الثلاثاء، 26 سبتمبر 2023

أنتَ هو من يعيق الإصلاح!


يحكى فيما يحكي، ومع شيء من التصرف، أن أبا مزق خريطة للعالم كانت توجد على وجه ورقة، ثم ناول الخريطة الممزقة لابنه الصغير وطلب منه إعادة تنظيم قطع الورقة الممزقة، حتى تعود خريطة العالم إلى شكلها الأصلي.

تمكن الطفل الصغير بعد أقل من خمس دقائق من أن يعيد خريطة العالم إلى شكلها الصحيح، أتدرون كيف تمكن الطفل الصغير من إعادة خريطة العالم إلى شكلها الأصلي خلال خمس دقائق فقط؟

لقد استطاع هذا الطفل الصغير أن يُعِيدَ خريطة العالم  الممزقة إلى شكلها الأصلي، وذلك بعدما اكتشف أن مقلوب الورقة الذي رُسمت عليه خريطة العالم كانت توجد به صورته الشخصية التي وضعها الأب لكي يقدم لابنه درسا عميقا، لن يتعلمه في أي مكان آخر.

كان من السهل جدا على الطفل أن يعيد صورته الشخصية الممزقة إلى شكلها الأصلي، وهو ما انعكس ـ وبشكل تلقائي ـ على الوجه الآخر من الورقة، حيث عادت خارطة العالم، في الوجه الآخر، إلى شكلها الأصلي من قبل تمزيق الورقة.

إن الدرس الذي حاول الأب أن يقدمه لابنه من خلال هذه القصة هو أن العالم يمكن إصلاحه من خلال إصلاح أو صلاح إنسان واحد.

وإذا ما اختزلنا خريطة العالم في خريطة موريتانيا، فسيكون بإمكاننا أن نقول ـ اعتمادا على هذه القصة ـ بأنه بإمكان كل واحد منا أن يُصلِحَ من حال موريتانيا، إذا ما أصَلَحَ هو أولا من حاله، وهو ما يعني بصياغة أخرى، أن كل واحد منا هو من يعيق إصلاح موريتانيا، وذلك لأنه لم يُصلح من نفسه.

فالمدرس الذي يغيب عن التلاميذ في مدرسة نائية بمبررات زائفة هو من يعيق الإصلاح في موريتانيا؛

والطبيب الذي يتغيب أو يتكاسل في المستشفيات العمومية، ويكون نشطا ومتحمسا في عيادته الخاصة هو من يعيق الإصلاح في موريتانيا؛

والسياسي الذي تناقض أفعاله أقواله، والذي يَضَعُ مصلحته الخاصة قبل مصلحة الوطن هو من يعيق الإصلاح في موريتانيا؛

والناشط الجمعوي الذي يسترزق بترخيص جمعية في حقيبة، ودون أي عمل ميداني هو من يعيق الإصلاح في موريتانيا؛

ورجل الأعمال الذي يتحايل على الضرائب ويستورد موادا غذائية أو طبية مزورة، ويرفع الأسعار دون مبرر هو من يعيق الإصلاح في موريتانيا؛

والموظف الذي لا يفكر إلا فيما يحقق له مصلحة خاصة، ولا تهمه مصلحة البلد هو من يعيق الإصلاح في موريتانيا؛

ورجل الأمن الذي يترك سيارة تتجاوز بحمولة زائدة عندما تمر به في نقطة تفتيش مقابل رشوة هو من يعيق الإصلاح في موريتانيا؛

والسائق الذي يتجاوز إشارة الضوء الحمراء معرضا حياته وحياة الآخرين للخطر هو من يعيق الإصلاح في موريتانيا؛

والمدون الذي لا يقلل من حجم الفجوة بين ما ينشر من كلام جميل على حسابه، وما يمارس من أفعال مناقضة لذلك الكلام الجميل على أرض الواقع هو من يعيق الإصلاح في موريتانيا؛

والمواطن الذي عندما يجد أمامه صفا من المواطنين طلبا لخدمة ما، لا يدخل في الصف، وإنما يبحث عن طرق ملتوية للحصول على الخدمة من خارج الصف هو من يعيق الإصلاح في موريتانيا.

إن قائمة معيقي الإصلاح في موريتانيا تطول،  ولا تكفيها مساحة ضيقة كهذه، ولكن يمكن اختصارها من خلال صيغة أخرى مفادها أني أنا وأنتَ وأنتِ وهو وهي ونحن وأنتم وأنتن وهم وهن، هم من يعيق الإصلاح في موريتانيا، وعندما يقرر كل واحد منا ـ ومن الآن ـ أن يكون مواطنا صالحاً، حتى ولو ظل المجتمع كله فاسدا، فالذي سيحصل بعد ذلك وخلال خمس دقائق فقط هو أن المجتمع سيتحول بكامله إلى مجتمع صالح، وحينها ستزول كل عوائق الإصلاح، وبالتالي فإن موريتانيا ستدخل في مسيرة إصلاح حقيقي وجاد.

إن العقبة التي تقف ضد الإصلاح في هذه البلاد،  وهي أم المشاكل لدينا، هي أن كل واحد منا يرفض أن يكون مواطنا صالحا من قبل أن يصلح حال كل الموريتانيين وبملايينهم الأربعة أو الخمسة، أي أن يصلح حال الرئيس، والوزير، والسياسي، والمثقف، والطالب، والغني، والفقير، والشاب، والشيخ، والمرأة، والرجل، والمتسول، وعابر السبيل، والحي، والميت...عندما يصلح حال كل هؤلاء، أي عندما يصلح المجتمع كله، فحينها لن يُطلب منك ـ يا هذا ـ  أن تكون مواطنا صالحا، فأنت حينها ستكون مواطنا صالحا رغم أنفك، وإلا فسينظر إليك المجتمع الصالح بازدراء، وربما يلقى بك في السجن لفسادك.

إنه قرار شخصي واحد سيكون كافيا لإصلاح موريتانيا بكاملها، وملخص هذا القرار هو أن يقرر كل واحد منا الآن أن يكون مواطنا صالحا، أفلا يمكن لي أنا ـ مثلا ـ أن أقرر من الآن أن أكون مواطنا صالحا حتى ولو ظل المجتمع  من حولي كله فاسدا؟ ألا يمكن لكَ أنتَ أن تتخذ مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن لكِ أنتِ أن تتخذين مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن له هو أن يتخذ مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن لها هي أن تتخذ مثل ذلك القرار؟

قرر الآن، وإلا فعليك أن تعلم بأنك أنتَ ـ وأنتَ وحدك ـ هو من يعيق الإصلاح في هذه البلاد المتعطشة للإصلاح.

