الاثنين، 31 يناير 2011

بيان استقالة الحكومة



نظرا لما حدث في تونس، ولما يحدث في مصر، ولما قد يحدث في بلدان أخرى لا تختلف كثيرا عن بلدنا.
ونظرا لأن الشعوب العربية ـ ويما فيها شعبنا ـ لم تعد تقبل بأن تقتات على الكلام، ولم تعد تهتم بالجهود "الجبارة" ولا بالجهود "المعتبرة" التي كانت ـ ولا زالت ـ تقدمها حكومتنا بانتظام على شاشة التلفزيون.
ونظرا لشعورنا العميق بأننا بعد عام ونصف لم نستطع أن ننجز شيئا مذكورا يمكن أن نقدمه للشعب الموريتاني الذي كان يتوقع منا أشياء كثيرة.
ونظرا لأنه ليس من اللائق أن يظل كل وزراء حكومتنا المحترمة يفتخرون ويشيدون بانجاز واحد أو انجازين، فتتحدث وزيرة الثقافة عن تشييد الطرق وكأنه من انجاز وزارتها، ويتحدث عنه وزير الصيد، ووزير التعليم، ووزيرة الخارجية....
ونظرا لشعور العديد من الوزراء بأن كرسي الوزارة أكبر بكثير من شخصه الكريم.
ونظرا لشعورنا العميق بأننا لم نستطع، ولن نستطيع أن نحقق ـ ميدانيا ـ البرنامج الطموح لفخامة رئيس الجمهورية.
ونظرا لأن بعض الوزراء قد يهدد بأن يحرق نفسه أمام القصر الرئاسي، إذا لم تقبل استقالته.
ونظرا للضيق الشديد الذي يعاني منه الوزراء بسبب اخفاقاتهم المتكررة، والذين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
ـ وزير الصحة الذي يشعر بضيق شديد لأنه لم يحقق شيئا في وزارته المليئة بالفضائح المتعلقة بالصفقات، ولأنه أضاع وقته الثمين في خصومات بلا أول ولا آخر مع الأطباء، ومع المعارضة، وفي خصومات تسببت في خصومات ذات طابع اجتماعي.
ـ وزير الاتصال الذي يشعر بضيق شديد هو الآخر، لأنه بدلا من أن يحسن من أداء مؤسسات الإعلام الرسمي، وبدلا من أن يجعلها في وضع أحسن من وضعها في العهود " البائدة"، فقد أعادها إلى ما قبل المرحلة الانتقالية الأولى.
ـ وزير التعليم الثانوي الذي يشعر بضيق شديد، لأنه لا يستطيع أن يتفرغ لمهمته الوزارية الصعبة، ويفضل بدلا من ذلك أن يتفرغ للخصومات مع المعارضة.
ـ وزير "التعليم الكبير" الذي يشعر بضيق أشد، لأنه يعلم بأنه بعد سنة ونصف فشل في تحقيق ما استطاعت إمرأة واحدة بلا وزير معين أن تحققه في سنة واحدة.
ـ وزير المالية الذي يشعر بضيق شديد لأنه لا يفهم شيئا مما يجري في وزارته، ولا يعرف أصلا لماذا جيء به إلى هذه الوزارة، ولا يعرف في أي وقت قريب ستتم إقالته ، كما أقيل وزيران من قبله. وهو يشعر بالضيق كذلك لأنه لا يعرف كذلك أي شيء عما يحدث في إدارة الخزينة، ولا في إدارة الضرائب والتي لا تختلف عن الوزارة.
نظرا لكل ذلك، فإننا نتقدم إلى السيد رئيس الجمهورية ببيان الاستقالة هذا، ونشعر سيادته بأننا سنقوم بعملية احتراق جماعي في حالة رفض الاستقالة.
الناطق الشعبي باسم الحكومة.
30 يناير2011
تصبحون على حكومة جديدة...

الاثنين، 24 يناير 2011

مطاردة "شبح 2010"!


