الأحد، 29 أغسطس 2021

لماذا لم يتحمس حزب تواصل للتهدئة والحوار؟


بدءا ومن قبل أن أبسط الأسباب التي جعلتني أطرح هذا السؤال، فإنه قد يكون من المهم أن أتقدم بالإيضاحين التمهيديين التاليين:

أولهما: أن عدم التحمس الوارد في العنوان خاص فقط بالموقف الرسمي لحزب تواصل، وبالقيادات التي تدير الحزب الآن. أما خارج الموقف الرسمي للحزب فيمكن القول بأن أغلب قادة الحزب ومناضليه هم أقرب دائما إلى  التهدئة والحوار مع الأنظمة الحاكمة، ويتأكد الأمر أكثر مع الرئيس الحالي الذي أظهر ومنذ الإعلان عن ترشحه عن رغبة جدية في التشاور والتهدئة مع الشركاء السياسيين؛

ثانيهما: أنه من الصعب جدا على أي حزب سياسي أن يُصرح علنا أنه ضد الحوار، حتى ولو كان لا يريد فعلا أن يشارك في الحوار. من الصعب جدا على أي حزب سياسي أن يُصرح بذلك، ولكن هناك جملة من المواقف والتصرفات التي إن تم اتخاذها من طرف حزب معين، فإنها تكفي للقول بأن ذلك الحزب غير متحمس للتهدئة والحوار.

دعونا الآن نأخذ بعض المقارنات السريعة بين مواقف الحزب وردات فعله بعد الإعلان عن فوز الرئيس السابق في العام 2009، ومواقفه وردات فعله بعد الإعلان عن فوز الرئيس الحالي في العام 2019.

لقد سارع الحزب إلى الاعتراف بنتائج انتخابات 2009 الرئاسية، والتي كان  قد رشح فيها رئيسه، وسارع في موقف مناقض لذلك تماما إلى عدم الاعتراف  بنتائج انتخابات 2019 الرئاسية، والتي كان فيها الحزب مجرد داعم لأحد المترشحين، ولو أن المرشح الذي دعمه الحزب في الانتخابات الرئاسية الماضية لم يقبل ضمنيا بالنتائج، ولو أنه لم يهادن الرئيس المنتخب لما توقف الحزب عن تكرار التذكير بموقفه الرافض  لنتائج رئاسيات 2019. وقد ذكر الرئيس السابق لحزب تواصل في منشور له بأن توقيع الحزب على البيان الرافض للاعتراف بنتائج رئاسيات 2019 كان قد تم  من دون تفويض من المكتب التنفيذي للحزب، وحتى من دون علم المكتب أصلا.

بعد انتخابات 18 يوليو 2009 بثلاثة أشهر قرر الحزب وفي سابقة من نوعها في تاريخ المعارضة الموريتانية، أن يتحالف مع الحزب الحاكم في انتخابات تجديد ثلث مجلس الشيوخ. هذا الحزب الذي سجل تلك السابقة في التعامل مع الأحزاب الحاكمة هو نفسه الحزب الذي يرفض اليوم أن ينسق مع الأحزاب الممثلة في البرلمان لتهيئة الأجواء لحوار أو تشاور وطني يشارك فيها الجميع ويناقش كل القضايا المطروحة.

انسحب حزب تواصل من منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان بعد صدور بيان 14 مايو 2020، وهو بالمناسبة كان بيانا غير مسبوق في شكله ومحتواه، حتى وإن كان لم يجد من التغطية الإعلامية ولا من التفاعل السياسي ما يستحق، فهذا البيان الذي وقعه حزب الاتحاد من أجل الجمهورية وأحزاب الأغلبية الممثلة في البرلمان تضمن عشر نقاط  تحدثت كلها، باستثناء نقطتين فقط، عن بعض أوجه تقصير العمل الحكومي  .

في النقطتين السادسة والسابعة من البيان تمت المطالبة بتخفيض الأسعار، وقد جاء في النقطة السابعة وبالحرف الواحد : "تطالب (منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان) الحكومة بتخفيض أسعار المحروقات، خاصة وأن أسعارها العالمية وصلت أدنى مستوى لها منذ عقود". وبالمناسبة أيضا فهذا هو المطلب الرئيسي الذي كنا نرفعه في حراك "ماني شاري كزوال" وذلك من قبل أن تتوقف أنشطة الحراك بشكل كامل في العام 2018، ولأسباب لا يتسع المقام بسطها.

ولقد اخْتُتِم البيان بالفقرة التالية: "تأمل أحزاب الموالاة والمعارضة الممثلة في البرلمان أن تُفضي خطوات التنسيق الحالي إلى الدخول في مرحلة جديدة، تُمهد لنقاش القضايا الجوهرية للبلاد ووضع تصور لمعالجتها، وفق جدول زمني متفق عليه."

كان من الواضح جدا من خاتمة البيان أن هناك رغبة جدية لدى الأحزاب الممثلة في البرلمان في التنسيق فيما بينها لإطلاق مبادرة للتشاور أو الحوار تشارك في التحضير لها كل الأحزاب الممثلة في البرلمان.  هنا قرر حزب تواصل أن ينسحب من المنسقية مقدما إلى الرأي العام حججا غير مقنعة، وبعد ذلك بأشهر، وتحديدا في يوم  26 نوفمبر 2020 أعلن  الحزب عن رؤيته الخاصة للحوار، وذلك من خلال إصدار وثيقة تحت عنوان :" رؤيتنا للإصلاح ..من أجل حل توافقي" .

أن يرفض حزب تواصل التنسيق مع أحزاب معارضة وموالية في مبادرة مشتركة للحوار تشارك كل الأحزاب الممثلة في البرلمان في كل مراحل التحضير لها مما يجعلها مبادرة غير محسوبة لأي جهة سياسية، أن يرفض الحزب أن يشارك في تلك المبادرة، ثم يطلق من بعد ذلك مبادرته أو وثيقته الخاصة به فذلك يعني بلغة سياسية فصيحة وصريحة أن الحزب لم يكن متحمسا للحوار ولا للتهدئة مع النظام الحاكم.

هناك أسباب كثيرة تجعل من الصعب جدا فهم هذا الموقف غير المتحمس للحزب من التهدئة والحوار، ويمكن إجمال تلك الأسباب في النقاط التالية:

1 ـ لو أن العشرية الماضية كانت عشرية حوار وتهدئة سياسية بين المعارضة والسلطة لقلنا إن حزب تواصل يريد أن يجرب في هذا العهد أسلوبا جديدا غير أسلوب التهدئة الذي لم يعط نتيجة خلال العشرية الماضية. إننا نعلم جميعا أن العشرية الماضية كانت عشرية صدام وتجاذب سياسي عنيف، وأن ذلك الصدام لم يأت بنتيجة تذكر لصالح الوطن، ألا يكفي ذلك لأن يدفع بالأحزاب السياسية المعارضة لأن تجرب في هذا العهد أسلوب التهدئة والحوار؟ أليس من المستغرب أن يكون الحزب المعروف بأنه كان هو الحزب الأكثر ميلا للحوار والمشاركة من بين كل أحزاب المعارضة، هو الحزب الأقل تحمسا اليوم للتهدئة والحوار؟

 2 ـ لو كان حزب تواصل قد وجد معاملة لائقة خلال العشرية الماضية لقلنا بأن عدم تحمس الحزب للحوار والتهدئة مع النظام الحالي هو أمرٌ مبرر، ولكن العكس هو الصحيح، فحزب تواصل كان قد لاقى معاملة قاسية في العهد السابق فَحُلت الجمعيات المحسوبة عليه، وتم توجيه التهم إليه في أكثر من مؤتمر صحفي، ولما جاء الرئيس الحالي بدأ في تطبيع العلاقات مع  الحزب ومع غيره من أحزاب المعارضة، فأعيدت بعض تراخيص الجمعيات المحسوبة على الحزب، ومُنح لمؤسسة المعارضة التي يتزعمها الحزب المكانة لبروتوكولية التي تستحقها، واستدعي أحد نواب الحزب للمشاركة في الوفد الرئاسي الذي قدم التعازي للكويت بمناسبة وفاة أميرها السابق.

الواضح أن النظام الحالي يُحاول ـ وبجدية ـ أن يتعامل بشكل سوي وطبيعي مع أحزاب المعارضة بما فيها حزب تواصل، ولذا فقد يكون من المستغرب جدا ـ إذا ما تحدثنا من منطلق حزبي ضيق ـ أن لا يتحمس حزب تواصل للتهدئة والحوار في هذا العهد، وأن يتخلف عن مبادرة للحوار تضم أحزابا موالية ومعارضة، وهو الذي كان قد عُرِف في العهد السابق بتحمسه القوي للحوار والتهدئة، وبإنفراده من بين كل أحزاب منسقية المعارضة بالمشاركة في انتخابات 2013 والتي قاطعتها كل أحزاب منسقية المعارضة.

