الخميس، 29 أبريل 2021

لا جديد في المؤتمرالصحفي للرئيس السابق

 


أذكر أني نشرتُ مقالا قبيل المؤتمر الصحفي الذي نظمه الرئيس السابق يوم الخميس 27 أغسطس 2020، وكان تحت عنوان: "ماذا سيقول الرئيس السابق في مؤتمره الصحفي؟"، ويومها أذكر أن الكثير من المهتمين بالشأن العام تحدثوا عن مفاجآت سيأتي بها الرئيس السابق في مؤتمره. شخصيا لم أتوقع أية مفاجآت، فقد كنتُ ـ ولا زلت ـ على قناعة تامة أنه ليس من مصلحة الرئيس السابق عقد مؤتمرات صحفية، وأنه سيكون هو الخاسر الأكبر بعد تنظيمه لأي مؤتمر صحفي جديد.

وقد جاء في المقال المذكور : "الراجح عندي أن المؤتمر سيأتي بنتائج عكسية، وسيتسبب في مزيد من الخسائر، فالرئيس السابق لن يكون بمقدوره أن يجيب إجابة مقنعة على السؤال الأهم الذي يطرحه الآن الموريتانيون، وهو السؤال الذي يقول : كيف استطاع أن يجمع ثروته الطائلة، وهو الذي كان لا يملك وحتى وقت قريب إلا حفارة واحدة تقوم ببعض الأعمال الخيرية؟ فكيف جمع هذه الثروة الهائلة في فترة كان يحرم عليه فيها مزاولة أي نشاط تجاري؟ فحتى راتبه الذي كان يتقاضاه في فترة رئاسته لم يسحب من البنك، وبالتالي فلم يستخدم في ممارسة أي نوع من أنواع التجارة.

لن يقدم الرئيس السابق في مؤتمره الصحفي جوابا متماسكا على هذا السؤال الملح، ولن يقدم مفاجآت تدين بشكل موثق خصومه، وسيكون تركيزه على كلام مكرر لا يقدم ولا يؤخر، وبذلك فإن المؤتمر الصحفي للرئيس السابق سيؤدي في المحصلة النهائية إلى خسارة سياسية وإعلامية جديدة تنضاف إلى الخسائر المتعددة التي تكبدها منذ خروجه من السلطة."

انتهت الفقرة من المقال المنشور يوم الخميس 27 أغسطس 2020، وهذه الفقرة كان بإمكاني أن أنشرها ـ دون أي تعديل ـ  قبيل مؤتمر الأربعاء 28 إبريل 2021.

لا جديد في المؤتمرات الصحفية للرئيس السابق، والخاسر الأول من تنظيم تلك المؤتمرات الصحفية هو الرئيس السابق نفسه.

ربما تكون الخسارة هذه المرة أكبر، ذلك أن المؤتمر الصحفي الأخير قد جاء بعد عملية نفخ في التوقعات قادها الأستاذ محمدن ولد شدو، والذي لا نعرف إن كان يعمل لصالح الرئيس السابق أم يعمل ضده .

يقول الأستاذ ولد شدو في مؤتمر صحفي سابق لفريق الدفاع إنه : "في حال استمرار الخداع الحالي فأنا على يقين من أن موكلي سيقطع الصمت رغم التزامه بالدستور والمادة 93 منه التي تحميه من الإجراءات القانونية في المحاكم العادية." ويضيف ولد شدو في نفس المؤتمر الصحفي : "أنا متأكد أيضاً أنه  إذا قطع صمته ستتغير أمور كثيرة، وسيهتز الكثير في موريتانيا". 

كما أن هذا المؤتمر الصحفي قد جاء بعد مقابلة الرئيس السابق مع "جون آفريك"، والتي أعلن فيها أنه سيتحدث أمام القضاء ويدافع عن نفسه. وقد جاء المؤتمر الصحفي أيضا بعد حجز قطب التحقيق المعني بمكافحة الفساد لبعض ممتلكات وأموال الرئيس السابق، مع تداول وثيقة تبين حجم الأموال والممتلكات المحجوزة.

ثم إن هذا المؤتمر قد اختير له أن يتم تنظيمه بمناسبة ذكرى معركة بدر الكبرى. كل تلك الأمور أدت إلى رفع سقف التوقعات إلى أبعد الحدود لدى البعض، ولكن المشكلة أن المؤتمر الصحفي لم يأت بجديد رغم سقف التوقعات تلك، وإذا كان هناك من جديد فهو ليس في مصلحة الرئيس السابق، كقوله بأنه مستهدف من طرف مجموعة تنتمي لجهة واحدة، وتربطها قبيلة واحدة أو قبلتين بالنظام، لا يليق مثل هذا الكلام برئيس سابق.

ومن جديد المؤتمر الصحفي الذي ضر الرئيس السابق أكثر مما نفعه، هو محاولة تفنيده للعبارة التي تقول بأن الدولة "ما تعاند"، أو تأكيده على أن حزب الرباط الوطني هو حزب أفكار لا حزب أشخاص!!

إن مشكلة الرئيس السابق هي أنه قرر أن يحارب الجميع وهو يحمل سلة بيض، وقرر أن يُعارض نظاما حاكما يتهمه باختلاس أموال طائلة, ومن المعلوم أن الموظف الذي يطرأ عليه ثراء غير مبرر عليه أن يثبت براءته من خلال إثبات أن مصادر ثروته مشروعة، فمثل هذا الموظف مدان وفق القانون رقم 2016-14 الصادر بتاريخ 15 ابريل 2016 المتعلق بمكافحة الفساد، والذي يعتبر الإثراء غير المشروع جريمة مستمرة.

 إن القول بأن المتهم بريئ حتى تثبت إدانته، لا تصلح في حالة الإثراء غير المبرر وغير المشروع، ففي هذه الحالة فإن المتهم مدان حتى يُثبتَ براءته، والرئيس السابق لم يستطع حتى الآن أن يثبت براءته من خلال تحديد مصدر ثرواته المحتجزة وغير المحتجزة.

