طالعتُ منشورا للأخ الفاضل الإعلامي
أحمدو ولد الوديعة (وديعة اختصارا)، نشره على حسابه في الفيسبوك، يوم الأربعاء
الموافق 23 أبريل 2025، وشاركه في اليوم نفسه صحفي أجنبي يدعى حمدي جاوارا، الذي
يُعَرِّف نفسه بأنه كاتب وباحث في القضايا الإفريقية، ولا أدري إن كانت
جنسيته مالية أم لا، الشيء المؤكد هو أنه يدافع بقوة عن النظام الحاكم في مالي،
ويعدُّ من أشرس المحرضين على موريتانيا، وقد أضاف حمدي جاورا لمنشور الأخ وديعة
بعد أن شاركه على حسابه في الفيسبوك، تعليقا مليئا بالمغالطات، وهذا تعليقه:
"كاتب موريتاني ينتقد الحملة ضد السود في موريتانيا، علما أن الحكومة تريد
إسقاط الحصانة عن نائبين من الفلان بسبب مساءلتهم الوزراء في نفس الموضوع...
العنصرية في موريتانيا وصلت لقبة البرلمان...".
اترك لكم التعليق على تلفيقات
الصحفي حمدي جوارا، أما أنا فسأعود إلى منشور الأخ وديعة، الذي تضمَّن هو كذلك
الكثير من المغالطات والاستنتاجات الغريبة، ذكرتني ـ عندما طالعتها ـ بمغالطات
واستنتاجات أخرى لا تقل غرابة، كان قد توصل إليها طفل مشاكس ذات رحلة مع والده،
ومع أني استشهدتُ سابقا بقصة ذلك الطفل، فقد وجدتني اليوم مضطرا لإعادة الاستشهاد
بها مرة أخرى، وذلك بعد مطالعتي لمنشور الأخ وديعة، ولِما تضمن من مغالطات
واستنتاجات غريبة وعجيبة.
(1)
تقول القصة إن أبا ثريا يملك قصرا فخما، قرر ذات يوم أن يأخذ ابنه في
رحلة إلى قرية في الريف لا يسكنها إلا الفقراء، وكان الأب يريد من تلك الرحلة أن
ينبه ابنه إلى أنه يعيش في نعيم ورخاء حُرِم منه الكثير من أطفال الفقراء. قضى
الأب وابنه أياما في ضيافة أسرة فقيرة جدا كانت تسكن في مزرعة بالقرية الفقيرة،
وخلال طريق العودة دار بين الأب والابن الحوار التالي:
الأب: كيف كانت الرحلة؟
الابن: كانت رحلة رائعة!
الأب: هل شاهدت يا بني كيف يعيش أهل هذه القرية، وكيف كانت تعيش الأسرة التي أقمنا
عندها؟
الابن: نعم يا أبي، لقد شاهدتُ كل ذلك، فالأسرة التي أقمنا
عندها تملك أربعة كلاب ونحن لا نملك إلا كلبا واحدا، ولديها بركة ماء لا حدود لها،
ونحن لا نملك في منزلنا إلا حوض سباحة صغيرًا، وهي تضيء حديقتها الغنَّاء ذات
المساحة الشاسعة بالكثير من النجوم التي تتلألأ ليلا في السماء، ونحن نضيء حديقتنا
الصغيرة بمصابيح معدودة، أما باحة منزلهم فإنها تمتد في الأفق، في حين أن باحة منزلنا
ضيقة جدا.
ظل الأب يستمع لمقارنات الابن دون أن يعلق عليها، وذلك من قبل أن
يختم الابن حديثه باستنتاجه العجيب الغريب:
لقد عرفتُ يا أبي كم نحن فقراء، وكم هم أغنياء!!
(2)
يظهر النائب خالي جالو وهو
يتحدث ـ بعد استقباله من طرف نواب في البرلمان الأوروبي ـ عن العنصرية
والإقصاء والتمييز الذي تمارسه إحدى المكونات الوطنية (أقلية حسب النائب)، ضد
السود في موريتانيا، ويتكرر ظهور نائبتين في برنامج إساءة شبه أسبوعي، إن لم أقل
شبه يومي، يبث بشكل مباشر من أماكن متفرقة، فقد يبثُّ من تحت قبة البرلمان، وقد
يبثُّ من أمام مفوضية للشرطة، وقد يبثُّ من أمكنة أخرى. المهم أن النائبتين
تتنافسان دائما في بثهما المباشر في الإساءة إلى عناصر الأمن، وإهانة الدولة،
والتهجم على مكونة معينة، فيستنتج الأخ وديعة من كل ذلك، بأن هناك حملة تحريض بلغت
مستويات غير مسبوقة ضد المواطنين من ذوي البشرة السوداء في موريتانيا، وهذا هو
بالضبط ما افتتح به منشوره حيث قال: "حملة التحريض على المواطنين من ذوي
البشرة السوداء والتعريض بهم باعتبارهم أجانب إلى أن يثبت العكس بلغت خلال الساعات
الأخيرة مستويات غير مسبوقة، وصلت حد التصريح أن سكان مقاطعات ومناطق بكاملها من
البلد أجانب.!!"
من يقرأ هذه الفقرة من منشور الأخ
وديعة، قد يُخيَّل إليه أن الذي تحدث في البرلمان الأوروبي هو نائب ببشرة غير
سوداء، وأنه في حديثه تهجم على كل السود في موريتانيا، وسيُخيَّل إليه أيضا أن
النائبتين اللتين تجريان بثا مباشرا بشكل شبه يومي لهما بشرتان غير سوداوَيْن،
وأنهما في بثهما المسيء والمتكرر تتهجمان دائما على السود في موريتانيا.