3 ـ لو كانت تصرفات النظام الحالي توحي بعدم الرغبة في التهدئة والحوار لكان ذلك يكفي كمبرر لعدم تحمس الحزب للتهدئة والحوار، ولكن كل ما ظهر حتى الآن يوحي برغبة حقيقية لدى النظام في التهدئة والحوار، فخطاب الترشح، وخطابات الحملة الانتخابية التي انتهت دون أي إساءة أو أي نقد جارح أو حتى نقد ناعم للمنافسين، وما حدث بعد التنصيب من استقبالات متكررة لقادة المعارضة في القصر الرئاسي، وربما كانت استقبالاتهم أكثر من استقبالات قادة الأغلبية ...كل هذا يؤكد أن هناك رغبة جدية لدى فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في التهدئة والحوار، فلماذا لا يتحمس حزب كتواصل لأن يقابل هذه الرغبة في التهدئة من النظام برغبة مماثلة من طرف الحزب الذي عهدناه في الماضي هو أكثر أحزاب المعارضة رغبة في التهدئة والحوار مع الأنظمة الحاكمة؟

طبعا لا يعني هذا أنه لا توجد أطراف في الأغلبية غير متحمسة للحوار، فمما لا شك فيه أن هناك أطرافا في الأغلبية لا ترحب بالحوار، وهي ترى أن مصالحها الضيقة ستتضرر كثيرا في ظل أجواء التهدئة والانفتاح على المعارضة. هذه الطائفة ستكون ـ وبكل تأكيد ـ  هي المستفيد الأول من موقف حزب تواصل غير المتحمس للحوار.

4 ـ لو كانت قواعد حزب تواصل وجماهيره وأنصاره معروفة بالتطرف والحدة في المواقف لكان عدم تحمس قيادة الحزب الحالية للتهدئة والحوار مفهوما، وذلك لأنها تُعبر بموقف كهذا عن قواعد الحزب وعن مزاجه العام، ولكن، وعلى العكس من ذلك، فمن المعروف أن أغلبية قواعد الحزب وأغلب قادته يُعرفون بالاعتدال وعدم الحدية في المواقف، وهذا مما يصعب أكثر فهم الموقف غير المتحمس للحوار الذي تتبناه قيادة الحزب الحالية.

5 ـ لو كان الوضع الإقليمي والدولي في أيامنا هذه مطمئنا لكان بالإمكان تفهم الرغبة لدى هذا الحزب المعارض أو ذاك في عدم التحمس للحوار وفي زيادة مستوى التصعيد والتجاذبات مع السلطة الحاكمة، ولكن، وكما هو معلوم، فإن الوضعية في مالي وفي بقية دول الساحل مقلقة جدا، ومما يزيد من حجم القلق ما حدث مؤخرا من قطع للعلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر، وما قد ينجر عن ذلك من توترات في المنطقة. في وضعية إقليمية صعبة كهذه، يكون من الصعب جدا فهم عدم تحمس حزب كتواصل للتهدئة والحوار مع نظام لم يظهر منه حتى الآن إلا الرغبة الجدية في التهدئة والحوار مع معارضيه.      

لقد بات من الواضح جدا أن من يمتلكون اليوم صنع القرار في حزب تواصل ليسوا متحمسين كثيرا للتهدئة والحوار مع السلطة الحالية لأسباب يصعب فهمها (ربما يكون هذا الموقف هو من أجل استقطاب بعض جمهور المعارضة الذي لا يريد التهدئة، وهو جمهور موجود وحيوي، تماما كما استقطب الحزب في العام 2013 بعض ناخبي المعارضة الذين لم يرضوا بمقاطعة الأحزاب المعارضة للانتخابات...إن كان هذا هو السبب في عدم تحمس الحزب للتهدئة والحوار فسنكون أمام بحث خال من أي بعد أخلاقي عن مصلحة حزبية ضيقة على حساب المصلحة العليا للبلد، ثم إن الحزب بموقف كهذا سيخسر في النهاية لأن الكثير من مناضليه وقادته لن يقبلوا بهذا الموقف).

 إن عدم التحمس للحوار قد أوقع الحزب ـ حتى الآن ـ  في أخطاء كبيرة منها توقيعه على بيان يحاول إعادة إنتاج خطاب شرائحي وعرقي لم يعد مرحبا به عند الكثير من الموريتانيين. في السابق كانت هناك أصوات من داخل الحزب تتبنى ذلك الخطاب وتحاول تسويقه بعيدا عن قنوات الحزب، وكانت تجد انتقادا واسعا من داخل الحزب ..الخطير في توقيع هذا البيان من طرف الحزب هو أنه أظهر الحزب وكأنه يتبنى رسميا ذلك الخطاب المتطرف الذي كنا نسمعه من عدد قليل من قادته. في بعض التبريرات التي طالعتها مؤخرا عن توقيع الحزب على ذلك البيان تم القول بأن وجود الحزب كان مهما في اجتماع الأحزاب التي أصدرت البيان، وذلك حتى لا يقتصر الاجتماع على أحزاب سياسية من لون واحد!

هذا تبريرٌ لا يستقيم فتواصل لم ينضم إلى هذا التكتل في آخر لحظة، بل إنه كان من الساعين بقوة لتأسيس هذا التحالف المعارض، وذلك من أجل خلق كتلة معارضة غير متحمسة للحوار والتهدئة في مقابل أحزاب المعارضة المتحمسة للتهدئة والحوار، والتي تعمل داخل منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان لتهيئة الأرضية للحوار أو التشاور المنتظر.

ومن التبريرات المدافعة كذلك عن موقف الحزب غير المتحمس للحوار هي تلك التبريرات التي أصبح يطلقها البعض من داخل الحزب، والتي تحاول أن تنتقد مبادرة منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان لأنها لم تشرك الجميع في التحضير والإعداد للتشاور المنتظر..ينسحب تواصل من منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان دون تقديم حجج مقنعة، ثم ينتقد بعد ذلك المنسقية على أنها لم تشركه ولم تشرك الآخرين في التحضير للتشاور المنتظر!

وتبقى أربع كلمات سريعة اختتم بها هذا المقال :

ـ من المهم جدا أن يُشارك أكبر حزب معارض وثاني حزب ممثل في البرلمان في الحوار أو التشاور المنتظر، وعلى السلطة الحاكمة ومنسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان أن تبذلا المزيد من الجهود حتى يُشارك حزب تواصل في الحوار أو التشاور المنتظر؛

ـ على حزب تواصل أن يراجع موقفه من الحوار ومن التهدئة السياسية، فليس من مصلحته كحزب ولا من مصلحة الوطن أن يغيب عن هذا الحوار، وعليه أن يدرك أن التحالف المعارض الذي ينخرط فيه الآن هو تحالف هش، وأنه إذا ظل متمسكا بموقفه السلبي من الحوار فقد يجد الحزب نفسه يقف وحيدا على أطلال تحالف سياسي محكوم عليه بالموت المبكر؛

ـ إن أهم الإصلاحات السياسية التي قيم بها في هذه البلاد قد كانت ثمرة لحوارات أو مشاورات بين السلطة والمعارضة؛

ـ الراجح عندي أن النظام الحالي سينفذ كل ما سيتم الاتفاق عليه في التشاور المنتظر، وفي حالة عدم تنفيذه لما تم الاتفاق عليه فحينها سيحق للمعارضة أن تستخدم كل أساليب الضغط المتاحة لفرض تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وستجد حينها دعما كبيرا من أطراف كثيرة شاركت في الحوار من خارج المعارضة.

حفظ الله موريتانيا... 

الاثنين، 23 أغسطس 2021

عن تدني نسبة النجاح في الباكالوريا

 


لم تتجاوز نسبة النجاح في الباكالوريا في دورتها العادية لهذا العام 8%، وربما تكون هذه النسبة هي أصدق تعبير عن مستويات التلاميذ، وذلك بعد أن بُذِلت في هذا العام جهودٌ كبيرة للحد من الغش، ومن المحتمل أن تكون نسبة النجاح النهائية في هذا العام  في حدود 12%، وذلك بعد إضافة نتائج الدورة التكميلية. لا شك أن هذه النسبة المتدينة مقلقلة جدا، ومما يزيد من حجم القلق أن هذه النسبة ظلت في هذه الحدود خلال السنوات الماضية، إن لم أقل خلال العقود الماضية.

