الخميس، 23 سبتمبر 2021

هذا ما علينا أن نستخلصه من أحداث أركيز


في يوم 24 إبريل 2021 شهدت مدينة باسكنو احتجاجات عنيفة وأعمال شغب، وكان السبب المباشر في تلك الاحتجاجات غياب الحماية المدنية في المدينة وعدم تدخلها بعد حدوث حريق في محل تجاري، وقد تم خلال هذه الاحتجاجات رفع نفس الشعار المطالب بتوفير بالماء والكهرباء.

في يوم 3 مايو 2021 شهدت مدينة الطينطان احتجاجات عنيفة وأعمال شغب، وكان السبب المباشر في تلك الاحتجاجات هو الانقطاع المتكرر للكهرباء والماء.

في يوم 2 يوليو 2021 شهدت مدينة كبني احتجاجات عنيفة وأعمال شغب، وكان السبب المباشر في تلك الاحتجاجات هو أيضا الانقطاع المتكرر للكهرباء والماء.

في يوم 22 سبتمبر 2021 شهدت مدينة أركيز احتجاجات كانت هي الأعنف، وأعمال شغب كانت هي الأخطر، وقد تجاوزت هذه المرة المباني الحكومية لتصل إلى منزل عمدة المدينة، وكان السبب المباشر والمعلن لهذه الاحتجاجات هو نفس السبب المباشر لاحتجاجات الطينطان وكبني، أي الانقطاع المتكرر للكهرباء والماء.

إن تكرر مثل هذه الاحتجاجات العنيفة يعدُّ أمرا مقلقا وفي غاية الخطورة، وهو يستوجب منا جميعا ( سلطة وساسة وصناع رأي ) وقفة تأمل، وأخذ دروس وعبر، حتى لا يتكرر هذا النوع من الاحتجاجات العنيفة التي يتخللها تخريب ونهب للأملاك العامة والخاصة.

 بداية ردة الفعل يجب أن تتمثل في توقيف ومحاسبة  كل من شارك من قريب أو بعيد في نهب وتخريب الأملاك العامة والخاصة في مدينة أركيز. وعلى السلطات الأمنية والقضائية أن لا تتساهل إطلاقا مع أي شخص ثبتت مشاركته في أعمال الشغب هذه، وأن لا تقبل فيه شفاعة أو تدخل. يجب على السلطة أن تثبت عمليا أن الاعتداء على الأملاك العامة والخاصة هو خطٌ أحمر، وأن من يتجرأ على تجاوز ذلك الخط الأحمر سيدفع الثمن باهظا.

هذا أول ما يجب أن يُقام به كردة فعل على أحداث أركيز، وهذا هو أبسط ما يمكن أن يُقام به، فأعمال الشغب موثقة بالصوت والصورة والسلطات الأمنية لن تجد صعوبة في التعرف على مرتكبي أعمال الشغب ومحرضيهم، وما إن كان هناك استغلال لتلك الاحتجاجات لأغراض أخرى. إن الأصعب يتمثل في تحديد ومحاسبة من هيأ الأجواء والظروف لأعمال الشغب التي شهدتها مدينة أركيز، وشهدتها من قبل ذلك مدن باسكنو والطينطان وكبني.

ما حدث في أركيز وفي مدن أخرى ليسا حدثا عابرا، وعلينا أن لا نتجاهل تسلسل الأحداث، لنتوقف فقط مع اللقطة الصادمة في المشهد (اللقطة الأخيرة).

بدءا لابد من التذكير بأننا نعيش ـ حالنا في ذلك كحال بقية بلدان العالم ـ ظرفية اقتصادية واجتماعية صعبة بسبب جائحة كورونا، والتي ضايقت الناس في أرزاقهم، والتي كان من آثارها ارتفاع كبير في أسعار بعض المواد الأساسية. لقد كان المواطن يعاني بشكل كبير من قبل جائحة كورونا، ولا شك أن معاناته قد ازدادت بسبب تلك الجائحة، والمقلق أكثر أن معاناته قد تزداد في صيف هذا العام الذي شهد تناقصا في مستوى تهاطل الأمطار.

هذه الوضعية الصعبة تستلزم من السلطة أن تكون أكثر صرامة في محاسبة كل موظف عمومي ضعيف الأداء أو مارس فسادا، ويتأكد الأمر عندما يكون ذلك الموظف يعمل في مؤسسة خدمية حساسة أو في قطاع خدمي حيوي ذي علاقة مباشرة مع المواطنين.

لا يجوز في أي وقت من الأوقات أن يتم التساهل مع ضعف الأداء أو مع ممارسة الفساد، ويتأكد ذلك أكثر في الأوقات الصعبة التي تزداد فيها معاناة المواطنين لسبب أو لآخر، ويتأكد أكثر من ذلك عندما يكون سوء الأداء أو ممارسة الفساد يتم داخل قطاع حيوي حساس يقدم خدمة أساسية للمواطنين (الماء، الكهرباء، التعليم، الصحة...).

لقد زرت مع نشطاء في المجتمع المدني مدينة أركيز قبل  شهرين من الآن، وكان ذلك بدعوة من بعض الأهالي للاطلاع على ما يعتبرونه فسادا في مرفق شبه عمومي يتبع للبلدية. حدثنا بعض الأهالي هناك عن سوء خدمات الماء والكهرباء والاتصال في المدينة، وعن عمليات بيع  معلنة ومتكررة لمحروقات شركة الكهرباء من طرف القائمين عليها، وعن مظاهر ثراء فاحش لبعض العاملين في فرع الشركة، وذلك في ظل انقطاعات متكررة للكهرباء.

ما قيل لنا في أركيز، سنسمع شيئا مشابها له إن زرنا كوبني أو باسكنو أو الطينطان أو أي مدينة أخرى في الداخل.

في أغلب مدن الداخل ـ بل في كلها ـ هناك استياء كبير من ضعف بعض الخدمات الأساسية، وهناك فساد بَيِّن يُمارس في المرافق العمومية، ودون أن تكون هناك محاسبة صارمة أو عقوبة قاسية ضد من يُمارس ذلك الفساد البَيِّن.