لقد أتيحت للرئيس السابق فرصة ثمينة لأن يلغي هذا المؤتمر الصحفي الضار به من قبل أن يضر بأي جهة أخرى، فكان يمكنه أن يلغيه بحجة أن السلطة منعته من تنظيمه، وذلك برفضها لتنظيم المؤتمر في منزل تحت طائلة الحجز القضائي.

كان بإمكان الرئيس السابق أن يستغل ذلك المنع المبرر فيلغي مؤتمره الصحفي، ثم يقول إن السلطة الحاكمة التي تعمل على تكميم الأفواه هي من ألغى المؤتمر، وكان سيجد الكثير من المتضامنين من أصحاب المواقف السريعة والمزاجية، وكان سيكسب إعلاميا وسياسيا من ذلك.

لم يستغل الرئيس السابق تلك الفرصة الثمينة التي جاءته على طبق من ذهب، وأتاحت له أن يتخلص من مؤتمر صحفي لا جديد فيه.  أصر الرئيس السابق على تنظيم مؤتمره الصحفي، فأظهر بذلك أن النظام لا يمنعه من تنظيم مؤتمراته الصحفية، وإنما منعه فقط من استخدام منزل تحت الحجز القضائي.

قديما قيل : إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب . يبدو أن سكوت الرؤساء السابقين أغلى من الذهب، فهو إما أن يكون من جواهر أو من ماس.  

 

حفظ الله موريتانيا... 

الثلاثاء، 27 أبريل 2021

شبابنا في خطر... فلنتحرك قبل فوات الأوان!


هناك عدة مخاطر تهدد شبابنا، هذه المخاطر قد تكون متداخلة، وقد يكون بعضها نتيجة للبعض الآخر، ولكنها في المجمل تحتاج إلى تعامل جدي وعاجل لإبعاد خطرها، وذلك من قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة، لا قدر الله.

إن هذه المخاطر يمكن إجمالها في :

-  تفشي المخدرات؛

- انتشار الجريمة؛

 - الإلحاد والجرأة على الإساءة إلى مقدساتنا الدينية؛

 - التسرب المدرسي؛

 - البطالة.

إن مواجهة هذه المخاطر يحتاج إلى تفكير جماعي، بل وإلى تشاور وطني ينتهي بوضع إستراتيجية وطنية شاملة يشارك فيها الجميع : تصورا وتنفيذا.  يعني هذا أنه لا يمكن تقديم حلول على السريع لمواجهة هذه المخاطر من خلال مقال يكتبه شخص ما، ومع ذلك فهذه بعض العناوين الكبرى أو بعض الكلمات المفاتيح التي لا يمكن تجاوزها عند رسم أي إستراتيجية وطنية  تهدف إلى انتشال الشباب من براثين الخماسي الخطير:  المخدرات ؛الجريمة ؛الإلحاد ؛البطالة ؛التسرب المدرسي.

الكلمة المفتاح الأولى: محاربة الفساد

 إن أول كلمة مفتاح قد تتبادر إلى الذهن عند التفكير في حل أي مشكلة من مشاكلنا المتعددة والمعقدة هي: محاربة الفساد.

لا يمكن الحديث عن أي إصلاح ولا أي تغيير مهما كانت طبيعته من قبل المحاربة الجدية للفساد.

تصوروا مثلا أننا وضعنا إستراتيجية وطنية متكاملة لانتشال الشباب من المخدرات والجريمة والإلحاد والبطالة والتسرب المدرسي، وتصوروا أيضا أننا تمكنا من جمع الموارد اللازمة لتنفيذ تلك الإستراتيجية. تصوروا أننا تمكنا من كل ذلك، ولكن ذلك لن يأتي بنتائج إيجابية إذا لم نحارب الفساد بشكل جدي، وستكون الحصيلة النهائية بعد تنفيذ هذه الإستراتيجية هي ثراء عدد قليل من الموظفين مع تفاقم كبير لتلك المخاطر التي تهدد الشباب.

إن غياب الصرامة في التسيير، وعدم محاسبة المفسدين سيظل عائقا أمام أي إصلاح مهما كان نوع ذلك الإصلاح. فوضع الخطط وتوفير الموارد اللازمة لا يكفيان للإصلاح، إذا لم يصاحبهما أمران في غاية الأهمية:

أولهما : الرقابة الصارمة للتسيير وإنزال العقوبات القاسية بكل من يختلس المال العام؛

ثانيهما : تفعيل مبدأ الموظف المناسب في المكان المناسب، ورد الاعتبار لأصحاب الكفاءة والأهلية.. في بعض الأحيان قد لا يكون الموظف فاسدا، ولكن عدم الكفاءة وغياب الأهلية تجعل ضرره في المحصلة النهائية أكثر من ضرر الموظف الفاسد الذي يمتلك مستوى معينا من الكفاءة. فهذا الأخير قد يجمع بين قليل من الإنجاز مع نهب المال العام، أما الأول فكثيرا ما يفشل في الإنجاز وفي حماية المال العام من نهب المتربصين به.

الكلمة المفتاح الثانية: إصلاح التعليم، ثم إصلاح التعليم، ثم إصلاح التعليم

إن الكلمة المفتاح الثانية التي يجب التركيز عليها لانتشال الشباب من مخاطر المخدرات والجريمة والإلحاد والبطالة والتسرب المدرسي هي إصلاح التعليم، ثم إصلاح التعليم، ثم إصلاح التعليم.

لا يمكن الحديث عن أي إصلاح في أي مجال من مجالات الحياة من قبل إصلاح التعليم، ولا يمكن أن نتخيل شبابا صالحا دون وجود مدرسة جمهورية تربي وتعلم وتزرع في نفوس مرتاديها القيم الدينية والوطنية التي تحصنهم من المخاطر المذكورة أعلاه.

الكلمة المفتاح الثالثة : ملأ الفراغ بما يفيد

إن الكلمة المفتاح الثالثة التي يجب التركيز عليها لانتشال الشباب من براثين المخدرات والجريمة والإلحاد والبطالة والتسرب المدرسي هي سد الفراغ بما يفيد.

لابد من مواجهة الفراغ لدى الشباب لأنه هو أصل كل الشرور، ومواجهة الفراغ تكون بخلق فضاءات ثقافية ورياضية في المدن والقرى تحتضن الشباب. كما يكون أيضا من خلال توفير الشغل للشباب سواءً منه من أكمل تعليمه، أو من لم يُكمل تعليمه.