تعليقا على هذه النسبة المتدنية كتبتُ عدة منشورات نشرتها على حسابي على الفيسبوك، وقد ارتأيت أن أجمعها بعد بعض الإضافات البسيطة، وأنشرها كمقال، وذلك بعد أن تعذر عليَّ نشر مقال عن الموضوع بسبب بعض الانشغالات الضاغطة.

أولا : التدريس باللغة الأم

يرى الكثير من أهل الاختصاص أن من أهم أسباب تدني نسب النجاح في الباكالوريا راجع إلى تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، وهي اللغة التي لا يُتقنها المدرس، ولا يعرفها التلميذ، ويجهلها أغلب آباء التلاميذ، وقليلة الاستخدام في الإعلام وفي الفضاءات العامة والخاصة.

أوصت اليونسكو بضرورة التعلم بلغة الأم، والبنك الدولي في ندوة له أوصى بذلك، ومع ذلك يتواصل العمل في بلادنا بإصلاح 99 أو على الأصح يتواصل العمل  ب "إفساد 99".

(1)

هناك فرق كبير وكبير جدا بين أن تُدَرٍس لغة أجنبية كمادة وأن تُدَرِّسَ بها المواد الأخرى. لا مشكلة إطلاقا في تدريس اللغة الفرنسية كمادة ولا في تدريس اللغة الانجليزية والتي هي بحق لغة عالمية في انتشار مستمر عكس اللغة الفرنسية التي تتراجع بشكل مستمر.          لا مشكلة في تدريس ما يمكن تدريسه من لغات العالم كمواد، ولكن علينا أن نُدَرِّس كل المواد العلمية والأدبية باللغة العربية: اللغة الرسمية لموريتانيا، واللغة الأم لأغلب الموريتانيين، واللغة التي يتعبد بها كل الموريتانيين.

(2)

دعونا نطرح هذا السؤال :  ماذا سيتخيل تلميذ في أمبود أو تيشيت أو أفديرك أو فصالة مثلا إذا قال له المدرس إن درس اليوم سيكون : المربع أو المستطيل أو المثلث أو الدائرة؟

طبعا سيتخيل كل هذه الأشكال بسهولة أو على الأقل سيتخيل أشكالا قريبة منها.

وماذا سيتخيل نفس التلميذ إذا قال له المدرس إن درس اليوم سيكون:   Le Carré أو Le Rectangle أو Le Triangle أو Le Cercle؟

طبعا سيتخيل كل الأشكال الممكن تخيلها دون أن يتمكن من تخيل الأشكال الحقيقية لهذه المسميات ..

هذا مثال بسيط على أهمية التدريس باللغة الأم.

(3)

هناك حقيقة لن تسمعوا من يتحدث عنها ممن يرفعون شعار الدفاع عن شريحة لحراطين، وهي أن أكبر متضرر من التدريس باللغة الفرنسية هم لحراطين وكل الفقراء والفئات الهشة في المجتمع.

على من يهتم حقا بشريحة لحراطين أن يهتم أولا بإصلاح التعليم، وإصلاح التعليم لن يفيد هذه الشريحة إلا إذا تم التدريس باللغة الأم، ذلك أن أكبر متضرر من تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية هو الفئات الهشة في المجتمع، والتي لا تمتلك مالا تنفقه على الساعات الإضافية لتعلم الفرنسية، ولا على المواد العلمية التي تُدَرَّسُ بتلك اللغة.

ثانيا : إعادة الاعتبار للتعليم العمومي

ستظل هذه النتائج متدنية ما لم تتم إعادة الاعتبار للتعليم العمومي، ولإعادة الاعتبار للتعليم العمومي فقد يكون من المهم إلزام أبناء موظفي الدولة ـ وخصوصا منهم أصحاب الوظائف السامية ـ بتدريس أبنائهم في مدارس عمومية، كما أنه قد يكون من المهم تقليص الفارق الكبير في حجم الإنفاق على مدارس الامتياز والمدارس العسكرية من جهة وبقية المدارس العمومية الأخرى.

وسيبقى الاهتمام بالمدرسة والمُدَرِّس (معلما كان أو أستاذا) هو الكلمة المفتاح لإعادة الاعتبار للتعليم العمومي.

ثالثا: الاهتمام بالتعليم العالي والتكوين المهني المتوسط

إننا في الوقت الذي نُطالب فيه جميعا بضرورة العمل من أجل رفع نسبة الناجحين في الباكالوريا حتى تكون مقاربة لنسب النجاح في الدول القريبة منا، علينا أن لا ننسى ـ ونحن نُطالب بذلك ـ أن تعليمنا العالي يجد صعوبة كبيرة في استيعاب النسب المتدنية التي تحصل على الباكالوريا في كل عام. إن التفكير في رفع نسبة الناجحين في الباكالوريا يجب أن يُصاحبه عمل جدي لزيادة القدرة الاستيعابية لمؤسسات التعليم العالي. كما يجب أن يصاحبه كذلك تفكير جدي للبحث عن آليات لاستيعاب الأعداد الكبيرة من التلاميذ التي لا تتمكن من النجاح في البالكالوريا. إن التفكير في هذه الأعداد الكبيرة من التلاميذ الذين لم يحصلوا على الباكالوريا يستوجب التفكير في خلق المزيد من مؤسسات التكوين المهني المتوسط لاستيعاب أكبر عدد ممكن من التلاميذ الذين لم يوفقوا في الحصول على الباكالوريا. إن تكوين هؤلاء على حرف ومهن يحتاجها سوق العمل يجب أن يكون من أولوية الأولويات،

فعدم تكوينهم ودمجهم في الحياة النشطة سيعني تركهم للإحباط واليأس والبطالة وعالم الجريمة بمختلف تخصصاته وشعبه.  

حفظ الله موريتانيا... 

الشكل البياني من إعداد حمود ولد الفاظل

السبت، 14 أغسطس 2021

أين المعارضة؟


(1)

التفت إلي في أول يوم من شهر أغسطس من العام 2021 وسألني بنبرة حادة: أين المعارضة؟

لم يكن مني إلا أن التفتُ إليه وسألته بنفس النبرة الحادة : وأين كنتَ أنتَ في أول يوم من سبتمبر 2018 (الانتخابات التشريعية )، وأين كنتَ يوم 22 يونيو 2019( الانتخابات الرئاسية)؟

كثيرا ما أسمع هذا السؤال  يطرح وبصيغ متعددة من أشخاص لا يحق لهم أن يطرحوه أصلا ، وذلك لسبب بسيط جدا وهو أنهم لم يقوموا في أي يوم من الأيام بواجبهم اتجاه المعارضة، ولذا فلا يجوز لهم اليوم أن يطالبوا المعارضة بالاحتجاج باسمهم، ولا يجوز لهم أن ينتقدوها إن هي غيرت من أساليبها في إيصال مطالب المواطنين إلى السلطة الحاكمة.

من أراد حقا من حقوقه، فعليه من قبل ذلك أن يؤدي واجبه.

 - ناضل الأستاذ محفوظ ولد بتاح خلال العشرية ومن قبلها، ومع ذلك رفضتم ـ يا من تسألون الآن أين المعارضة ـ منحه مقعد نائب في البرلمان الموريتاني؛

-  خاطر الرئيس صالح ولد حننا بحياته في زمن معاوية، وناضل خلال العشرية، ومع ذلك فقد رفضتم ـ يا من تسألون الآن أين المعارضة ـ أن توصلوه للبرلمان في انتخابات 2018؛

 - قاطع حزبا التكتل واتحاد قوى التقدم انتخابات 2013 تماشيا مع المزاج المعارض، وكبدتهما تلك المقاطعة خسائر كبيرة، ولما رشحا معاً الدكتور محمد ولد مولود في الانتخابات الرئاسية الماضية، لم تمنحوه ـ يا من تسألون الآن أين المعارضة ـ  3 % من أصواتكم.

إن أغلب الذين يسألون الآن أين المعارضة، هم أنفسهم الذين كانوا يصفونها في السنوات الماضية بأبشع الأوصاف وأسوئها، أما أن يشاركوا في أنشطتها، أو يصوتوا لها، فذلك أمر غير متوقع أصلا.