من الواضح جدا أن هناك تشابها صارخا
بين الأسلوب الذي اعتمده الطفل المشاكس لإثبات ثراء أسرة فقيرة جدا، والأسلوب الذي
اعتمده الأخ وديعة لإثبات تعرض السود في موريتانيا لحملة تحريض غير مسبوقة خلال
الأيام والأسابيع الأخيرة.
بعد استنتاجه الغريب هذا، يوصينا
الأخ وديعة وصية في غاية الأهمية، فيقول بالحرف الواحد: "هذا السلوك خطير
ويجب الوقوف في وجهه بكل حزم وصرامة" .
بالفعل، يا أخانا الفاضل وديعة، هذا
سلوك خطير، فالتحريض على مكونة وطنية ـ أياَّ تكن تلك المكونة ـ يعدُّ أمرا
في غاية الخطورة، ويجب علينا جميعا أن نتصدَّى له بكل حزم وصرامة، ولكن تبقى هناك
جزئية صغيرة علينا أن نتفق عليها من قبل مواجهة حملة التحريض هذه. تتعلق هذه
الجزئية بالإجابة على سؤال واضح ومباشر: من المحرِّضُ ومن المحرَّضُ عليه خلال
الأسابيع والأيام الأخيرة؟
(3)
قد يقول قائل بأني تحدثتُ عن قضايا
لم يكن يقصدها الأخ وديعة في منشوره، فهو لم يكن يقصد بالتحريض الذي تحدث عنه في
منشوره خطابات الكراهية الرائجة حاليا، وإنما كان يقصد تحديدا ملف الهجرة غير
النظامية الذي فُتِح مؤخرا، والذي أثار هو الآخر نقاشا واسعا على منصات التواصل
الاجتماعي.
إننا لا نستطيع أن نجزم بطبيعة
التحريض الذي يقصده الأخ وديعة في منشوره هذا، خاصة، وأن المنشور ظهر عدة مرات،
على حساب الأخ وديعة على الفيسبوك، وفي مناسبات مختلفة خلال الأشهر الثلاثة
الأخيرة، فظهر في يوم 24 فبراير، و6 مارس، و 23 أبريل، أي أنه يظهر مرة كل شهر،
ودون إشارة على أنه من الأرشيف، لحاجة ما في نفس ناشره، ومع ذلك فستبقى الفرضية أن
الأخ وديعة كان يقصد الهجرة غير النظامية في منشوره، فرضية قائمة، حتى وإن كان ما
يفهم من الصياغة أن حديثه عن الهجرة بدأ فقط من الفقرة الثانية، عندما قال:
"أما حديث الهجرة فحديث يجب أن يتأسس على المعطيات، وعلى القانون أيضا؛
المعطيات تقول إن في موريتانيا كما في كل بلدان العالم مهاجرون، والموريتانيون من
أكثر الشعوب هجرة، والبلدان التي "يلحد" المحرضون على السود إليها، من
أكثر البلدان التي يوجد بها مهاجرون موريتانيون مقيمون فيها منذ عقود، بل ربما
نقول في بعضهم حتى منذ أكثر من قرن."
في هذه الفقرة من المنشور التي تحدث
فيها الأخ وديعة عن الهجرة تجنب أن يستخدم عبارة "الهجرة غير النظامية"،
وكأنه أراد بذلك أن يُبقي الالتباس والغموض قائمين حول طبيعة الهجرة التي تواجهها
الحكومة حاليا، فمثل ذلك الالتباس قد يعينه ويعين قوما آخرين يشاركونه الموقف
نفسه، على تمرير المزيد من المغالطات لإرباك جهود الحكومة الحالية للحد من الهجرة
غير النظامية، وهي جهود نرى نحن في الفسطاط الآخر أنها جهود تستحق الدعم، حتى وإن
كانت قد تأخرت كثيرا.
سنكتفي من هذه الفقرة بقول الأخ
وديعة إن الحديث عن الهجرة يجب أن يتأسس على المعطيات والقانون، فهذا قولٌ جميلٌ،
حتى وإن كان الأخ وديعة لم يذكر على الإطلاق شيئا من القانون في منشوره،
واكتفى من المعطيات بمعطى يتيمٍ واحدٍ، لحاجة في نفسه، مفاده أن الموريتانيين من
أكثر الشعوب هجرة، وأن الكثير منهم يوجد منذ عقود، بل إن بعضهم يوجد منذ أكثر من
قرن في البلدان التي يتم التحريض على مواطنيها السود المقيمين في بلادنا.
سأعلق على هذه الفقرة من المنشور
بعدة ملاحظات ومعطيات ، على الراجح أن الأخ وديعة غيبها عن قصد، وربما تكون غابت
عنه عن غير قصد، وهذا هو الاحتمال الأضعف، المهم أنها ـ وفي كل الأحوال ـ
معطيات مهمة جدا غابت عن المنشور.
ا ـ لنبدأ هذه الملاحظات بطرح سؤال
سريع على الأخ وديعة: ألم يحصل الموريتانيون الذين يقيمون في تلك البلدان، منذ
عقود بل ومنذ قرن كما جاء في منشوركم، على جنسية تلك البلدان؟ ألا ترى بأن بلدنا
في هذه الجزئية أحسن حالا من تلك البلدان، لأنه من الصعب جدا أن تجد اليوم مقيما
فيه منذ عقود لم يحصل حتى الآن على الجنسية الموريتانية؛
ب ـ ألا يحق لموريتانيا أن تُرَحِّل
المهاجر المتسلل إلى أراضيها، والذي يرفض لسبب أظنك تدركه، أن يُسوي وضعيته
القانونية، رغم الإعفاء من الرسوم المادية، ورغم إعطاء مهلة زمنية طويلة جدا؟ أريد
هنا إجابة قانونية، مع تذكيركم ـ يا أخانا الفاضل وديعة ـ بقولكم بأن الحديث عن
الهجرة يجب أن يتأسس على القانون.