يتحدث الناس كثيرا في هذه الأيام عن "شبح 2010"، ويشتد الجدال بينهم حول حقيقة وجود ذلك الشبح من عدمها، ولا فرق في ذلك بين النخب والعامة، ولا بين الأغنياء والفقراء، ولا بين المعارضين والموالين. ومع أن الخلاف حول حقيقة الشبح يحتدم ـ في العادة ـ مع نهاية كل عام، إلا أن مستوى الخلاف في هذا العام، قد وصل إلى مستوى غير مسبوق، أعطى لشبح هذا العام أهمية خاصة، جعلته يختلف عن كل أشباح السنوات الماضية.
سبح ها العام يختلف عن أشباح الأعوام الماضية، لكثرة وحدة وسخونة الجدل الدائر حول حقيقته. فالبعض قد يحدثك عن هذا الشبح وكأنه يراه جاثما أمام عينيه، في حين أن البعض الآخر قد يقسم لك بأن هذا الشبح لم تطأ قدماه الأراضي الموريتانية في هذا العام (لا أدري إن كانت للأشباح أقدام يمشون بها، أوعليها).
والعجب العجاب أن الفريقين المتخاصمين لا يتفقان إلا على شيء واحد، وهو نعت كل من يقرر أن يبحث بنفسه عن حقيقة "شبح 2010" بأن به مس من جنون. فالفريق المنكر لوجود الشبح على الأراضي الموريتانية، يعتبر أن البحث عن شبح لا وجود له أصلا، هو نوع من الجنون. كما أن الفريق المصدق لخرافة الشبح، يعتبر هو أيضا أن البحث عن الشبح هو نوع من الجنون. فمن الجنون أن يبحث المرء عن حقيقة صارخة، إن التفت إلى الأمام رآها، وإن التفت إلى الخلف رآها، وإن التفت عن يمينه رآها، وإن التفت عن شماله رآها، وإن رفع بصره إلى السماء رآها، وإن أخفض بصره رآها تحت قدميه عريضة سوداء، بل أنه فوق ذلك، إن أغمض عينيه رآها، أو رُئيت له.
ونظرا للخلاف الكبير بين الناس حول حقيقة الشبح، ونظرا لتغيير شهاداتهم ـ من حين لآخر ـ حول حقيقة وجوده، نظرا لكل ذلك، فقد قررت أن أنقب عن "شبح 2010" في عدة "مقاطع" من الأراضي الموريتانية، وأن أقدم لكم نتيجة عملية التنقيب.
وتمنيت لو أن مجلس الوزراء منح لإحدى الشركات الأجنبية المتخصصة، رخصة للتنقيب عن الشبح، من بين تلك الرخص الكثيرة التي يمنحها عادة في كل مجلس، وتمنيت لو أنه أعفاني ـ أو جردني إذا أردتم ـ من مهمة التنقيب عن "شبح 2010"، والتي لا أملك لها إلا بعض الوسائل البدائية جدا، والتي كنت أستخدمها في "العهود البائدة" للتنقيب عن أشباح السنين الماضية والتي لم تثر من الجدل ما أثاره شبح هذا العام.
كانت أول وسيلة بدائية استخدمتها للتنقيب عن الشبح، هي التأمل في وجوه الناس. فالشبح عندما يظهر في مكان ما، فإن ظهوره ينعكس تلقائيا على وجوه الناس، الذين تغمرهم سعادة غريبة، وعارمة، تنتقل عدواها بشكل سريع جدا. فتكثر الابتسامات، وتختفي الخصومات، وتقل التجاعيد، وتنقص أعمار المواطنين سنين عددا، ليس بالطبع على طريقة التلفزيون الرسمي، الذي "اختلس" بمناسبة الخمسينية، ثلاثة عقود من أعمار الموريتانيين، ومن عمر دولتهم الفتية. وهي العقود الثلاثة التي كان من المفترض أنها تفصل ـ حسابيا ـ العام 1978 عن العام 2008.
المهم أن تأمل ملامح المواطنين أوحى لي بأن الشبح لم يظهر في هذا العام، الذي زادت فيه أعمار الناس، وكثر فيه غضبهم، وتعددت فيه خصوماتهم، وصاروا يتصارعون ويتخاصمون لأتفه الأسباب.
وبعد فشل "التقنية الأولى"، في العثور على آثار الشبح، قررت استخدام "تقنية ثانية"، في عملية التنقيب. وهذه التقنية تعتمد على زيارات "مفاجئة" لمطاردة الشبح، في أماكن مظانه، والتي يقول البعض بأنه ظهر فيها في العام 2010.
كانت البداية بالأحياء العشوائية التي يقطنها الفقراء، وكان أول شيء قمت به في تلك "الزيارات المفاجئة" التي لم تكلفني التحرك ولو لأمتار معدودة، هو أني بحثت عن الشبح في مطابخ الفقراء.
ولقد لاحظت بعد تفتيش تخيلي عميق، لعدد من تلك المطابخ، بأنه لا وجود لآثار الشبح في تلك المطابخ، التي تناقصت فيها ـ وبشكل لافت ـ كميات اللحوم البيضاء و الحمراء. كما تناقصت كمية "الأرز الفاسد" و"الأرز المصحح"، وتراجعت نسبة الزيت، واختفت الخضروات من وجبات الفقراء، خاصة في آخر العام، مما أعطى لتلك الوجبات لونا أبيض محايدا، يعكس حياد الفقراء، والذين تخلت غالبيتهم عن مساندة "رئيسهم"، دون أن يعني ذلك أنهم قد التحقوا فعلا بمعارضيه . لقد تراجع كل شيء في مطابخ الفقراء، إلا المرق الذي لا زال بإمكانهم أن يزيدوه بسنتيلترات مكعبة، على حساب الطعم طبعا، بعد توفر الماء، مع انطلاقة مشروع "آفطوط الساحلي".
لم يترك "شبح 2010" أثرا ـ أي أثر ـ في وجبات الفقراء، إلا أنه رغم ذلك لا يمكن الجزم بأنه لم يزر أحياءهم في هذا العام. فهناك أرقام ورموز مبهمة على البيوت والأعرشة، وهناك آثار "خراب"، تركها شيء ما، حاول أن يشق ـ بشكل عنيف ـ طرقا في العشوائيات، وذلك قبل أن يختفي تماما عن الأنظار. وقد يكون ذلك الشيء المتعجرف هو "شبح 2010" الذي أنقب عنه.
تركت العشوائيات، ووليت وجهي شطر "ساحة التحدي" أو ساحة "التغيير البناء"، يوم مهرجان "الأقلية الداعمة" للرئيس. أقول "الأقلية الداعمة" لأنها هكذا تظهر في البرلمان، فهي تفشل دائما في أن تكون ندا للأغلبية المعارضة. يمكن لكل قارئ أن يتأكد من أن الأغلبية البرلمانية أقلية، وأن الأقلية البرلمانية أغلبية، من خلال "تمرين سياسيي" بسيط، يتلخص في إعداد لائحتين: لائحة بكل أسماء نواب "الأقلية الداعمة" الذين يتذكر أسماءهم الآن، ولائحة بأسماء نواب "الأغلبية المعارضة"، ثم يقوم بعد ذلك بالمقارنة بين عدد الأسماء الموجودة في اللائحتين. بالنسبة لي لا أعرف أسماء العديد من نواب "الأقلية الداعمة" للرئيس، بل أن هناك نوابا لا أعرف إن كانت لهم القدرة على النطق أم لا، وهناك آخرون لم أشاهدهم، ولو لمرة واحدة، رغم أن مأموريتهم أوشكت على النهاية، ورغم أني لا أتابع في التلفزيون إلا مداولات البرلمان.
تركت العشوائيات، وتوجهت لمهرجان "التحدي". كنت أعلم أني إن ركبت حافلة إيرانية، فأسمع الركاب يتحدثون عن وجود الشبح. وإن ركبت سيارة أجرة ألمانية، فإن السائق والركاب سينكرون لي وجود الشبح. وسيتحدثون عن ارتفاع سعر البنزين، وعن ارتفاع الضرائب على السيارات، وعن أشياء أخرى كثيرة، تنفي وجود الشبح.
قررت أن أسافر خياليا إلى "ساحة التحدي"، دون اللجوء لاستخدام وسيلة نقل عام، حتى لا يتم التشويش على عملية التنقيب. كانت لوحة "التحدي" في مهرجان "الأقلية الداعمة" ناقصة، تنقصها شامة على الخد الأيسر، وكانت الشامة هي الغائب الوحيد، عن اللوحة الأصلية، التي تم تصحيحها مرتين، أولهما في أول أربعاء من أغسطس 2005، وثانيهما في أول أربعاء من نفس الشهر من العام 2008. المهم أن إحدى "المناضلات" التي تترأس أحد أحزاب "الأقلية الداعمة"، تحدثت عن الإنجازات الجبارة لصاحب الشامة، وذلك ربما لتعويض النقص الحاصل في اللوحة.
حاولت أن أجد تفسيرا لتغيير اسم الساحة، من ساحة "التغيير البناء"، إلى ساحة "التحدي"، وكان التفسير الوحيد لذلك التغيير، هو أن "التغيير البناء" استطاع أن يتحدى الفقراء الذين انتخبوه، وتمكن في وقت وجيز من أن يُعيد إلى واجهته، كل "أشباح" المفسدين الذين احتضنهم مرتين، بعد أن انقلب عليهم مرتين.
في اليوم التالي لمهرجان التحدي، وفي مقاطعة عرفات نفسها، انطلقت مظاهرات "التحدي" والتي نظمها أبناء الفقراء، لتحدي مهرجان "التحدي"، وأنكر الطلاب المتظاهرون في عرفات وجود الشبح، بعد أن أكد المشاركون في مهرجان التحدي وجوده.
تركت المهرجان والمظاهرات وأنا في حيرة من أمري، فهل أصدق المشاركين في المهرجان وأقر بوجود "شبح 2010"؟ أم أصدق الطلاب المتظاهرين وأنكر وجود ذلك الشبح؟ وهل أصدق ركاب الحافلات الإيرانية، أم أصدق ركاب سيارات الأجرة الألمانية؟ وهل أصدق المبنى الكبير لمستشفى "الصداقة" في عرفات، والذي يكاد يصرخ بحقيقة وجود "شبح 2010"؟ أم أصدق مستوى الخدمات الصحية، داخل مستشفى الصداقة، وداخل غيره من المستشفيات والمراكز الصحية، والتي تؤكد بأن وزارة الصحة لم يزرها شبح، لا في هذا العام، ولا في الأعوام التي سبقته؟