للمعارضة أخطاء كثيرة وقد تحدثتُ عن تلك الأخطاء في أكثر من مناسبة، لا خلاف على ذلك، ولكن لا خلاف أيضا على أن "أنصاف المناضلين" الذين لا يقومون بواجبهم اتجاه الوطن ومع ذلك يبالغون في المطالبة بحقوقهم، لا خلاف على أن مثل هؤلاء لا يحق لهم اليوم أن يسألوا : أين المعارضة؟

إن هذه الطائفة من المواطنين التي تعودت على نعت المعارضة بأسوأ الأوصاف، وعلى التصويت ضدها في المواسم الانتخابية طلبا لمال أو جاه أو انتصارا لابن القبيلة أو الجهة، لا يحق لها أن تسأل اليوم : أين المعارضة؟

(2)

هناك طائفة أخرى وهي قلة قليلة جدا يحق لها أن تسأل اليوم: أين المعارضة، وذلك لأنها أدت حق المعارضة من خلال المشاركة في أنشطتها والتصويت لمرشحيها..هذه الطائفة من حقها أن تسأل وأن تُحاسب المعارضة، ومن واجب المعارضة أن تجيب على أسئلتها، وأداءً لهذا الواجب، فإليكم هذه النقاط السريعة:

1ـ التغيير ليس في الأصل صفة مذمومة، بل المذموم هو عدم التغيير، فما دام الزمن يتحرك، وما دام كل شيء من حولنا يتغير، فهذا يستدعي منا نحن أيضا أن نتغير؛

2 ـ التغيير المذموم هو تغيير المبادئ أو التخلي عنها، والتغيير المطلوب والذي يعتبر ضروريا هو تغيير الوسائل والأساليب لتحقيق تلك المبادئ، كلما كانت هناك حاجة لتغيير تلك الوسائل والأساليب؛

3 ـ إن المواقف السياسية يجب أن تحكمها المصلحة العامة لا المصلحة الخاصة، ويجب أن تدور هذه المواقف مع المصلحة العامة، فإذا اقتضت تلك المصلحة من المعارضة أن تُعارض بحدة فلتعارض بحدة، وإن اقتضت منها تلك المصلحة أن تهادن في معارضتها فلتهادن؛

4 ـ إن تغيير المواقف السياسية يكون مذموما إذا كان سببه هو السعي إلى تحقيق مصلحة خاصة أو ضيقة، ويكون هذا التغير مطلوبا، بل وعملا نضاليا نبيلا، إذا كان سببه السعي لتحقيق مصلحة عامة؛

5 ـ النظام الحاكم هو الذي يحدد في العادة طبيعة معارضته وأساليب نضالها، فالنظام السابق مثلا كان يميل إلى الصدام مع المعارضة وعلى عدم اعتبارها شريكا سياسيا، ولذا فلم يكن أمامها غير الصدام والاحتجاج ومقارعة النظام بحدة. في ظل النظام الحالي فإن الأمر مختلف جدا، فهذا النظام يميل إلى التهدئة، وإلى التعامل مع المعارضة بوصفها شريكا سياسيا حتى وإن كان هناك اختلاف في الرؤى والأفكار.  

فأي مصلحة سيجنيها الوطن والمواطن إذا ما تعاملت المعارضة مع النظام القائم حاليا بنفس أسلوب الصدام الذي كانت تتعامل به مع النظام السابق؟ ثم هل يمكن للمعارضة بقدراتها الحالية أن تُحَرك الشارع؟ وهل النزول إلى الشارع هو الأسلم في ظل هذه الجائحة التي تهدد العالم كله؟

6 ـ  قد يطرح البعض هذا السؤال : هل حققت المعارضة بعض مطالب المواطنين من خلال الوسائل غير الاحتجاجية التي تتبعها الآن؟ من قبل أن أجيب على هذا السؤال سأطرح سؤالا آخر : وهل تضمن الاحتجاجات تحقيق تلك المطالب...فعلى سبيل المثال قادت المعارضة الموريتانية احتجاجات كبيرة ضد تغيير العلم القديم والذي كان يتمسك به جل الموريتانيين إن لم أقل كل الموريتانيين، وتعرض كبار قادتها للضرب والتنكيل وكل أشكال المعاملة السيئة خلال تلك الاحتجاجات الرافضة لتغيير العلم الوطني. كذلك قادت المعارضة وبعض الشيوخ المحسوبين على الأغلبية احتجاجات قوية ضد إلغاء مجلس الشيوخ...السؤال المطروح الآن : أين هو العلم القديم وأين هو مجلس الشيوخ؟

نعم لقد حققت المعارضة خلال السنتين الماضيتين ـ ودون أن تحتج ـ بعض مطالبها التي لم تستطع أن تحققها خلال عقد كامل من الاحتجاج، وكمثال على ذلك فيمكن أن نذكر محكمة العدل السامية وهي هيئة دستورية ظلت مغيبة خلال السنوات الماضية؛

كما يمكن أن نذكر مثلا قانون الجنسية الذي تمكن نواب المعارضة من تعديله، وقانون حماية الرموز الذي تمكنوا من تأجيل نقاشه ...حدث ذلك دون أن تحتاج المعارضة لتنظيم احتجاجات سيغيب عنها ـ وبكل تأكيد ـ  90% من الذين ينتقدون اليوم المعارضة على أنها لم تحتج.

كان بإمكان النظام القائم أن يرفض تشكيل محكمة العدل السامية، وأن يرفض أي تغيير في قانون الجنسية، وأن يرفض كذلك تأجيل نقاش قانون حماية الرموز، فمن المعروف أن لديه أغلبية برلمانية تمكنه من فرض كل ذلك، ولكن، ولكون هذا النظام يستمع لبعض مطالب المعارضة، فقد تمت الاستجابة لتلك المطالب، ودون أن تحتاج المعارضة للنزول إلى الشارع؛

(3)

أمام المعارضة الموريتانية فرصة ثمينة لأن تحقق العديد من مطالبها التي لم تستطع تحقيقها بعد عدة عقود من الاحتجاج والصدام مع الأنظمة الحاكمة..هناك فرصة ثمينة سيمنحها الحوار أو التشاور القادم، والذي قبل به النظام القائم دون أن تكون هناك أزمة سياسية أو ضغط احتجاجي يفرض عليه القبول به، الشيء الذي يعني أن هناك جدية لدى النظام للاستماع إلى المعارضة، وإلى التشاور معها في القضايا الوطنية الكبرى.

نعم هناك فرصة حقيقية أمام المعارضة الموريتانية، والمصلحة العليا للبلد تستدعي استغلال هذه الفرصة. أما السؤال عن المعارضة ودعوتها للاحتجاج بعد عقد كامل من الاحتجاج الذي لم يأت بنتيجة تذكر، وجرها ـ بالتالي ـ  إلى الصدام مع نظام أثبت أنه يسعى بالفعل إلى التهدئة  وإلى التشاور معها في جو سياسي هادئ. أما مثل ذلك فلن يكون إلا مجرد دعوات صبيانية لا تخدم المصلحة العليا للبلد، والمؤكد أن الذين يدعون إلى ذلك سيتغيب أكثرهم عن الاحتجاجات التي يدعون إليها، إذا ما تم تنظيم تلك الاحتجاجات.  

حفظ الله موريتانيا... 

الخميس، 5 أغسطس 2021

أين رجال الأعمال والوجهاء والأطر؟


تعودنا من رجال أعمالنا وأطرنا ووجهائنا أن يزاحموا السكان المحليين في مدنهم وقراهم إذا ما كانت هناك زيارة لفخامة الرئيس، وتعودنا في مثل تلك الأوقات أن تطغى على واجهة المواقع أخبارا من قبيل : "الوجيه الفلاني يبذل جهودا جبارة في سبيل إنجاح زيارة الرئيس"؛ "الحلف المحلي الفلاني
يحشد أنصاره لاستقبال الرئيس" ؛ "رجل الأعمال الفلاني يتكفل بضيافة كل الوفود المستقبلة للرئيس"، وهكذا..

من المؤكد أن مثل هذا النوع من الأنشطة الكرنفالية، والذي تُنفق عليه أموال طائلة لا يخدم في حقيقة الأمر زيارات الرئيس. إن أهم ما يخدم زيارات الرئيس، هو أن يترك الرئيس يطلع بنفسه على أحوال الساكنة المحلية. أما مزاحمة الساكنة المحلية ومحاولة حجب همومها ومشاكلها من طرف أطر ووجهاء ورجال أعمال يقيمون في العاصمة نواكشوط، ولا يذهبون إلى مدنهم وقراهم إلا في مثل هذه المواسم، يأتونها وهم يلبسون أحسن الثياب، ويمتطون أفخر السيارات، ولا تبدو عليهم آثار السفر، ولا تعرفهم الساكنة المحلية والتي لا يتواصلون معها إلا في مثل هذه المناسبات، أما مزاحمة الساكنة المحلية من طرف هؤلاء فلن يُفيد في إنجاح الزيارات، بل بالعكس من ذلك، فهو يؤدي إلى إفشالها.