حفظ الله موريتانيا...

الأربعاء، 20 سبتمبر 2023

ما هي اللغة الرسمية لموريتانيا؟

 


هذا ما حدث خلال الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، وذلك على الرغم من مرور أكثر من 32 سنة على المصادقة على دستور 20 يوليو 1991، والذي نصت مادته السادسة على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية.

(1)

للمرة الثانية يتحدث فخامة رئيس الجمهورية محمد الشيخ الغزواني بلغة أجنبية خلال مشاركته في أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة. كانت المرة الأولى في يوم 01 نوفمبر 2021، وكانت المرة الثانية مساء أمس الثلاثاء الموافق 19 سبتمبر 2023 في قمة أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، على هامش أشغال الدورة العادية الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث ألقى فخامته خطابا بلغة أجنبية في منبر أممي تعتبر اللغة العربية واحدة من لغاته الرسمية، وتكرار حديث الرئيس بلغة أجنبية في منبر أممي هو أمرٌ محير، ويطرح أكثر من سؤال.

فلماذا يصر فخامة رئيس الجمهورية على مخالفة المادة السادسة من الدستور الموريتاني بحديثه بلغة غير دستورية في منبر أممي جعل من اللغة العربية إحدى لغاته الرسمية الست؟ ولماذا يُعطي الرئيس الانطباع لقادة العالم بأن اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية هي اللغة الفرنسية وليست اللغة العربية؟

لو كان الرئيس لا يستطيع أن يتحدث باللغة العربية، لكان بالإمكان تفهم حديثه بلغة أجنبية، ولكن ما يحير في الأمر هو أن الرئيس يتحدث بشكل جيد باللغة العربية، وهو قادر على أن يبهر القادة العرب بلغته العربية الجميلة، فلماذا اختار الرئيس أن يتحدث بلغة أجنبية في منبر أممي؟

(2)

للمرة الثانية أيضا يتحدث رئيس أعلى هيئة دستورية في البلاد (المجلس الدستوري) بلغة أجنبية خلال ترؤسه لحفل تنصيب. كانت المرة الأولى خلال حفل تنصيب رئيس الجمهورية (1 أغسطس 2019). أما المرة الثانية، فكانت اليوم (20 سبتمبر 2023) خلال تنصيب زعيم مؤسسة المعارضة الموريتانية.

في كلا التنصيبين افتتح رئيس المجلس الدستوري حديثه بكلمات عربية، وذلك من قبل أن يبدأ خطابه الرسمي بلغة أجنبية لا ذكر لها إطلاقا في أي مادة من مواد الدستور الموريتاني، البالغ عددها 102 مادة.

كان من الأفضل في حالة عجز رئيس المجلس الدستوري عن الحديث باللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية أن يتحدث بإحدى لغاتنا الوطنية، ولو أنه تحدث بإحدى لغاتنا الوطنية لكان في ذلك احترام للدستور الموريتاني، ولكان فيه أيضا إعطاء قيمة لإحدى لغاتنا الوطنية، فلماذا اختار رئيس المجلس الدستوري أن يتحدث بلغة أجنبية بدلا من التحدث بإحدى لغاتنا الوطنية؟

(3)

في نفس هذا اليوم طالعتُ كذلك خبرا عن وصول وفد برلماني موريتاني برئاسة نائب رئيس البرلمان "موسى دمبا صو" للصين، وذلك لتمثيل بلادنا في النسخة السادسة من المعرض العربي الصيني، ومن المعروف أن نائب رئيس الجمعية الوطنية لا يستطيع أن يتحدث باللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية، وهو ما ظهر خلال ترؤسه لأول جلسة للبرلمان الحالي، ولذا فمن المؤكد أنه سيتحدث باللغة الفرنسية في معرض خاص بالدولة العربية، ومنظم في دولة تهتم باللغة العربية أكثر من اهتمامها باللغة الفرنسية، فلماذا اختير لرئاسة وفد سيمثل بلادنا في المعرض العربي الصيني نائب لا يستطيع أن يتحدث باللغة العربية أمام الوفود العربية المشاركة في  هذا المعرض؟

في المجمل، فإن خطابات رئاسة الجمهورية والمجلس الدستوري والجمعية الوطنية، كانت كلها باللغة الفرنسية خلال الأربع وعشرين ساعة الأخيرة، وكانت على النحو التالي:

1 ـ فخامة رئيس الجمهورية يتحدث في قمة أهداف التنمية المستدامة باللغة الفرنسية؛

2 ـ رئيس المجلس الدستوري يتحدث في حفل تنصيب زعيم المعارضة باللغة الفرنسية؛

3 ـ نائب رئيس الجمعية الوطنية يتحدث أمام المعرض العربي الصيني باللغة الفرنسية؛

يمكن أن نُضيف لكل هذا أن كل الوثائق الرسمية التي تصدر عن الوزارة الأولى وعن أغلب الوزارات هي باللغة الفرنسية حصرا، وأن اللغة الرسمية لإجراءات الصفقات العمومية هي اللغة الفرنسية حصرا، وأن اللغة الرسمية للبنك المركزي الموريتاني، وكل البنوك العاملة في موريتانيا هي اللغة الفرنسية حصرا. لنُذكر هنا بأن الشرط الأول في تقريب خدمات الإدارة من المواطن يتمثل في مخاطبته بلغته الرسمية التي يفهمها أو يفترض فيه أنه يفهمها.

(4)

لا أخفيكم أني عشتُ اليوم ظرفية نفسية صعبة جدا، وذلك بعد أن تابعتُ فخامة رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الدستوري وربما نائب رئيس الجمعية الوطنية يتحدثون كلهم بلغة أجنبية، وهم الذين يمثلون أعلى سلطة تنفيذية، وأعلى سلطة دستورية، وأعلى سلطة تشريعية في البلاد.