لقد أصبح من الضروري، بل ومن الملح جدا، وفي ظل هذه الظرفية الصعبة التي يعيشها المواطن أن يتم التعامل مع القطاعات والمؤسسات الحساسة التي تقدم خدمة أساسية للمواطنين بأسلوب جديد يختلف عن أساليبنا القديمة، يقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية:

1 ـ أن يكون التعيين في القطاعات والمؤسسات الخدمة خاضعا لمعايير انتقاء صارمة، حتى يتم اختيار الأكفأ والأفضل لإدارة وتسير تلك المؤسسات وفروعها في الداخل؛

2 ـ أن تكون الرقابة على هذه القطاعات والمؤسسات رقابة صارمة ومستمرة؛

3 ـ أن تكون العقوبة مشددة على كل من تثبت عليه ممارسة فساد في أي قطاع أو مؤسسة من المؤسسات التي تقدم خدمة حيوية للمواطنين.

إن ضعف أداء المرافق الخدمية في الداخل بسبب التسيب الإداري والفساد، وغياب المنتخبين والسياسيين المحليين الذين لا يرون ضرورة في خدمة المواطنين في دوائرهم الانتخابية إيمانا منهم بأن السلطة ستواصل فرضهم على أهل تلك المناطق، وأنه سيكفيهم إنفاق نسبة من الأموال التي نهبوها في الحملات الانتخابية للمحافظة على مقاعدهم الانتخابية. إن استمرار ضعف أداء المرافق العمومية، وغياب المنتخبين المحليين عن دوائرهم الانتخابية هو ما يشكل الأرضية المناسبة لحدوث مثل هذه الاحتجاجات، ولذا فإن العقوبة يجب أن تشمل بالإضافة إلى كل من شارك ـ بشكل مباشر ـ  في تلك الاحتجاجات العنيفة، كل أولئك الذين شاركوا في تهيئة الأجواء لحصول تلك الاحتجاجات. هناك ثلاثة أنماط من العقوبة يجب أن تنفذ ضد من شارك في تلك الاحتجاجات ومن هيأ لها الأجواء، وهذه الأنماط الثلاث هي :

1 ـ عقوبة أمنية وقضائية ضد كل من شارك بشكل مباشر أو غير مباشر في أعمال الشغب؛

2 ـ عقوبة إدارية ضد كل موظف للدولة يعمل في فرع مؤسسة خدمية في الداخل ظهر أنه ضعيف الأداء أو ممارس للفساد؛

3 ـ عقوبة سياسية : وهذه على الحزب الحاكم أن ينفذها، وتتمثل في معاقبة كل منتخب أو سياسي محلي عُرِف بالغياب عن دائرته الانتخابية في أغلب أوقات مأموريته الانتخابية. إن الدور الأول للمنتخبين والسياسيين المنتمين للحزب الحاكم ـ أي حزب حاكم ـ  يجب أن يكون خدمة المواطنين في الدوائر الانتخابية، وبعث الأمل في نفوسهم بغد أفضل، وتسويق منجزات الأنظمة التي يمثلونها. ويكفي لمعرفة ضعف الأداء السياسي والإعلامي للنظام أنه لا أحد يتحدث اليوم عن القطع الأرضية المزودة بالماء والكهرباء التي توزع على الحراس في تفرغ زينة، والتي تمنح معها مبالغ مالية وبطاقات تأمين صحي.    

حفظ الله موريتانيا... 

الأربعاء، 22 سبتمبر 2021

تعليق سريع على فقرتين من خطاب الرئيس


هناك فقرتان استوقفتاني في الخطاب الذي افتتح به فخامة رئيس الجمهورية المنتديات العمومية لقطاع البناء والأشغال.
الفقرتان تتحدثان عن موضوعين هامين، أحدهما اقتصادي واجتماعي يتعلق بالأسعار والقدرة الشرائية للمواطن، والثاني سياسي يتعلق بالتشاور المنتظر.

الفقرة الأولى

"ولذلك قررنا، في ظل أزمة ارتفاع الأسعار الأخيرة، استحداث آلية وطنية لاستيراد المواد والسلع الأساسية، وتوفيرها للمواطن بأسعار مناسبة، بعيدا عن المضاربات، لتكون بذلك أداة تنظيم وعامل استقرار لسوق هذه المواد. كما وجهنا مندوبية "تآزر" بتوفير السلع بالكميات المطلوبة في جميع محلات البيع المدعومة، وألزمنا الحكومة بالمحافظة على القدرة الشرائية للمواطنين الأكثر فقرا بصرف النظر عن تكلفة ذلك."

هناك ثلاثة عناصر مهمة جدا في هذه الفقرة :

1 ـ استحداث آلية وطنية تستورد المواد والسلع الأساسية لتوفيرها للمواطن بأسعار مناسبة؛

2 ـ أن مندوبية "تآزر" ستوفر السلع بالكميات المطلوبة في جميع محلات البيع المدعومة؛

3 ـ إلزام الحكومة بالمحافظة على القدرة الشرائية للمواطنين مهما كانت كلفة ذلك.

هذه ثلاثة عناصر مهمة جدا، وتتكامل فيما بينها، فمندوبية تآزر يُفترض فيها أنها ستكون جاهزة من الآن لتوفير السلع بالكميات المطلوبة في جميع محلات الدعم، كما يُفترض أيضا أن العمل على استحداث آلية وطنية لاستيراد المواد والسلع الأساسية سيبدأ من الآن، ومن المهم تسريع إجراءات تأسيس هذه الآلية لترى النور في أقرب وقت ممكن. أما العنصر الثالث فله صبغة الديمومة، أي أن الحكومة عليها أن تُحافظ ـ وبشكل دائم ـ على القدرة الشرائية للمواطنين، ومهما كانت كلفة ذلك.

إنها بالفعل عناصر مهمة بل مهمة جدا، ومن أجل تحقيقها على أحسن وجه، فيجب أن تكون هناك محاسبة صارمة لكل المعنيين بالتنفيذ إن هم قصروا، كما أنه من المهم جدا البحث عن خيرة الموظفين من حيث الاستقامة والقدرة على وضع التصورات وتنفيذ البرامج والخطط لتولي تأسيس وتسيير هذه الآلية الجديدة التي ستعنى باستيراد المواد والسلع الأساسية وتوفيرها للمواطن بأسعار مناسبة.