بالأمس تحدث الناطق الرسمي باسم الحكومة خلال المؤتمر الصحفي الأسبوعي عن جائحة كورونا، وقال إن فخامة رئيس الجمهورية أعطى أوامره للجنة الوزارية المكلفة بمتابعة كورنا بالبقاء في حالة انعقاد دائم، لمتابعة الوضع الوبائي في البلد، واتخاذ ما يلزم من إجراءات. وأضاف أن اللجنة اتخذت جملة من الإجراءات سيكون من بينها تنظيم أسبوع وطني للتلقيح.

الآن لنطرح هذه الطائفة من الأسئلة: أين هم رجال الأعمال والوجهاء والأطر؟ ولماذا لم يُطلقوا مبادرات في العاصمة نواكشوط لحث المواطنين على أخذ اللقاح؟ ولماذا لم نسمع عن قوافل من رجال الأعمال والأطر والوجهاء تتجه الآن إلى ولاياتنا الداخلية لحث المواطنين على التلقيح؟ ولماذا يتكرر ظهور رجال أعمالنا وأطرنا ووجهائنا في مدنهم وقراهم خلال المواسم السياسية، ويغيبون عنها ـ وبشكل كامل ـ في مثل هذه الأوقات الصحية  الصعبة؟ فلماذا لم نسمع عن تنظيم الحلف المحلي الفلاني لحملة تحسيسية في القرية أو المدينة الفلانية؟ ولماذا لم نسمع أن فلانا من رجال أعمالنا قد قرر التكفل بنقل كل ساكنة قريته إلى أقرب مركز للتلقيح؟ ولماذا لم نسمع عن مبادرة أطر المدينة كذا لتلقيح ألف مُسِن من ساكنة تلك المدينة؟

لنُلخص كل تلك الأسئلة أعلاه في سؤال واحد : لماذا لا يتنافس رجال أعمالنا ووجهائنا وأطرنا إلا في المبادرات السلبية، ولماذا يغيبون دائما عندما تكون هناك حاجة ماسة لإطلاق مبادرات إيجابية؟

على الأطر والوجهاء ورجال الأعمال أن يعلموا أن الدعم الجدي والحقيقي لفخامة رئيس الجمهورية يتمثل حصرا في مساعدته في تحقيق برنامجه الانتخابي، وإعانته في مواجهة جائحة كورونا التي أربكت دول العالم كلها، والتي لا شك أنها تشكل تحديا حقيقيا لبلادنا.

إن حملات التلقيح لا يمكن تحويلها إلى حملات كرنفالية، فالأمر هنا يتعلق بأنشطة يمكن للجهات المختصة أن تُقومها في أي وقت، وذلك من خلال معرفة الأعداد التي أخذت اللقاح في كل قرية أو مدينة، ومتى زادت تلك الأرقام، فهل تزامنت تلك الزيادة مع الإعلان عن انطلاق المبادرة كذا مثلا؟

ربما تكون صعوبة تحويل حملات التطعيم إلى حملات كرنفالية، هو الذي أدى إلى تقاعس رجال أعمالنا ووجهائنا وأطرنا عن إطلاق مبادرات في هذا المجال، ذلك أن رجال أعمالنا ووجهائنا وأطرنا لا يتحمسون إلا في فترة المواسم الكرنفالية، ولا يبدعون إلا في المبادرات سيئة الصيت، والتي يكون ضررها على المجتمع وعلى الوطن وعلى الرئيس أكثر من نفعها.  

فيا رجال أعمالنا ويا أطرنا ووجهاءنا : من أراد منكم أن يخدم فخامة الرئيس حقا، ويعينه في مهامهم الجسيمة، فليطلق الآن مبادرات جدية لحث المواطنين على الأخذ بالإجراءات الاحترازية، وإلى المسارعة في أخذ اللقاح.

تقول الإحصائيات الصادرة عن وزارة الصحة بأن الأيام السبعة الأخيرة قد تم فيها تسجيل : 34 حالة وفاة بسبب كوفيد ـ19 و2240 إصابة جديدة ، ويعني هذا بلغة المتوسطات الإحصائية أنه في كل 5 ساعات تسجل حالة وفاة جديدة في بلادنا بسبب كوفيد ـ 19، وأنه في كل 4 دقيقة ونصف تسجل حالة إصابة جديدة بسبب هذا المرض.

إنها أرقام مقلقة جدا، ولذا فعلينا أن نتحرك جميعا ـ ومن الآن ـ لمواجهة الموجة الثالثة من هذا الوباء، والتي تُعتبر حتى الآن من أشد موجات هذا الوباء خطورة، فالسلالة الجديدة هي السلالة الأسرع انتشارا والأشد فتكا.

حفظ الله موريتانيا... 

الأحد، 1 أغسطس 2021

عامان من حكم الرئيس ..قراءة تحليلية معمقة (1)


سأحاول في هذه السلسلة من المقالات أن أقدم قراءة تحليلية معمقة، وأن أضع في ميزان التقييم أو التقويم التحليلي حولين كاملين من حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، سأستعرض في هذه القراءة ما تحقق من إنجازات، وما لم يتحقق، وسأختمها بحزمة من المقترحات أرى بأن العمل بها قد بات ضروريا وملحا بعد مرور 40% من المأمورية الأولى للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.

قد يكون من المهم، ومن قبل البدء في تقديم حصيلة عامين من مأمورية الرئيس، أن أتحدث عن بعض النقاط التمهيدية الهامة المرتبطة بعملية التناوب السلمي على السلطة، والتي كثيرا ما تغيب عن تحليلات المهتمين بالشأن العام، وذلك على الرغم من أهميتها. ولأن هذه الحلقة حلقة تمهيدية، ولأنها ستركز على عملية التناوب وظروف استلام السلطة، فإنها ستعطي مساحة واسعة للحديث عن الرئيس السابق، على أن يتوقف الحديث عنه نهائيا في الحلقات القادمة إن شاء الله.  

بعض هذه النقاط الغائبة عن التحليلات المتداولة يمكن تصنيفها على أنها  فرص أو نقاط قوة تحسب لصالح الرئيس، وبعضها الآخر يمكن تصنيفه على أنه تحديات أو عوائق واجهت الرئيس خلال ما مضى من مأموريته.

1 ـ  نقاط القوة والفرص

1ـ1  تحقيق التناوب السلمي على السلطة وتأمينه : قد لا يُدرك الكثير من عامة الناس، ولا حتى من النخب، أهمية تحقيق التناوب السلمي على السلطة، وأهمية تأمين ذلك التناوب وتحصينه في بلد كبلدنا، يوجد في منطقة غير مستقرة سياسيا وأمنيا، ومعرض لأن يكون محل أطماع دول أخرى في أول لحظة يعرف فيها حالة عدم استقرار سياسي وأمني.

إن القراءة التحليلية المعمقة لبعض ما جرى من أحداث خلال السنتين الماضيتين، ولبعض أحداث السنة الأخيرة من حكم الرئيس السابق لتؤكد أن الرئيس السابق كان يفكر ويخطط بالفعل للبقاء في السلطة من بعد خروجه منها، وكان يمتلك لذلك ثلاث أوراق بالغة التأثير: أول هذه الأوراق ورقة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، ولعلكم تذكرون أن الرئيس السابق المؤسس لهذا الحزب قد قاد بنفسه حملة الحزب خلال انتخابات سبتمبر 2018، وأنه لم يقبل من أنصاره أن يترشحوا من خارجه، وأنه قال بأنه على كل من يريد مأمورية ثالثة أن يصوت بكثافة لمرشحي الحزب. ولعلكم تذكرون أيضا أنه ترك الحزب دون رئيس وبلجنة تسيير مؤقتة، وقد راج حينها أن مؤتمر الحزب القادم سينبثق عنه مجلس رئاسي أعلى يترأسه رئيس الحزب الذي يفترض أن يكون هو الرئيس السابق، وبعضوية الوزير الأول ورئيس البرلمان، والأمينين التنفيذيين المكلفين بالشؤون السياسية والشؤون الانتخابية. يعني هذا أن المجلس الرئاسي الأعلى للحزب في حالة تشكله كان سيجعل من رئيس الحزب رئيسا فعليا للبلاد، وذلك من خلال تحكمه الكامل في السلطة التشريعية (البرلمان)، وتحكمه شبه الكامل في السلطة التنفيذية (الحكومة).

لقد بات واضحا بعد كل الذي عشناه من أحداث خلال السنوات الثلاث الأخيرة أن الرئيس السابق كان يخطط بالفعل للبقاء في السلطة من خلال ورقة الحزب الذي أراد أن يفصله ويعيد هيكلته على مقاس رئيس سابق يريد أن يفرض مأمورية ثالثة من خلال "حزب حاكم"، وذلك هو ما يفسر عودة الرئيس السابق إلى أرض الوطن وردة فعله غير المدروسة، عندما بدأت قضية المرجعية تُطرح، فطرح تلك القضية جعله يشعر أنه بدأ يفقد السيطرة على الحزب الذي كان يمثل أقوى الأوراق لديه لفرض بقائه في السلطة.