في ظل هذه الوضعية النفسية الصعبة التي عشتها اليوم، أرسل لي أحد المتابعين سامحه الله، وكأنه أراد أن يزيد همومي بهم جديد، نسخة من تعميم صادر اليوم عن الإدارة الجهوية للتعليم الثانوي بكيدي ماغا باللغة الفرنسية فقط، وموجه لمديري الثانويات في الولاية، ويوم أمس أشار إليَّ أحد المتابعين سامحه الله هو أيضا بخصوص منشور (إعلان اكتتاب بتاريخ 27 يوليو 2023) على صفحة شركة "آفرو بورت" على الفيسبوك، والتي تتولى تسيير مطار نواكشوط الدولي (أم التونسي)، وقد تم اشتراط المعرفة الجيدة للغة الفرنسية والانجليزية لكل من يريد أن يترشح للوظائف المطلوبة في الإعلان، والذي جاء فيه أيضا أن معرفة اللغات الأخرى مهمة، ولم يأت أي ذكر للغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية في هذا الإعلان.

بين الأمس واليوم تلقت اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية الكثير من الطعنات، وقد تعودنا في هذه البلاد أن المصائب لا تأتي فرادى للغة العربية. ومما يزيد من حجم المصائب التي تتلقاها اللغة العربية في هذه البلاد، أن المعارضة الموريتانية، والتي نُصِّب زعيمها اليوم، تنتقد الحكومة على كل تقصير، ولا تستثني من انتقادها للحكومة إلا التقصير في مجال ترسيم اللغة العربية.

لم يستنكر قادة المعارضة حديث رئيس المجلس الدستوري أمامهم بلغة أجنبية (لا هي لغة رسمية ولا هي لغة وطنية) خلال حفل تنصيب زعيمهم الذي نُظم اليوم، ولم يأت أي ذكر للغة العربية في الميثاق الجمهوري الذي أعده حزبان من أحزاب المعارضة. لقد تحدثت هذه الوثيقة عن كل شيء تقريبا، ولم تستثن إلا اللغة العربية مع أنها تحدثت عن بقية لغاتنا الوطنية.

ليس لنا في ختام هذا المقال إلا أن نسأل: ما هي اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية؟

يمكن أن نجيب على هذا السؤال بإجابتين: الأولى تقول إنها اللغة العربية بنص الدستور الموريتاني المكتوب، والثانية تقول إنها اللغة الفرنسية بنص دستور الأمر الواقع.

 نرجو أن يكون الخطاب الثاني لفخامة رئيس الجمهورية في أشغال الدورة العادية الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة باللغة العربية.  

حفظ الله موريتانيا..

الأحد، 17 سبتمبر 2023

لا إصلاح دون عقاب


هناك ثلاث خطوات في مجال الإصلاح مترابطة فيما بينها بشكل قوي جدا، فإذا ما اتخذت السلطة الخطوة الأولى من هذه الخطوات، وجب عليها اتخاذ الخطوة الثانية، وإذا ما اتخذت الخطوة الثانية كان لابد من اتخاذ الخطوة الثالثة.

إنها خطوات في غاية الأهمية، وفي غاية الترابط، ولا يمكن أن نتوقع إصلاحا دون الأخذ بها مجتمعة، أما إذا لم يؤخذ بها مجتمعة، أي إذا أُخِذ باثنتين وتركت الثالثة مثلا، فإن النتائج في هذه الحالة ستكون سلبية، بل وكارثية.

الخطوة الأولى: إعطاء صلاحيات واسعة للوزراء وكبار الموظفين

هناك من الرؤساء من يتولى إدارة كل الأمور، ويتدخل لوزرائه وكبار موظفيه في كل كبيرة وصغيرة، وهناك من الرؤساء من يمنح لوزرائه وكبار موظفيه صلاحيات واسعة في قطاعاتهم، وهذا النمط الأخير هو الأفضل، فالقائد الناجح هو الذي يصنع قادة من حوله، ولكن منح صلاحيات واسعة للوزراء وكبار الموظفين، إذا لم تتبعه الخطوتان اللتان سأتحدث عنهما لاحقا، سيتحول إلى كارثة على النظام وعلى البلد. يمكن القول بخصوص هذه الخطوة أن فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني قد منح لوزرائه وكبار موظفيه صلاحيات واسعة جدا خلال السنوات الأربع التي مضت من مأموريته الأولى؛

الخطوة الثانية: الرقابة ومتابعة الأداء 

إن منح صلاحيات واسعة للوزراء وكبار الموظفين يجب أن تصاحبه رقابة صارمة لأداء الجميع تمكن من تحديد أصحاب الأداء الجيد وأصحاب الأداء السيء. من الملاحظ أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على اطلاع كبير بأداء وزرائه وكبار موظفيه إيجابيا كان أو سلبيا، وأنه على دراية واسعة بما يقع من اختلالات ونواقص، وقد تحدث عن تلك الاختلالات والنواقص في أكثر من خطاب، ولعل خطابه بمناسبة تخرج دفعة جديدة من المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء (24 مارس 2022)، كان هو الخطاب الأوضح، دون أن يعني ذلك أن خطاباته الأخرى التي جاءت بعد ذلك الخطاب لم تكشف هي الأخرى عن بعض الاختلالات في الأداء الحكومي. 

يمكن أن نضيف إلى ذلك الزيارات الميدانية لبعض المؤسسات الخدمية، ولمشاريع قيد الإنجاز، وهي الزيارات التي تزايدت وتيرتها في الفترة الأخيرة، ومن المؤكد أنها أتاحت للرئيس المزيد من الاطلاع على ما يجري في بعض القطاعات.

تحدث الرئيس عن بعض الاختلالات والنواقص في أداء بعض الإدارات والمؤسسات على هامش زياراته تلك، وقد استحسن الكثير من المواطنين صراحة الرئيس عند حديثه عن تلك النواقص والاختلالات، ولكن ذلك الحديث، والذي يعدُّ في غاية الأهمية، قد يتحول إلى أمر سلبي، وقد يزيد من تذمر المواطنين إذا لم تتبعه إجراءات عقابية قوية سنتحدث عنها في الخطوة الموالية.

الخطوة الثالثة: الصرامة في المحاسبة 

إن منح الصلاحيات الواسعة للوزراء وكبار الموظفين، وحديث الرئيس عن وجود نواقص واختلالات، إذا لم تتبعهما محاسبة صارمة للمسؤولين عن تلك النواقص والاختلالات، فإنهما ستزيدان من سخط المواطنين، وستكون نتائجهما سلبية على النظام وعلى الدولة.