ج ـ أليس غريبا ـ يا أخانا الفاضل وديعة ـ أن لا تحاول بعض النخب في
الجزائر أو السنغال أو المغرب أو تونس إرباك عمليات ترحيل المهاجرين غير النظاميين
التي تجري حاليا في تلك البلدان، وذلك في وقت ينفرد فيه بعض نخبنا بمحاولة إرباك
عملية ترحيل المهاجرين غير النظاميين من بلدنا؟ ألا يبدو هذا التصرف غريبا شيئا
ما، مثيرا للشكوك نوعا ما، مستفزا إلى حد ما، خاصة وإذا ما استحضرنا المعطيات
التالية، والتي غابت ـ أو غُيِّبت ـ عن منشوركم:
ـ أن بلدنا هو الأقل سكانا في المنطقة، وبالتالي فإن أي تدفق للمهاجرين
من الشمال أو الجنوب سيؤثر على تركيبته السكانية (نسبة السكان الأصليين إلى نسبة
المهاجرين)؛
ـ أن بلدنا يعدُّ حاليا هو البلد الأكثر استقبالا للمهاجرين في
المنطقة، هذا إذا ما رتبنا دول المنطقة من حيث استقبالها للمهاجرين، على أساس نسبة
المهاجرين من مجموع سكان كل دولة؛
ـ أن بلدنا هو البلد الوحيد في المنطقة الذي وصل فيه تجمع واحد
للاجئين إلى الترتيب الثاني من حيث عدد السكان بعد العاصمة نواكشوط؛
ـ أن بلدنا ـ وحسب بعض الدراسات
الموثوقة ـ هو الوجهة المفضلة الأولى ل17 مليون شخص في منطقة الساحل والصحراء
يتأهبون للهجرة؛
ـ أن بلدنا يمتلك حدودا طويلة مع بعض دول الجوار التي لدينا معها
امتدادات عرقية، وهذه الحدود تصعب السيطرة عليها، وبعضها لم يعد آمنا، وأي تدفق
للمهاجرين من تلك الحدود أو من أي حدود أخرى إلى بلدنا سيؤدي إلى اختلال سريع في
تركيبته الديمغرافية (نسب المكونات والأعراق بعضها إلى بعض).
إن هذه المعطيات واضحة وجلية، يا
أخانا الفاضل وديعة، وتبرر كل واحدة منها على حدة الحملة الحالية التي تقوم بها
الحكومة للحد من الهجرة غير النظامية، فكيف بهذه المعطيات إذا اجتمعت في وقت واحد،
لتهدد بلدا واحدا، كما هو حاصل مع بلدنا حاليا؟
من الغريب حقا أن الأخ وديعة تجاهل
كل هذه المعطيات الواضحة والجلية، وذلك بعد أن دعانا في منشوره إلى أن نؤسس
حديثنا عن الهجرة على المعطيات، ولم يذكر في منشوره إلا معطى واحدا، وهو أن
الموريتانيين من أكثر الشعوب هجرة، وأن هناك جاليات موريتانية في العديد من
البلدان، وكأنه يُريد أن يؤكد لنا من خلال هذا المعطى اليتيم، أن حماية جالياتنا
في الخارج، تستوجب ـ لزوما ـ ترك حدودنا مفتوحة على طولها وعرضها أمام تدفق
المزيد من المهاجرين غير النظاميين.
إن من يُذَكِّر دائما بهذا المعطى
اليتيم دون غيره من المعطيات الأخرى، لا يُريد من ذلك إلا أن تبقى حدودنا مفتوحة
أمام تدفق المهاجرين غير النظاميين، وهذه كلمة أصبح لابد من قولها و رفع الصوت
بها، فالتركيز على هذا المعطى دون غيره لا يُعدُّ انتصارا لجالياتنا في الخارج،
بقدر ما يُعَدُّ انتصارا للمهاجرين غير النظاميين، فمن المعروف أن جالياتنا في
إفريقيا، جاليات مسالمة ومنضبطة، لا تطمح للتجنس في بلدان إقامتها، وبالتالي فإنها
لن تتردد في تسوية وضعيتها القانونية، إذا ما طُلِبَ منها ذلك، وربما من قبل أن
يُطلب منها ذلك، ولذا فمطالبتنا نحن في موريتانيا لجاليات تلك الدول بتسوية وضعيتها
القانونية في بلادنا لن تتضرر منه جالياتنا في الخارج، عندما تعاملها حكومات
تلك البلدان بالمثل، وتطلب منها تسوية وضعيتها القانونية في بلدان إقامتها.
إن ما ستتضرر منه حقا جالياتنا في
الخارج، هو هذا السيل العارم من المغالطات الذي يتدفق من أفواه وأقلام بعض
الموريتانيين الذين يكررون بالغدو والآصال، وكأنهم يتعبدون بذلك، القول بأن
موريتانيا دولة عنصرية، وأنها تحرض على الأفارقة السود، وتتعامل مع المقيمين منهم
فيها بوحشية، وعلى أساس اللون!!