ثاني الأوراق التي كانت ستضمن للرئيس السابق مستوى معينا من التأثير في السلطة تتمثل في علاقته ببعض الأجهزة العسكرية والأمنية، وخاصة منها الحرس الرئاسي الذي يُعتبر أيضا هو مؤسسه. أما الورقة الثالثة التي قد تَضْمَن هي الأخرى مستوى معينا من التأثير على السلطة فهي المال، فمن المعروف أن المال قد أصبح له تأثيرا قويا على القناعات والاصطفاف السياسي في هذه البلاد، والرئيس السابق كان قد اعترف في أكثر من مرة بأنه يمتلك ثروة طائلة، وربما تكون قناعة الرئيس السابق بقدرة المال على التأثير السياسي هي واحدة من الأسباب التي جعلته يحرص على جمع الكثير المال خلال فترة رئاسته.

هذه الأوراق الثلاث البالغة التأثير كانت ستمكن الرئيس السابق من فرض نوع من الوصاية على الرئيس الذي سيأتي من بعده، وبالتالي التأثير القوي على مسار الأحداث، خاصة وأنه بالإضافة إلى امتلاكه لتلك الأوراق الثلاث المؤثرة، يمتلك أيضا ما يكفي من الجرأة والطموح لاستخدامها في كل ما من شأنه أن يضمن له البقاء في السلطة . إن الاستنتاج المتماسك منطقيا وتحليليا والذي يمكن أن نخرج به هنا هو أن الشخص الوحيد الذي كان بإمكانه أن يُحَيِّد تلك الأوراق الثلاث المؤثرة، ويبطل مفعولها فيجعلها عديمة التأثير هو الرئيس الحالي، وذلك لما يمتلك من نقاط قوة : ثقة المؤسسة العسكرية؛ ثقة الحزب وموريتانيا الأعماق؛ العلاقة الطويلة والمعرفة الدقيقة بالرئيس السابق. يمكنني أن أجزم تحليليا ـ وبناءً على القراءة المتأنية لكثير من الأحداث التي عشناها بعد تنصيب الرئيس الحالي ـ أنه لو تولى الرئاسة في موريتانيا في فاتح أغسطس من العام 2019 أيُّ شخص آخر غير الرئيس الحالي، حتى ولو كان من رجالات الدولة الكبار، لكنا اليوم أمام واحد من احتمالين لا ثالث لهما: فإما أن يتمكن الرئيس السابق من تحقيق طموحاته ويكون في هذا الوقت الحالي يمارس وصاية كاملة على خلفه، وذلك بعد أن يكون خلفه قد استسلم لتلك الوصاية استسلاما كاملا، وإما أن تكون البلاد ـ وهذا هو الاحتمال الثاني ـ  قد دخلت في أزمة سياسية وربما أمنية بالغة التعقيد في حالة عدم خضوع الرئيس الخلف لوصاية الرئيس السابق.

خلاصة القول في هذه الفقرة هي أن التناوب الآمن على السلطة لم يكن ليتحقق ويُحصَّنَ لو كان خَلفُ الرئيس السابق أي رئيس آخر غير الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وهذا الأمر أظنه كان واضحا لكل متابع فطن للشأن العام، يقرأ الأحداث قراءة معمقة بعيدا عن السطحية والمزاجية.

إليكم هذه الفقرة من مقال : "من هو رئيس موريتانيا القادم؟" والذي كنتُ قد نشرته قبل إعلان ترشح محمد الشيخ الغزواني بنصف سنة تقريبا..تقول هذه الفقرة وبالحرف الواحد : " لن يكون تسويق ولد غزواني صعبا، لاعتبارات عدة، فالجيش سيقبل به، والشركاء في الخارج سيرضون به، والموالاة ستلتف حوله، بل إنه قد يأخذ نصيبا من جماهير المعارضة وهذا ما سنبينه في فقرة لاحقة، ولكن المشكلة التي تؤرق ولد عبد العزيز هي أن ولد غزواني في حالة ترشيحه وفوزه سيصبح رئيسا فعليا، وذلك لأن لديه من الفرص والمؤهلات ما يمكنه من ذلك، وهو لن يحتاج لولد عبد العزيز ليكون وسيطا بينه مع الجيش أو مع الغرب أو مع الأغلبية الداعمة، ولذلك فإن ولد غزواني بعد فوزه سيحدُّ وبشكل تدريجي وفعَّال من نفوذ ولد عبد العزيز، وهنا تتجسد مخاوف ولد عبد العزيز من ترشيح ولد غزواني." انتهى الاستشهاد.

1ـ2 الانتقال الآمن من "الديمقراطية العسكرية" إلى "الديمقراطية المدنية":

قد يُلاحظ في هذا المقال تكرر كلمة "الآمن" كلما تم استخدام كلمات من قبيل التناوب والانتقال والإصلاح والتغيير، والحقيقة أن هذه الكلمة قد أصبحت لازمة عندي بعد اندلاع ما عُرف بثورات الربيع العربي، وما أعقب تلك الثورات من عدم استقرار سياسي وأمني في العديد من البلدان. لقد أثبتت هذه الثورات أن المطالبة بالتغيير والإصلاح والتناوب يجب أن تعقبها دائما كلمة "آمن"، فالتغيير غير الآمن قد يكون ضرره أكثر بكثير من ضرر عدم التغيير، والإصلاح غير الآمن قد يكون ضرره أكثر بكثير من ضرر عدم الإصلاح، وهكذا...

لاشك أننا في هذه البلاد التي عرفت الكثير من الانقلابات العسكرية الناجحة والفاشلة، والتي عرفت أيضا تدخلا مباشرا وغير مباشر من طرف بعض العسكريين في المسار الديمقراطي، لا شك أننا في هذه البلاد بحاجة إلى انتقال متدرج وآمن من الديمقراطية التي يتحكم فيها العسكريون إلى ديمقراطية مدنية خالصة. وفي اعتقادي الشخصي أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الأكثر قدرة على تحقيق هذا الانتقال الآمن، وذلك لكونه محل ثقة المؤسسة العسكرية، ولأنه ظل خلال العقد الماضي بعيدا عن ممارسة السياسة بشكل مباشر على عكس الكثير من القادة العسكريين، ثم إنه استطاع ـ وفي وقت قصير جدا من بعد وصوله إلى السلطة ـ أن يفتح قنوات اتصال مع كل الطيف السياسي.  

كل هذه الميزات تجعل من الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الرئيس الأكثر قدرة على تحقيق انتقال آمن من الديمقراطية العسكرية إلى الديمقراطية المدنية، ويمكن أن توضع قواعد هذا الانتقال وضوابطه خلال التشاور المنتظر إن استشعرت الطبقة السياسية أهمية ذلك.

إن الانتقال الآمن من "الديمقراطية العسكرية" إلى "الديمقراطية المدنية" ليس مسألة سهلة، وهناك حالات إخفاق كثيرة  في العديد من بلدان المنطقة، ولعل المثال الأبرز هو ما حدث في مصر بعد الثورة، ومن بعد فوز الرئيس الراحل محمد مرسي رحمه الله، وقد كنتُ من الذين ارتاحوا كثيرا لذلك الفوز، ولكن ما حدث بعد ذلك جعلني أتساءل: ألم يكن من مصلحة مصر وديمقراطيتها المتعثرة أن يفوز أحمد شفيق بالرئاسة؟

الراجح عندي أن فوز أحمد شفيق وهو ابن الدولة العميقة وابن المؤسسة العسكرية وابن النظام، كان سيجنب مصر انقلاب 3 يوليو 2013، فأحمد شفيق يعرف جيدا كيف يحمي نفسه من فلول نظام هو أحد رجالاته، وكان فوزه سيمكن في نفس الوقت من تحسين حال مصر على المستوى الديمقراطي ..صحيح أن ذلك الفوز لن يحقق طموح ومطالب الثورة، ولكنه مع ذلك كان سيسير بمصر في الاتجاه الصحيح، وكان سيطور ـ وبشكل آمن ـ من ديمقراطيتها. لقد كانت مصر تحتاج في تلك الفترة لرئيس يمتلك خبرة و رؤية إصلاحية، وله علاقة ما  بالدولة العميقة والمؤسسة العسكرية، أي أنها كانت بحاجة إلى رئيس من طينة أحمد شفيق. فاز محمد مرسي وارتكب بعض الأخطاء لنقص في التجربة، وتآمر عليه العسكر والدولة العميقة، وتم في نهاية المطاف الانقلاب عليه، وكان في المحصلة أن عادت التجربة الديمقراطية في مصر سنين عديدة إلى الوراء.