ومما يبشر على أن هناك إرادة في تفعيل الخطوة الثالثة (المحاسبة)، هو أنه قد لوحظ في الفترة الأخيرة، أن زيارات الرئيس الميدانية، واطلاعه المباشر على بعض النواقص في الأداء، تبعتهما إقالات لبعض الموظفين، وهذا أمرٌ جيد، ومن الضروري أن يستمر، فباستمراره ستكتمل خطوات الإصلاح، وبعدم استمراره فإن الخطوة الأولى والثانية ستكون نتائجهما سلبية على النظام وعلى الدولة.

نعم لتفعيل الخطوة الثالثة من خطوات الإصلاح، ونعم لمعاقبة كل موظف لم يكن أداؤه جيدا، فأن يُمنح موظف ما صلاحيات واسعة، ثم يظهر بعد ذلك أن أداءه لم يكن على المستوى، ففي هذه الحالة يكون من الواجب إقالته، بل ومحاسبته إن كان في تسييره شبهة فساد. 

إن عدم محاسبة الموظفين المقصرين، بعد أن منحوا صلاحيات واسعة، وبعد أن ظهر ضعف أدائهم سيؤدي حتما إلى المزيد من الفساد والتسيب الإداري.

ـ بعد أربع سنوات من إعطاء صلاحيات واسعة للوزراء وكبار الموظفين، لابد أن تكون هناك سنة للحساب؛

ـ بعد حديث الرئيس عن وجود اختلالات ونواقص خلال السنوات الأربع الماضية، لابد أن تكون هناك سنة يُحاسب فيها من يتحمل مسؤولية تلك النواقص والاختلالات؛ 

ـ بعد فتح ملف فساد العشرية، لابد من فتح ملفات فساد أخرى قد تكون شهدتها المأمورية الأولى، ويجب أن يكون التركيز على المشاريع التي لم تنفذ في آجالها، أو تلك التي نفذت دون أي احترام للمعايير.

من المهم أن نشير في الأخير إلى أن هذه الخطوات الثلاث يجب أن يمهد لها بمراعاة الكفاءة والاستقامة في ملف التعيينات في الوظائف عموما، وفي الوظائف السامية خصوصا، وبشكل أخص في الوظائف ذات الصلة بالقطاعات الخدمية الحساسة، أو ذات الصلة بالقطاعات الإنتاجية.


حفظ الله موريتانيا..

الخميس، 14 سبتمبر 2023

لماذا تركز على قضية اللغة وتتجاهل القضايا الأخرى؟

 


يُطرح عليَّ هذا السؤال بشكل متكرر، وإليكم الجواب في عشر نقاط:

1- لقد أصبح من اللازم الانشغال بترسيم اللغة العربية بشكل نهائي، وذلك بعد مرور 63 سنة على استقلالنا الوطني، و32 سنة على المصادقة على دستورنا الذي جعل من اللغة العربية لغة رسمية وحيدة للجمهورية الإسلامية الموريتانية، فهل تريدوننا أن ننتظر أكثر، أي أن ننتظر قرنا كاملا بعد الاستقلال، ونصف قرن على المصادقة على الدستور لحسم مسألة اللغة؟؛

2- لأن النخب السياسية ـ وخصوصا المعارضة منها ـ تهتم بكل المواضيع، وتتجاهل فقط مسألة تهميش اللغة الرسمية في الإدارة والتعليم، ولذلك فإن الاهتمام باللغة العربية في ظل هذا التجاهل العام أصبح "فرض عين" بالنسبة لي ولغيري من المطالبين بتفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني؛

3- لأنه لا نهضة بدون إصلاح التعليم، ولا إصلاح للتعليم من دون التدريس باللغة الأم، ومن هنا فيظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بإصلاح التعليم؛

4 - لأنه لا إصلاح إداري دون تقريب خدمات الإدارة من المواطن، والشرط الأول في تقريب خدمات الإدارة من المواطن يتمثل في مخاطبته بلغته الرسمية التي يفهمها أو يفترض فيه أنه يفهمها. ومن هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بإصلاح الإدارة؛

5- لا يمكن تحقيق تنمية دون محاربة الفساد، ولا محاربة للفساد دون رقابة شعبية، ولا يمكن أن تكون هناك رقابة شعبية ولغة الصفقات العمومية التي تستنزف نصف الميزانية تقريبا هي لغة أجنبية لا تفهمها نسبة 90% من المواطنين. من هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بمحاربة الفساد؛

6 - من أهم حقوق المستهلك أن تصله كل المعلومات المتعلقة بالمنتج أو السلعة أو الخدمة بلغته الرسمية. ومن هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بحقوق المستهلك؛

 

7- لا نهضة للمجتمع دون ترقية اجتماعية، ولا ترقية اجتماعية ما دام حملة الشهادات بالعربية (أبناء الفقراء) يقصون من الوظائف لصالح أبناء الميسورين الذين يتمكنون من دراسة اللغة الفرنسية في المدارس الخاصة أو خارج البلاد. ومن هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بمحاربة الفوارق الاجتماعية؛

8 - لا يمكن أن نتحدث عن دولة قانون ومؤسسات دون احترام الدستور الموريتاني، ولا يمكن أن نتحدث عن احترام الدستور الموريتاني ونحن ننتهك يوميا مادة من مواده التي تحتل رتبة عليا من حيث الترتيب. ومن هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا ببناء دولة القانون والمؤسسات؛

9- لا يمكن أن نتحدث عن وحدة وطنية ونحن نعيش فوضوية لغوية تسمح للبعض بأن يتحدث بلغة غير دستورية وغير وطنية في المناسبات الرسمية، فمثلا رئيس أعلى هيئة دستورية في البلاد تحدث بلغة غير دستورية أثناء تنصيب رئيس الجمهورية!! كان عليه في حالة عدم القدرة على الحديث باللغة الرسمية أن يتحدث بإحدى لغاتنا الوطنية، بدلا من الحديث في مناسبة كهذه بلغة أجنبية. لا وحدة وطنية دون لغة رسمية يتحدثها الجميع. ومن هنا يظهر أن من يهتم بقضية اللغة يهتم أيضا بالوحدة الوطنية؛

10 – هناك فرصة ثمينة متاحة لنا الآن إن لم نستغلها في حسم مسألة اللغة، فسيعني ذلك أنه لن يكون بإمكاننا أن نحسم هذه المسألة مستقبلا. فمن المعروف أن فرنسا هي من كانت تحول دون حسم مسألة اللغة، وذلك حتى تبقى لغتها مسيطرة في التعليم والإدارة في بلدنا، ومن المعروف أيضا أن فرنسا اليوم ليست في أحسن أحوالها، وأن هناك موجة من السخط ضدها تعم مستعمراتها القديمة في إفريقيا السوداء.