إن تكرر سماع نخب دول
المنطقة لهذه المغالطات من شخصيات موريتانية معروفة، سياسية أو حقوقية أو إعلامية،
سيجعل بعض تلك النخب يُطالب حكوماته بأن تُعامل الجاليات الموريتانية المقيمة في
بلدانها، بمثل القسوة والعنصرية التي تتعامل بها الحكومة الموريتانية مع الجاليات
الإفريقية المقيمة على أراضيها، ولمن يريد من نخب تلك الدول أن يطلع على سوء تلك
المعاملة، فما عليه إلا أن يقرأ منشورا للأخ وديعة، أو يطالع بيانا للحقوقية
فاتيماتا أمباي، أو يستمع إلى تصريح للنائب كادياتا، أو يتابع مقابلة للنائب خالي
جالو، ليتأكد ـ حسب ما يقول أولئك ـ بأن السود في موريتانيا، مواطنين كانوا
أو مقيمين، يتعرضون بالفعل لحملة تحريض غير مسبوقة.
لا يمكن أن نلوم بعض النخب الإفريقية
إن هي صدقت هذه المغالطات، ولا يمكن أن نلومها إن هي حرضت على الموريتانيين
المقيمين في بلدانها، كما يحرض الموريتانيون على السود الأفارقة في بلدهم حسب الأخ
وديعة وصحبه، فلا يمكن أن نلوم تلك النخب إن طالبت بعمليات طرد جماعي للموريتانيين
المقيمين في بلدانها، ردا على عمليات الطرد الجماعي التي تعرض لها المهاجرون من
لون واحد في موريتانيا، حسب تصريحات النائب كادياتا، وهي تصريحات لم تتراجع عنها
حتى من بعد أن أجابها وزير الداخلية على سؤالها الشفهي، إجابة يفترض أنها كانت
شافية، ولا يمكن أن نلوم تلك النخب إن طالبت ـ في إطار المعاملة بالمثل ـ
باعتقال جماعي وتعسفي مهين للكرامة الإنسانية للموريتانيين المقيمين ببلدانها،
وذلك بعد أن تعرض المهاجرون الأفارقة في موريتانيا للاعتقال الجماعي والتعسفي
المهين للكرامة الإنسانية، حسب ما جاء في بيان الجمعية الموريتانية لحقوق
الانسان التي ترأسها المحامية فاتيماتا أمباي.
لو كانت هذه الحملة الهادفة إلى
تشويه سمعة بلادنا، والتي قد تتضرر منها جالياتنا في الخارج، قائمة على حقائق على
أرض الواقع لهانت المصيبة، ولكن المصيبة أنها حملة قائمة على مغالطات وتلفيقات غير
صحيحة، ونحن في موريتانيا ندرك أنها مغالطات غير صحيحة، ولكن المشكلة أن غيرنا قد
يصدقها، ويستشهد بها، وحقَّ له ذلك، تماما كما فعل الصحفي المحرض على
موريتانيا حمدي جاورا الذي استشهد بمنشور الأخ وديعة لإثبات أن موريتانيا دولة
عنصرية تحرض على السود الأفارقة، فلماذا تعطون للآخر ـ وأنا هنا أوجه السؤال
للأخ وديعة وصحبه ـ أدلة مزيفة على ممارسة بلدكم لعنصرية لم يمارسها ضد
المهاجرين السود، وذلك في وقت لم نسمع فيه سنغاليا أو ماليا من النخب التي يشار
إليها هناك، يتحدث عن أي ممارسة عنصرية ترتكب ضد الموريتانيين المقيمين في
البلدين، حتى وإن حصلت تلك الممارسة العنصرية في بعض الأحيان، وقد حصلت
بالفعل.
أقولها وبكل استغراب: هناك نخبٌ في
الدول المجاورة تتستر على أخطاء بلدانها حتى لا تشوه سمعتها خارجيا، وهناك نخبٌ
عندنا تروج المغالطات تلو المغالطات لتشويه سمعة بلدها خارجيا. إنها حقا،
لمفارقة مؤلمة جدا.
(4)
يختم الأخ وديعة منشوره بدعوة نبيلة
يجب أن تكون محل إجماع من طرف الجميع، فقد ختمه بالقول: "فدعونا الآن نبني
خطاب الأخوة المؤسسة على العدل، والاعتزاز بالتنوع المنطلق من اعتراف كل منا بلغة
الآخر وثقافته".
من المهم جدا أن نُذكر من جديد، بأن
الأخ وديعة كان قد أوصانا في منشوره، بأن نؤسس حديثنا على القانون والمعطيات،
فلتطمئنوا وليطمئن معكم الأخ وديعة، على أننا سنتقيد بوصيته في كل فقرات هذا
المقال الطويل، فكما تقيدنا بها في بداية المقال، فإننا سنتقيد بها في ختامه. لكن
المشكلة التي ستواجهنا في هذا المقام، هي أن الأخ وديعة الذي يدعونا للتقيد
بالقانون، لا يتقيد هو شخصيا بمادة مهمة من القانون، يفترض أن نحتكم إليها في كل
ما يتعلق بقضية اللغة، والتي أوردها الأخ وديعة في ختام منشوره، وكثيرا ما يورد
الأخ وديعة قضية اللغة، بل يقحمها إقحاما، في مثل هذا النوع من منشوراته.