ما يمكن قوله كخلاصة لهذه الفقرة هو أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الرئيس الأكثر قدرة لقيادة انتقال آمن من "الديمقراطية العسكرية" إلى "الديمقراطية المدنية".

1ـ 3 غياب البديل الجاهز: لو فشل الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في مأموريته الحالية لا قدر الله، فإن موريتانيا ستدخل في نفق مظلم لا أحد يعرف كيف ستخرج منه، وذلك لعدم جاهزية بديل في الوقت الحالي، فالمعارضة لم تتمكن خلال العقد الماضي من خلق قيادات بديلة بعد تراجع أو انتهاء دور قادتها التاريخيين، والأغلبية حالها معروف، ومن هنا فإن موريتانيا لا قدرة لها على تحمل أي فشل جديد، وهذا أمرٌ يزيد من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الرئيس محمد الشيخ الغزواني، ويزيد أيضا من حجم مسؤولية النخب التي يفرض عليها الواجب الوطني العمل من أجل تجنب أي فشل جديد.

2 ـ  التحديات والعوائق

واجه الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بعض التحديات والعوائق خلال العامين الماضيين من مأموريته، بعض تلك التحديات والعوائق وجدت من يتحدث عنها، وأخذت حظها من التداول الإعلامي، كما هو الحال بالنسبة لجائحة كورونا، ولذلك فلن أتحدث عنها في هذه القراءة التحليلية، وبعضها الآخر لم يجد من يتحدث عنه، بل إنه قد لا يجد من يستشعره أصلا، ولذا فسيتم التركيز عليه في هذه القراءة التحليلية.

2ـ1 غياب حافز الإنجاز السريع لتعويض النقص في الشرعية: من المعروف أن كل رؤساء موريتانيا وصلوا إلى السلطة بشرعية غير مكتملة، حتى سيدي ولد الشيخ عبد الله رحمه الله، وهو أول رئيس مدني منتخب،  لم يسلم من التشكيك في شرعية وصوله إلى الحكم من طرف أقوى حزب معارض في ذلك الوقت.

وعلى العكس من الرؤساء السابقين فإن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الذي تم وصفه في الحملة الانتخابية بمرشح الإجماع قد قُوبل وصوله إلى الرئاسة باعترافِ ثمينِ ـ سبقه تردد قصير ـ من أهم منافسيه في الانتخابات الرئاسية. كما حصل أيضا على اعتراف من كل الطيف السياسي، وتهدئة من طرف المعارضة، ولا تُشَكك اليوم أي جهة سياسية معروفة في شرعية وصوله إلى السلطة. صحيحٌ أن لهذا الإجماع الوطني على شرعية الرئيس محمد الشيخ الغزواني فوائده الكثيرة، ولكن الصحيح أيضا أن نقص الشرعية قد يتحول في الكثير من الأحيان إلى  حافز قوي وإلى دافع حقيقي لتحقيق إنجازات سريعة وملموسة من أجل تعويض ذلك النقص في شرعية الوصول إلى الحكم، وسواء كان ذلك الوصول قد تم عن طريق انتخاب أو عن طريق انقلاب. إن أي نقص في الشرعية يتولد عنه ـ وبشكل تلقائي ـ حافز قوي لتحقيق إنجازات سريعة وملموسة لتعويض ذلك النقص، ولذا ـ وعلى سبيل المثال ـ فإن أهم إنجازات الرئيس السابق كانت خلال مأموريته الأولى، وأهم إنجازاته في المأمورية الأولى كانت خلال السنة الأولى التي أعقبت انقلابه على رئيس منتخب.

إن غياب هذا الحافز هو الذي جعل الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني يُنجز وفق وتيرة حدَّدها هو في برنامجه الانتخابي، لا وفق الوتيرة السريعة التي يتوقعها المواطنون الذين تعودوا على إنجازات سريعة وملموسة لتعويض النقص في الشرعية مع  قدوم أي رئيس جديد.

خلاصة القول في هذه الفقرة هي أنه خلال العامين الماضيين من مأمورية الرئيس كان هناك غياب ملاحظ للإنجازات السريعة التي يُراد منها تعويض النقص في الشرعية.

2ـ2 ملف فساد العشرية : لم يُفتح في هذه البلاد ملف فساد بحجم ملف فساد العشرية الذي شمل رئيسا سابقا ووزيرين أول وعدد معتبر من الوزراء وكبار المسؤولين. إن هذا الملف يعدُّ من الملفات الكبيرة جدا، وستكون له انعكاساته الإيجابية الهامة مستقبلا، فترسيخ ثقافة مساءلة الرؤساء وكبار المسؤولين وصغارهم هي أنجع وسيلة للحد من الفساد الذي استشرى في هذه البلاد، ولكن كل ذلك لا يعني عدم وجود كلفة، لابد وأن تدفع مسبقا،  عند فتح هذا النوع من الملفات الكبيرة من طرف رئيس جديد لم يُكمل عامه الثاني في الحكم.

وكما بينا في النقطة الأولى من التحديات والعوائق فإن الكثير من المواطنين كان يريد إنجازا سريعا على مستوى هذا الملف، وذلك على طريقة ما كان يحدث سابقا (لو كان الرئيس الذي جاء بعد الرئيس السابق قد وصل إلى الحكم بشرعية ناقصة لكان أول شيء سيفعله لتعويض ذلك النقص في الشرعية هو وصف النظام السابق بالنظام البائد، وسجن الرئيس السابق دون أي تحقيق أو محاكمة وفي أول يوم من ممارسة السلطة). في ملف فساد العشرية غابت سرعة الإنجاز، فاتخذ الملف مسارا بطيئا لم يعهده الموريتانيون في مثل هذه الملفات، ولكن هذا المسار البطيء رغم ما يكلف من جهد ووقت وتركيز، ورغم ما يتسبب فيه من إرباك، سيبقى هو المسار السليم الذي يجب أن يعتمده الرئيس الذي يطمح لبناء دولة المؤسسات، ويرفع  شعار الفصل بين السلطات.

إن فتح ملف فساد العشرية، وتسييره بالعرض البطيء الذي تابعنا (تحقيق برلماني ـ تحقيقات الشرطة ـ تحقيقات القضاء)، أطالت عمر الملف، وأربكت المشهد، واستنفدت الكثير من وقت وجهد وتركيز نظام قيد التشكل لم يكمل عامه الثاني في الحكم، وكان ذلك ـ وبطبيعة الحال ـ على حساب ملفات أساسية أخرى لها انعكاسات مباشرة على المواطنين.

وإذا كان هذا الملف قد أخذ الكثير من جهد ووقت وتركيز السلطة الحاكمة خلال الفترة الماضية، وتسبب في بعض الأحيان في حالات إرباك، إلا أن المتضرر الأول منه سيبقى الرئيس السابق الذي أصر على الدخول في معركة خاسرة كلفته حتى الآن الكثير، وربما تكلفه مستقبلا أكثر، وأرجو أن تسمحوا لي هنا بفتح قوس طويل، بل طويل جدا.

لقد كنتُ من الذين يسعون ـ وبصدق ـ لخروج آمن للرئيس السابق من السلطة، وذلك على  الرغم من معارضتي له، ولذا فقد كنتُ أتمنى أن تتم تسوية هذا الملف من قبل خروجه من السلطة. وأنا من الذين يرون أن الرئيس السابق، ورغم أخطائه العديدة، قد ترك خلفه إنجازات ملموسة على الأرض، ولذا فهو يستحق أن يعيش من بعد خروجه من السلطة في وطنه معززا مكرما وذلك بصفته رئيسا سابقا للجمهورية الإسلامية الموريتانية.

لقد طلبتُ من الرئيس السابق في سنتي حكمه الأخيرتين وفي أكثر من مقال أن يُسَيِّرَ ما تبقى من مأموريته الثانية تسيير مُوَدِّع للسلطة لا مُخلَّد فيها، وهو الشيء الذي كان يتطلب في نظري التهدئة مع المعارضة، ومعالجة بعض المظالم، وخاصة منها ما يتعلق برجال الأعمال، ومحاولة تصحيح ما يمكن تصحيحه من فساد واختلال في التسيير، هذا فضلا عن تهيئة الأجواء لانتخابات تشريعية ورئاسية يرضى الجميع بنتائجها.

للأسف الشديد لم يتصرف الرئيس السابق في آخر فترة حكمه تصرف مُوَدِّع، بل على العكس من ذلك، فقد زاد من مستوى الصدام مع المعارضة ومع بعض رجال الأعمال، كما زاد من حجم الفساد والاختلال في التسيير.