هناك قطاعات يمكنها أن توفر عشرات الآلاف من فرص العمل للشباب، لو تم الاهتمام بها بشكل جدي، وهذه القطاعات هي: الزراعة؛ التنقيب الأهلي؛ الصيد التقليدي ....

تلكم كانت هي العناوين الكبرى أو الكلمات المفاتيح التي يجب أن تتضمنها أي إستراتيجية وطنية تسعى لتحصين الشباب من المخدرات والجريمة والإلحاد والبطالة والتسرب المدرسي، وتبقى هناك بعض العناوين الفرعية التي لابد من الأخذ بها كذلك، ومن تلك العناوين الفرعية يمكننا أن نذكر:

1 ـ الاهتمام أكثر بالأسرة والعمل على الحد من التفكك الأسري؛

2 ـ  إنشاء مراكز ثقافية ورياضية في كل المدن لصالح الشباب والعمل على تنشيطها بشكل مستمر؛

3 - إيواء الأطفال الذين فشلت ـ أو عجزت ـ أسرهم عن تربيتهم، وتكفل الدولة بتربيتهم وتعليمهم، وتأهيلهم من بعد ذلك مهنيا؛ 

4 ـ إنشاء مراكز متخصصة لعلاج الإدمان؛

5 ـ إنشاء المزيد من مراكز الإيواء والتدريب لصالح الأطفال المشردين وأصحاب السوابق الإجرامية مع محاولة دمجهم في الحياة النشطة ؛

6 ـ إنشاء الكثير من مراكز التثقيف الحرفي (تكوبن مهني مبسط) بما يلبي حاجة السوق، وبما يمكن من امتصاص أعداد المتسربين من المدرسة؛

7 ـ تفعيل دور المجتمع المدني وحثه على التوعية في مجال محاربة المخدرات والتسرب المدرسي، وذلك بدلا من التنافس في مجالات أصبحت تجد فائضا من الاهتمام؛

8 ـ منح تعويض اجتماعي للعاطل عن العمل إلى أن يحصل على شغل؛

9 ـ البحث من خلال العلاقات الدبلوماسية عن فرص عمل لاكتتاب الشباب العاطل عن العمل في الدول التي تعاني من نقص في العمالة؛

10 ـ وضع سياسات اقتصادية واجتماعية للحد من اليد العاملة الأجنبية، ومحاولة إحلالها بيد عاملة وطنية مدربة؛

11 ـ الاهتمام أكثر بالمحاظر والعمل على تطويرها وعصرنتها لتمكينها من استقطاب جيل الانترنت؛

12 ـ تدريب العلماء والأئمة والدعاة الشباب على التقنيات الحديثة وحثهم على التواصل مع الشباب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي للإجابة على أسئلتهم واستشكالاتهم واستفساراتهم التي يطرحونها؛  

13 ـ الاهتمام أكثر بالتربية الإسلامية وتقوية ضاربها في المرحلتين الأساسية والثانوية؛

14 ـ إصلاح ودعم القطاع الأمني وإعادة الاعتبار لقطاع الشرطة؛

 15 ـ إصلاح قطاع السجون والقضاء؛

 16 ـ العمل بإلزامية التجنيد الإجباري؛

 17 ـ الصرامة في تنفيذ العقوبات وتطبيق أحكام الإعدام فيمن قتلته الشريعة؛ 

18 ـ تشديد العقوبة علي مستوردي وبائعي ومروجي المخدرات وكل المؤثرات العقلية؛

19 ـ تشجيع التميز وتحفيز التفوق والابتكار لدى الشباب؛

أشير في الأخير إلى أن هذه النقاط التسعة عشر هي حصيلة لعصف ذهني شارك فيها عدد من الأصدقاء على الفيسبوك.

حفظ الله موريتانيا... 


السبت، 24 أبريل 2021

حتى لا نستيقظ على مجزرة أخرى في نواذيبو!

 


ما حدث الليلة البارحة في مدينة نواذيبو كان مجزرة حقيقة راح ضحيتها مواطنون أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم وُجدوا في المكان الخطأ وفي التوقيت الخطأ.

قبل مجزرة البارحة سمعنا عن جرائم بشعة في مدينة نواذيبو راح ضحيتها مواطنون أبرياء، لا ذنب لهم هم أيضا إلا أنهم وُجدوا في المكان الخطأ وفي التوقيت الخطأ.

من يقرأ أو يسمع عن مثل هذه الجرائم البشعة والمتكررة سيجد أنها متشابهة دائما في أهم تفاصيلها: شاب أو مجموعة شباب تحت تأثير المخدرات، ومن أصحاب السوابق، يطعنون مواطنا أو مواطنين أبرياء بسكاكين.

إن الكلمات المفاتيح التي تتكرر دائما في مثل هذه الجرائم هي : الشباب؛ المخدرات؛ سوابق؛ سكاكين. إن مثل هذه الجرائم البشعة لن يتوقف ما دام أصحاب السوابق يُسمح لهم بارتكاب المزيد من الجرائم، وما دامت المخدرات تنتشر في أوساط الشباب، وعلى من يريد أن يحد من هذه الجرائم أن يتعامل مع أصحاب السوابق بصرامة أكثر، وأن يحدَّ من انتشار تعاطي المخدرات لدى الشباب.

أن يتعاطى شاب ما المخدرات، فذلك سيعني ـ وبشكل تلقائي ـ أنه أصبح مشروع مجرم يمكن أن يرتكب جريمة في أي وقت، وعندما يتعاطى شابٌ ما المخدرات فذلك دليل على أن:

ـ هناك أسرة فشلت في تربية إبنها؛

ـ هناك مدرسة فشلت في مهمتها؛

ـ هناك إعلام فشل في تأدية رسالته؛

ـ هناك علماء ووعاظ ودعاة لم يقوموا بدورهم؛

ـ هناك مجتمع مدني فشل في أداء مهامه؛

ـ هناك مجتمع بكامله فشل في أداء واجبه.