تركت تلك الأسئلة بلا إجابات، وقررت أن أتجه مباشرة إلى ثانوية عرفات لمواصلة مطاردة الشبح. توقعت أن أجد في ساحة الثانوية آلاف الطاولات المدرسية الفائضة عن احتياجات الثانوية. لقد كان من المفترض أن تكون وزارة التشغيل والدمج والتكوين المهني قد سلمت لوزارة التعليم قبل أن تلتحق بها 100.000 طاولة مدرسية، في إطار مشروع الطاولة المدرسية، الذي لم يعلن رسميا عن وفاته، رغم أنه قد تم الإعلان ـ وبكثير من التطبيل ـ عن ميلاده، في يوم "مشهود" من أيام التغيير البناء "المجيدة"، وهو اليوم الذي زار فيه الرئيس وبشكل مفاجئ الثانوية التجارية، بعد وصوله من زيارة مفاجئة لجمهورية إيران الإسلامية.
اكتشفت بعض آثار للشبح في بعض فصول الثانوية، ولكن بعد تحليل عميق لتلك الآثار تأكدت أنها تعود إلى السنة الدراسية 2007 ـ 2008. أما بعد تلك السنة الدراسية، فيمكن القول بأن الشبح لم يزر ثانوية عرفات ولا أي ثانوية أخرى. وقد لا يزورها في المستقبل القريب. فرئيس الجمهورية الذي وعد بمنتديات للتعليم، وطالب بعدم تسييسها، كان هو أول من سيُّس التعليم، عندما اختار للتعليم الثانوي وزيرا غارقا في السياسة حتى التراقي، ومعروفا بتصريحاته الحادة، التي لا زالت ـ مع تصريحات بعض المعارضين المتطرفين ـ تعيق قيام حوار بين "الأقلية الداعمة" و"الأغلبية المعارضة".
بعد "الزيارة المفاجئة" لثانوية عرفات، توجهت ـ خياليا ـ إلى محطة للبنزين بحثا عن الشبح. ولعل من أكثر الغرائب التي يمكن تسجيلها عند أي محطة للبنزين، هي أن البنزين كان يباع في البلاد بسعر أقل بكثير من سعره الحالي، رغم أن سعر النفط عالميا كان قد وصل في العهد السابق إلى 130 دولارا، في حين أن سعره لم يتجاوزفي العهد الحالي91 دولارا.
كانت محطة البنزين، هي آخر محطة أنقب فيها عن الشبح في " قطاع عرفات". بعد تلك المحطة توجهت فورا إلى بعض الوزارات. في وزارة الثقافة وملحقاتها، غابت الثقافة، وغابت الرياضة، وتُرك الشباب يواجه عدوه الأول (الفراغ)، وذلك بعد توقف جائزة شنقيط، وبعد تنازل نواكشوط عن لقب عاصمة للثقافة الإسلامية، وبعد إغلاق جميع دور الكتب، وبعد انسحاب الفريق الوطني من بعض التصفيات. في وزارة الداخلية لا يمكن توقع وجود الشبح، اللهم إلا إذا كان متخفيا في قانون إصلاح الحالة المدنية. في وزارة الصحة قد يكون من العبث التنقيب عن الشبح هناك. في وزارة المالية، لا يوجد ـ بالتأكيد ـ شبحا، وإنما توجد "عفاريت نشطة" لم تسمح لوزير المالية، ولا لمدير الضرائب، ولا لمدير الميزانية، أن يستقروا في مناصبهم. في وزارة التجارة كنت مضطرا للتنقيب عن الوزارة نفسها، قبل التنقيب عن الشبح في مكاتبها، فالوزارة لا زالت مختفية عن الأنظار منذ رمضان الماضي. في وزارة الاتصال، لا يمكن لخبراء التنقيب، والذين يملكون أحدث التقنيات، أن يجدوا أي أثر للشبح، لا في برامج التلفزيون، ولا في صفحات الشعب. الغريب أن وزير الاتصال يصر دائما، على أن يطلب منا ـ بمناسبة وبغير مناسبة ـ أن نتذكر الوضعية المزرية التي كانت توجد فيها مؤسسات الإعلام الرسمي، في العهود السابقة، وأن نقارنها بوضعيتها الحالية.وهنا تكمن المشكلة، فنحن لم نستطع أن ننسى "الوضعية المزرية" التي كان يتخبط فيها إعلامنا الرسمي في المرحلة الانتقالية الأولى. ومقارنة التلفزيون اليوم، بالتلفزيون في تلك المرحلة، هو الذي يجعلنا نتمنى أن يعود تلفزيوننا لوضعيته "المزرية" السابقة، والتي هي بالتأكيد أفضل من وضعيته التي هي أكثر من مزرية، والتي يتخبط فيها حاليا. لم أفتش ـ خياليا ـ في بقية الوزارات لأنها لا تختلف "جيولوجيا" عن الوزارات التي تم التنقيب فيها، عن شبح لم يزرها.
قررت بعد ذلك أن أسافر خياليا إلى قطاع آدرار، رغم أنه لا يمكن أن نتوقع وجود "شبح 2010"، في ولاية تهددها المجاعة، وخلفت فيها حمى الوادي المتصدع العديد من الضحايا. اللافت للانتباه في هذا "القطاع"، أن نائب الولاية، ترك لأحد نواب "الأغلبية المعارضة"، شرف توجيه سؤال شفهي لوزير الصحة عن الوباء. وقد كان من المفترض أن يوجه نائب الولاية السؤال الشفهي لوزير الصحة، ليس لأن الولاية المتضررة هي التي جعلت منه نائبا، وليس لأنه أولى من غيره بطرح همومها. بل لأن صحيفته البرلمانية، وصحيفة "الأقلية الداعمة" التي ينتمي لها، بحاجة لأن يكون فيها ـ على الأقل ـ سؤالا شفهيا واحدا. ولم يكن من المناسب أن يترك ذلك السؤال ـ الذي كان لابد له من أن يطرح ـ لنائب من "الأغلبية المعارضة"، في صحيفته، وفي صحيفة "الأغلبية المعارضة" التي ينتمي لها، العديد من الأسئلة الشفهية الهامة.
اتجهت ـ بعد ذلك ـ شرقا عبر شارع الأمل، ولم ألاحظ أي آثار للشبح، خاصة في القرى والمقاطعات التي تضررت من الأمطار في موسم الخريف الماضي، والتي لم يتم التعامل مع نكبتها بشكل مناسب. لا زالت مقاطعة الطينطان تعاني، ولا زال مقطع الطريق الفاصل بين مقاطعة كيفة والطينطان، في حالة مزرية، رغم مرور مدة طويلة وكافية لترميمه.
والمؤكد أن من يسافر عبر طريق الأمل، لن يدعو بخير لوزير التجهيز، ولا للحكومة، أثناء مروره بالمقطع المتضرر.
وفي مدينة لعيون لا يوجد أي أثر للشبح، ويكفي أن نعرف بأنه لا يوجد مقهى واحد للانترنت، في هذه المدينة الجميلة. وساعة الانترنت البطيء تكلف 500أوقية، على جهاز يستخدمه صاحبه كمقهى للانترنت بجهاز واحد. قبل 2005 كان يوجد في هذه المدينة، وفي كل عواصم الولايات مقاهي توفر الانترنت، بسرعة أكبر، وبسعر أقل.
ومما يجب الإشارة إليه، في ختام عملية التنقيب هذه، أنه قد واجهتني بعض المشاكل "الفنية"، لأنه في بعض الأحيان، كنت أجد أثرا لشبح دون أن أستطيع أن أحدد إن كان "شبح 2010"، أو شبحا آخر. وللتغلب على ذلك المشكل، قررت أن أنقب في أراضي بكر، إذا وجدت فيها آثار لشبح، أي شبح، فسيكون من المؤكد أنها آثار "شبح2010".
لم أستطع أن أسافر خياليا لعاصمة مقاطعة أظهر، فقد كانت انبيكت لحواش أبعد من أن يصل إليها خيالي الذي أنهكته الأسفار. المهم أني سمعت بأن الحكومة قد شيدت فيها مدرسة. وبالطبع فبإمكان الحكومة أن تقول بأنها فتحت مقاهي للانترنت في انبيكت لحواش، وأنها شيدت دارا للكتاب، وملعبا، ومسرحا، ودارا للشباب، ومنتجعا سياحيا، وعدة متاجر تبيع بالتخفيض. بإمكانها أن تقول كل ذلك، لأنه لا أحد بإمكانه أن يفند ذلك.
ولأني لم أستطع أن أسافر خياليا إلى مقاطعة أظهر، فقد قررت أن أسافر إلى أرض بكر أخرى، وهي تجمع "ترمسة" الذي يضم ـ نظريا ـ 22 قرية، والذي دشنه الرئيس. المفاجأة أنه لا يوجد أي أثر لشبح 2010، ولازال أهل القرى يرفضون الرحيل إلى "ترمسة" التي يقال بأن مياهها مالحة، وأنه لا يوجد في حدودها ما يشجع للرحيل إليها كالوديان أو السدود.
الخلاصة: لم أتوصل بمعلومات قاطعة، تثبت أن "شبح 2010 " قد ترك آثارا ملموسة، على الأراضي الموريتانية. تقول المعارضة في هذا الإطار، بعد تقييمها لحصاد 2010، بأنه لا أثر لأي أداء حكومي في العام 2010، وأنه من العبث البحث عن أثر لهذا الأداء، على الأراضي الموريتانية. أما الموالاة فإنها تقول بأن الأداء الحكومي في هذا العام كان متميزا، وغير مسبوق، وأنه من العبث البحث عن آثاره، لأن آثاره بادية في كل مكان.
أعتقد أنكم الآن لم تعودوا بحاجة لأن أقول لكم بأن المقصود بشبح 2010، هو الأداء الحكومي في العام 2010.
تصبحون على أداء حكومي أفضل... وإلى الأحد القادم إن شاء الله...