هناك فرصة علينا أن نستغلها، وأنا لستُ من الذين يُطالبون بإعلان العداء ضد فرنسا، بل إني أدعو إلى الحفاظ على علاقات جيدة معها، ولكن بشرط أن تقبل فرنسا بأننا دولة مستقلة لها سيادتها اللغوية، وأنه ليس من حقها أن تتدخل لنا في سياستنا اللغوية.

يمكننا في هذه البلاد أن نجعل من اللغة الفرنسية لغة أجنبية أولى، وفاءً لعلاقاتنا التاريخية بفرنسا، وذلك على الرغم من أن مصلحتنا تقتضي أن نجعل من اللغة الإنجليزية اللغة الأجنبية الأولى في بلادنا، وذلك لأنها أولا هي لغة العلم والعالم في هذه الفاصلة من تاريخ البشرية، ولأنها ثانيا لغة "شبه محايدة" لا تحمل شحنة استعمارية، ولم تحاول الدول العظمى الناطقة بها أن تفرضها على بقية دول العالم بالقوة، عكس اللغة الفرنسية التي تحمل تلك الشحنة الاستعمارية، وذلك بعد أن جعلت منها فرنسا إحدى أقوى وسائلها لبسط سيطرتها على مستعمراتها القديمة.

يمكننا في هذه البلاد أن نجعل من اللغة الفرنسية اللغة الأجنبية الأولى في بلدنا، وسيكون ذلك في مصلحة فرنسا أولا، أما إذا ما استمرت فرنسا في ضغطها من أجل انتزاع مساحة للغة الفرنسية لا تستحقها، وأن يكون ذلك على حساب لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية، فلتعلم فرنسا أن ذلك قد يسرع من وصول موجة السخط ضدها إلى بلادنا، وحينها فسترتفع الأصوات للمطالبة بالتخلي نهائيا عن اللغة الفرنسية، وجعل اللغة الإنجليزية لغة أجنبية أولى ووحيدة في بلادنا.

حفظ الله موريتانيا..

الأحد، 10 سبتمبر 2023

أيها المواطنون الصالحون: أنتم المشكلة!

 


عرفت أوروبا في القرن التاسع عشر تزايد نسبة الوفيات لدى الأمهات بعد الولادة بسبب حمى النفاس. كان عدد الوفيات مرتفعا جدا، وقد انشغل الأطباء بالبحث عن أسباب هذا الارتفاع الكبير في الوفيات، ولكن دون جدوى. في تلك الفترة كان بعض الأطباء ينتقل من تشريح الجثث مع طلابه في الصباح إلى أقسام توليد النساء في المساء دون غسل اليدين، ولم تكن حينها توجد قفازات طبية، ولا تطعيم وتطهير. وقد لاحظ الطبيب المجرِّي "أجناتس سيملفيس" الذي كان يعمل في قسم التوليد بمستشفى فيينَّا العام، أن نسبة الوفيات لدى الأمهات في جناح الأطباء أعلى بكثير من نسبة الوفيات في جناح القابلات، وقد توصل هذا الطبيب إلى استنتاج صادم مفاده أن الأطباء كانوا هم أصل المشكلة.

لم يكن القول بأن الأطباء هم السبب في وفاة مرضاهم بالقول البسيط، ولم يكن الأطباء ليقبلوا بتلك الإهانة، ولذلك فقد تعرض الطبيب "أجناتس سيملفيس" لهجوم شديد من زملائه الأطباء، فرُفض طلبه بغسل اليدين، وطُرد من المستشفى الذي كان يعمل به، رغم النتائج الإيجابية الكبيرة التي تتحقق عند الالتزام بغسل اليدين، وتسبب له ذلك في حالة غضب شديد، وإصابة بالاكتئاب، وأصبح سلوكه عدوانيا، وألقاه أحد زملائه في عنبر المجانين بأحد المستشفيات، فتشاجر مع الحراس، وأصيب بجرح في يده تحول إلى غرغرينا، وكان ذلك هو السبب المباشر في وفاته.

تم الاعتراف بجهود الطبيب "أجناتس سيملفيس" بعد قرن من وفاته، فلقب بمنقذ الأمهات، وثبت اليوم لدى الجميع أن غسل اليدين وتعقيمهما يؤدي إلى ممارسة طبية أكثر أمانا، ويحد من نقل العدوى، ويقلل من الوفاة الناتجة عن نقل الجراثيم من الطبيب إلى المريض.

هذا السرد التاريخي لبعض تفاصيل حياة طبيب قال لزملائه الأطباء بأنهم هم المشكلة، أردتُ من خلاله أن أبين أنه في بعض الأحيان قد تأتي المشكلة ممن كنا نتوقع منهم حل تلك المشكلة.

فلنترك أوروبا في القرن التاسع عشر، ولنتحدث عن موريتانيا في العام 2023، ولنترك الطب ولنتحدث في السياسة، فإذا ما قمنا ذلك، فسيكون بإمكاننا ـ وعلى طريقة الطبيب المَجَري ـ أن نقول لمن يرى نفسه مواطنا صالحا: أنتَ هو المشكلة!

نعم إن المواطنين الصالحين في هذه البلاد، إذا لم يحاولوا أن يتحولوا إلى مواطنين مُصْلِحين وإلى نخبة مُصلحة سيصبحون هم المشكلة.