نعم هناك مجتمع كامل فشل في مواجهة تفشي المخدرات في صفوف الشباب، والسبب في ذلك أنه من النادر جدا أن تجد أسرة ما تضع في أولوياتها حماية أبنائها من المخدرات، فكثير من الأسر لا يعتبر أصلا أن المخدرات هي أخطر ما يهدد أبناءه في زمننا هذا. ومن النادر جدا أن تجد اهتماما في المدرسة بهذا الخطر الذي يهدد شبابنا، لا تجد اهتماما به

في المناهج الدراسية، ولا في أساليب الرقابة المعتمدة داخل وخارج المدرسة.

يتحدث الإعلام ـ وبشقيه التقليدي والحديث ـ عن كل شيء ولكنه من النادر أن يتحدث عن المخدرات، ومن الصعب جدا أن تجد في كل الوسائط الإعلامية أي برامج للتوعية ضد خطر المخدرات التي تفعل أفاعيلها بالشباب.

يتحدث العلماء والوعاظ والدعاة عن كل شيء، ولكن من الصعب جدا أن تجدهم يتحدثون عن خطر المخدرات.

تهتم منظمات المجتمع المدني الفاعلة بمجالات محددة، وتجد الكثير منها يتنافس في المجال الواحد، وذلك في وقت يصعب فيه أن تجد منظمات شبابية متخصصة تنشط بشكل جدي في مجال محاربة المخدرات والحد من انتشارها في الوسط المدرسي أو في أوساط الشباب عموما.

صحيحٌ أن المسؤولية الأكبر في مواجهة الجريمة تقع على المؤسسات الأمنية، وصحيحٌ أيضا أن هناك تقصيرا أمنيا ما أدى إلى تسجيل تلك الجرائم البشعة ويجب أن يُعاقب المسؤولين عن ذلك التقصير. كل ذلك صحيح، ولكن الصحيح أيضا هو أن المجتمع بكامله يتحمل جزءا من المسؤولية، وأنه إذا لم تطلق حملة وطنية جادة ضد المخدرات يشارك فيها الجميع : الأمن؛ المدرسة؛ العلماء والدعاة؛ الإعلام؛ منظمات المجتمع المدني، القطاعات الوزارية المعنية...إذا لم تطلق حملة وطنية من هذا النوع فإن مثل هذه الجرائم البشعة سيظل في اتساع وتصاعد.

لقد آن الأوان لأن نعطي لتهديد المخدرات ما يستحق من اهتمام رسمي وشعبي، وإلا فإن القادم من الجرائم سيكون أكثر بشاعة وخطورة.


الخميس، 22 أبريل 2021

نعم لحماية التنقيب الأهلي من جشع الشركات الأجنبية

 


إن أي مقارنة بين ما يحققه التنقيب الأهلي من مكاسب اقتصادية واجتماعية للوطن مع مردودية شركة "كينروس تازيازت" على الاقتصاد الوطني، ستكون ـ وبكل تأكيد ـ لصالح التنقيب الأهلي.

فالمقارنة على مستوى التشغيل تُظهر أن شركة "كينروس تازيازت" تُشغل حسب أعلى الأرقام المتداولة 4000 عامل، بينما خلق التنقيب التقليدي 142000 فرصة عمل حسب خطاب الوزير الأول أمام البرلمان (45 ألف فرصة مباشرة و97 ألف فرصة غير مباشرة)، أي أن التنقيب الأهلي من حيث توفير فرص العمل يضاعف 35 مرة ما توفره شركة "كينروس تازيازت" من فرص عمل.

إن المقارنة على مستوى التشغيل يجب أن لا تتوقف فقط عند الفارق الكبير في عدد فرص العمل، والذي هو لصالح التنقيب الأهلي، بل إنها يجب أن تشمل أيضا ميزة أخرى في غاية الأهمية تُحسب لصالح التنقيب الأهلي، ذلك أن التنقيب الأهلي هو من المجالات القليلة التي بإمكانها أن تنقل العامل في فترة وجيزة، حتى ولو كان غير متعلم، من عامل بسيط إلى مستثمر في المجال، أي أن الاستخراج السطحي للذهب يمكن أن يُساعد في توسيع دائرة الطبقة المتوسطة في البلاد، بل إنه قد يساعد في خلق طبقة من رجال الأعمال منحدرة من الفئات الهشة. هناك أمثلة عديدة تتعلق بأشخاص قدموا إلى مناطق التنقيب لا يملكون إلا مجارف أو فؤوس وأصبحوا اليوم من أصحاب عشرات الملايين إن لم أقل مئات الملايين.    

وعلى مستوى الضرائب والرسوم الجمركية فإن كل ما يستهلكه التنقيب الأهلي من تجهيزات ومحروقات ومواد استهلاكية تأخذ عليه الدولة ضرائب ورسوم جمركية، في حين أن ما تستورده شركة "كينروس تازيازت" من تجهيزات ومحروقات ومواد استهلاكية معفى من الضرائب والرسوم الجمركية.

أما على مستوى الإنتاج والعوائد المالية فقد قال الوزير الأول في خطابه أمام البرلمان إن إنتاج الاستخراج الحرفي للذهب وصل إلى 5.6 طن في العام 2020 (ربما يكون هذا الرقم خاصا بما تم بيعه للبنك المركزي ولا يشمل الكميات المهربة). وذكر "دافيد هندريكس" مدير شركة "كينروس تازيازت" أن إنتاج الشركة وصل في العام نفسه، أي في العام 2020 إلى 12.6 طن.

توضح المقارنة بين هذه الأرقام أن إنتاج الاستخراج الحرفي للذهب أصبح يقترب كثيرا من نصف إنتاج شركة "كينروس تازيازت". بل إن هذا الإنتاج وصل في أحد أيام الموجة الأولى من كورونا إلى 30 كلغ  في الشامي فقط، وهذا يقترب كثيرا من المتوسط اليومي لإنتاج "كينروس تازيازت" في العام 2020، والذي يصل إلى 34 كلغ لليوم.