الخميس، 20 يناير 2011

اسمعوني يا سيادة الرئيس قبل أن...!؟



أرجوكم حاولوا أن تسمعوا أنيني قبل فوات الأوان..
أرجوكم حاولوا أن تسمعوا صراخي فقد بحت حنجرتي..
أرجوكم حاولوا أن تخففوا ـ قليلا ـ من همومي فقد احدودب كاهلي..
أرجوكم حاولوا أن تنصفوني فقد آن الأوان لأن تنصفوني..
أرجوكم ـ يا سيادة الرئيس ـ أن تفعلوا شيئا من أجلي فما عدت أطيق الانتظار..
وابشروا ـ يا سيادة الرئيس ـ فإني لن أفكر يوما في الانتحار..
ولن أرتكب أشنع الكبائر..
ولن أتحول أمام قصركم شعلة من نار..
ولو كان الانتحار من الفعل المباح..
لتمنيت أن تكون لي تسعة أرواح..
حتى أرسل لكم رسالة مشتعلة في كل صباح..
واحدة باسم "عجوز امبود" التي تمنت أن تكون ناقة..
وثانية باسم طفل شارع يقتات على القمامة..
وثالثة باسم عاطل عن العمل مأساته بلا نهاية..
ورابعة باسم ربة بيت لها مع الأرز والزيت والسكر ألف حكاية وحكاية..
وخامسة من "حمُّال" يناضل من أجل أبخس زيادة ..
وسادسة من مثقف لا يُسمح له أن يسمع صوته أو أن يظهر على الشاشة..
وسابعة من شاب لا يجد مكانا يمارس فيه أي هواية..
وثامنة من معوق بلا كفالة ولا إعانة ولا عناية..
وتاسعة من مغترب كأنه بلا سفارة..
*****************
تقول حكومتكم لأبطال رسائلي إنهم يعيشون في سلام..
وإن بطونهم ملئت بأشهى طعام..
وإن أطفالهم يدرسون بانتظام..
و ينجحون في كل عام..
وتقول إنها شيدت لهم دولة جديدة من تحت الركام..
يُعامل فيها الفقير بكل احترام..
ويُعالج فيها المريض من سيء الأسقام..
ويُحارب فيها المفسد بالعصي والسهام..
وتتعايش فيها الأعراق بوئام..
تقول لهم حكومتكم كثيرا من الكلام..
وتوزع عليهم شتى أصناف الأوهام..
فأرجوكم ـ يا سيادة الرئيس ـ أن تقيلوا حكومة الكلام..
فقد سئمنا العيش في دولة من كلام..
********************
وتقول لهم أغلبيتكم إنهم يعيشون عصر تبجيل الفقراء..
وإن عهدهم عهد تغيير بناء..
و إنهم لن يفترشوا الأرض ولن يلتحفوا السماء..
وتقول لهم إن بيوتهم تنار بالكهرباء..
ويتدفق من داخلها الماء..
وتقول لهم إن مستشفياتهم مليئة بالدواء..
وإن المقاطعات الجديدة تُشيد لهم في كل صحراء وبيداء..
وإن المفسدين يعيشون في عزلة وجفاء..
وإن الإرهاب لم يعد قادرا على إراقة الدماء..
ويقول لهم معارضوكم إنهم يعيشون عصر حفنة من الأغنياء..
وإن العهد عهد ابتلاء..
وإنهم لا زالوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء..
وإن مستشفياتهم خالية من الدواء..
ومتاجرهم لم يعد لها زبناء..
وتقول لهم إن الصفقات تمنح للأقارب والأصدقاء..
والتعيينات أصبحت حكرا للحلفاء..
والعمال أصبحوا بلا رواتب كالعبيد والأرقاء..
تقول أغلبيتكم لأبطال رسائلي بأنهم يعيشون في نعيم ما بعده شقاء..
ويقول لهم معارضوكم بأنهم يعيشون في شقاء ما بعده شقاء..
ويتبادل الفريقان الشتائم بسخاء..
ويتلفظون بكلمات نابية بلا حياء..
ويسمع أبطال رسائلي الكثير من الهراء..
والحقيقة أن ما تقوله لهم أغلبيتكم هراء..
وما يقوله معارضوكم هراء..
وهم قد سئموا العيش في دولة لا تتقن نخبها إلا الهراء..
إنه يحلمون بنخب تقدم بعض الأفكار..
لتخفف قليلا من حدة الأسعار..
ويحلمون بنخب تفكر بإبداع..
لتزيل الهموم والأوجاع..
ولتطعم بعض الجياع..
*****************
أرجوكم ـ يا سيادة الرئيس ـ أن تستمعوا مباشرة للبسطاء..
أن تستمعوا إلى أنينهم دون وسطاء..
وأن تهدموا السور العظيم الذي شيدتموه بينكم وبين الفقراء..
الذين صوتوا لكم بكثافة على التغيير البناء..
فما تقوله عنهم أغلبيتكم مجرد هراء..
وما تقوله المعارضة كذلك مجرد هراء..
و تصفيق الأغلبية لن يتحول إلى إنجاز..
وجفاء المعارضة لن يخفيَّ ما تحقق من إنجاز..
واعلموا أن هؤلاء البسطاء..
لن يكتموا قرص دواء..
قدمته حكومتكم ذات صباح أو مساء..
حتى ولو أنشدت المعارضة ألف قصيدة هجاء..
واعلموا أن تصفيق أغلبيتكم والتي هي أغلبية كل الرؤساء..
لن يجعل أولئك البسطاء يحسبون قرص دواء..
كلفهم كثيرا من الجهد والعناء..
ضمن إنجازات التغيير البناء..
وفقنا الله جميعا لما فيه خير البلد...وإلى الرسالة المفتوحة التاسعة عشر إن شاء الله.