إن الجدل حول إشكالية اللغة أو
اللغات في موريتانيا كان يجب أن يتوقف نهائيا بعد المصادقة على دستور 20 يوليو
1991، هذا إن كنا نحترم حقا القانون الذي أوصانا الأخ وديعة في منشوره بضرورة
الاحتكام إليه، ففي دستور 1991، والدستور يوصف ـ يا أخانا الفاضل
وديعة ـ بأنه أبو القوانين، وأنه القانون الأسمى والقانون الأعلى،
توجد مادة تحمل الرقم 6، أي أنها في مقدمته، تقول: "اللغات الوطنية هي
العربية والبولارية والسوننكية والولفية. اللغة الرسمية هي العربية."، فبأي
منطق ـ يا أخانا الفاضل وديعة ـ تدعونا للتقيد بالقانون، وأنت الذي ترفض منذ
أن عرفناك أن تتقيد بهذه المادة من الدستور التي حسمت نهائيا قضية اللغة أو
اللغات؟ وبأي منطق تطلب منا في آخر جملة من منشورك أن يعترف كل واحد منا بلغة
الآخر، وأنت ترفض دائما أن تعترف بالمكانة التي أعطاها الدستور للغة العربية، حيث
جعلها هي اللغة الرسمية الوحيدة، وأقول الوحيدة، ثم أكرر الوحيدة، للجمهورية
الإسلامية الموريتانية؟
إن اللغة العربية ـ يا أخانا الفاضل
وديعة ـ هي اللغة الرسمية الوحيدة للجمهورية الإسلامية الموريتانية، وستبقى كذلك
بنص المادة السادسة من الدستور، ولا يمكن أن تُنتزع منها تلك المكانة التي أعطاها
لها القانون إلا بالقانون، أي بتعديل للمادة السادسة من الدستور عن طريق البرلمان،
أو عن طريق استفتاء شعبي، ولتطمئن ـ يا أخانا الفاضل وديعة ـ فلا شيء من ذلك
سيحصل أبدا، فلا برلمان موريتانيا سيصوت ـ تحت أي ظرف ـ على نزع صفة اللغة الرسمية
الوحيدة عن اللغة العربية، ولا الشعب الموريتاني ينتظر منه أن يُصوت في استفتاء شعبي
على شيء من ذلك القبيل.
لم يحدث ـ وهذا مما يثير استغرابي
حقا ـ أن طالعتُ منشورا واحدا للأخ وديعة يدافع فيه عن اللغة العربية باعتبارها
اللغة الرسمية الوحيدة للجمهورية الإسلامية الموريتانية، ولكني كثيرا ما أصادفه في
عالمنا الافتراضي هذا، وهو يدافع بحماس عن اللغة الفرنسية، إذا ما دافع آخرون عن
اللغة العربية، بل إني كثيرا ما أصادفه في هذا الفضاء وهو يدعو إلى ترسيم اللغة
الفرنسية وإعطائها المكانة القانونية نفسها التي تحظى بها اللغة العربية في
التعليم والإدارة.
يقول الأخ وديعة في مقال له تحت
عنوان: "الإسلاميون والقضية اللغوية" منشور على حسابه بالفيسبوك بتاريخ:
10 مارس 2017 "أما البعد الثالث فهو الفرنسية بصفتها أولا لغة من لغات العالم
يعني ذلك كما قررنا سلفا أنها ءاية من ءايات الله، وبصفتها ثانيا لغة جزء معتبر من
أمة الإسلام اليوم؛ يعبد الله بها اليوم عشرات الملايين بل ربما مئات الملايين هنا
في افريقيا وهناك في أوروبا الغربية وفي كندا، وبصفتها ثالثا- وهذه هي الأهم - لغة
مشتركة مع مكونات وطنية أصيلة".
ويقول في منشور آخر، بتاريخ 5 مارس
2018: "لأهل هذه البلاد في الموضوع اللغوي خياران؛ إما ثنائية لغوية (
العربية والفرنسية ) أو رباعية لغوية ( العربية والبولارية والسوننكية والولفية )
وأحسب أن الأجدر بنا اختيار الأيسر وما هو بإثم؛ بمعنى أن تظل العربية لغة رسمية
وأن تكون الفرنسية لغة ثانية في الإدارة والتعليم".
من الواضح لكم ـ ولا أظنني كنتُ
بحاجة لأن أوضح لكم هذا ـ أن لا علاقة لما كتب الأخ وديعة عن اللغة الفرنسية
باحترام القانون، والذي كان قد أوصانا باحترامه في منشوره، فاللغة الفرنسية لم
تذكر في الدستور الموريتاني، لا بصفتها لغة رسمية، ولا بصفتها لغة وطنية، ولا حتى
بصفتها لغة أجنبية، فلماذا يقحمها الأخ وديعة هنا ما دام يصرُّ على مطالبتنا بأن
نؤسس حديثنا على القانون؟
وحتى إذا ما تجاوزنا القانون
إلى المعطيات التي أوصانا بها كذلك الأخ وديعة في منشوره، فسنجد أن معطياته التي
قدم غير متماسكة، ولا تعطي أي حجة مقنعة لاعتماد اللغة الفرنسية لغة رسمية في
موريتانيا، فهو عندما يَقول إن اللغة الفرنسية آية من آيات الله، فليست تلك ميزة
خاصة باللغة الفرنسية دون غيرها، فكل اللغات آيات من آيات الله، وأولى اللغات بتلك
الصفة هي اللغة العربية التي اختارها الله لحكمة يعلمها هو أن ينزل بها آخر كتبه،
وأن يجعلها لغة السنة النبوية الشريفة، ووعاء الفقه الإسلامي، وقوله إنها لغة
"يُعْبَد بها الله.." فذلك قولٌ لم أستوعبه جيدا، وأظنه كان يقصد بقوله
إن العديد من الناطقين أو المتحدثين بالفرنسية هم من المسلمين الذين يعبدون الله.