 أما من حيث المردودية، فإن 5.6 طن التي ينتجها الاستخراج الحرفي للذهب تباع عن طريق البنك المركزي الشيء الذي ينعكس إيجابا على قيمة الأوقية، ويزيد من رصيد العملات الصعبة. أما 12.6 طن التي أنتجتها "كينروس تازيازت"  في العام 2020 فلن يعود منها لموريتانيا إلا نسبة تتراوح بين 3 إلى 6 %، وهو ما  يمثل756 كلغ من الذهب، ويعني هذا أنه في الوقت الذي وفر فيه التنقيب التقليدي لموريتانيا 5.6 طن من الذهب في العام 2020، فإن شركة "كينروس تازيازت"  لم توفر للدولة الموريتانية إلا 756 كلغ من الذهب، أي 13.5% فقط مما وفره التنقيب التقليدي.

يقول "دافيد هندريكس" في مقابلة أجرتها معه صحراء ميديا بتاريخ 12 فبراير 2021 إن الإتاوات المدفوعة للدولة الموريتانية انتقلت من 16 مليون دولار في العام 2019 إلى 36 مليون دولار في العام 2020 ، وهو ما يقارب 12.9 مليار أوقية قديمة.

وفي مؤتمر صحفي  مشترك بين وزير النفط والطاقة والمعادن ومدير شركة معادن موريتانيا بتاريخ 23 أكتوبر 2020 قال الوزير إن القيمة المضافة لاستخراج الذهب السطحي بلغت 74 مليار أوقية في العام 2019، وهو ما يعني أن عائدات التنقيب الأهلي في العام 2019 ضاعفت 13 مرة  مجموع  ما دفعته "كينروس تازيازت" لموريتانيا في ذلك العام، وضاعفت 6 مرات مجموع  ما دفعته نفس الشركة لموريتانيا في العام 2020.

إن عائدات التنقيب الأهلي يتم ضخها في كل مدن وولايات الوطن، ولو توفرت إحصائيات بما يتم تحويله من أموال عبر وكالات تحويل الأموال في مناطق التنقيب لكنا أمام رقم كبير يعكس الدور الهام الذي يلعبه التنقيب الأهلي في تحسين مستوى معيشة نسبة كبيرة من مواطنينا في مختلف ولايات الوطن.

لقد أظهر التقرير الاقتصادي والمالي المرفق بمشروع قانون المالية 2021 أن معدن الذهب احتل المرتبة الأولى على مستوى صادرات موريتانيا من حيث عائدات العملة الصعبة خلال العام 2020. كما بينت المقارنات السابقة في هذا المقال أهمية التنقيب الأهلي ودوره المتنامي على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، ومن هنا تبرز ضرورة الاهتمام بالتنقيب الأهلي وواجب حمايته من جشع الشركات الأجنبية العاملة في المجال.

قد نتفهم ـ بمرارة ـ أن نقبل بتعاقد حكوماتنا المتعاقبة مع شركة "كينروس تازيازت" التي تنهب ذهبنا وتمنحنا من عائداته نسبة قليلة جدا. قد نتفهم ذلك ـ وبمرارة ـ لأنه لم يكن بإمكاننا في السنوات الماضية أن نستخرج هذا الذهب إلا من خلال التعاقد مع شركات أجنبية. لكن الشيء الذي لا يمكن تفهمه هو أن يتم منح تراخيص نهائية أو عقد اتفاقيات مبدئية مع شركات أجنبية في مناطق يوجد فيها عشرات الآلاف من منقبينا كما هو الحال بالنسبة لمنطقتي "تيجيريت" التي مُنحت لشركة (Algold Resources)، ومنطقة "تازيازت" التي مُنحت لشركة "كينروس تازيازت" وفق اتفاقية "تازيازت الجنوبية ـ انتماية".

إن منطقتي "تيجيريت" و"تازيازت" تحتضن الآن ما يزيد على نصف العدد الكلي من المنقبين من الذهب في موريتانيا، ومن هنا يكون من الواجب حماية هذه الأعداد الكبيرة من المنقبين من جشع الشركات الأجنبية، ولن يكون ذلك إلا من خلال إلغاء رخصة شركة (Algold Resources)، وعدم توقيع اتفاقية "تازيازت الجنوبية ـ انتماية".   

حفظ الله موريتانيا... 

الخميس، 8 أبريل 2021

الرئيس السابق والأخطاء القاتلة!

 


يمتلك الرئيس السابق روح المخاطرة والمغامرة، وقد تعود في قراراته على المخاطرة، ومن المعروف أن المُخاطر إما أن يكسب كل شيء أو يخسر كل شيء، ومن النادر جدا أن يؤدي القرار المخاطر إلى نصف نجاح أو إلى نصف فشل، فإما النجاح التام أو الفشل التام.

ولا شك أن الرئيس السابق قد استفاد من روح المخاطرة في بداية حكمه، ولستُ بحاجة للتذكير ببعض المواقف الصعبة التي خاطر فيها وحقق مكاسب. وربما تكون تلك المكاسب هي التي جعلته يدمن على المخاطرة في سنته الأخيرة في السلطة، وحتى ومن بعد خروجه منها طمعا في تحقيق المزيد من المكاسب، وهو الشيء الذي لم يحصل، ففي هذه الفترة بدأت المخاطرة تأتي بنتائج عكسية تماما، وتُكبد الرئيس السابق خسائر كبيرة، حتى وإن لم يُقَدِّر حجم تلك الخسائر وخطورتها.

(1)

لقد حسم البيان الرئاسي الصادر في منتصف يناير من العام 2019، وفي وقت كان فيه الرئيس خارج البلاد، الجدل الذي كان دائرا حينها حول مسألة التمديد. ولقد أصبح واضحا منذ ذلك التاريخ أنه لابد من ترك السلطة بعد أشهر قليلة، فماذا كان يجب أن يفعله الرئيس السابق خلال تلك الأشهر المتبقية من حكمه؟

كان عليه أن يتصرف في تلك الفترة تصرف الرئيس المودع الذي سيترك السلطة بعد أشهر معدودة، وهو الشيء الذي يتطلب:

ـ تهدئة الأوضاع السياسية وخلق جو تصالحي مع الجميع، وخاصة مع المعارضة؛

ـ إنهاء بعض الخصومات والخلافات ذات الطابع الشخصي، وخاصة منها تلك المتعلقة بخصومات وخلافات مع بعض رجال الأعمال؛

ـ الأخذ بالشفافية في تسيير المال العام فيما تبقى من أشهر قليلة، ومحاولة تصحيح ما يمكن تصحيحه من اختلالات سابقة في هذا المجال.