الأحد، 16 يناير 2011

برقية عاجلة إلى رئيس الجمهورية



سيدي الرئيس،
نظرا للارتفاع العالمي المذهل لأسعار المواد الأساسية، ونظرا لما حدث في بعض الدول الشقيقة، والذي لا يوجد أي بلد محصن ضده، ونظرا لنتائج اجتماع مجلس الوزراء الأخير والذي لم يستجب للأسف الشديد، في هذه المرحلة الحرجة، لتطلعات الفقراء بصفة عامة، ولا لتطلعات العاطلين عن العمل، والذين وجهوا رسائل عديدة، يبدو أن الحكومة لا تريد أن تقرأها بشكل صحيح.
نظرا لكل ذلك، فقد ارتأيت أن أكتب لكم هذه البرقية على وجه السرعة، وذلك لأقول لكم
بأن الكثير من الفقراء، قد أصبح يعيش حالة إحباط شديد نتيجة لأسباب عدة من بينها:
1 ـ لم يكن الفقراء الذين صوتوا لكم، يتوقعون منكم أن تحتضنوا ـ وفي وقت قياسي ـ أغلب مفسدي موريتانيا، رغم أنكم تمكنتم من الاستغناء عنهم، أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية، والتي كنتم تحتاجون فيها لأصواتهم. ولقد زاد مهرجان الأغلبية الأخير من حدة إحباط أولئك الفقراء.
2 ـ إن الفقراء الذين انتخبوكم لم يتوقعوا أن تُسد قنوات الاتصال بينكم وبينهم، خاصة في هذه الفترة التي قد يكون فيها لسد قنوات الاتصال بين الرئيس وشعبه، كلفة باهظة، وباهظة جدا. لقد أصبح من اللازم تأسيس ديوان للمظالم، مع الفتح الفوري لوسائل الإعلام الرسمي، وبشكل نهائي، أمام المواطنين العاديين، وأمام حملة الشهادات العاطلين، وأمام نخب كثيرة تم تهميشها وإقصاؤها وحرمانها من قنوات الإعلام الرسمي.
3 ـ إن استقرار الدول والأنظمة، لم يعد بالإمكان تحقيقه من خلال النخب، ولا من خلال "المفسدين"، ولا حتى من خلال الحوار مع المعارضة، رغم أهمية ذلك الحوار. إن ذلك الاستقرار لم يعد يمكن تحقيقه إلا من خلال الإصغاء الجيد للفقراء، مع المحاربة الجادة والفعلية للفقر والجوع والبطالة.
4 ـ لا جدال في أهمية تشييد الطرق التي تعطي لعاصمتنا الفتية وجها جميلا، ولا جدال في أهمية حمايتها بحزام أخضر، لا جدال في كل ذلك. ولكن تجميل العاصمة أو حمايتها قد يحتمل التأخير لأشهر أو لعام، إلا أن دعم الأسعار، وخلق فرص عمل، لم يعد يحتمل التأخير في ظل الارتفاع المتواصل لأسعار المواد الأساسية في الأسواق العالمية، وفي ظل الاحتجاجات الاجتماعية المتنامية، و التي لا يوجد أي بلد بمنأى عنها.
5 ـ لا جدال في أن إعداد برامج واستراتيجيات لمحاربة الغلاء في المستقبل هو أمر في غاية الأهمية، ولا جدال في أهمية زراعة القمح والسكر، ولا جدال في أهمية العمل على زيادة الإنتاج من اللحوم والألبان، إلا أن ذلك كله، لا يبرر إطلاقا عدم اتخاذ إجراءات فورية للحد من آثار الغلاء. كما أنه لا يبرر عدم التدخل المباشر لسونمكس، والتي يجب أن تتدخل فورا لاستيراد بعض المواد الغذائية، وبيعها بأسعار معقولة بدعم من الدولة.
6 ـ إن الأولوية في هذه المرحلة الحرجة يجب أن تمنح أولا، وثانيا، وثالثا، لخلق فرص عمل، و لدعم الأسعار، خاصة إذا ما ظلت الأسعار العالمية، في ارتفاع متواصل. كما أنه قد أصبح من الضروري تشكيل لجنة وزارية تعمل من أجل التخفيف من آثار الغلاء، خاصة في الأوساط الأكثر فقرا.
سيدي الرئيس،
أما فيما يخص البطالة، فقد كنا نتوقع من مجلس الوزراء، أن يتخذ إجراءات عاجلة لخلق فرص عمل جديدة، من أجل الحد من البطالة التي بلغت نسبتها في بلدنا أعلى نسبة في المنطقة. ولم نكن نتوقع من الحكومة أن يقتصر دورها في مكافحة البطالة، على جمع أعداد المكتتبين في وزارات ظلت في كل عام تكتتب موظفين، وتقديم تلك الحصيلة مجتمعة على أنها تشكل انجازا كبيرا. ولقد كنا نتوقع من الحكومة بدلا من ذلك أن تقوم ببعض الإجراءات الفعلية من قبيل:
1 ـ التزام الحكومة بتوفير فرصة عمل، لكل أسرة تضم أكثر من ثلاثة عاطلين من حملة الشهادات، وذلك للتخفيف من مستوى تركيز البطالة في الأسر الأكثر فقرا.
2 ـ كنا نتوقع أن يتم الإعلان عن تأسيس صندوق يوفر تعويضات اجتماعية للعاطلين عن العمل، خاصة منهم أولئك الذين قضوا على الأقل خمسة سنوات بعد التخرج، دون الحصول على وظيفة.
3 ـ لقد كنا نتوقع أن يتم اتخاذ إجراءات جدية، كضخ دماء جديدة، في وكالة تشغيل الشباب، وكتوفير موارد جديدة لهذه الوكالة، وذلك لكي تستعيد هذه الوكالة دورها الذي تخلت عنه منذ مدة.
4 ـ ولقد كنا نتوقع اتخاذ إجراءات " ثورية" للحد من البطالة، كأن تتنازل الدولة مثلا عن حصتها في شركة النقل العمومي، لصالح حملة الشهادات العاطلين عن العمل، وذلك لكي يكونوا مساهمين مع رجال الأعمال في تلك الشركة، التي تم فتح رأسمالها أمام رجال الأعمال. ومثل ذلك الإجراء كان سيوفر لآلاف العاطلين عن العمل مصدرا للعيش الكريم.
سيدي الرئيس،
لقد آن الأوان لأن يُفتح لحملة الشهادات العاطلين عن العمل بصيص أمل، وقد آن الأوان لأن تتاح لهم إمكانية العيش الكريم في بلدهم، وذلك لكي لا يلجؤوا لتصرفات يائسة وطائشة، قد تتسبب في خسائر كبيرة، وقد تكلف ما كان يكفي لدمج أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير البلد...وإلى الرسالة الثامنة عشر إن شاء الله.