وعملية التحول هذه من نخب صالحة إلى نخب مُصلحة، تتطلب تجاوز بعض نقاط الضعف التي عُرِف بها أغلب من يعدُّ نفسه مواطنا صالحا، ومن أهم نقاط الضعف تلك، يمكننا أن نذكر:

1 ـ تتمثل نقطة الضعف الأولى التي تعاني منها "النخب الصالحة" في استقالة هذه النخب من قضايا الشأن العام، وقبولها لمواصلة التفرج على ما يجري في البلد دون فعل أي شيء. وعلى العكس من ذلك فإن أولئك الذين يصنفون ضمن النخب الفاسدة لا يقبلون بالتفرج، وإنما يتحركون هنا وهناك ليس من أجل إصلاح البلد، وإنما من أجل إفساده؛

2 ـ فشل هذه النخب الصالحة ـ والتي هي نخب في منتهى الخمول ـفي إطلاق مبادرات إصلاحية، أو في خلق عناوين سياسية أو جمعوية تمكنها من توحيد الجهود في عمل سياسي أو جمعوي هادف يعود بالنفع على الوطن. وعلى العكس من ذلك فإن أولئك الذين يصنفون ضمن النخب الفاسدة يعرفون بالحيوية والنشاط والقدرة على إطلاق المبادرات، وخلق مساحات للعمل المشترك ليس لإصلاح البلد، وإنما لإفساده؛

3 ـ الانسحاب المبكر من معركة الإصلاح. هناك قلة من المواطنين الصالحين تقبل بالنزول إلى الميادين من أجل الإصلاح، ولكن هذه القلة القليلة من المواطنين الصالحين إذا لم تشاهد ثمار جهودها تنضج في وقت مبكر، وإذا لم تجد من يقدر تلك الجهود، فإنها تسارع إلى الانسحاب من معركة الإصلاح. هذه الطائفة مشكلتها قصر النفس النضالي، ومن المعلوم أن معركة الإصلاح تحتاج إلى نفس نضالي طويل؛

إن اكتفاء النخب الصالحة بالتفرج على ما يحدث في البلد دون فعل أي شيء، وسرعة انسحاب القلة القليلة من هذه النخب الصالحة التي تقبل بالنزول إلى الميادين عند خسارة أول معركة من معارك الإصلاح، إن كل ذلك ترك هموم البلد ومشاكله لنخب انتهازية تضع مصالحها الخاصة في أعلى سلم الاهتمامات، ومصلحة الموالاة إن كانت موالية أو مصلحة المعارضة إن كانت معارضة في الرتبة الثانية في السلم، في حين تكون المصلحة العليا للبلد في الرتبة الثالثة، أي في أدنى رتبة.

إن البلد بحاجة اليوم ـ أكثر من أي وقت مضى ـ إلى نخب صالحة ومُصلحة، تضع المصلحة العليا للبلد في الرتبة الأولى في سلم الاهتمامات، ومصلحة الموالاة إن كانت موالية، والمعارضة إن كانت معارضة في الرتبة الثانية، في حين تكون المصالح الشخصية الضيقة في الرتبة الثالثة، أي أدنى رتبة في سلم الاهتمامات.

حفظ الله موريتانيا..

الاثنين، 4 سبتمبر 2023

تواصل واللغة العربية ...هل من توبة؟

 


هذه جملة من التوضيحات التي لابد من تقديمها تمهيدا لهذا المقال:

1 ـ سيتحدث هذا المقال عن تقصير الإسلاميين في موريتانيا في الدفاع عن اللغة العربية، على المستوى المؤسسي فقط، وليس على مستوى الأفراد ولا على مستوى العمل الجمعوي، فعلى مستوى الأفراد فهناك شخصيات من التيار الإسلامي (ومن تواصل تحديدا) لا يمكن المزايدة عليها في مجال الدفاع عن اللغة العربية، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر : النائبين السابقين محمد غلام الحاج الشيخ، والصوفي ولد الشيباني، والشيخ القطب محمد مولود، والنقابي محمدن ولد الرباني، والدكتور عبد الله بيان وغيرهم، وعلى مستوى العمل الجمعوي فهناك أيضا مؤسسات محسوبة على التيار الإسلامي خدمت اللغة العربية في هذه البلاد بما لم تخدمها به مؤسسة جمعوية أخرى، ويكفي أن نذكر  كمثال :" معهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، و نشر العلوم الإسلامية في موريتانيا"؛

2 ـ التقصير المقصود هنا هو التقصير الخاص بالواجهة السياسية للإسلاميين، أي تقصير حزب تواصل على مستوى خطابه الرسمي، وبياناته السياسية، وتصريحات رؤسائه، ومداخلات نوابه في البرلمان.. ومقصود به كذلك تقصير المؤسسات الإعلامية المحسوبة على التيار، وكذلك كتابات بعض من يمثلون الواجهة الإعلامية للتيار الإسلامي في مواقع التواصل الاجتماعي؛

3 ـ ما نتحدث عنه هنا من تقصير لحزب تواصل لا يقتصر فقط على حزب تواصل، وإنما يشمل كل المعارضة الحزبية في موريتانيا منذ تأسست في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وحتى اليوم، وإن كان هناك من استثناءات فيمكن أن نتحدث بتحفظ شديد جدا جدا عن التحالف الشعبي التقدمي، وبدون تحفظ عن حزب الصواب؛

4 ـ ما سيقال عن حزب تواصل في هذا المقال ينطبق تماما ـ وربما بشكل أوضح ـ على بقية أحزاب المعارضة، وخاصة حزبي التكتل واتحاد قوى التقدم. أما السبب في التركيز على حزب تواصل دون غيره، فيعود أساسا إلى أن حزب تواصل هو الحزب الذي كان يُتوقع منه أكثر من غيره أن يكون في الصف الأول في الدفاع عن العربية، وذلك لخلفيته الإسلامية، فالعربية ـ وكما هو معلوم ـ هي لغة القرآن ووعاء الشريعة الإسلامية، ولا يمكن الاهتمام بالإسلام دون الاهتمام باللغة العربية، ثم إنه هو الحزب الأكثر تضررا من تهميش اللغة العربية، فأغلب منتسبيه تعلموا باللغة العربية، هذا فضلا عن كونه هو الحزب المعارض الأكثر حضورا على المستويين السياسي والإعلامي خلال السنوات الأخيرة.

نظرا لكل ذلك فقد كان من المفترض أن يحمل حزب تواصل لواء الدفاع عن اللغة العربية في موريتانيا، وأن يكون في الصف الأمامي في الدعوة للتمكين لها في هذه البلاد، فإذا به ينافس بعض الأحزاب التي لم يكن منتظرا منها أن تدافع عن اللغة العربية، ينافسها على تصدر لائحة الأحزاب الأكثر خذلانا للغة العربية في موريتانيا.