على العكس من ذلك، وفي مخاطرة يصعب فهمها، قرر الرئيس السابق أن يعمق من حجم خلافاته مع المعارضة، وأن يُعَقد ملف رجال الأعمال أكثر، وأن يزيد من حجم الخروقات في تسييره للمال العام، وكأنه لن يغادر السلطة أبدا.

 (2)

بعد الخروج من السلطة كانت المصلحة الخاصة للرئيس السابق تتطلب منه أن يبتعد بشكل كامل عن الأضواء، وأن ينسحب بهدوء من المشهد السياسي، وأن يتجنب في الوقت نفسه كل ما من شأنه أن يهز الثقة بصديقه محمد ولد الشيخ الغزواني والذي أصبح رئيسا للبلاد منذ فاتح أغسطس 2019.

لقد بينتُ في مقالات عديدة لعل من أهمها ورقة كاشفة تحت عنوان : " أي دور لولد عبد العزيز في المرحلة القادمة؟" أن الرئيس السابق سيخرج من السلطة بيدين فارغتين من أي ورقة ضاغطة يمكن أن يؤثر بها مستقبلا في مجريات الأمور، ولن تبقى لديه إلا ورقة واحدة وهي الورقة المتمثلة في علاقته القوية بصديقه الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ولذا فقد كان عليه ـ ووفقا لمصلحته الخاصة ـ أن يحافظ على تلك العلاقة القوية، ولكنه بدلا من ذلك، وفي مخاطرة يصعب تفسيرها بالمنطق السليم، قرر أن يلقي بنفسه في دائرة الضوء، وأن يدخل في مواجهة مكشوفة مع صديقه الرئيس.  

(3)  

استمر الرئيس السابق في ارتكاب المزيد من الأخطاء، واستمر بعض من يرفعون شعار مناصرته بالدفع باسمه إلى واجهة الإعلام، مع محاولة تسويق الفكرة التي تقول إنه يتحكم في كل شيء من خارج السلطة، وظلت الأمور تسير في ذلك الاتجاه إلى أن قرر في نهاية المطاف أن يرتكب الخطأ القاتل أو المخاطرة القاتلة، والتي تمثلت في اجتماعه في آخر أسبوع من شهر نوفمبر 2019 بلجنة تسيير حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وإصداره لبيان يمجد فيه العشرية، ويحدد فيه موعدا لمؤتمر الحزب القادم.

كان ذلك هو الخطأ القاتل الذي سرّع بالمواجهة بين الرئيسين، ذلك أنه وضع الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يقبل بتحكم الرئيس السابق في شؤون البلاد من بعد مغادرته للسلطة، وذلك أمر لا يحتمل أن يقبل به رئيس منتخب، يدعمه الجيش، وتلتف حوله الأغلبية، وتهادنه المعارضة، وإما أن يثبت بأنه هو من يتحكم بالفعل في شؤون البلاد، وكان ذلك يقتضي كشف الغطاء عن الرئيس السابق، وإظهاره للرأي العام وللشعب وحيدا بلا أنصار وبلا داعمين في صفوف الأغلبية الحاكمة، وهو ما كان.

(4)

كان من المفترض أن يتعلم الرئيس السابق من الخطأ القاتل الذي ارتكبه ليلة اجتماعه باللجنة المؤقتة لتسيير حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، ولكن يبدو أنه لم يتعلم من ذلك الخطأ فقرر في السابع من إبريل 2021 أن يوجه رسالة إلى الشعب الموريتاني يدعوه فيها إلى الالتحاق بمشروعه السياسي الذي سيكون حزب الرباط الوطني من أجل الحقوق وبناء الأجيال هو واجهته.

إن هذه الدعوة تعني أن الرئيس السابق لا يريد أن تبقى المعركة معركة قانونية وقضائية فقط، بل يريدها أن تكون سياسية أيضا، ولاشك أن توسيع دائرة المعركة إلى المجال السياسي سيجلب للرئيس السابق المزيد من الخسائر والمشاكل التي كان في غنى عنها.

(5)

ربما يكون ما دفع الرئيس السابق إلى إصدار بيانه السياسي أنه قد تأكد من دخوله إلى السجن، فأراد تحويل المعركة من معركة قضائية إلى معركة سياسية، حتى يكون دخوله إلى السجن بسبب موقف سياسي، لا بسبب تهم تتعلق بالفساد. يمكنكم أن تلاحظوا أن الرئيس السابق لم يتحدث في رسالته الطويلة عن ملفه القضائي ولو بكلمة واحدة.

لا أظن أن هذه المحاولة ستنجح، وأقصى ما يمكن أن يحدث هو أن تتسع دائرة المعركة إلى الحد الذي سيستوجب استخدام الأسلحة السياسية بالإضافة إلى المسار القانوني.

إن رسالة الرئيس السابق تطرح العديد من الأسئلة لعل من أهمها :

ـ أين التركة السياسية لعقد كامل من الحكم، ولماذا لم يبق من تلك التركة إلا ثلاثة وزراء تفرقوا طرائق قددا، أحدهم اختفى ولاذ بالصمت، والآخر توقف عن التدوين، والثالث قرر أن ينشغل عن معارك الرئيس السابق بتشكيل اتحاد المرشحين السابقين للرئاسة؟

ـ هل يمكن للرئيس السابق أن يحقق بحزب مجهري فشل في الحصول على مستشار بلدي واحد ما لم يحققه خلال عقد كامل وهو يقود بلدا بكامله؟

ـ ألا يعلم الرئيس السابق أن بيانه السياسي سيعطي المزيد من المبررات للنخب السياسية لممارسة المزيد من الضغط على النظام الحاكم من أجل التعامل بشكل أكثر صرامة مع ملف العشرية؟

ـ ألا يمكن أن يؤدي هذا التحالف الجديد بين الرئيس السابق ورئيس حزب الرباط إلى فتح ملفات فساد جديدة: ملف قمامة نواكشوط مثلا؟  

مهما تكن الإجابة على تلك الأسئلة، فإن الشيء المؤكد هو أن أسوأ قرار يمكن أن يخاطر به من يحمل سلة بيض، هو القرار المتعلق بإعلان حرب مفتوحة مع الجميع.