الثلاثاء، 11 يناير 2011

ماذا نريد من الزعيم "مسعود"؟




هذا المقال ليس إلا امتدادا لمقال بعنوان "الانقلاب الأسمر"، الذي كتبته منذ عام تقريبا، وخصصته للحديث عن بعض التصريحات، التي أطلقها ـ في ذلك الحين ـ بعض قادة حركة الحر، لكي يمهدوا بها لإعلان بيانهم الأول للانقلاب على زعيم ومؤسس الحركة.
بعد نشر ذلك المقال، تلقيت ردودا متباينة ومتناقضة، من بينها ردود غاضبة، اعتبر أصحابها ـ سامحهم الله ـ أن اختيار الموضوع، كان نتيجة لسوء نية. كما اعتبروا أن الخلافات التي تحدثت عنها، مجرد خلافات وهمية، لا أساس لها من الصحة.
وبعد مرور عام تقريبا، تبين أن تلك الخلافات، لم تكن مجرد خلافات تخيلية أو وهمية، وذلك بعد أن أفضت ـ في مطلع هذا العام ـ إلى إعلان البيان الأول، الذي اعتبره البعض ـ ولهم الحق في ذلك ـ مجرد بيان فاشل، لمحاولة انقلابية فاشلة. في حين أن البعض الآخر، اعتبره مقدمة لـ "حركة تصحيحية"، كان لابد منها، لتصحيح مسار نضال حركة الحر.
ويعتقد " المنقلبون"ـ أو "المصححون"إذا ما أرادوا تسميتهم بذلك ـ أن مسار الحركة، بدأ ينحرف عن الاتجاه الصحيح. وأن السبب في ذلك، يعود إلى تخلي الزعيم "مسعود" عن دوره النضالي الحركي، لصالح دوره الوطني المتنامي.
وهذه الحجة بالذات، هي التي جعلتني أعود إلى الموضوع من جديد، وذلك لأتحدث بشكل أكثر تفصيلا، عن فقرة أوردتها في مقال "الانقلاب الأسمر"، لتبيان أهمية التوفيق بين الدورين : الحركي والوطني.
وقد جاء في تلك الفقرة ما نصه: " إن الزعيم "مسعود" سيبقى أعظم هبة قدمتها موريتانيا لحركة الحر، كما أنه سيبقى ـ في المقابل ـ أعظم هبة قدمتها حركة الحر لموريتانيا. لذلك فإنه لا يجوز لحركة الحر أن تحتكره، وتحرم موريتانيا منه. كما أنه لا يجوز لموريتانيا أن تحتكره، وتحرم الحركة من زعيمها المؤسس."
وفي ظل تطورات الأحداث، التي تعرفها الحركة اليوم، فقد ارتأيت العودة إلى هذه الفقرة من المقال المذكور، لأن ما ورد فيها قد يرى البعض أنه مجرد كلام نظري جميل، وذلك لأبين أن الزعيم "مسعود" بإمكانه ـ وهو ما يفعله بجدارة ـ أن يوفق بين النضال من أجل الشريحة، والنضال من أجل الوطن. وأنه لا تناقض ـ على الإطلاق ـ بين النضالين، إلا في أذهان بعض"المنقلبين"، أو "المصححين"إذا ما أرادوا تسميتهم بذلك.
ومن الغريب حقا، أن يطلب البعض من الزعيم " مسعود"، أن يتجاهل أنه يعيش اليوم في العقد الثاني من الألفية الثالثة، وأن يطلب منه أن يعود إلى نفس أساليب النضال، التي كان يمارسها في نهاية السبعينات، من القرن الماضي.
وإنه لمن الغريب كذلك، أن يُطلب من هذا الزعيم، أن يتجاهل الانجازات الكبيرة التي تم تحقيقها خلال العقود الماضية، والتي من بينها ترسانة قوية من القوانين، لا زالت ـ بطبيعة الحال ـ تحتاج لجهد كبير، من أجل العمل بها. ومن الغريب أيضا، أن يُطلب منه أن يتجاهل أن مكافحة الرق، لم تعد كما كانت في الماضي، ولم تعد قضية شريحة، بل أصبحت مطلبا وطنيا، لدى كل القوى السياسية، حتى وإن كان لا يزال عند الكثيرين مجرد مطلب نظري،لا يترتب عليه أي عمل ميداني. فكيف يُطلب ـ إذاً ـ من الزعيم "مسعود" أن يتجاهل كل ذلك؟ وكيف يُطلب منه أن يضيع الفرصة الكبيرة المتاحة له اليوم، والتي لم تأت صدفة، وإنما جاءت ثمرة لعقود من النضال المتواصل؟ فكيف يطلب منه أن يتنازل عن قيادة حركة وطنية كبيرة ومتنامية لمكافحة الرق، تشارك فيها كل القوى السياسية، وإن بدرجات متفاوتة جدا، وذلك لكي يحافظ على قيادة حركة الحر، التي لم تعد صالحة للبقاء بلبوسها القديم، بعد أن أدت دورها ، كاملا غير منقوص، في مكافحة الرق، وباعتراف الجميع.
لم تعد حركة الحر، بزيها وبلونها التقليدي، صالحة للبقاء. ولم يعد بإمكان الزعيم "مسعود" ـ حتى وإن أراد ذلك ـ أن يعود بالتاريخ إلى الوراء، ولم يعد بإمكانه ـ كذلك ـ أن يدير ظهره لآلاف الموريتانيين، من الشرائح والأعراق الأخرى، والذين يعلقون عليه آمالا كبيرة، لا تقل عن مستوى الآمال، التي يعلقها عليه أنصاره من شريحة لحراطين.
ولكن في المقابل، أليس من الظلم أن نطلب من الزعيم "مسعود"، أن يتعامل مع البسطاء من شريحته، والذين رفعوه مكانا عليا، كما يتعامل مع أنصاره من الشرائح الأخرى؟
ألا يستحق أولئك معاملة متميزة، لأنهم هم الذين يرجع لهم الفضل في تقديم الزعيم " مسعود" إلى كل الموريتانيين؟ ألا يستحق أولئك البسطاء "تمييزا إيجابيا" من الزعيم " مسعود" ، وهم الذين يستحقون ذلك التمييز ـ باتفاق الجميع ـ من طرف الحكومة، ومن طرف كل القوى السياسية الأخرى؟
في اعتقادي الشخصي، أن هناك دورين أساسيين، يجب أن يلعبهما الزعيم "مسعود"، في الحاضر، وفي المستقبل المنظور، لصالح شريحة لحراطين، وهما يشكلان ـ بالتأكيد ـ امتدادا لنضال حركة الحر، ولكن بأساليب ووسائل جديدة، لا تتناقض، ولا تتعارض ـ بأي حال من الأحوال ـ مع مكانته الوطنية المتميزة، التي أصبح يتمتع بها.
وقبل الحديث عن هذه الدورين الأساسين، قد يكون من المناسب، تقديم بعض الملاحظات، عن قضايا ذات صلة بالموضوع، يتزايد الحديث عنها منذ مدة.
الملاحظة الأولى: لا خلاف في أن مكافحة الاسترقاق، ومخلفات الرق، يجب أن تكون على رأس القضايا التي على الموريتانيين أن يناضلوا في سبيلها. ولا خلاف أيضا في أن من تفرغ للدفاع عن تلك القضايا العادلة، يستحق من الجميع احتراما وتقديرا خاصا، ولكن ذلك لا يشرع، بأي حال من الأحوال، لبعض المدافعين عن تلك القضية العادلة، أن يتجاهلوا المصالح العليا للوطن، والتي يجب أن تظل فوق كل المصالح العرقية، أو السياسية، أو الجهوية، أو القبلية. كما أن شرف الدفاع عن تلك القضية العادلة، لا يمنح لصاحبه بطاقة تأمين ضد النقد إذا ما أخطأ. ولا يجيز له انتقاد الشرائح، و الأعراق الأخرى، بعبارات مسيئة ونابية.
الملاحظة الثانية: إنه ليس من العدل تحميل الأجيال الحالية أوزار غيرها. كما أنه ليس من الحكمة أن ننبش التاريخ كثيرا، وليس من المفيد أن ننقب عن كل الصفحات السوداء في تاريخنا، وأن نقدمها من جديد، لتحميل الأجيال الحالية أخطاء آبائهم وأجدادهم الذين مارسوا العبودية ـ وأشياء أخرى ـ بشكل مشين.
إن في تاريخنا القريب والبعيد، آلاما كثيرة ليست محصورة فقط، على ممارسة العبودية بأبشع صورها. فهناك قبائل أبادت تقريبا قبائل أخرى، وهناك مقاومون استشهدوا في معارك شارك فيها موريتانيون مع المستعمر الفرنسي، لذلك فإن نبش التاريخ سيفتح جراحا مؤلمة كثيرة. كما أن بعض الأرقاء السابقين يتحملون أيضا جزءا من المسؤولية، فالفقر لا يبرر بيع الأبناء بسعر زهيد، وعدم تكافؤ القوة لا يبرر كذلك عدم الدفاع عن النفس.
ورغم ذلك، فإذا كان لا يمكن تحميل جرائم الماضي للأجيال الحالية، فإن جرائم الحاضر تتحمل مسؤوليتها ـ وبشكل كامل ـ أجيالنا الحالية، والتي يجب عليها جميعا، كل من موقعه، أن يشارك في فضحها، وكشفها، والدفاع عن ضحاياها. ولم يعد من اللائق أن تظل تلك المهمة مقتصرة على بعض نشطاء شريحة لحراطين، وإن كان يجب عليهم أن يكونوا في الصفوف الأمامية. ولم يعد من اللائق أن يتواصل غياب أبناء الشرائح الأخرى، عن تلك المهمة الوطنية النبيلة، والسامية. و أتمنى أن يتمكن "حراس المستقبل"، بعد أن يحصلوا على الترخيص القانوني، من لعب دور فعال في هذا المجال.
الملاحظة الثالثة: إن الدفاع عن القضايا العادلة، ومناصرة المظلومين، تستدعي قدرا كبيرا من الحيطة والحذر. فالمدافع عن القضايا العادلة عليه أن لا يستخدم إلا الوسائل القانونية، والأساليب الشفافة، حتى لا يسيء إلى القضية التي يدافع عنها.
كما أنه مطالب ـ قبل غيره ـ بمناصرة كل صاحب مظلمة، بغض النظر عن دين ذلك المظلوم، أو انتمائه، أو وطنه. وتزداد المناصرة إلحاحا، عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، والتي تشكل أبشع مظلمة معاصرة. لذلك فإن إطلاق بعض المواقف المعادية للقضية الفلسطينية، لا يسيء لتلك القضية، بقدر ما يسيء لمن يطلق تلك المواقف، خاصة إذا كان من أطلقها يدعي النضال في قضية عادلة كمحاربة الاسترقاق. لقد ناصر "نلسون مانديلا" كل المظلومين في العالم، خاصة العرب الذين لا تربطه بهم أي صلة. فقد عُرف هذا المناضل الكبير، بمواقفه الشجاعة الداعمة للشعب الفلسطيني، والمناصرة للشعب العراقي.
الملاحظة الرابعة: إن الذين ينتقدون اليوم الزعيم "مسعود"، إنما يمدحونه من حيث لا يشعرون. فالبعض انتقده لأنه تخلى عن بلدية نواذيبو في العام 2006. ولقد فات أولئك بأن تخليه عن تلك البلدية، ترك أثرا طيبا على العمل السياسي، وأضفى عليه مسحة أخلاقية كان ـ ولا يزال ـ في أمس الحاجة إليها. والذين ينتقدونه لاعتذاره "للأسياد" في الانتخابات الرئاسية الماضية، قد فاتهم أن ذلك الاعتذار رفع الزعيم "مسعود" إلى أعلى سلم النضال، وجعله ندا لمناضلين عالميين تركوا بصمات متميزة في النضال ضد العنصرية، والعبودية، والتمييز بكل أشكاله. في الوقت الذي شكلوا فيه صمام أمان، في بلدانهم، ضد حروب أهلية كانت شبه مؤكدة. لقد دعا "نيلسون مانديلا" سجانه السابق "كريستو براند" للاحتفال بعيد ميلاده 91، وشدد "مانديلا" على أهمية العلاقة التي تربطه بسجانه السابق، وقال: "إن تلك الصداقة، عززت مفاهيمي للإنسانية، حتى مع أولئك الذين أبقوا عليَّ خلف القضبان".
أما في أمريكا، فقد رفضت "روزا باركس" في الخميس الأول من ديسمبر من العام 1955، أن تترك مقعدها في الحافلة لرجل أبيض. وهو ما شكل بداية لنضال طويل، كاد أن يغرق أمريكا في بحر من الدم، لولا أن "مارتن لوثر كينج" اختط للمقاومة، طريقا يعتمد على مبدأ "اللا عنف"، أو "المقاومة السلمية" . ولقد كان ذلك المناضل الأسود يردد دائما، كلمة يقال أنها للمسيح عيسى عليه السلام : "أحب أعداءك، واطلب الرحمة لمن يلعنونك، وادع الله لأولئك الذين يسيؤون معاملتك".
وفي الحقيقة، فإني لست ممن يرغب في الحديث عن الواقع الموريتاني بمفردات من خارجه. ولم أكن أرغب في أن أجعل من نضال شخصيات خارجية، مرجعا للحكم على نضال شخصيات وطنية، تشكل مرجعا في النضال ضد الرق ومخلفاته. لم أكن أرغب في ذلك، إلا أن استشهاد البعض بأولئك المناضلين العالميين، لتبرير خطابات تتعارض مع خطاباتهم التي عُرفوا بها، هو ما دفعني لذلك.
أما فيما يخص الدورين الأساسيين اللذين يجب أن يعلبهما الزعيم المؤسس لحركة الحر، لصالح شريحة لحراطين، فهما:
أولا : توفير الدعم المعنوي والسياسي لشباب الشريحة، الذي يتفرغ للنضال ضد الاسترقاق ومخلفاته ، خاصة منهم، أولئك الذين يملكون رؤية واضحة، تنسجم مع رؤية الزعيم "مسعود"، ولا يجدون دعما وطنيا ولا دوليا، ويتم تغييبهم ـ بقصد أو بغير قصد ـ من طرف الصحافة المستقلة، التي تهتم ـ في أكثر الأحيان ـ بالإثارة، أكثر من اهتمامها بالقضية نفسها.
ثانيا : إن أهم شيء يمكن أن نقدمه اليوم لرب أسرة حرطاني، أو عموما لرب أسرة فقير،هو أن ندربه على مهارات، يمكن أن يحولها إلى نقود، تنعكس إيجابا على مستوى معيشة أسرته. أو أن نعلمه القراءة والكتابة. وإن أهم ما يمكن أن نقدمه للشاب الحرطاني الحامل لشهادة جامعية، أو لحامل الشهادة الفقير عموما، والذي لا يستطيع أن ينافس على الفرص القليلة المتاحة لأنه لا يملك وساطة، إن أهم شيء يمكن أن يقدم له، هو أن نكونه مجانا في المعلوماتية، أو في لغة أجنبية، حتى يستطيع أن ينافس على الفرص القليلة المتاحة، وحتى يستطيع أن يجد بديلا للوساطة التي لا يملكها. وإن أهم شيء يمكن أن نقدمه للطالب الحرطاني، أو للطالب الفقير عموما، هو أن نوفر له دروس تقوية مجانية، حتى يستطيع أن ينافس في المدرسة، و في الجامعة، زملاءه من الطلاب الذين تعلموا في مدارس خاصة، أو الذين يحصلون على دروس خصوصية في أسرهم. إن هناك أشياء عديدة أخرى، في غاية الأهمية، يمكن أن نوفرها للمئات من الفقراء، من خلال مؤسسات تنموية لا يكلف إنشاؤها وتسييرها لعام كامل، إلا أربعة ملايين أوقية. حيث أن فتح تسع مؤسسات من هذا النوع، في مقاطعات العاصمة التسع، ولمدة سنة كاملة، لا يكلف إلا ستة وثلاثين مليون أوقية.
فلماذا لا يؤسس الزعيم "مسعود" مؤسسة تنموية خيرية باسمه، وهو القادر بحكم مكانته وعلاقاته على الحصول لتمويل لها من الهيئات والمؤسسات الدولية المختصة؟ وإذا كان الزعيم "مسعود" قد أطلق في نهاية السبعينات شرارة النضال السياسي ضد العبودية، وحقق بذلك النضال الكثير من الإنجازات، فلماذا لا يطلق اليوم شرارة "النضال التنموي" ضد بقايا ومخلفات الرق، من خلال تأسيس مؤسسة تنموية خيرية، هي أهم ما يحتاج إليه لحراطين اليوم؟ ولماذا لا نخصص هذا العقد للنضال التنموي ضد الرق ومخلفاته ؟ ولماذا لا نجعل من "مؤسسة مسعود الخيرية للتنمية الاجتماعية" بداية لتنافس سياسينا على العمل الخيري، لكسب " أصوات" لحراطين وغيرهم من الفقراء. ومن المؤكد، أن التنافس في العمل الخيري، سيمنح لسياسينا في الدنيا ـ إذا كانت لا تهمهم إلا الدنيا ـ "أصواتا" تفوق بكثير ما كانوا يحصلوا عليه سابقا، من خلال إنفاق مبالغ طائلة على الخيام، والصور، ومكبرات الصوت، وأشياء سخيفة أخرى.
تصبحون على "نضال تنموي" ضد مخلفات الرق... وإلى الأحد القادم، إن شاء الله..