 

الفقرة الثانية

"التشاور الوطني المرتقب، والذي لن يستثني أحدا، ولن يحظر فيه موضوع، من أجل أن نتوصل معا إلى أمثل الحلول الممكنة في مواجهة مختلف التحديات."

بهذه الكلمات التي اختتم بها الرئيس خطابه، تم تحديد ملامح التشاور المنتظر، وستكون من أبرز ملامح التشاور المنتظر أنه:

1 ـ  لن يستثني أحدا؛

2 ـ  لن يحظر فيه أي موضوع؛

3 ـ أن الهدف منه هو التوصل معا (ومن المهم التوقف مع كلمة معا) إلى أمثل الحلول الممكنة لمواجهة مختلف التحديات.

هذه النقطة الثالثة تؤكد أن الرئيس يرى أن الحلول المثلى للتحديات المطروحة لا يمكن أن تحتكرها جهة سياسية معينة، وإنما تتحصل من تلاقح أفكار الجميع، وبذلك يظهر أن الرئيس ينظر إلى معارضيه نظرة أخرى غير معهودة في هذه البلاد، فهو يرى أن المعارضة ليست "عدوا" ولا مجموعة من "خائني الوطن" وإنما هي شريك سياسي قد يساعد من خلال التشاور في إنتاج "الحلول المثلى " لمواجهة التحديات القائمة.

هذه النظرة المختلفة للمعارضة ظهرت في نهج الرئيس في وقت مبكر، حتى وإن كان هناك من يُريد أن يشوش عليها.

ـ ظهرت من خلال خطاب إعلان ترشحه؛

ـ ظهرت خلال الحملة الانتخابية حيث أن المرشح غزواني ـ وفي سابقة من نوعها في الحملات الانتخابية ـ تفادى أن يتحدث عن منافسيه في الانتخابات بأي كلمة سوء، بل تفادى نقدهم ونقد برامجهم الانتخابية، ومن المعروف أن ذلك يمثل أبسط حقوق أي مترشح؛

ـ ظهرت من خلال خطابه في يوم التنصيب؛

ـ ظهرت من بعد التنصيب حيث لم ينقطع الاتصال بالمعارضين لدرجة أنه لم يعد بالإمكان أن نجزم إن كان عدد من يدخل القصر الرئاسي من قادة الأغلبية أكثر ممن يدخله من قادة المعارضة؛

ـ ظهرت من خلال عدم سماحه بأن تُقابل بعض التصريحات والبيانات الحادة للأطراف غير المتحمسة للحوار بتصريحات مماثلة، بل على العكس من ذلك تماما، فكلما تمادى البعض في إطلاق المزيد من التصريحات الحادة من التشاور المنتظر جاء الرد هادئا وواضحا ومطمئنا على أن التشاور القادم:

ـ لن يستثني أحدا؛

ـ لن يحظر فيه أي موضوع؛

ـ أن الهدف منه هو التوصل معا (ومن المهم التوقف مرة أخرى مع كلمة معا) إلى أمثل الحلول الممكنة لمواجهة مختلف التحديات.

حفظ الله موريتانيا... 

الاثنين، 20 سبتمبر 2021

هكذا نُهبت أموال صندوق كورونا


تابعتُ خلال الأيام الماضية في مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من المنشورات والتعليقات والصوتيات التي تتحدث عن نهب 50 مليار أوقية قديمة من صندوق كورونا. فهل تم بالفعل نهب 50 مليار أوقية قديمة من موارد الصندوق؟

إليكم هذه المعلومات التي قد تساعد في الإجابة على السؤال أعلاه.

لقد تم بالفعل إنفاق 49.82 مليار أوقية قديمة من موارد الصندوق النقدية والعينية، منذ تأسيسه وحتى يوم 31 أغسطس 2021،  وهذه تفاصيل نفقاته.

1 ـ مقتنيات عينية : وقد بلغت قيمتها 20.33 مليار أوقية قديمة، وهي عبارة عن هبات من دول شقيقة وصديقة ومن منظمات دولية، وهي ليست أموالا دخلت في الصندوق كما يتخيل الكثيرون، بل إنها عبارة عن مواد وتجهيزات طبية ساعدت في مواجهة كوفيدـ19، فاللقاحات التي تسلمتها بلادنا من بعض الدول والمنظمات تدخل في هذا البند. وقد ساهمت تلك المواد والتجهيزات في حماية منظومتنا الصحية الهشة من الانهيار، كما أنها مكنت من الوصول إلى نسبة تلقيح معتبرة، فمن النادر جدا أن لا تتذيل بلادنا من حيث المؤشرات القوائم الإقليمية والدولية، ولكن على مستوى مؤشر نسبة التلقيح ضد كورونا فقد حاولت بلادنا أن تكسر القاعدة هذه المرة، وذلك من خلال احتلال الرتبة 12 إفريقيا.

خلاصة هذه الفقرة هي أن 20.33 مليار أوقية من نفقات الصندوق لم تكن أموالا، وهذا المبلغ يمثل نسبة 40.8% من مجموع نفقات الصندوق منذ تأسيسه، وحتى اليوم.

2 ـ الإعفاءات الضريبية : هذه أيضا ليست أموالا دخلت الصندوق، وإنما هي عبارة عن إعفاءات من الرسوم الجمركية لبعض المواد الأولية (الخضروات؛ الفواكه؛ القمح؛ الأدوية؛ الزيت النباتي)، وتم الإعفاء في الفترة ما بين (26/ 03/ 2020 إلى 31/10/ 2020). نفس الشيء يمكن أن يُقال عن إعفاء أصحاب المهن والأنشطة الصغيرة من ضرائب البلدية لمدة شهرين. هذه الإعفاءات بلغت في مجموعها 5.68 مليار أوقية قديمة وهو ما يمثل نسبة 11.76% من مجموع نفقات الصندوق.

يمكنكم أن تلاحظوا أن أكثر من نصف نفقات الصندوق (تحديدا 52.56%) لم تكن في الأصل أموالا تنهب أو لا تنهب، وإنما كانت عبارة عن مواد عينية و إعفاءات ضريبية.