حفظ الله موريتانيا... 

الخميس، 1 أبريل 2021

أين ذهبت ثروات موريتانيا؟

 


أتابع في بعض الأحيان بعض النقاشات ذات البعد الجهوي والمناطقي، وأتأسف كثيرا على حال بعض نخبنا كلما تابعتُ عينة من تلك النقاشات.

المتتبع لتلك النقاشات الرديئة سيتوصل إلى استنتاج متغير، يتغير بتغير جهة المتحدث. فواحدة من نسخ هذا الاستنتاج المتداولة تؤكد أن أهلنا في "الساحل" هم الأكثر حرمانا من بين كل الجهات والمناطق من خيرات الوطن، وذلك على الرغم من أن منطقتهم تزخر بأهم خيرات البلاد : الحديد؛ السمك؛ النحاس؛ الذهب ...إلخ

وتؤكد نسخة ثانية من هذا الاستنتاج أن أهلنا في "الشر " هم الأكثر تهميشا وحرمانا ويمكن الاستدلال على ذلك بإحصائيات تفيد أنه من الصعب جدا أن تجد من بينهم رجال أعمال كبار أو تجد لمنحدر من منطقتهم شركة كبيرة إلا فيما ندر، وذلك على الرغم من أنهم يمثلون عدديا الأغلبية في هذه البلاد.

وتؤكد نسخة ثالثة من هذا الاستنتاج أن أهلنا في "الگبلة" يعانون من تهميش واضح وبيِّن منذ فجر العاشر من يوليو 1978، وحتى يوم الناس هذا. في حين تؤكد نسخة رابعة من هذا الاستنتاج أن أهلنا في "الضفة" هم الأكثر تهميشا وإقصاءً في هذه البلاد، وأنهم زيادة على  ذلك هم أصحاب مظالم تاريخية ويتعرضون لغبن ممنهج في مجال توزيع الثروة والاستثمارات والوظائف.

تعليقا على هذا الاستنتاج المتغير بتغير الجهات، دعونا نطرح السؤالين التاليين:

ـ أين ذهبت ثروات موريتانيا خلال العقود الست الماضية ما دام أهلنا في "الساحل" غاضبون بسبب الغبن، وأهلنا في "الشر " غاضبون بسبب التهميش، وأهلنا في "الگبلة" غاضبون بسبب الإقصاء، وأهلنا في الجنوب غاضبون بسبب الحرمان والتمييز الممارس ضدهم؟

ـ هل هناك موريتانيون من الجن لا ينتمون لأي جهة من جهات الوطن الأربع هم الذين نهبوا ثروات موريتانيا خلال العقود الست الماضية؟

إن هذا الخطاب الجهوي والمناطقي الذي تصاعد خلال السنوات الأخيرة تُطلقه في العادة نُخَبٌ تسعى لمصالحها الضيقة، ولا تهمها في حقيقة الأمر تنمية مناطقها ولا جهاتها، وهي تريد من خلال هذا الخطاب البائس أن تحصل على المزيد من الامتيازات في الوظائف أو الصفقات أو النفوذ، لا أقل ولا أكثر. والمؤسف أنها تجد الكثير من البسطاء في مناطقها تتبنى طرحها الجهوي، والذي لا يُراد منه إلا تحقيق المزيد من المصالح  الخاصة والضيقة على حساب الجهة أو المنطقة.

لو كان تعيين أفراد من جهة ما يكفي لتحسين وضعية تلك الجهة، لكانت في بلادنا اليوم جنات أربع : جنة في "الساحل"، وجنة في "الگبلة"، وجنة في "الجنوب"، وجنة في "الشر".

لنطرح الآن طائفة أخرى من الأسئلة؟

إذا كانت تنمية المناطق مرتبطة بالوظائف والتعيينات، فبأي منطق يشكو اليوم أهلنا في "الساحل" من الغبن والتهميش، ونصف الرؤساء الذين حكموا البلاد ينحدرون من منطقتهم؟ أو لم يحكم المنحدرون من هذه المنطقة موريتانيا لما يزيد على 35 سنة؟

ألا تعدُّ ولاية آدرار من الولايات التي يعيش أهلها في ظروف صعبة جدا؟ ألم تكن فترة حكم أحد أبناء هذه الولاية هي فترة الحكم الأطول في تاريخ البلاد؟ فبماذا استفادت هذه الولاية تنمويا من حكم أحد أبنائها للبلاد لعقدين من الزمن، وبِمَ استفادت من تصدر بعض أبنائها لواجهة المال والأعمال لعدة عقود متوالية؟

ألا تعدُّ ولاية إنشيري وعاصمتها أكجوجت من أكثر مناطق البلاد معاناة؟ أليست هذه الولاية تمتاز عن غيرها من ولايات الوطن بأنها هي الولاية الوحيدة التي ترأس البلاد اثنان من المنحدرين منها؟ فبماذا استفادت هذه الولاية تنمويا من ميزة تولي رئاسة موريتانيا لفترتين؟

ألا تعدُّ ولاية الحوض الشرقي من ولايات الوطن التي يمكن أن تنافس ـ وبقوة ـ ولاية إنشيري في المعاناة والبؤس؟ ألا تعدُّ مدينة النعمة من أكثر عواصم ولايات الوطن معاناة، فبماذا استفادت ولاية الحوض الشرقي تنمويا من احتكار الوزارة الأولى لربع قرن تقريبا؟

ألا تعدُّ ولايات الضفة من الولايات التي احتكرت النسبة الأهم من الوظائف الإدارية في السنوات الأولى من ميلاد الدولة الموريتانية، فبماذا استفادت تلك الولايات تنمويا من السيطرة في فترة ما على الوظائف الإدارية؟

ألا تعدُّ مدينة تجكجة من المدن الأكثر عزلة والأكثر معاناة في البلاد؟ ألا تعدُّ نسبة الموظفين المنحدرين من هذه المدينة من أعلى النسب في الإدارة مقارنة بالمدن الأخرى، فبماذا استفادت تنمويا مدينة تجكجة من هذه النسبة المرتفعة في الوظائف الإدارية؟  

