الكهرباء ـ تشغيل الشباب، وكذلك القطاعات الإنتاجية : الزراعة ـ الصيد ـ الثروة الحيوانية ـ المعادن .

هذه القطاعات الخدمية والإنتاجية يجب أن يُبحث لها عن كفاءات متميزة، ويجب أن يمنح لمن تم تعيينهم فيها المدة الزمنية الكافية لإحداث تغيير. لابد من منح من يتم اختيارهم وفق شروط قاسية لتولي تلك الوظائف مدة زمنية كافية لإحداث تغيير إيجابي، ولن يكون هناك إصلاح داخل تلك القطاعات، حتى وإن افترضنا وجود الرغبة والكفاءة فيمن يدير تلك القطاعات في ظل عدم الاستقرار في المناصب، فمثلا وزارة التهذيب والصحة والزراعة ووزارات أخرى تعاقب على كل واحدة منها أربعة وزراء خلال أربع سنوات فقط، أي بمعدل وزير جديد كل سنة.

إن سوء الخدمات التي تقدم للمواطن، سواء تعلق الأمر بالصحة أو التعليم أو الكهرباء أو الماء أو التشغيل، وضعف الإنتاج في القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصيد والتنمية الحيوانية والمعادن. إن سوء الخدمات وضعف الإنتاج يُعَدَّان من أكثر الأمور التي تتسبب في سخط المواطنين وتنامي الاستياء عندهم، وبالتالي توفير الأرضية للانقلابات، ولذا فلا بد من منح هذه القطاعات الخدمية والانتاجية اهتماما خاصا.

3 ـ العمل على عصرنة الإدارة وتقريب خدماتها من المواطن بشكل حقيقي ودائم؛

4 ـ على مستوى دور النخب، فلابد من ميلاد تيار إصلاح قوي يواكب المأمورية الثانية بحيوية ونشاط، ويستخدم أساليب عمل جديدة تختلف عن الأساليب التقليدية المعروفة لدى الأطر السياسية التقليدية سواء كانت في الأغلبية أو المعارضة. هذا التيار الإصلاحي يجب أن يُبادر إلى ترشيح فخامة رئيس الجمهورية لمأمورية ثانية، ويجب أن يُسارع من بعد ذلك إلى العمل من أجل أن تكون المأمورية الثانية مأمورية لخوض حرب جدية وحقيقية ضد الفساد والمفسدين، ولتقريب خدمات الإدارة من المواطن، وأن تكون كذلك مأمورية للبحث عن الكفاءات التي تمتلك القدرة والرغبة في الإصلاح، وتعيينها في الوظائف المهمة، خاصة منها تلك التي ترتبط بالقطاعات الخدمية والإنتاجية.

حفظ الله موريتانيا..