الثلاثاء، 4 يناير 2011

الشعارات لن تطعم جياع2011


كل الدلائل تشير إلا أن العام 2011 سيشهد احتجاجات اجتماعية قوية، إذا لم تتخذ السلطات الحالية ـ وعلى عجل ـ تدابير استثنائية لتفادي تلك الاحتجاجات. والأسباب التي قد تؤدي لتلك الاحتجاجات عديدة، منها ما هو خارجي، ومنها ما هو داخلي. منها ما هو موضوعي، ومنها ما هو شكلي. منها ما هو نتيجة لكلفة بعض القرارات الإصلاحية، ومنها ما هو نتيجة للاستمرار في بعض الممارسات الخاطئة.
لقد تفاعلت تلك الأسباب المتعددة تحت السطح، بما فيه الكفاية، ولم تعد تنتظر لكي تطفو عليه، في شكل احتجاجات شعبية عارمة، لا يمكن السيطرة عليها، إلا شرارة البداية، تلك الشرارة التي يستحيل التنبؤ بتوقيتها، أو بمكان اشتعالها.
و لن تختلف الاحتجاجات المتوقعة في أي لحظة، عن "ثورة الجياع" التي عرفتها البلاد في عهد الرئيس السابق، لن تختلف عنها، لا من حيث الاتساع، ولا من حيث سرعة الانتشار، ولا من حيث غرابة مكان انطلاقة الشرارة. وهي لن تختلف ـ كذلك ـ في سماتها البارزة، عن الاحتجاجات التي عرفتها دول عديدة من العالم في السنوات الأخيرة.
وموجات الاحتجاجات الاجتماعية الجديدة، التي اكتسحت دول العالم في السنوات الأخيرة، والتي يبدو أنها ستشكل ـ في المستقبل ـ بديلا للاحتجاجات التقليدية، تتسم في أغلبها بالعفوية. فهي احتجاجات بلا رؤوس وبلا قيادات، فثورة الجياع مثلا لم يكن لها قادة. ولم تستطع السلطة أن تُحَمِّل مسؤوليتها لقادة المعارضة الذين فوجئوا بها، تماما، كما فوجئت بها السلطات الحاكمة.
كما أنها قد تنحرف عن مسارها الأصلي لتتخذ أشكالا عنيفة وتخريبية، نظرا لغياب قيادات توجهها وتحدد مسارها.
أضف إلى ذلك صعوبة التعامل معها أمنيا، فهي ليست لها رؤوس يانعة تقطف. كما أن جمهورها غير متجانس، وهو بالضرورة قد لا يكون كله معارضا للسلطة. فثورة الجياع ـ مثلاـ كانت أكثر حدة في المناطق المحسوبة على السلطة، وفي المناطق غير المعروفة أصلا بالاحتجاجات ( مقاطعة كنكوصة مثلا).
كما أن هذه الاحتجاجات قد تستغلها الأحزاب السياسية المعارضة، والنقابات، و كل القوى السياسية التي فقدت منذ مدة القدرة على الفعل، وعلى تحريك الجماهير. واستغلال تلك القوى السياسية والنقابية لذلك النوع من الاحتجاجات، ودخولها في خط المواجهة، يمنح ـ عادة ـ لتلك الاحتجاجات فعالية أكثر، وقدرة أكبر على التأثير، كما حدث في احتجاجات تونس الأخيرة.
موريتانيا وتونس:
قبل الحديث عن الأسباب والدوافع التي قد تؤدي إلى ثورة جياع ثانية، قد يكون من المناسب تقديم مقارنة خاطفة بين موريتانيا وتونس، من خلال بعض المؤشرات التنموية، وذلك لكي نعرف كم هو صبور الفقير الموريتاني، وكم هو طيب، ووديع، وبريء. وربما تساعدنا تلك المقارنة، في أن نلتمس العذر للفقراء الموريتانيين، وأن نتفهم احتجاجاتهم القادمة، والتي تؤكد كل المؤشرات بأنها ستكون عنيفة وقوية، إذا ما ظلت الأمور تُدار بنفس الأسلوب، وتَسَير بنفس الوتيرة، وتَسِير في نفس الاتجاه.
وإذا كان بلدنا متقدما على تونس في المجال السياسي، وفي مجال الحريات العامة، إلا أنه في المجالات الأخرى لا يمكن مقارنته بها. هذا إذا ما استثنينا "جامعاتنا" التي قال عنها وزير التعليم ـ الذي تمت ترقيته ـ أنها أكثر تطورا من الجامعات التونسية.
فنسبة التونسيين الذين يعيشون تحت خط الفقر لا تصل إلى 10%، أما في بلدنا فإنها تزيد على 42%. ومتوسط دخل الفرد التونسي، يساوي تقريبا متوسط دخل أربعة موريتانيين. ونسبة الأمية في تونس لا تصل إلى 20%، أما في موريتانيا فالنسبة تقترب من 50%. وتونس تحتل الرتبة 59 عالميا حسب التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية. في حين أن بلدنا وبعد حربه "الشرسة" ضد الفساد، لا زال يقبع في الرتبة 143 عالميا. وفي تونس التي يتجاوز سكانها 10 ملايين، والتي لا تمتلك من الثروات ما نملك، لم تتجاوز نسبة البطالة فيها 14%، في الوقت الذي وصلت نسبتها في بلدنا إلى 32%.
و معاناة المُعَطلين عن العمل في موريتانيا، لا يمكن مقارنتها بمعاناة أشقائهم العاطلين عن العمل في تونس، والذين قادوا موجات الاحتجاجات القوية، التي هزت تونس في الأيام العشر الأواخر من العام2010.
لقد عانى المعطلون عن العمل في موريتانيا كثيرا، ومعاناتهم تزداد حدتها يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وعاما بعد عام، ونظاما بعد نظام. فقد تراجع دور وكالة تشغيل الشباب كثيرا، ولم تعد هذه الوكالة قادرة على توظيف المئات من حملة الشهادات في وظائف مؤقتة، كما كانت تفعل في الماضي. ولم تعد قادرة على تمويل مئات المشاريع الصغيرة لأصحاب الشهادات.
لقد ظل دور هذه الوكالة يتراجع، قبل أن يتوقف تماما منذ 6 من أغسطس 2008.ولقد برر الرئيس هذا التوقف في لقائه بالشعب بمناسبة ذكرى التنصيب، بأنه توقف مقصود ومتعمد. فالوكالة تنتظر ـ حسب رئيس الجمهورية ـ تخرج حملة الشهادات المكونين في معاهد التكوين المهني، لتمويل مشاريع معتبرة لصالحهم.
و تخرجت أول دفعة من حملة الشهادات، بعد أن تم تكوينها مهنيا لمدة عامين، وبلغ عددها 77 خريجا. لكن المفاجأة والصدمة، هي أن هذه الدفعة التي توقف نشاط الوكالة كله، في انتظار تخرجها، حسب ما جاء في "لقاء الشعب"، قد تجاهلتها الوكالة نفسها،كما تجاهلتها الوزارة الوصية، ليتفرغ المتخرجون الموعودون بالتمويل في "لقاء الشعب"، لكتابة الرسائل المفتوحة لرئيس الجمهورية، ولرفع اللافتات أمام الجمعية الوطنية، لينافسوا بذلك إخوة لهم، من حملة الشهادات المعطلين عن العمل، سبقوهم لتلك " الأنشطة".
إنها خيبة جديدة للمعطلين عن العمل، لا تختلف عن خيبة سابقة، تمثلت في رفض شركة النقل العمومي ـ رغم تمديد سن الاكتتاب إلى أربعين ـ السماح لأصحاب الشهادات الذين تتجاوز أعمارهم 33 سنة، بالمشاركة في أهم عملية اكتتاب نُظمت في هذا العام.
وغاب الاهتمام بالمعطلين عن العمل حتى لدى المعارضة، ولم يوجه نوابها ـ رغم أسئلتهم الشفهية الكثيرة ـ سؤالا واحدا لوزير التشغيل والتكوين المهني حول وضعية المعطلين عن العمل.
وبالمختصر المفيد، فإن أوضاع المعطلين عن العمل في موريتانيا أصبحت بالغة السوء، وهي أكثر سوءا من أوضاع أشقائهم في تونس، وهم اليوم يشعرون بمرارة لم يشعروا بها في الماضي، رغم أنهم عانوا كثيرا في الماضي. وهذه المرارة قد يعبر عنها بشكل غير متحضر، إذا لم يتم الالتفات قليلا لأصحاب الشهادات الجامعية، الذين يتسكعون على أرصفة شوارع "موريتانيا الجديدة".
الأسباب والدوافع:
أما فيما يخص الأسباب والدوافع التي قد تدفع الفقراء بصفة عامة، إلى القيام بحركات احتجاجية، فسأوردها ـ دون ترتيب أو تصنيف ـ في النقاط التالية:
1 ـ لم يحدث في تاريخ البلد، أن اتسعت الفجوة بين الوعود ومستوى الانجازات، كما اتسعت في أيامنا هذه. فمرشح الفقراء قد وعد في حملته الانتخابية بوعود " ثورية"، لم يَعِد بها رئيس من قبله، خاصة في مجال محاربة الفساد، وفي مكافحة الفقر. في حين أن مستوى الانجاز ظل متدنيا جدا. وهو ما تسبب في تنامي الشعور بالإحباط، ليصل إلى مستويات قياسية غير مسبوقة.