طالعتُ منذ أيام قليلة منشورا لأحد المنحدرين من مدينة أبي تيلميت يشكو فيه من النسبة الضعيفة الممنوحة لمدينته في الحكومة، أظنه قال إن مدينته ممثلة بوزير واحد في الحكومة الحالية، وقد جاء بعض المنحدرين من هذه المدينة بإحصائية تبين النسبة الكبيرة التي يمثلها أبناء المدينة في مختلف التخصصات والقطاعات، الشيء الذي يستوجب حسب وجهة نظرهم أن تمثل مدينتهم في الحكومة بأكثر من وزير. علق أحد المنحدرين من مقاطعة باركيول على المنشور المذكور بالقول إن مقاطعته لم تحظ في كل تاريخ موريتانيا بوزير واحد ولا حتى بأمين عام، وذلك في وقت يشكو فيه المنحدرون من مقاطعة أخرى من ضعف تمثيل مدينتهم في الحكومة.

لنطرح سؤالين أخيرين في هذه الفقرة: بماذا استفادت مدينة أبي تلميت تنمويا من الوجود المعتبر لأبنائها في الجهاز الإداري؟ وبماذا تختلف هذه المدينة تنمويا عن مدن أخرى في البلاد تحتل الرتب الدنيا من حيث نسبة التوظيف؟

كثيرة هي المغالطات التي يطرحها أصحاب الخطاب الجهوي والمناطقي، وقد يكون من المهم لفت الانتباه إلى بعضها:

ـ يشكو أصحاب الخطاب الجهوي في "الشر" من قلة تمثيلهم في مجال المال والأعمال مقارنة بحضور أهلنا في "الساحل". هذه المقارنة غير موضوعية وغير مقنعة، فمن المعروف أن بعض أبناء "الساحل" اهتموا في وقت مبكر من ميلاد الدولة الموريتانية ـ بل ومن قبل ميلادها ـ بالتجارة وبالقطاع الخاص، ولذا فليس من الغريب أن يحتلوا اليوم واجهة المال والأعمال في هذه البلاد.

ـ يشكو أصحاب الخطاب الجهوي في "الساحل" من ضعف تمثيلهم في الوظائف السياسية والمناصب الانتخابية، وذلك في الوقت الذي تمتلك فيه منطقة "الشر" نسبة عالية من تلك الوظائف والمناصب. أيضا هذه المقارنة غير موضوعية وغير مقنعة، فهذه الوظائف والمقاعد الانتخابية ترتبط بشكل أو بآخر بحجم الكثافة السكانية، ومن المعروف أن بعض ولايات "الساحل" لا يصل عدد سكانها لسكان إحدى المقاطعات في "الشر".

ـ يشكو أصحاب الخطاب الجهوي في "الشر" و"الساحل" من ضعف تمثيلهم في الوظيفة العمومية مقارنة مع أهلنا في "الگبلة"..أيضا هذه المقارنة غير موضوعية وغير مقنعة. فقد كان من الطبيعي جدا بسبب الإقبال على التعليم النظامي أن يحتل أهلنا في الجنوب النسبة الأكبر من الوظائف الإدارية عند ميلاد الدولة الموريتانية، وأن يحتل تلك النسبة في مرحلة لاحقة أهلنا في "الكبلة".

على من يروج لهذا الطرح الجهوي والمناطقي أن يعلم أن تعيين هذا الشخص أو ذاك من هذه الجهة أو تلك لن يفيد تلك الجهة، ولن يفيد البلاد في أي شيء، فالذي سيستفيد هو ذلك الشخص المعين وأسرته الضيقة جدا.

إن تعيين حكومة كاملة من أهلنا في "الساحل" لن يفيد تنمويا منطقة "الساحل"، وتعيين حكومة كاملة من أهلنا في"الشر" لن يفيد تنمويا منطقة "الشر"، وهكذا...إن الذي سيفيد  حقا هذه المناطق هو تعيين أصحاب الكفاءات المشهود لهم بالاستقامة، بغض النظر عن جهاتهم، ومن المؤسف حقا أن هؤلاء يشكلون قلة قليلة جدا في"الساحل" و"الشر" و"الگبلة" و"الجنوب".

إنما سيفيد حقا هذه الجهات، وسيفيد البلد كله، هو إتباع سياسات اقتصادية ناجعة تهتم بشكل جدي بثرواتنا الطبيعية، ولو أن الحكومة اهتمت بشكل جدي بثروتنا السميكة، وثرواتنا المعدنية التي تزخر بها منطقة "الساحل" لعشنا جميعا في هذه البلاد في نعيم ورخاء. ولو أن الحكومة اهتمت بشكل جدي بالزراعة في الضفة وفي بعض مناطق "الگبلة" لعشنا جميعا في هذه البلاد في نعيم ورخاء. ولو أن الحكومة اهتمت بشكل جدي بالثروة الحيوانية في "الشر"، وأقامت مصانع لإنتاج وتصدير الألبان والجلود واللحوم لعشنا جميعا في هذه البلاد في نعيم ورخاء.

إن الدرس المستخلص من جائحة كورونا ومن إغلاق معبر "الگرگرات" يُلزم الحكومة أن تولي اهتمامها جديا ب:

ـ المزارع في الضفة وفي بعض مناطق "الگبلة"؛

ـ صياد السمك والمنقب التقليدي في "الساحل"؛

ـ المنمي في "الشر".

إن هؤلاء هم الذين يُعوَّل عليهم حقا، أما النخب التي تمتهن الخطاب الجهوي فلا خير فيها، ولا فائدة ترجى من الاستماع إليها.

تنبيه : أعتذر للقراء عن الكتابة في هذا الموضوع، والذي لم أكن أرغب في الكتابة فيه، ولكن صُراخ أصحاب الطرح الجهوي والمناطقي هو ما أجبرني على الرد عليهم. قد تلاحظون أني لم أتحدث في هذا المقال عن الخطاب الشرائحي والعرقي والذي يشكل هو أيضا كارثة، والسبب في ذلك يعود إلى أني كنتُ قد تحدثتُ عن ذلك الخطاب في مناسبات سابقة.

حفظ الله موريتانيا...