3 ـ الإعانات : هنا بدأنا ندخل بالفعل في صرف أموال من الصندوق، وقد وصلت الإعانات إلى 7.45 مليار أوقية قديمة، واستفادت منها 396.293 أسرة في الداخل و40 ألف أسرة في نواكشوط، وتمثل نسبة الإعانات 14.95% من مجموع نفقات الصندوق.

هذه الإعانات هي عبارة عن الأموال والمواد الغذائية التي وزعتها مندوبية تآزر، وقد تمت عملية التوزيع وفق أساليب شفافة. قد يكون هناك من ينتقد هذه العملية لقلة المبلغ الذي حصلت عليه كل أسرة، ولكن لا أحد يستطيع أن يشكك في عدم وصول تلك المبالغ إلى الأسر المستفيدة، ذلك أن عملية التسليم كانت موثقة وتوجد صور من بطاقات تعريف وأرقام هواتف المستفيدين.

4 ـ المياه والكهرباء :  بلغت النفقات على المياه والكهرباء ما مجموعه 3.9 مليار أوقية قديمة. فبالنسبة لمجانية المياه فقد استفاد منها 2055 تجمعا قرويا تحمَّل الصندوق وبشكل كامل نفقاته على الماء لمدة تسعة أشهر (من 1 إبريل إلى 31 ديسمبر 2020)، هذا فضلا عن 191831 في الوسط الحضري تحمل الصندوق فواتيرها لمدة شهرين. أما بالنسبة للكهرباء فقد استفاد منها 32 تجمعا قرويا، و173924 أسرة لمدة شهرين. كل هذه الأموال يمكن تتبعها، وقد أُنفقت بالفعل على شركتي الماء والكهرباء والمكتب الوطني لخدمات الماء في الوسط الريفي ..إلخ

نعم لقد حدثت هنا بعض الأخطاء بالنسبة للمستفيدين من مجانية الماء والكهرباء في الوسط الحضري لمدة شهرين، ذلك أن الإعلان عن تحمل الصندوق لشهرين من الاستهلاك لم تصاحبه حملة إعلامية موازية توضح للمستفيدين أن زيادة الاستهلاك قد تنقلهم من التعريفة الاجتماعية إلى التعريفة العادية، وسيؤدي ذلك في المحصلة النهائية إلى خسارتهم.

كانت هناك خسائر تكبدها بعض المستفيدين من مجانية الماء والكهرباء في الوسط الحضري، ولكن بالنسبة للتجمعات القروية فقد كانت الاستفادة واضحة، وعموما فإن المبالغ المنفقة من الصندوق على هذا البند ليست محل تشكيك، وهي تمثل 7.82% من مجموع نفقات الصندوق.

إن هذه البنود الأربعة التي تمثل في مجموعها 75 % من نفقات الصندوق ليست محل تشكيك، ذلك أنها تتوزع بين مقتنيات عينية (20.33 مليار أوقية قديمة) وإعفاءات ضريبية (5.68 مليار أوقية قديمة )، وإعانات تم تسلمها من طرف المستفيدين (7.45 مليار أوقية)، وسداد فواتير الماء والكهرباء في الوسط الريفي لتسعة أشهر ولمدة شهرين في الوسط الحضري (3.9 مليار أوقية). كل هذه البنود لا أظنها محل نقاش أصلا. إن النقاش حول شفافية نفقات الصندوق عليه أن ينحصر في البند الموالي.

5 ـ نفقات الصحة ونفقات مختلفة أخرى :  وصلت نفقات الصحة في مجموعها إلى 11.53 مليار أوقية قديمة، بالإضافة إلى نفقات قطاعات أخرى وصلت إلى 0.93 مليار أوقية، ومجموع هذه النفقات يصل إلى 12.46 مليار أوقية قديمة ..هذه النفقات يجب أن تبقى محل نظر، ذلك أنها تتضمن الكثير من الصفقات، ومن المعروف أن الصفقات في هذه البلاد هي المجال الأكثر شبهة لممارسة الفساد، ويؤكد ذلك أن الصندوق كان قد استعاد بعض الأموال من خلال عمليات تفتيش سابقة في بعض صفقات وزارة الصحة، وعمليات التفتيش هذه ما تزال مستمرة، وتتولاها مفتشية الدولة ومحكمة الحسابات.

يتضح من خلال تحليل نفقات الصندوق بأن القول بنهب 50 مليار أوقية من صندوق كورونا هو قولٌ بعيدٌ جدا من الدقة، ولكن ومع ذلك، فلا يمكن لوم من نشر تلك المعلومات غير الدقيقة، دون لومنا نحن في لجنة المتابعة على تقصيرنا في إطلاع الرأي العام على وضعية الصندوق.

من المعروف أن مجتمعنا هو مجتمع يصدق كل ما سمع، وهو ومولع بالشائعات وترويجها، ولذا فستبقى الوسيلة الوحيدة للحد من الشائعات تتمثل في المسارعة في تقديم المعلومات الصحيحة من مصادرها، والعمل على زيادة تدفق تلك المعلومات الصحيحة عبر كل الوسائط المتاحة، ولعلكم تذكرون حجم الشائعات التي تم تداولها مع بداية ظهور جائحة كورونا، هذه الشائعات لم تتوقف إلا بعد أن قررت وزارة الصحة أن تنظم مؤتمرا صحفيا يوميا تقدم فيه كل مستجدات الجائحة. لا أحد يتحدث اليوم بغير الأرقام التي تقدمها وزارة الصحة في مؤتمرها الصحفي الدوري. نفس الشيء حدث خلال الأشهر الماضية مع الشائعات المتعلقة بالجريمة، حيث تم استغلال حدوث بعض الجرائم الصادمة في العاصمة نواكشوط لإطلاق شائعات بلا أول ولا آخر عن جرائم أخرى لم تقع أصلا، ومنذ أن أطلقت الشرطة الوطنية صفحة رسمية لها على الفيسبوك، تنشر فيها ـ وبشكل شبه فوري ـ كل ما يحدث من جرائم، خفت كثيرا تلك الشائعات، وأصبحت كل وسائل الإعلام وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي تأخذ أخبار الجريمة من الصفحة الرسمية للشرطة الوطنية.