2ـ الآثار السلبية للأزمة العالمية، والتي تنعكس سلبا على مستوى المعيشة، وبالأخص في الأوساط الفقيرة.فالارتفاع العالمي المتواصل لأسعار بعض المواد الأساسية، كان له بالغ الأثر في بلدنا. لقد وصل سعر السكر ـ عالميا ـ إلى مستوى لم يصل إليه منذ ثلاثين عاما. في حين أن سعر النفط ظل في تصاعد مستمر، حتى وإن كان لم يصل بعد للمستوى الذي وصل إليه، في عهد الرئيس السابق.
3 ـ لقد ظهر جليا أن عَدَاء الرئيس لرموز الفساد، والذي كان يصر على تأكيده بمناسبة، أو بغير مناسبة، لم يكن عداءً مبدئيا، بل كان عداءً مؤقتا و موسميا. كما أن الاهتمام بالفقراء، كان اهتماما موسميا، ولم ينعكس ميدانيا في البرامج، وفي العمل الحكومي. فالفقير الموريتاني يدفع اليوم ضريبة أعلى من الضريبة التي كان يدفعها في العهود الماضية، على كل لقمة أرز حافية يبتلعها، وعلى كل كلمة يلفظها في هاتف نقال، وعلى كل "جرعة" بنزين. في حين أنه تم رفض زيادة الضرائب على السجائر، وربما يكون ذلك من أجل تشجيع الموريتانيين على الانتحار البطيء، لتخفيف الأعباء على "رئيس الفقراء". كما أن عدم الاهتمام ـ ميدانيا ـ بالفقراء يظهر جليا في ميزانية 2010 المعدلة، حيث تم تخفيض ميزانية البرامج والمشاريع المخصصة للشرائح الأكثر فقرا، بنسب تتجاوز 50% ( مكافحة آثار الرق، مكافحة التسول، برنامج لحدادة، برنامج اتويزة، مشروع مكافحة الفقر في آفطوط وكاراكور، حماية المستهلك، إعادة إعمار الطينطان....إلخ).
4 ـ الاختفاء الفاضح لوزارة التجارة، والتي لم يعد لها أي دور، للحد من آثار الارتفاع المستمر للأسعار، وللحد من المضاربات والاحتكار. بل أن هذه الوزارة لا زالت ترفض أن تفعل أي شيء لصالح المستهلك، حتى في مجال التشريعات، والتي لا يمكن ربط عدم سنها بالارتفاع العالمي لأسعار النفط. لم يعد لهذه الوزارة أي دور لصالح المستهلك، إلا في شهر رمضان، من خلال متاجر رمضان، لذلك فربما يكون من المهم ـ ترشيدا للنفقات الحكومية ـ أن يتم إغلاق هذه الوزارة، وأن يسرح عمالها حتى حلول شهر رمضان القادم. هذا إذا لم يكن من الأسلم إلغاؤها نهائيا، كما تم إلغاء كتابة الدولة لشؤون إفريقيا، التي لم نعرف لِمَ تم استحداثها؟ ولم نعرف ـ كذلك ـ لم تم إلغاؤها من قبل أن يكتمل حولها الأول؟
5 ـ لقد عمل النظام الحالي على "تجفيف الكثير من منابع الدخل"، حيث توقف العديد من الأنشطة الحرة التي كانت تدر دخلا. ورغم أن بعض هذه الأنشطة قد تم توقيفها في سبيل الإصلاح، إلا أن هناك أنشطة أخرى قد تم توقيفها بلا سبب وجيه. كما أن تخطيط العشوائيات، والذي كان ـ ولا يزال ـ يشكل مطلبا ملحا، رغم بعض الآثار السلبية التي قد تصاحبه، قد تسبب في استهلاك آلاف الأسر الفقيرة، لمدخراتها القليلة، لبناء مساكن جديدة، في وقت ارتفعت فيه أسعار مواد البناء كثيرا. كما تسبب كذلك في نزوح أسر أخرى، إلى العاصمة، من أجل الحصول على قطع أرضية، في ظل ارتفاع صارخ لتذاكر النقل. وفي الوقت نفسه فقد انشطر الكثير من الأسر الفقيرة، إلى أسرتين أو ثلاثة، من أجل الحصول على عدة قطع أرضية. وهو ما تسبب في مضاعفة استهلاك تلك الأسر الفقيرة، في وقت بلغت فيه أسعار المواد الاستهلاكية مستويات مخيفة، مما تسبب في المحصلة النهائية، إلى إفقار الكثير من الأسر الفقيرة أصلا.
6 ـ فشل الأغلبية الداعمة للرئيس في التخفيف من احتقان الفقراء، بعد عجزها الواضح، عن تسويق بعض الانجازات القليلة، التي تحققت في العام 2010.
7ـ لم يبذل النظام الحالي جهدا ـ ولو خجولا ـ لاستقطاب الصالح من أبناء الوطن، لكي يعينوه في حروبه المعلنة ضد الفساد والفقر، ويخففوا بالتالي من الاحتقان الناتج عن خيبة الأمل من نتائج تلك الحروب. فالمواطن الصالح، والمثقف الصالح، والصحفي الصالح، والموظف الصالح، والشاب الصالح، والمرأة الصالحة، لا يزالون مهمشين. فلا موظف واحد تم تعيينه أو ترقيته نظرا لكفاءته أو استقامته. ولا زالت التوشيحات يُحرم منها من يستحقها. فلماذا لم يُعترف للأستاذ الجليل بدوره في الدعوة، وهو الذي قدم ما عجزت وزارة التوجيه الإسلامي عن تقديمه رغم مواردها وإمكانياتها الكثيرة؟ ولماذا لم يُكرم ذلك الأستاذ الجليل الذي لم يُعترف له، لا في الداخل ولا في الخارج، بدوره الرائد في التعليم وفي الدعوة؟ ولماذا لم يوشح الباحث الكبير الذي أنجز أضخم عمل علمي في السنوات الأخيرة؟ ولماذا لم توشح بعض المنظمات الشبابية، والتي رغم تواضع الوسائل، تعمل بلا كلل، من أجل حماية مستهلك، أو توعية " فتاة " أو تنمية موهبة، أو تعمل بإبداع، لرسم بسمة، و زرع أمل، في نفس محتاجة؟
8 ـ لقد شكل رضا الرئيس عن حكومته، خيبة أمل كبرى، بالنسبة لكثير من الفقراء الذين كانوا يتوقعون إقالتها. فالرئيس في مقابلته الأخيرة، قال بأنه لن يغير الحكومة ما دامت تقوم بعملها المطلوب!!!! فعن أي عمل مطلوب يتحدث الرئيس؟ وما الذي أنجزته هذه الحكومة المرتبكة منذ تشكيلها؟ وهل انعكس الأداء الحكومي على مستوى معيشة المواطن؟ هل انعكس ذلك الأداء على وجبة الطعام التي يأكلها الفقراء؟ وهل انعكس على الدروس في الثانويات؟ وهل زاد من حجم التمويلات الصغيرة؟ وهل حسَّن من أداء صناديق القرض والادخار؟ وهل رفع من إنتاجية المزارع في حقله؟ وهل خلق ذلك الأداء فرصا جديدة للمعطلين عن العمل؟ وهل خفف ـ ولو قليلا ـ من هجرة شبابنا إلى الخارج طلبا للخبز الحافي؟ وهل انعكس ذلك الأداء على الثقافة؟ هل مكن من فتح مكتبات جديدة؟ أو نوادي جديدة؟ وهل انعكس ذلك الأداء على الوئام الاجتماعي؟ وهل انعكس على أداء منتخبنا الوطني؟ وهل شعر المتسولون بذلك الأداء؟ هل أحس به المعوقون؟ وهل ذاق طعمه الأيتام؟ وهل زار ذلك الأداء ضحايا حمى الوادي المتصدع، قبل رحيلهم عن دنيانا؟ وهل قلل الأداء الحكومي من رتابة تلفزيوننا الشاحب؟ وهل خفف ذلك الأداء من مستوى الإحباط الذي نعيشه؟ وهل زرع أملا في نفوس المواطنين بغد أفضل؟
لو كان أداء الحكومات يقاس بالخطابات والشعارات، لكان أداء الحكومة جيدا. ولو كانت الخطابات والشعارات تطعم الجائعين، أو تشفي المرضى، أو تعلم الأميين، أو تغني الفقراء لما شوهد على هذه الأرض جائع، ولا مريض، ولا فقير.
المشكلة أن الخطابات والشعارات والألقاب لا تفيد الفقراء في أي شيء. والمشكلة أن الفقراء الذين كانوا هم أول من ناصر "رئيس الفقراء"، من المحتمل جدا، أن يصبحوا أشد خصومه في هذا العام الجديد. والفقراء الذين أثبتوا ميدانيا مناصرتهم لرئيس الفقراء، من خلال تصويتهم المكثف له، بإمكانهم أن يثبتوا ميدانيا، عكس ذلك، من خلال المشاركة المكثفة في الاحتجاجات القادمة، والتي لن تتأخر كثيرا، إذا لم يتم اتخاذ قرارات استثنائية وشجاعة، من أجل التخفيف من معاناة الفقراء الذين نفد صبرهم.
تصبحون وأنتم أقل فقرا.. وإلى الأحد القادم إن شاء الله ..