إذا كان هذا هو ما يقصد فعلا، فليست تلك أيضا بميزة خاصة باللغة الفرنسية دون
غيرها من اللغات، فهناك لغات عالمية أخرى يتحدث بها عدد من المسلمين يفوق بكثير
عدد المسلمين الذين يتحدثون باللغة الفرنسية، وعموما فإذا كانت هناك لغة أقرب
للإسلام وللمسلمين، فهي وبكل تأكيد اللغة العربية التي يحتاج إليها كل مسلم لتلاوة
القرآن وتدبره، ويحتاج إليها كذلك في صلاته، والتي أوجب الله عليه أن يؤديها في
اليوم خمس مرات. وتبقى الحجة الثالثة التي حاول الأخ وديعة تسويقها، وذلك
لتأكيد طرحه القائل ـ أو طرح الإسلاميين عموما حسب عنوان المقال ـ بأن
المقاربة اللغوية في موريتانيا يجب أن تكون ثلاثية الأبعاد، هي قوله: "وبصفتها
ثالثا- وهذه هي الأهم- لغة مشتركة مع مكونات وطنية أصيلة"، وكأنه أراد أن
يقول لنا هنا إن اللغة العربية ليست لغة مشتركة مع تلك المكونات الوطنية الأصيلة،
وهذا منكرٌ من القول يجب الرد عليه.
يحاول الأخ وديعة، وكما يحاول
كثيرون، أن يجعل من اللغة الفرنسية حصرا، ودون غيرها من اللغات، اللغة الوحيدة
التي يمكن أن تكون لغة مشتركة مع بعض مكوناتنا الوطنية. إن هذه النظرة الخاطئة عند
الأخ وديعة وغيره، تستوجب منا التذكير بالمعطيات التالية:
1 ـ أن العلاقة بين اللغة العربية
ولغاتنا الوطنية، أقوى من العلاقة بين اللغة الفرنسية ولغاتنا الوطنية، فاللغة
العربية جاءت إلى إفريقيا يحملها الإسلام، واللغة الفرنسية جاءت إلى إفريقيا
يحملها الاستعمار، وشتان ما بين لغة حملها الإسلام إلى قوم، ولغة حملها الاستعمار
إليهم؛
2 ـ أن اللغة العربية هي التي نقلت
لغاتنا الوطنية من لغات شفوية إلى لغات مكتوبة، فكُتِبت هذه اللغات ولأول مرة في
تاريخها بالحرف العربي، وظل الحال على ذلك، إلى أن جاء الاستعمار الفرنسي فحارب
المحاظر، وقتل العلماء، وأحرق الكتب، وعمل على خلق جفاء أو فجوة بين اللغة
العربية واللغات الافريقية، وكان مما استخدم لذلك اعتماد الحرف اللاتيني بدلا من
العربي في كتابة بعض اللغات الافريقية؛
3 ـ أن ما يزيد على 50% من
مفردات لغاتنا الوطنية له جذور أو أصول عربية؛
4 ـ أن الموريتاني الوحيد الذي
لُقِّب بجدارة برائد تعليم اللغة العربية في موريتانيا، والذي يستحق بالفعل حمل
ذلك اللقب هو العالم الكبير الحاج محمود با رحمه الله. تجنبتُ القول بأنه رائد
التعريب في موريتانيا، وهو بالفعل رائد التعريب في موريتانيا، وذلك لعلمي
بأن كلمة "التعريب" تثير حساسية الأخ وديعة؛
5 ـ أن هناك شيخا موريتانيا قال
للرئيس الراحل المختار ولد داداه بعد أن أنهى خطابا له باللغة الفرنسية أمام جمع
من إحدى مكوناتنا الوطنية، والتي يعتبر الأخ وديعة بأن اللغة الفرنسية لغة مشتركة
لها، قال له، لا أحد يا سيادة الرئيس فهم شيئا من خطابك، فكل الحاضرين هنا لا
يعرفون إلا لغتهم البولارية، أو اللغة العربية التي هي لغة دينهم؛
6 ـ أن الموريتاني الذي يمكن اعتباره
ضحية من نوع خاص، لازدراء وتهميش اللغة العربية في الإدارة الموريتانية، هو
المختفي أو المفقود موسى يورو بنجا صو، خريج المعهد العالي للاتصالات السلكية
واللاسلكية بسوريا، وقد التحق موسى من قبل اختفائه بهيئة البريد والمواصلات في
الفترة ما بين 1980 و1982، فهُمِّش في تلك الإدارة لأنه لا يتحدث إلا باللغة
العربية، ونُقِل ـ مبالغة في تهميشه وإهانته ـ إلى قسم البريد والطرود تحت
إمرة مفتش، واستمرت الإدارة في تهميشه وإذلاله، إلى أن وصل الأمر إلى ما فوق طاقة
تحمله، فقرر ذات يوم أن يختفي إلى الأبد، ولم يترك خلفه لأسرته وأصدقائه إلا قصاصة
قصيرة كتب عليها: "وداعا، لقد تركت لكم إذاعتي في متجر جارنا، وأخذت منه
مبلغا يسيرا، سددوه وخذوا الجهاز".
فلتعلم ـ يا أخانا الفاضل وديعة ـ
أنه مرت 43 سنة على اختفاء موظف موريتاني من مكونة ترى أنت بأن اللغة الفرنسية لغة
مشتركة لها، وكان سبب اختفائه هو انتصاره للغة العربية، ورفضه أن يهمش ويذل في
وظيفته وفي بلده، بسبب أن لغته التي تعلم بها هي اللغة العربية. ربما لم تسمع ـ يا
أخانا الفاضل وديعة ـ بقصة هذا الموريتاني المختفي انتصارا لكرامته وللغة العربية،
وربما تكون قد سمعتَ بها ولم تهتم بها، فالحديث عن هذا النوع من الضحايا قد لا
يخدم طرحك، ولا يخدم المغالطة التي تروج لها، وهي المغالطة التي تقول إن اللغة
الفرنسية لغة مشتركة لمكونات وطنية أصيلة.
7 ـ لعل آخر مغالطة يمكن أن تستنجدوا بها، يا أخانا الفاضل وديعة،
لتبرروا بها ترسيم اللغة الفرنسية في موريتانيا، هي المغالطة التي تقول بأن بعض
مكوناتنا الوطنية بحاجة لتعلم اللغة الفرنسية، وذلك لضمان تواصلها مع امتداداتها
العرقية خارج موريتانيا، وخاصة في دول الجوار الإفريقي.