لا يمكن مواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة إلا من خلال تدفق المعلومات من المصادر الرسمية، وهذا ما جعلني اقترح على لجنة المتابعة في أكثر من مرة أن تستدعي الصحافة والمدونين مع صدور كل تقرير جديد عن وضعية صندوق كورونا لتطلعهم على ما في التقرير من معلومات، ولتجيب على كل أسئلتهم التي سيطرحونها عن الصندوق وعن نفقاته.

من حق المواطن، أي مواطن، أن تصله كل المعلومات المتعلقة بإنفاق المال العام، ويتأكد الأمر بالنسبة للأموال التي وُجهت إلى صندوق كورونا، ذلك أن أموال الصندوق تتميز عن بقية المال العام بوجود مساهمات من مواطنين عاديين تبرعوا من مالهم الخاص لصالح الصندوق، ومن حقهم أن يحصلوا على كل التفاصيل المتعلقة بإنفاق تبرعاتهم، ومن واجب الحكومة أن تطمئنهم على حسن إنفاق تبرعاتهم، ومثل ذلك سيشجعهم مستقبلا على التبرع للدولة في أوقات الأزمات والكوارث إن طُلب منهم ذلك.

إن حجب المعلومات قد تتضرر منه أيضا الحكومة، ذلك أن الصورة التي تترسخ في ذهن المواطن قد تكون في بعض الأحيان أقوى من الحقيقة وأهم منها، ومما يؤسف له أن الصورة التي ترسخت في أذهان الكثير من المواطنين عن صندوق كورونا هي أن أمواله قد نٌهبت، والحقيقة ليست كذلك، ولكن تلك الحقيقة تحتاج إلى جهد إعلامي كبير حتى يُصدق المواطن أنها حقيقة.

حفظ الله موريتانيا... 

 

السبت، 11 سبتمبر 2021

لماذا لم يجدد الحزب الحاكم واجهته السياسية والإعلامية؟


لم تكن وضعية حزب الاتحاد من أجل الجمهورية وضعية طبيعية خلال السنتين الماضيتين، فبعد حسم معركة المرجعية ظهرت تحديات أخرى للحزب كان من أصعبها الجمع في خطابه السياسي والإعلامي بين أمرين في غاية التناقض.

الأول : فتح ما بات يُعرف بملف فساد العشرية، وقد كان دور الحزب ونوابه حاسما في فتح هذا الملف، ذلك أنه لم يكن بالإمكان التفكير أصلا في تشكيل لجنة تحقيق برلمانية من دون تحمس نواب الحزب؛

الثاني: أن أغلب من احتلوا واجهة الحزب السياسية والإعلامية خلال العشرية الماضية وعُرفوا ـ بالتالي ـ بالدفاع المبالغ فيه عن العشرية ومنجزاتها، هم الذين تولوا ـ أو على الأقل طائفة كبيرة منهم ـ الحديث عن فساد العشرية خلال العامين الماضيين!

لا شك أن هذا التناقض الكبير قد أربك الرأي العام، وقد أثر سلبا على تسويق إنجازات النظام، وخاصة ما يتعلق منها بفتح أكبر ملف فساد في تاريخ البلاد، كما أنه قد أوقع أولئك الذين جمعوا بين تصدر الواجهة خلال العشرية والترويج لها، وتصدر الواجهة ما بعد العشرية والحديث عن فساد تلك العشرية، قد أوقع أولئك في تناقض كبير، وأظهرهم في مواقف لا تليق كانوا في غنى عنها.   

 أن تبقى واجهة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية في فترة "فساد العشرية"، ومن بعد ذلك في فترة "محاكمة العشرية" هي نفس الواجهة تقريبا، فهذا أمرٌ كان ـ وسيبقى ـ في غاية الإرباك للرأي العام الوطني، ومن الراجح أن استمراره سيضع الحزب في موقف انتخابي صعب في أول استحقاقات يتم تنظيمها مستقبلا.

خلال الأسابيع الماضية تم تداول تسريبات تتحدث عن استياء بعض قادة الحزب "القدامى" من اختطاف الحزب من طرف بعض المنضمين الجدد (عادل؛ راشدون ..إلخ)، ويعني ذلك بلغة سياسية فصيحة وصريحة أن أولئك "القدامى" يريدون الحزب أن يبقى على حاله الذي كان عليه من قبل تنصيب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وأنه لا مكان في الحزب للذين حلوا أحزابهم أو انسحبوا من أحزاب معارضة كانوا يتولون فيها مناصب قيادية للانخراط في حملة المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني.

إن ما يُثار من نقاش حول هذا الموضوع يستوجب منا طرح السؤال التالي : 

أي واجهة سياسية وإعلامية تُناسب الحزب في هذه المرحلة؟

هذا سؤال هام سأحاول أن أجيب عليه من خلال هذا المقال، ولكن، ومن قبل ذلك، فلا بأس بالعودة قليلا إلى بعض الفرص السياسية الضائعة، والتي لا شك أن ضياعها زاد من إرباك المشهد السياسي على مستوى المعارضة والأغلبية على حد سواء.

الشيوخ : أسوأ استثمار سياسي لأهم حدث خلال العشرية!

لم يكن إسقاط الشيوخ للتعديلات الدستورية في يوم 17 مارس 2017 بالحدث العادي، بل كان بمثابة زلزال سياسي كبير لم يُعرف له مثيلا في كل تاريخ الأنظمة الحاكمة في موريتانيا. المؤسف أن هذا الحدث الكبير لم يتم استثماره سياسيا، وبذلك ضاعت واحدة من أهم الفرص السياسية التي أتيحت خلال العشرية. بعد إسقاط التعديلات الدستورية، وبعد حل المجلس وتشكيل الشيوخ لمكتب جديد، وجد الشيوخ أنفسهم أمام ثلاث خيارات:

أولها : أن يكتفوا بالإنجاز الكبير الذي حققوه من خلال إسقاط التعديلات الدستورية، وينسحبوا نهائيا من المشهد السياسي تاركين للشعب الموريتاني وقواه السياسية مهمة الدفاع عن التصويت ب"لا" على التعديلات الدستورية .. هذا الخيار يمكن اعتباره خيارا سلبيا.