تلكم كانت توضيحات لابد من تقديمها، وبعد تقديمها، دعونا ندخل الآن في صلب الموضوع.

تواصل وخذلان اللغة العربية

لا أذكر لحزب تواصل منذ أن تأسس وحتى اليوم بيانا سياسيا واحدا ينتصر فيه بوضوح لا لبس فيه للغة العربية، أو يندد فيه بتهميشها في الإدارة، ولا أذكر لأي رئيس من رؤسائه الثلاثة موقفا واضحا أو تصريحا قويا يندد فيه بهيمنة اللغة الفرنسية في الإدارة الموريتانية، ولا أذكر أيضا أن أي نائب من نواب الحزب تقدم بطرح سؤال شفهي أو كتابي بخصوص عدم تفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني.

اللافت في الأمر أن نواب المعارضة، وعلى رأسهم نواب حزب تواصل، وفي ذروة معارضتهم للنظام السابق، لم يسجل لأي واحد منهم موقفا صريحا وقويا لصالح اللغة العربية، واللافت أكثر أن الانتصار للغة العربية والغضب من الحكومة بهذا الخصوص كان يأتي من بعض نواب الحزب الحاكم، ولعلكم تذكرون تمزيق النائب السابق الخليل ولد الطيب ـ والذي لا يمكن التشكيك في موالاته ـ  لتقرير صادر عن اللجنة الاقتصادية والمالية بالجمعية الوطنية، وذلك لأن التقرير قدم له باللغة الفرنسية فقط، وحتى من دون ترجمة إلى اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية. هناك أمثلة أخرى قام بها نواب محسوبون على الأغلبية لصالح اللغة العربية، وذلك في وقت تقاعس فيه نواب المعارضة عن القيام بأي فعل يمكن أن يصنف على أنه يشكل انتصارا جديا للغة العربية.

تعودنا من المعارضة الموريتانية عموما، ومن حزب تواصل خصوصا، أن تقف ـ وبقوة ـ ضد كل أشكال التقصير في العمل الحكومي، وأن تنتصر للدستور كلما كانت هناك محاولة صريحة أو خجولة من طرف الأنظمة المتعاقبة لانتهاك إحدى مواده. هذا الوقوف ضد التقصير في العمل الحكومي تستثني منه المعارضة دائما التقصير في حق اللغة الرسمية (اللغة العربية)، وهذا الانتصار لمواد الدستور تستثنى منه المعارضة دائما مادة واحدة، وهي المادة السادسة، والتي نصت على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية.

لم يكتف تواصل بعدم الدفاع عن اللغة العربية، بل إنه أضاف إلى ذلك أنه كان يشارك في إرباك بعض الخطوات الخجولة التي قد تتخذها الأنظمة الحاكمة في أوقات نادرة جدا لصالح اللغة العربية.

لا يملك المدافعون عن بقاء اللغة الفرنسية مسيطرة في الإدارة والتعليم في موريتانيا أي حجة متماسكة، يمكن أن يواجهوا بها المطالبين بتفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني، ولعل أقوى الحجج لديهم هي أن اللغة الفرنسية لغة تواصل على المستوى العالمي، كما أنها لغة تواصل لبعض المكونات الموريتانية مع امتداداتها في بعض دول إفريقيا السوداء. هذه الحجة لم تعد لتقنع أحدا، فالفرنسية كلغة عالمية في تراجع، وهي اليوم في الرتبة التاسعة عالميا من حيث الاستخدام، في حين أن اللغة العربية تأتي في الرتبة الرابعة عالميا، وعلى مستوى إفريقيا فإن اللغة العربية تنافس على الرتبة الأولى، بينما تحتل الفرنسية الرتبة الرابعة بعد العربية والانجليزية والسواحلية.

هذا عن الحاضر، أما عن المستقبل، فإن كل المؤشرات تقول بأن مكانة اللغة الفرنسية ستظل في تراجع كبير، وخصوصا في إفريقيا السوداء بعد ظهور أجيال جديدة لا تخفي بغضها الشديد لفرنسا، ولكل ما له صلة بها، بما في ذلك اللغة الفرنسية، والتي كان يجب أن تبقى بعيدة عن الصراع السياسي.

يدرك المدافعون عن بقاء اللغة الفرنسية مسيطرة في الإدارة والتعليم أنهم لا يملكون أي حجة متماسكة، ولذا فهم يلجؤون دائما إلى أساليب في منتهى الخبث، وهي الوقوف أمام أي خطوة قد تتخذ لصالح اللغة العربية عن طريق العمل على خلق صدام عرقي غير مبرر لتوقيف تلك الخطوة. وهذا الصدام غالبا ما تكون خلفه فرنسا، وقد أشار إلى ذلك الرئيس الراحل المختار ولد داداه في مذكراته، عندما تحدث عن أول صدام عرقي في موريتانيا وكان في العام 1966، وقد تسبب في وفاة 6 أشخاص وجرح 70 آخرين، وكان بسبب رفض بعض التلاميذ الزنوج لقانون صادر عن الجمعية الوطنية يقضي بإلزامية تدريس اللغة العربية إلى جنب اللغة الفرنسية في المرحلة الثانوية.

في العام 2010، واستجابة لقرار المجلس التنفيذي للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتخليد يوم اللغة العربية (1 مارس 2010) تحت شعار" اللغة العربية لغة ديننا وهويتنا"، قررت الحكومة الموريتانية أن تخلد ذلك اليوم بأسبوع، وأن ترفع في الوقت نفسه من شأن اللغة العربية في موريتانيا.

على هامش حفل انطلاق الأنشطة المخلدة لذلك اليوم طالب صحفي فرانكفوني من الوزير الأول ترجمة حديثه إلى اللغة الفرنسية، فرفض الوزير الأول الترجمة وذكر بأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية لموريتانيا، وأنه على الجميع أن يتصرف وفق ذلك. تحرك بعض الطلاب الزنوج، وحدثت حينها صدامات عرقية، انحازت فيها أحزاب المعارضة ـ بشكل أو بآخر ـ للمحتجين، وأطلق حزب تواصل حملة "هو سماكم المسلمين"، وهي الحملة التي أشاد بها المجلس الوطني للحزب في بيان تم نشره في يوم 22 ـ 05 ـ 2010، طالب فيه الحزب بإعطاء اللغة العربية مكانتها المستحقة في الإدارة والتعليم، وطالب كذلك بتطوير وترسيم اللغات الوطنية. أما اللغات الأجنبية، فتكتسي أهميتها ـ حسب بيان الحزب ـ من ضرورة التواصل والانفتاح على العالم.  يعني كل اللغات مهمة، ويجب الاهتمام بها جميعا، هذا هو ما أوحت به الفقرة الخاصة باللغة في بيان الحزب.