لقد حاولتُ بما هو متاح لي من وسائل متواضعة أن أنبه الرئيس السابق إلى أهمية التهدئة السياسية وتصحيح الاختلالات في تسيير العشرية، إن كان يريد خروجا آمنا من السلطة، وبلغ بي الحماس في هذا المجال إلى أن أعلنتُ في مقال منشور في يوم 27 ديسمبر 2018 عن استعدادي لإطلاق مبادرة لترشيحه لأغلى جائزة في العالم (جائزة مو إبراهيم)، إن هو تَصَرَّفَ تَصَرُّف مودع في آخر أيامه في الحكم.

وللعلم فإن جائزة مؤسسة مو إبراهيم  تبلغ 5 مليون دولار، وهي خاصة بالقادة الأفارقة الذين تركوا السلطة، وحققوا تناوبا سلميا في بلدانهم، وقد حصل عليها حتى الآن الرئيس محمد يوسوفو من النيجر (2021)؛ والرئيسة إلين جونسون سيرليف من ليبيريا (2017)؛ والرئيس هيفيكيبوني بوهامبا من ناميبيا (2014)؛ والرئيس بيدرو بيريس من كابو فيردي (2011)؛ والرئيس فيستوس موغاي من بوتسوانا (2008)؛ والرئيس جواكيم تشيسانو من موزامبيق (2007)؛ ومُنحت  فخرياً للرئيس نيلسون مانديلا عند إطلاقها في عام (2007). وقد حُجبت لسنوات متفرقة لعدم وجود مترشح مؤهل لها، ومن بين السنوات التي حجبت فيها العام 2019، والذي كان قد خرج فيه الرئيس السابق من السلطة.

كان من مصلحة الرئيس السابق من قبل خروجه من السلطة أن يُهدئ الصراع مع خصومه السياسيين، وأن يعالج بعض المظالم، وأن يصحح ما يمكن تصحيحه من الاختلالات التسييرية التي عرفتها العشرية، وإذا كان لا يريحه "التقاعد السياسي المبكر"، فقد كان بإمكانه أن يتقدم لمثل هذه الجائزة ولغيرها، وأن يترشح لمناصب دولية يخدم من خلالها بلده، ويزيد فيها من رصيده الشخصي، ومن المؤكد أن رئيسا مثله خرج من السلطة بعد انتهاء مأموريتيه، وكان قد نظم قمما عربية وافريقية خلال فترة رئاسته، لن يعدم منصبا إقليميا أو دوليا، ولا أظن أن خَلَفَهُ كان سَيُقصِّر في ترشيحه باسم موريتانيا لمثل تلك المناصب. ومن المؤكد كذلك أن الدعوات للمشاركة في الندوات واللقاءات الإقليمية والدولية التي تهتم بالديمقراطية والتناوب السلمي على السلطة، لم تكن لتتأخر عنه بوصفه رئيسا عربيا وإفريقيا سابقا خرج "طواعية" من السلطة من بعد انتهاء مأموريتيْه.

لقد ارتكب الرئيس السابق أخطاءً كثيرة في حق نفسه، وكان آخرها إصراره على ممارسة السياسة من بعد خروجه من السلطة. إن ما عجز الرئيس السابق عن تحقيقه خلال عشر سنوات وزيادة من التفرد بالحكم، لن يستطيع تحقيقه من خلال ممارسة السياسة وهو خارج السلطة، ثم إن الرئيس الحالي لم يكن يتدخل للرئيس السابق في إدارة البلد خلال عشريته، ولذا فمن حقه هو أيضا ومن بعد انتخابه أن يسير البلد وفق رؤيته الخاصة به، ودون أي تدخل من الرئيس السابق.

 أذكر أني في يوم 22 يوليو 2019، ومن قبل التنصيب بعشرة أيام، نشرتُ مقالا تحت عنوان : " أي دور لولد عبد العزيز في المرحلة القادمة؟". ولقد بينت في هذا المقال أن الرئيس السابق سيخرج من السلطة ويداه خاليتان من أي ورقة ضغط فعالة  يمكن أن يضغط بها على خلفه، وأن من مصلحته أن يُحافظ على الثقة مع خلفه وأن يعززها، وأن يبتعد بشكل كامل عن السياسة والإعلام، وكانت هذه هي خاتمة المقال المذكور: " تقول الفرضية الأنسب بأنه على الرئيس المنتهية ولايته أن يخرج بشكل كامل من المشهد السياسي فذلك هو الأسلم له ولموريتانيا، وإن هو أصر على ممارسة "حقه" السياسي، فسيكون من حق خصومه السياسيين أن يصروا هم أيضا على ممارسة حقوقهم السياسية، ومن تلك الحقوق المطالبة بفتح تحقيق شامل حول تسيير شؤون البلاد خلال العشرية الماضية." انتهى الاستشهاد.

وأذكر أيضا أني وجهتُ كلاما بنفس المضمون لمن يعتبرون أنفسهم من مناصري الرئيس السابق، وكان ذلك من خلال مقال نشرته من قبل عودة الرئيس السابق إلى أرض الوطن، وتحديدا في يوم 15 أكتوبر 2019، وكان تحت عنوان "ومن المناصرة ما قتل "، وقد جاء فيه وبالحرف الواحد :" إن أي محاولة لفرض أي دور سياسي للرئيس السابق ستفشل، ولن يكون من نتائجها إلا أنها ستجعل الرئيس السابق هدفا سهلا ومكشوف الظهر للنيران الصديقة ولنيران الخصوم، ولذلك فإن أكبر خدمة يمكن أن تُقَدَّم للرئيس السابق ـ لمن تهمه بحق مصلحة الرئيس السابق ـ  هي أن يُبعد اسمه عن التداول اليومي، وعن النقاش السياسي الدائر حاليا، وأن يتركه يواصل ـ وبأمان ـ تنقلاته بين الدول الأوروبية." انتهى الاستشهاد.

لم تتوقف المحاولات عند هذا الحد، بل وصل الأمر في بعض الأحيان، وفي إطار مبادرة مشتركة مع صديق مقرب جدا من الرئيس السابق، أن تم الوعد بلقاء معه، وقد كنتُ عازما أن أحدثه بمضمون الكلام أعلاه، وبعيدا عن الإعلام، ولكن، وفي آخر لحظة تم إلغاء اللقاء، ولأسباب لم تُفسر لي حتى الآن.

انتهى القوس الطويل جدا، والذي كنتُ قد فتحته مع التحدي الثاني.

2ـ3 عدم بلورة خطاب سياسي جديد على مقاس الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ونظامه الحاكم: لم يتمكن الجناح السياسي والإعلامي للنظام حتى الآن من بلورة خطاب سياسي مفصل على مقاس نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، والذي يُفترض فيه أنه قد بدأ يتشكل منذ فاتح أغسطس 2019. كما أن هذا الجناح لم يستطع حتى الآن أن يُبرز في واجهته السياسية شخصيات جديدة تُحسب فقط على الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.

إنه من الصعب جدا بلورة خطاب سياسي يجمع بين أمرين في غاية التناقض، وهما:

ـ فساد العشرية، والذي يظهر من خلال فتح ملف عن فسادها يعتبر هو أضخم ملف فساد يُفتح في كل تاريخ البلد؛

ـ الاحتفاظ في الوقت نفسه بنفس الواجهة السياسية للعشرية، والتي فُتِح ضدها أضخم ملف فساد في تاريخ البد.

ختاما

إليكم أهم الاستنتاجات التحليلية التي يمكن أن نخرج بها من هذه الحلقة التمهيدية الأولى:

1 ـ أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الشخص الوحيد الذي كان قادرا على تحقيق التناوب السلمي على السلطة في العام 2019، وعلى تحصين هذا التناوب من كل التهديدات المتوقعة؛

2 ـ أنه هو الأقدر على تحقيق انتقال آمن من "الديمقراطية العسكرية" إلى "الديمقراطية المدنية"؛

3 ـ عدم جاهزية بديل في الوقت الحالي؛

4 ـ غياب ملاحظ للإنجازات السريعة التي يُراد منها تعويض النقص في الشرعية؛

5 ـ استنفاد ملف العشرية للكثير من الوقت والجهد والتركيز، وكان ذلك ـ وبطبيعة الحال ـ على حساب ملفات أساسية أخرى لها انعكاسات مباشرة على المواطنين؛

6 ـ عدم القدرة حتى الآن على بلورة خطاب سياسي جديد، وعدم التمكن من الدفع بواجهة سياسية جديدة تبشر بميلاد نظام جديد في فاتح أغسطس من العام 2019.

يتواصل إن شاء الله..   

حفظ الله موريتانيا...