ثانيها: أن يتمسكوا بنتائج تصويتهم، ويعتبروا أن غرفة مجلس الشيوخ لا تزال موجودة على الأقل نظريا، وأن يأخذوا ـ بالتالي ـ مسافة من المعارضة والموالاة وذلك باعتبارهم يمثلون هيئة دستورية لا يمكنها أن تنخرط بشكل مباشر في العمل السياسي. هذا الخيار يعتبر خيارا مثاليا وغير واقعي، ومع ذلك فقد كان هو الخيار الذي تم اعتماده.

ثالثها : أن ينخرطوا في المعارضة ما دام النظام قد ألغى نتائج تصويتهم، وأن يناضلوا من داخل المعارضة من أجل استعادة مجلس الشيوخ.. هذا الخيار كان خيارا عمليا وذكيا، وقد تم طرحه بقوة من طرف بعض الشيوخ، ولكن لم يأخذ به.

كنتُ أحضر في بعض الأحيان لنقاشات الشيوخ في تلك الفترة حول هذه الخيارات، وكنتُ من الذين يرون أن الخيار الثالث هو الخيار الأمثل والأنسب للمرحلة، ذلك أنه كان سيأتي بنتيجتين في غاية الأهمية :

أولهما : أنه كان سيضخ دماءً جديدة في المعارضة الموريتانية، وكانت المعارضة في ذلك الوقت ـ وكما هي الآن ـ  في أمس الحاجة إلى دماء جديدة، وذلك بعد أن فشلت في خلق قيادات جديدة من داخلها تشكل بديلا لقادتها التاريخيين؛

ثانيهما : أنه كان سيتيح للشيوخ استثمار تصويتهم ب"لا" على التعديلات الدستورية استثمارا سياسيا جيدا بدلا من السير في مسار بلا أفق كما حدث بالفعل.

كنتُ أحضر لتلك الاجتماعات بوصفي أمينا عاما متطوعا للمكتب الجديد الذي تم تشكيله بعد حل المجلس، وكنتُ من أنصار الخيار الثالث، بل وأكثر من ذلك فقد اقترحتُ على رئيس المجلس وبعض أعضائه أن نبدأ من بعد إسقاط التعديلات الدستورية في تسويق رئيس المجلس كمرشح توافقي للمعارضة الموريتانية في انتخابات 2019، ولكن رئيس المجلس كان يرى بأنه من غير المناسب للشيوخ أن ينخرطوا في أي عمل سياسي أو انتخابي من قبل استعادة مجلسهم، وأن أي مشاركة في الانتخابات من طرف الشيوخ ستعتبر خيانة واعترافا ضمنيا بحل المجلس.

هذا القوس الطويل الذي فتحته عن ماضي الشيوخ دون إشعار القراء، والذين قد يعتقد بعضهم ولأول وهلة أنه قوسٌ لا صلة له بعنوان المقال، قد جئتُ به هنا لأبين أن الشيوخ الذين ضيعوا فرصة استغلال المزاج المعارض الواسع الذي تعاطف معهم بعد إسقاط التعديلات الدستورية، قد ضيعوا من بعد ذلك أيضا فرصة أخرى لا تقل أهمية، وكانت هذه المرة على مستوى حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، والذي لم نسمع إلى الآن أنهم قد استقالوا منه. حتى مطلبهم الذي يتمسكون به، أي عودة مجلس الشيوخ، فكان بإمكانهم أن يُطالبوا به من داخل الحزب بعد أن فشلت مطالبتهم به من خارج الحزب.

وبخصوص الفرصة الضائعة على مستوى حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، والمتمثلة في عدم تجديد واجهة هذا الحزب بعد تنصيب رئيس جديد للبلاد، فلم يكن شيوخ الحزب هم وحدهم من ضيع تلك الفرصة، بل كانت هناك مجموعات أخرى بالإضافة إلى الشيوخ قد شاركت هي أيضا في تضييع تلك الفرصة الثمينة، ومن بين تلك المجموعات:

ـ نواب الحزب الذين رفضوا ـ وبقوة ـ المأمورية الثالثة؛

ـ أطر الحزب ومناضلوه الذين عبروا بصراحة عن رفضهم للمأمورية الثالثة؛

ـ أحزاب المعارضة والشخصيات المعارضة وكل الذين التحقوا بحملة المرشح محمد ولد الغزواني من خارج أغلبية الرئيس السابق، سواء كانوا قد جاؤوا من المعارضة أو من خارجها.

هذه المجموعات (وخاصة منها 60 شيخا ونائبا التي تنتمي للحزب، والتي عارضت الرئيس السابق من خلال إسقاط التعديلات الدستورية ورفض التمديد) هي التي كانت تمتلك الشرعية السياسية والأخلاقية لأن تكون هي الواجهة السياسية والإعلامية للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني خلال السنتين الماضيتين، فكان عليها أن تتحالف فيما بينها لتشكل بذلك التحالف قوة سياسية داخل الحزب يُحسب لها ألف حساب. ولكنها ـ  وبدلا من ذلك ـ تقاعست في لحظة سياسية حاسمة، لم يكن يناسبها التقاعس، ولا التأخر في أخذ زمام المبادرة، ولا التردد في المخاطرة..تقاعست هذه المجموعات، وتحركت مجموعات أخرى بذكاء، وكان ما كان من غياب أو تغييب أغلب من يمتلك الشرعية الأخلاقية والسياسية لتصدر واجهة الحزب من بعد تنصيب رئيس جديد للبلاد، وقد تسبب ذلك الغياب في عجز الحزب عن بلورة خطاب سياسي وإعلامي مقنع،  يناسب المرحلة، ويلقى قبولا لدى الرأي العام الوطني.

بعد تنصيب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني كان من الواضح جدا أن حزب الاتحاد من أجل الجمهورية مقبل على أيام حاسمة، فلم يكن من المنطقي ـ ورغم كل ما كان يُقال حينهاـ  أن يتعدد ولاء الحزب لأكثر من رئيس، ولا أن يُقاد البلد برئيسين.