ما حدث بعد ذلك معروف، فقد اعتذر وزير التعليم العالي أحمد باهية باسم الحكومة للطلاب الزنوج، في سابقة من نوعها، وأكد أن الحكومة ليست بصدد فرض تعريب شامل في الإدارة والتعليم، وأن الفرنسية ستبقى لُـغة التواصل في الإدارة الموريتانية، ولا جديد يدفع الطلبة الزنوج إلى القلق على مستقبلهم. هذا الاعتذار الذي يشكل إساءة صريحة للدستور الموريتاني نددت به بعض الأحزاب، ولم يكن من بين الأحزاب المنددة به حزب تواصل.  

 لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد تراجعت الحكومة في السنوات الموالية عن تخليد يوم اللغة العربية بحضور الوزير الأول، وأصبح يُكتفى بموظف من الدرجة الثانية من وزارة الثقافة، يحضر لنشاط متواضع يمتد لساعة أو ساعتين في قاعة بالمتحف الوطني أو بدار الشباب القديمة، في حين أن يوم الفرنسية ظل يخلد دائما بأسبوع كامل وحافل بالأنشطة، وبحضور عدد كبير من الوزراء، وفي أفخر القاعات، وبرعاية ودعم من كبريات المؤسسات والشركات العامة والخاصة.

لم يندد أي حزب معارض بهذا الاختلال البين في تخليد الحكومة ليومي اللغة العربية واللغة الفرنسية، وقد تعودنا من أحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب تواصل، أن تبقى على الصامت في ظل الاختلال القائم والذي هو لصالح اللغة الفرنسية. أما إذا ما حاولت الحكومة أن تقوم بخطوة ولو بسيطة لصالح اللغة العربية، فالذي يحدث بعد ذلك معروف وهو محاولة خلق صدامات عرقية لإفشال تلك الخطوة، وغالبا ما توفر المعارضة الغطاء السياسي والإعلامي لمن يفجر تلك الصدامات العرقية.

هناك أمثلة أخرى كثيرة، كان يمكن أن نستعرضها هنا، ولكن نظرا لتجاوز المقال للمساحة المخصصة له، فسيتم تأجيل تلك الأمثلة إلى مناسبة أخرى، أما الآن، فسننتقل للفقرة الأخيرة والأهم في هذا المقال.

كيف يتوب تواصل من ذنب التقصير في حق اللغة العربية؟

لابد أن أبين هنا بأني لا أتحدث عن التوبة من منطلق ديني، وأنا لستُ أهلا للحديث عنها من ذلك المنطلق، وإنما أتحدث عنها من منطلق سياسي بحت، والتوبة المقصودة هنا هي توبة سياسية من ذنب التقصير في حق اللغة العربية، وشروط قبول هذه التوبة السياسية تتمثل في:

1 ـ أن يضيف حزب تواصل مطلب تفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني ضمن أولوية أولياته، وأن يجعل من أي تقصير للحكومة في هذا المجال موضوعا من مواضيع انتقاده للحكومة، وأن يعبر عن ذلك ـ وبشكل صريح وفصيح ـ من خلال بياناته السياسية، وتصريحات رئيسه وكبار القادة في الحزب، وكذلك من خلال مداخلات نوابه في الجمعية الوطنية؛

2 ـ أن لا يمنح الحزب أي غطاء سياسي أو إعلامي لأي جهة تسعى للوقوف ضد التمكين للغة العربية في موريتانيا من خلال إشعال صدامات عرقية تكون في الغالب بدعم خفي من فرنسا، وهو ما أشار إليه الرئيس الراحل المختار ولد داداه عند حديثه عن أول صدامات عرقية في موريتانيا، وكانت من أجل تعطيل القانون الصادر من الجمعية الوطنية، والقاضي بإلزامية تدريس اللغة العربية في الثانوية بجانب اللغة الفرنسية؛

3 ـ  أن يطلق الحزب حملة تحت شعار : " بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " يبين فيها لقواعده الجماهيرية أن اللغة العربية ليست لغة قوم، وإنما هي لغة دين، ولغة الأمة الإسلامية، ولذا فعلى كل مسلم أن يسعى لتعلمها للتمكن من تلاوة القرآن وتعلم ما يلزم تعلمه من علوم شرعية؛

4 ـ أن يُظهر مدونو الحزب اهتماما أكبر بالدفاع عن اللغة العربية، وذلك لتصحيح الصورة المترسخة لدى الكثيرين في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي قد تعطي الانطباع أن الواجهة الإعلامية للحزب في مواقع التواصل الاجتماعي غير متحمسة للدفاع عن اللغة العربية؛

5 ـ أن تستغل قيادة الحزب اللقاءات التي قد تجريها مع السفير الفرنسي في نواكشوط لفتح ملف اللغة، ولإشعاره بأن بلادنا تمتلك الحق في السيادة اللغوية، ومن مصلحة فرنسا أن تكون اللغة الفرنسية هي اللغة الأجنبية الأولى في موريتانيا تدرس في كل مراحل التعليم، ودون أن تحتل مساحة ليست من حقها في الإدارة أو التعليم على حساب لغتنا الرسمية (اللغة العربية)، واستمرار فرنسا في محاولة انتزاع مساحة للغة الفرنسية على حساب لغاتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية سيؤدي مع الوقت إلى خلق عداء ضد اللغة الفرنسية ( واللغات ليست محل عداء)، وإلى تزايد الأصوات المطالبة بالتخلي عن اللغة الفرنسية بصفتها لغة أجنبية أولـى، وإبدالها باللغة الإنجليزية، والتي تعتبر اليوم هي اللغة العالمية الأولى.

مع تحياتي وتقديري لتواصل، ولكل التواصليين والتواصليات.

 حفظ الله موريتانيا..