فلتعلموا ـ يا أخانا الفاضل وديعة ـ بأن هذه المغالطة ما هي بمخرجتكم
من ضيق الحجج الذي تتخبطون فيه، وهي مغالطة لم تعد قابلة للتسويق، خاصة وبعد أن
اقتربت كثيرا من الوصول إلى تاريخ انتهاء صلاحيتها، والراجح أنها ستُرمى
قريبا في نفايات المغالطات المنتهية الصلاحية، ويكفي لتأكيد ذلك أن ننظر بعين
استشرافية لمشهد تنامي واتساع حضور اللغة العربية في دول الجوار الإفريقي،
فمن ذلك المشهد المبشر ـ يا أخانا الفاضل وديعة أن اللغة العربية أصبحت لغة
رسمية في مالي، وهي صفة افتقدتها اللغة الفرنسية بموجب دستور مالي الجديد، فأصبحت
مجرد لغة عمل فقط، وربما تفقد تلك الصفة لاحقا، فالمؤشرات تسير في ذلك الاتجاه.
أما في السنغال، فإن المؤشرات أوضح، فقد نقل تقرير للجزيرة نت، يمكنكم العودة إليه
في أي وقت، عن مدير المركز الإسلامي في دكار الأستاذ المبرز شارنو كاه الحبيب
قوله: "إن العربية هي اللغة الأولى الأكثر انتشارا في السنغال إلى يومنا
هذا"، ونقل التقرير أيضا عن وزير التعليم السنغالي السابق أبادير تام قوله:
إن 35% على الأقل من الشعب السنغالي يتكلمون العربية، ومع وصول النظام الجديد
للحكم في السنغال، تم اتخاذ قرارات مهمة من شأنها أن تعزز من مكانة اللغة العربية
في السنغال، كان من بينها القرار بإنشاء مديرية لإدماج حملة الشهادات باللغة
العربية في سوق العمل.
يحدث هذا في وقت شهدت فيه المنطقة موجة انسحابات من المنظمة
الدولية للفرانكفونية، فقد انسحبت مالي والنيجر وبوركينافاسو من هذه المنظمة، وقد
تصل موجة الانسحابات إلى دول أخرى، فالحبل على الجرار وكما يُقال، ومن المؤكد أن
هذه الانسحابات سيكون لها أثرها السلبي على حضور اللغة الفرنسية في المنطقة، ويمكن
أن نضيف لكل ذلك موجة العداء أو التحرر من فرنسا، ولكل ماله صلة بها، وبما في ذلك
لغتها، وهي موجة متصاعدة ومتنامية لدى شباب القارة، ومن المؤكد أن كل ذلك سيساهم
في تراجع حضور اللغة الفرنسية في المنطقة، وسيكون ذلك التراجع لصالح اللغة
العربية، والتي أصبحت يا أخانا الفاضل وديعة تحتل اليوم الرتبة الثانية بعد
الانجليزية، وربما تجاوزتها في ترتيب اللغات الأكثر حضورا في إفريقيا، حسب بعض
الإحصائيات، وذلك في الوقت الذي تراجعت فيه اللغة الفرنسية إلى الرتبة الرابعة
إفريقيا، وربما تتراجع أكثر في المستقبل المنظور.
إن من يشجع بعض مكوناتنا الوطنية على
التمسك باللغة الفرنسية باعتبارها لغة مشتركة بدلا من اللغة العربية، والتي يفترض
فيها أنها لغة مشتركة للمسلمين كافة، يظلم تلك المكونات، ويسرق مستقبل أجيالها
الصاعدة، من خلال إبعادها عن لغة لم تعد لغة قوم، بل أصبحت ـ ومنذ أن نزل بها
القرآن ـ لغة دين ولغة أمة إسلامية، يبلغ تعدادها حاليا 2 مليار نسمة (ربع
سكان العالم)، وسيظل كل مسلم ذي فطرة سليمة، في مشارق بلاد المسلمين وفي
مغاربها، يسعى إلى تعلمها، فبأي منطق يشجع البعض مكونات وطنية مسلمة، تنتمي
إلى بلد لغته الرسمية العربية، يشجعها على ترك تعلم لغة القرآن، ولغة دستور بلدها،
وتعلم لغة المستعمر بدلا من ذلك، والتي هي في تراجع كبير على الصعيدين الإقليمي
والدولي على العكس من اللغة العربية؟
لقد آن الأوان ـ يا أخانا الفاضل
وديعة ـ لأن تراجع موقفك الغريب من اللغة العربية، لغة القرآن، ولغة دين لأمة
إسلامية بلغ تعدادها ملياري مسلم، وهي بالإضافة إلى ذلك لغة واسعة الانتشار تحتل
الرتبة الرابعة في ترتيب اللغات عالميا، ثم إنها لغة رسمية وحيدة لبلدك حسب نص
المادة السادسة من دستوره، فلماذا، يا أخانا الفاضل وديعة، تُطالب بترسيم لغة أخرى
معها؟
أليست اللغة العربية جديرة بأن تكون
اللغة الرسمية الوحيدة للجمهورية الإسلامية الموريتانية؟
بلى، وإننا في الحملة الشعبية
للتمكين للغة العربية وتطوير لغاتنا الوطنية، والحملة تضم بالمناسبة كل المكونات
الوطنية، لنا رؤية بخصوص اللغات قائمة على ثلاثة مرتكزات تختلف كثيرا عن
المقاربة القائمة على ثلاثة أبعاد، والتي أوردها الأخ وديعة في مقاله:
"الإسلاميون والقضية اللغوية"، وهذه هي مرتكزاتنا الثلاثة في الحملة:
المرتكز الأول: أن اللغة العربية
هي اللغة الرسمية الوحيدة للجمهورية الإسلامية الموريتانية، ويجب أن تبقى كذلك،
وأن ترسيمها يجب أن يُفَعَّل بشكل كامل في التعليم والإدارة وفي كل الفضاءات
الرسمية والعمومية، فليس من اللائق، ولا من المقبول، أن تستمر بعض المشاهد
المناقضة لما نصت عليه المادة السادسة من الدستور، كأن يتحدث رئيس أعلى هيئة
دستورية في البلد بلغة أجنبية في حفل تنصيب رئيس الجمهورية، أو يتحدث وزير
موريتاني في حفل يحضره رئيس الجمهورية بلغة أجنبية (الفرنسية)، وذلك بعد أن تحدث
سفير فرنسا في بلادنا بلغة عربية فصيحة، أو يتباهى عمدة بلدية من بلديات العاصمة
في نشاط رسمي بأنه حصل على الباكالوريا في موريتانيا، وتعلم الفرنسية
والانجليزية والألمانية والاسبانية في موريتانيا، ولكنه لم يتعلم اللغة العربية
(اللغة الرسمية للبلد)، ولذا فهو لم يستطع أن يتحدث بها في ذلك النشاط!!؛
المرتكز الثاني: أن البولارية
والسنونكية والولفية لغات وطنية، يجب العمل على تطويرها، وضمان حضورها بشكل أوسع
في الفضاء الثقافي والإعلامي والسياسي، وعلى مستوى التعليم فقد حُسِم حضورها من
خلال القانون التوجيهي للنظام التربوي. أما المطالبة بترسيمها فهي مطالبة غير
قابلة للتنفيذ، ويطرحها البعض للوقوف فقط ضد تفعيل ترسيم اللغة العربية،
وإرباك أي خطوة جادة في هذا الاتجاه، فبأي منطق تكون لبلد لا يصل عدد سكانه لخمسة
ملايين نسمة أربع لغات رسمية؟ وكيف لبلد عجز بعد 34 سنة عن تفعيل ترسيم اللغة
العربية، وهي لغة عالمية تحتل الرتبة الرابعة عالميا، ولغة أم لغالبية
الموريتانيين، ولغة دين لجميع الموريتانيين، فكيف لبلد عجز عن تفعيل ترسيم
اللغة العربية خلال ثلاثة عقود ونصف، أن يُرسم ثلاث لغات إضافية دفعة واحدة، مع
العلم أن تلك اللغات ما تزال تجد صعوبة كبيرة في كتابتها؟
المرتكز الثالث: أن اللغة الفرنسية
يجب أن تُمنح لها مكانة اللغة الأجنبية الأولى في موريتانيا، وأن تُعطى لها أوسع
مساحة يمكن أن تُعطى لأي لغة أجنبية في أي بلد من العالم يحترم دستوره وقوانينه.
إننا في الحملة الشعبية للتمكين للغة العربية وتطوير لغاتنا الوطنية ندعو إلى منح
اللغة الفرنسية مكانة اللغة الأجنبية الأولى في موريتانيا، ولكن بشرط أن لا تتجاوز
المساحة الخاصة باللغات الأجنبية، وأن لا تعتدي على مساحة لا تحق لها، وأن لا تربك
بذلك الاعتداء ترسيم اللغة العربية، أو تطوير لغاتنا الوطنية.
ولو كنا في الحملة الشعبية ننظر إلى
المسألة اللغوية في موريتانيا بعين المكاسب والمصالح فقط، لطالبنا بجعل اللغة
الإنجليزية، والتي هي لغة العالم الأولى في هذه الفاصلة من تاريخ البشرية، اللغة
الأجنبية الأولى في موريتانيا بدلا من اللغة الفرنسية.
(5)
تأخر كثيرا نشر هذا الرد عن
موعده المحدد، فقد كان من المفترض أن يُنشر في يوم 24 أو 25 أو 26 من أبريل،
أي بعد نشر الأخ وديعة لمنشوره بيوم أو يومين أو ثلاثة على الأكثر.
تأخر نشر الرد، لأسباب لن أفصِّل
فيها في هذا المقام، وإنما سأكتفي بالقول لكل
أولئك الذين طلبوا مني أن أتوقف عن كتابة هذه الردود، بعد ردي السابق على النائب
الموقرة كادياتا، بأني حسمتُ أمري، وقررت أن أرد وبقوة على كل المغالطات التي
يُحاول البعض أن يمررها قبل الحوار المنتظر، خصوصا ما يتعلق منها باللغة، ولن
أتوقف عن هذه الردود إلا إذا توقف الآخرون عن تسويق مغالطاتهم.
لقد التزمتُ سابقا بالصمت وعدم الرد
على هذه المغالطات لأنها كانت تأتي في الغالب من نشطاء في الفيسبوك لا يستحقون
الرد، أما وقد أصبحت تأتي من شخصيات سياسية ونواب وإعلاميين، بشكل متزامن ومنظم،
يجعل المتابع يكاد يجزم بأن هناك خيطا ناظما للدفع بكل هذا الكم الكبير من
المغالطات دفعة واحدة، في مثل هذا الظرف الحساس.
نظرا لكل ذلك، فقد ارتأيتُ أن
أكسر الصمت، وأن أرد على كبار مسوقي تلك المغالطات، لأن عدم الرد عليهم، وكشفِ زيف
مغالطاتهم، قد يجعل الكثير من مواطنينا يصدقهم فيما يقولون، ويعتقد أن ما يقولون
حقائق ثابتة لا يمكن التشكيك فيها.
حفظ الله موريتانيا..