بعد ثلاثة أسابيع من التنصيب، وتحديدا في يوم 22 أغسطس 2019، ومن قبل أن تُثار نازلة المرجعية تقدمت باستشارة مجانية إلى المجموعات أعلاه، وكان ذلك من خلال تدوينة تحت عنوان "استشارة مجانية لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية"، وقد جاء في هذه الاستشارة المجانية : " ومن المؤكد أيضا أن في هذا الحزب من لا تعجبه تلك اللجنة (لجنة التسيير المؤقتة، وكان نائب رئيسها السيد بيجل قد تحدث  بتصريحاته الشهيرة والتي أثارت جدلا في ذلك الوقت)، وفيه من يريد لهذا الحزب أن يبدأ مرحلة جديدة يكون فيها الولاء المطلق للرئيس الحالي لا للرئيس السابق.

 هذه الطائفة الأخيرة أمامها الآن فرصة ثمينة للتشكل وللتعبير عن نفسها، والتعبير عن "النفس" في هذا الوقت لا يعني بالضرورة أن تصرح  بأن ولاءها للرئيس الحالي وليس للرئيس السابق، فذلك أمرٌ سابق لأوانه، وإنما يعني إظهار شيئ من القدرة على التشكل والتميز، وذلك في انتظار تطورات المشهد السياسي داخل الحزب وداخل فسطاط الأغلبية الداعمة."

تطورت بعد ذلك الأمور داخل الحزب من بعد نازلة المرجعية، وغابت المجموعات التي تم تعدادها في هذا المقال، والتي كان من المفترض أن تقود ذلك الحراك، فضيعت بذلك فرصة ثمينة جدا قد لا تتكرر أبدا.

من المفارقات التي تستحق التأمل والدراسة في هذه البلاد أن الأشخاص الذين يمكن وصفهم بالأشخاص الأنظف سياسيا، وسواء كانوا في المعارضة أو الأغلبية، هم في الغالب أشخاص يمتازون بعدة صفات سلبية منها:

ـ عدم القدرة على أخذ زمام المبادرة؛

ـ نقص في الحيوية والنشاط، والذي قد يتحول إلى خمول مزمن؛

ـ عدم القدرة على توحيد الجهود والتنسيق بخصوص الحد الأدنى من المصالح المشتركة.

هذا في حين أن الأشخاص الذين يوصفون في العادة بكل الصفات السياسية السلبية، هم في الغالب أشخاص مبادرون، حيويون، ويمتلكون قدرة كبيرة على التنسيق فيما بينهم لضمان عدم تعطل مصالحهم المشتركة.

ربما تكون هذه الصفات، مع أسباب أخرى لا يتسع المقام لبسطها، قد منحت هذه الطائفة الأخيرة من السياسيين القدرة على البقاء في الواجهة مهما حدث من هزات سياسية عنيفة في البلاد، ومهما حدث من تغييرات على مستوى هرم السلطة.

إن بقاء هؤلاء في الواجهة قد يُحقق لهم مصالح ضيقة، ولكنه قد يضر كثيرا بالنظام الذي يرفعون شعار الدفاع عنه، ولا يعني هذا الكلام أنه يجب إقصاء هؤلاء وإبعادهم عن الحزب بشكل كامل، فوجود مثل هؤلاء قد يكون ضروريا للأحزاب الحاكمة، وهم بإمانكهم دائما أن يلعبوا أدوارا مهمة من خلف الستار، ولهم الحق ـ كل الحق ـ في أن يحصلوا على مكاسب سياسية مقابل تلك الأدوار والجهود، ولكن كل ذلك يجب أن لا يكون على حساب واجهة الحزب، والذي يحتاج اليوم إلى واجهة جديدة قادرة على أن تُبلور خطابا سياسيا وإعلاميا جديدا ذا مصداقية، ويمكن تسويقه للرأي العام، وإن لم يحصل ذلك، فإن الحزب الذي كان يفترض فيه أن يكون ذراعا سياسيا وإعلاميا داعما للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ونظامه الحاكم سيتحول من داعم سياسي وإعلامي للنظام إلى عبء ثقيل، وإلى بالوعة تلتهم رصيد الرئيس. ثم إن عدم تغيير الواجهة السياسية والإعلامية للحزب، والاستمرار في التمسك بنفس الخطاب السياسي والإعلامي المتناقض ستكون لهما كلفتهما الكبيرة على النظام الحاكم، وسيظهر ذلك في نتائج الانتخابات البرلمانية البلدية القادمة.

حفظ الله موريتانيا... 

الأحد، 5 سبتمبر 2021

كيف نواجه ارتفاع الأسعار؟


يعيش العالم وضعية صعبة جدا بسبب جائحة كورونا، وأخطر ما في هذه الوضعية الصعبة هو أنه لا أحد يمكنه التنبؤ بنهايتها. هناك مصاعب عديدة تسببت فيها جائحة كورونا على المستوى العالمي، ومن تلك المصاعب الارتفاع الكبير الذي تشهده أسعار بعض السلع والمواد الأساسية، والمرجح لأن يستمر بعض الوقت، مما قد يتسبب في مشاكل عديدة لكثير من دول العالم، وخاصة الفقيرة منها.

هذه الوضعية الصعبة جدا، والتي تمرُّ بها أغلب دول العالم، تفرض علينا في هذه البلاد أن نتخذ ما يلزم من إجراءات لمواجهتها، وخاصة في الشق المتعلق منها بالارتفاع المتصاعد في أسعار بعض السلع والمواد الأساسية. تزداد الحاجة لاتخاذ مثل هذه الإجراءات بعد موسم الخريف لهذا العام، والذي اتسم ـ حتى الآن ـ بنقص كبير في تهاطل الأمطار.

هذه 12 نقطة قد تفيد في مواجهة الغلاء، ثلاثة منها يمكن اعتبارها إجراءات فورية من المهم أن يتم اتخاذها في أسرع وقت (المدى القصير)، وثلاثة منها يمكن اعتبارها إجراءات إستراتيجية يمكن اتخاذها على المدى المتوسط والطويل. أما النقاط الست المتبقية فهي عبارة عن إجراءات موازية بدونها لن تكون الإجراءات الفورية ولا الإستراتيجية فعالة. ثلاثة من هذه الإجراءات الموازية تتعلق بحسن التسيير والشفافية، والثلاثة الباقية تتعلق بالخطاب الإعلامي والإرادة السياسية.

الإجراءات الفورية (قصيرة المدى)

1 ـ بعث الشركة الوطنية للإيراد والتصدير (سونمكس)، أو إنشاء شركة وطنية أخرى تُعنى باستيراد المواد الأساسية والضرورية وتعمل على توزيعها وبيعها للمواطنين دون أرباح، ويمكن أن يتم ذلك عن طريق دكاكين مثل دكاكين أمل؛

2ـ المزيد من الاهتمام بالفئات الهشة، والعمل على زيادة أصحاب الرواتب الدنيا.

3 ـ ضبط وتنظيم السوق، والعمل على كسر احتكار استيراد بعض المواد الأساسية من طرف عدد قليل من التجار، فحسب بعض الدراسات فإن هامش أرباح التجار في بلادنا ما زال مرتفعا جدا بسبب الاحتكار وفوضى السوق، وقد يصل في بعض الأحيان إلى 50% من السعر. هذا الهامش الكبير قد يسمح بتخفيض أسعار بعض المواد مع المحافظة على  أرباح معقولة للتجار.

هاتان فقرتان مع تصرف بسيط ترجمهما المهندس أبوبكر أحمد من تقرير نشره البنك الدولي بالانجليزية في العام 2017، والتقرير يتحدث عن أسباب الفقر في موريتانيا، والتي كان في مقدمتها ارتفاع أسعار المواد الغذائية حسب التقرير.

الفقرة الأولى : " الأسعار المحلية للقمح والأرز في نواكشوط أعلى بكثير من الأسعار العالمية. في الفترة ما بين 2004-2016، كان متوسط سعر القمح ودقيق القمح في نواكشوط أعلى بنسبة 73% و130% من الأسعار العالمية ، بينما بلغ متوسط الفجوة في الأرز 92 % و 134 %."

الفقرة الثانية : " يكشف تحليل تركيبة تكلفة القمح والأرز المستورد في نواكشوط في عام 2014 أن أكثر من نصف سعر التجزئة يمكن أن يُعزى إلى هوامش ربحية للتجار الموزعين، بينما تلعب التعريفات والضرائب وتكاليف الحمالة والنقل دورًا ثانويًا فقط.

على الرغم من أن نظام استيراد المواد الغذائية يبدو ليبراليًا وشفافًا، إلا أن الأسعار المحلية والتي تتأثر بهوامش ربح المستورد تشير إلى أن القطاع، من الناحية العملية، تهيمن عليه لوبيات المصالح ويتأثر بممارسات غير تنافسية." 

الإجراءات الإستراتيجية (متوسطة أو طويلة المدى)

1 ـ العمل بشكل جدي و مدروس للنهوض بالزراعة حتى توفر اكتفاءً ذاتيا في مجال الحبوب والخضروات، ولمَ لا حتى تصبح بلادنا من مصدري الحبوب والخضروات إلى الخارج؛

2 ـ العمل بشكل جدي ومدروس على تطوير قطاع الصيد البحري وجعل السمك مادة تستهلك بشكل يومي في كل بقاع موريتانيا : تحت الخيمة وداخل الكوخ والعريش، أينما كانت تلك الخيمة والكوخ والعريش؛

3 ـ العمل بشكل جدي ومدروس للاستفادة من ثروتنا الحيوانية، وذلك من خلال العمل على تصدير اللحوم الحمراء، وتحقيق اكتفاء ذاتي في مرحلة أولى من المنتجات الحيوانية ( الألبان ومشتقاتها؛ الجلود)، والعمل على تصدير تلك المنتجات في مرحلة ثانية؛

الإجراءات الموازية في مجال الشفافية وحسن التسيير

1ـ محاربة الفساد بشكل صارم؛

2ـ إعادة النظر في ملف التعيينات والعمل على أن تكون الأولوية في التعيين لأصحاب الكفاءة المشهود لهم بالاستقامة؛

3ـ هناك قطاعات ومؤسسات يجب أن يتم التعامل معها بصرامة أكبر، ويجب أن يكون الاهتمام بها في مجال التعيين والرقابة يختلف عن بقية القطاعات والمؤسسات، وذلك لحساسيتها ولأهمية الخدمات التي تقدم أو الأدوار التي تقوم بها. ومن تلك المؤسسات والشركات يمكننا أن نذكر شركتي الماء والكهرباء، أما على مستوى القطاعات فيمكن أن نذكر: التعليم؛ الصحة؛ التشغيل.

الإجراءات الموازية في مجالي الخطاب الإعلامي والإرادة السياسية

1 ـ وضع خطة إعلامية تهدف إلى إطلاع المواطن على الصعوبات التي يعيشها العالم اليوم، وخاصة ما يتعلق منها بالارتفاع الكبير في أسعار بعض المواد والسلع الأساسية؛

2 ـ إطلاع المواطن على أهمية الإجراءات التي سيتم اتخاذها، ذلك أن شعور المواطن بأن هناك إجراءات تم اتخاذها لصالحه هو أمرٌ مهم جدا. لابد من اتخاذ إجراءات فعلية للتخفيف من آثار ارتفاع الأسعار، ولابد في الوقت نفسه من العمل على خلق شعور قوي لدى المواطن بأهمية تلك الإجراءات التي اتخذت لصالحه.

3 ـ تبقى النقطة الأهم في هذه النقاط، وقد أخرتها لأهميتها، تتمثل في ضرورة تدخل فخامة رئيس الجمهورية بشكل مباشر في ملف ارتفاع الأسعار، وإظهار وجود إرادة سياسية عليا تهتم وتتابع ـ أولا بأول ـ كل التفاصيل المتعلقة بارتفاع الأسعار، وكذلك كل الإجراءات المتخذة للحد من تأثيراتها السلبية على القدرة الشرائية للمواطنين من أصحاب الدخول المتدنية.

حفظ الله موريتانيا...